الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الأول:
موقفه من أعلام الصوفية
مدح ابن عجيبة أعلام الصوفية، ونافح عنهم، وبالغ في تعظيمهم، فيقول عن ابن الفارض:"هو الوليُّ الكبير، والمحبُّ الشهير، إمام العُشَّاق"
(1)
.
ومدح ابن عربي بقوله: "العارف الربَّاني، والقطب الصمداني، بحر زمانه، وفريد عصره وأوانه، محيي الدين ابن العربي الحاتمي، المتوفى في حدود القرن السَّادس"
(2)
.
وكذلك مدح ابن مشيش صاحب الصلاة المشيشية
(3)
التي مطلعها: "اللهم صلِّ على مَن منه انشقَّت الأسرار، وانفلقت الأنوار، وفيه ارتفعت الحقائق، وتنزَّلت علوم آدم فأعجز الخلائق
…
وزج بي في بحار الأحدية وانشلني من أوحال التوحيد
…
"
(4)
.
فقال مادحًا: "هو الشيخ الإمام، العارف الواصل، الوليُّ الكبير، والقطب الشهير، شمس زمانه، وفريد عصره وأوانه، سيدنا ومولانا عبد السلام بن مشيش
…
"
(5)
.
(1)
شرح نونية الششتري، ص 157.
(2)
شرح صلاة ابن العربي الحاتمي، ص 41.
والصحيح أنَّ ابن عربي توفي في القرن السابع سنة 638 هـ، فقد عاش في الفترة من (560 - 638 هـ) متأثرًا بالتراث الفارسي والهندي. ينظر: الشيخ الأكبر ابن عربي صاحب الفتوحات المكية، للفيومي، ص 26.
(3)
وهي صلاة بدعية مليئة بعقائد الصوفية من وحدة الوجود، والغلو في الرسول صلى الله عليه وسلم، زعموا أن لها فضائل لحث الصوفية على المحافظة عليها ومن هذه الفضائل: لم يزل قارئها بصدق وإخلاص مشروح الصدر، منصورًا على جميع الأعداء، مؤيدًا بتأييد الله العظيم في جميع أموره، ملحوظًا بعين عناية الله الكريم، ينظر:
http: //www. shazly. com
(4)
النفحة العلية في أوراد الشاذلية، ص 15 - 16، ينظر: الإلمام والأعلام بنفثة من بحور علم ما تضمنته صلاة ابن مشيش، ص 55.
(5)
شرح صلاة القطب ابن مشيش، ص 10.
ثم شرع بشرحها فقال: "فهذا شرحٌ لطيفٌ على تصلية القطب الجامع، سيدي عبد السلام ابن مشيش نفعنا الله بذكره، وأفاض علينا من صيِّب فيضه آمين، ندبني إليه شيخنا العارف الرباني، قدوة السائرين، ومربي الواصلين، سيدي محمد بن أحمد البوزيدي الحسني، فأجبته إلى ذلك، رجاء التحقيق بمحبته، والشرب من فيض مدده"
(1)
.
ويقول في موضع آخر منافحًا عنهم: "قد رُمي كثيرٌ من الأولياء المحققين بالاتحاد والحلول كابن العربي الحاتمي، وابن الفارض، وابن سبعين
(2)
، والششتري والحلاج، وغيرهم وهم بُرَآء منه؛ وسبب ذلك أنهم لما خاضوا بحار التوحيد، وكوشفوا بأسرار التفريد، أو أسرار المعاني قائمة بالأواني، سارية في كل شيء، ماحية لكل شيء،
…
فأرادوا أن يعبروا عن تلك المعاني فضاقت عبارتهم عنها؛ لأنها خارجة عن مدارك العقول، لا تدرك بالسطور ولا بالنقول، وإنما هي أذواق ووجدان، فمن عبر عنها بعبارة اللسان كفر وزندق، وهذه المعاني هي الخمرة الأزلية التي كانت خفيَّة لطيفة، ثم ظهرت محاسنها، وأبدت أنوارها وأسرارها، وهي أسرار الذات وأنوار الصفات، فمن عرفها وكوشف بها اتحد عنده الوجود، وأفضى إلى مقام الشُّهود، وهي منزَّهة عن الحلول والاتحاد، إذ لا ثاني لها حتى تحل فيه أو تتحد معه"
(3)
.
ولذلك يرى أن من أفشى سرَّ الربوبية -ويقصد به وحدة الوجود- قُتل.
(1)
شرح صلاة القطب ابن مشيش، ص 10.
(2)
هو: أبو محمد، عبد الحق بن إبراهيم بن محمد بن نصر بن محمد بن سبعين، قطب الدين المرسي الرقوطي الصوفي، صوفيٌّ على قواعد الفلاسفة، كلامه تعقل مفرداته، ولا تعقل مركباته، له السبعينية، توفي سنة 669 هـ. ينظر: الوافي بالوفيات 18/ 37.
(3)
البحر المديد 2/ 21.
فيقول: "كل من أفشى سرَّ الربوبية سلَّط الله عليه سيف الشريعة، فيباح دمه، ويهتك عرضه، كما وقع للحلاج وغيره
…
والمراد بسرِّ الربوبية: التوحيد الخاص الذي هو الشُّهود والعيان المخصوص بأهل العرفان"
(1)
.
وكيف يمدح من طفحت مقالاتهم بوحدة الوجود التي آلت بهم إلى الإيمان بوحدة الأديان، وأنَّ جميع الخلق على صراطٍ مستقيم، وأنَّ الخلق هو الحق، وتصويب كل كفر، ومنهم من زعم أنه يلاقي الله مرَّة كل شهر عند ادعائه للولاية
(2)
(3)
.
ولقد أُولع من انتموا للتصوف بتعظيم هؤلاء القوم، ودافعوا عنهم، وغضبوا لغضبهم، وكان الواجب عليهم أن يكون غضبهم لربهم إذا انتهكت حُرماته لا لبشر غير معصوم من الزلل، فهؤلاء شرٌّ من الفلاسفة الذين يكذبون الله ورسله، ويقولون بقدم العالم وينكرون البعث.
ومع ذلك فلا يشهد على أعيانهم بكفر
(4)
، ولا إيمان لجواز توبتهم قبل الموت، وأمرهم مُشكل وحسابهم على الله، أمَّا مقالاتهم فلا ريب أنها شرٌّ من الشرك
(5)
.
ولا ريب أنَّ المطالع لكتب ابن عربي بعين الإنصاف يجدها مشحونة بصريح الكفر، فمن أردأ تواليفه كتاب فصوص الحكم الذي إن لم يكن فيه كفر فما في
(1)
شرح قصيدة يامن تعاظم، ص 20 - 22.
(2)
قال ابن عربي: "ولا تشغله الولاية عن المثول بين أيدينا شهرًا بشهر إلى انقضاء العمر". الفتوحات المكية 12/ 121.
(3)
ينظر: مصرع التصوف، ص 19، 30، هذه الصوفية، ص 25.
(4)
أفتى القاضي محمد بن يوسف المتوفى سنة 320 هـ بقتل الحلاج، وحكم القاضي إبراهيم بن الفضل بن حيان الحلواني المتوفى سنة 321 هـ بكفر الحلاج الذي ادعى الحلول وقال عنه: كتب كتبًا فيها من الطلاسم والرموز والإشارات ما يوجب كفره. ينظر: سير أعلام النبلاء 14/ 339، 351.
(5)
ينظر: البحر المحيط 3/ 449، تاريخ الإسلام 49/ 284.
الدنيا كفر، والله أعلم بما مات عليه
(1)
.
ولقد بيَّن القاري
(2)
نتيجة الرياضة عند ابن عربي في كتابه الفصوص وأنها القول بالحلول والاتحاد: "وقد صرَّح في الفصوص بأنَّ الرياضة إذا كملت اختلط ناسوت صاحبها بلاهوت الله، وهذا هو عين مذهب النصارى، حيث قالوا: امتزجت الكلمة بعيسى امتزاج الماء باللبن، فاختلط ناسوته بلاهوت الله سبحانه، حتى ادعوا أنه ابن الله، تعالى شأنه وتعظَّم سلطانه"
(3)
.
وصرَّح ابن سبعين كذلك بكلام كفري، مفاده أنَّ الكائنات الدنسة هي الله، -تعالى الله عمَّا يقول علوًّا كبيرًا- فقال: "اختلط الله في الإحاطة الزوج مع الفرد، واتحد النَّجو
(4)
مع الورد"
(5)
.
ولا ريب أنَّ هذه المواقف من أعلامهم تسبَّبت بظهور بدع شنيعة في بلاد المغرب وغيرها منذ أعصار متطاولة لا سيَّما في المائة العاشرة وما بعدها، فقدَّسوا أضرحة الشيوخ
(6)
، وجعلوها أوثانًا تُعبد من دون الله، فمن بدعهم الشنيعة محاكاتهم
(1)
ينظر: سير أعلام النبلاء 23/ 48.
(2)
هو: علي بن سلطان الهروي القاري الحنفي، ولد بالعراق، ورحل إلى مكة واستقرَّ بها، توفي سنة 1014، ينظر: البدر الطالع 1/ 445، معجم المؤلفين 7/ 100.
(3)
الرد على القائلين بوحدة الوجود، ص 32.
(4)
النجو: ما يخرج من البطن من بول، وريح، وغائط، ينظر: القاموس الفقهي 1/ 306، المصباح المنير 1/ 349.
(5)
رسائل ابن سبعين، ص 143.
(6)
مثل ضريح الجزولي في مراكش الذي يزدحم عليه الناس ويقصدونه في قضاء الحاجات كما سوَّل لهم الشيطان، والعياذ بالله. ينظر: الطريقة الجزولية، ص 58، تعطير الأنفاس في التعريف بالشيخ أبي العباس، لابن الموقت، ص 98 - 99، وكذلك ضريح ابن عجيبة في قرية الزميج، ومعتقد أهل القرية بأن الأرزاق تأتيهم ببركة السيد (يعني ابن عجيبة) وهذا القول: سمعته من المريدين عند زيارتي لهذه القرية.
أضرحة الشيوخ لبيت الله الحرام، من جعل الكسوة لها، وتحديد الحرم على مسافة معلومة بحيث يكون من دخل تلك البقعة من أهل الجرائم أصبح آمنًا، وسوق الذبائح إليها على هيئة الهدي، واتخاذ المواسم كل عام، وهذا وأمثاله لم يشرع إلا في حق الكعبة، ومن المناكير التي يجب أن تغير اجتماع القوم كل سنة للوقوف يوم عرفة بضريح عبد السلام ابن مشيش، ويسمون ذلك بحج المسكين، فانظر إلى هذه الطامة التي اخترعها هؤلاء العامة (
(1)
.
فمن كانت هذه مقالاته فهل يستحق مدحًا أو منافحة؟
وإنك لتعجب من ابن عجيبة كيف يمدح الحلاج الذي اعتقد أن إبليس موحِّد، بقوله:"وما كان موحِّد في أهل السَّماء مثل إبليس"
(2)
.
وابن عجيبة امتدادٌ لأولئك فلايستغرب منه ذلك، فالمعدن واحد، وكما قيل: الصوفية أهل بيت واحد وإن اختلفت عباراتهم.
فهؤلاء القوم تأثروا بفلسفات وأفكار إلحادية -والعياذ بالله- فجعلوا مقصودهم التشبه بصفات الله بحلولهم فيه -تعالى الله عمَّا يقولون- فزعموا أنَّ من أوليائهم من يتصرَّف في الكون
(3)
، أو ينطق بكن
(4)
قبل أن تكون
(1)
ينظر: الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى 1/ 201، معلمة التصوف 1/ 209.
(2)
طواسين الحلاج، ص 97.
(3)
نقل الشيخ الألباني عن أحد الصوفية قوله: "ونراهم -يعني العامة- يحلفون بالأولياء، وينطقون في حقهم بما ظاهره الكفر الصراح، بل هو الكفر حقيقة بلا ريب ولاشك
…
فإن عندنا بالمغرب من يقول عن القطب الأكبر مولانا عبد السلام ابن مشيش: أنه الذي خلق الدين والدنيا! ومنهم من قال والمطر نازل بشدة: يا مولانا عبد السلام الطف بعبادك! فهذ كفر" وعلَّق الألباني على هذا بقوله: "فهذا الكفر أشد من كفر المشركين؛ لأنَّ هذا فيه التصريح بالشرك في توحيد الربوبية أيضًا، وهو مما لا نعلم أنه وقع من المشركين أنفسهم! وأمَّا الشرك في الألوهية فهو أكثر في جهال هذه الأمة، ولا أقول عوامهم". تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد، ص 73.
(4)
كقول ابن عربي: "ما ثمَّ إلا عبدٌ وربّ، والعبد لا يتميز عن الربِّ إلا بالافتقار، فإذا ذهب الله بفقره كساه حلَّة الصفة الربانية، فأعطاه أن يقول للشيء كن فيكون". الفتوحات المكية، لابن عربي 11/ 58، ينظر: شرح الآجرومية لابن عجيبة، ص 101.
الأشياء
(1)
؛
فقدسوا مشايخهم وأطاعوهم في غير طاعة الله ورسوله، فتفرقت بههم السبل، ولاذوا للطواف على قبورهم ومناجاتهم لكشف الكرب عنهم، فالحذر الحذر من هؤلاء القوم الذين لعب الشيطان بهم، وأخرجهم عن طريق أهل العلم، بزعمهم أنَّ الله عز وجل حالٌّ في كلِّ شيء، والأرض لا تخلو منه لكنه يظهرُ لخلقه في صور مختلفة في كل زمان غير الصورة التي ظهر بها في الزمان الذي قبله وفي الزمان الذي بعده، فلم يقدروا الله عز وجل حق قدره، وتكلموا فيه بكلام لا يوافق كتابًا ولا سنة، ولا قول الصحابة رضي الله عنهم، ولا قول أئمَّة المسلمين، فلا حُجَّة لهم فيما يدعون، ولا إمام من العلماء يتبعون فيما يفعلون
(2)
.
وفي المقابل نجد أنَّ ابن عجيبة ذمَّ العلماء الذين يأخذون بظاهر النص مع وجوب العمل به، وهو بهذا يخالف أهل السُّنَّة وطريقتهم، بل ويحذِّر من الجلوس معهم فيقول: "والجلوس مع علماء الظاهر أقبح في حق الفقير
…
والله ما رأيت فقيرًا صحبهم فأفلح في طريق القوم أبدًا، فلا قاطع أعظم منهم، إلا من عرف بالتسليم لأهل النسبة، وقليلٌ ما هم"
(3)
.
ويقول: "الجلوس معهم اليوم أقبح من سبعين عاميًا غافلًا، وفقيرًا جاهلًا؛ لأنهم لا يعرفون إلا ظاهر الشريعة، ويرون من خالفهم في هذا الظاهر خاطئ أو ضال، فيجهدون في رد من خالفهم، يعتقدون أنهم ينصحون، وهم يغشون، فليحذر المريد من صحبتهم والقرب منهم، ما استطاع، فإن توقف في مسألة ولم يجد من
(1)
ينظر: جامع كرامات الأولياء 1/ 57 ..
(2)
ينظر: الشريعة، ص 291، وكتاب التوحيد ومعرفة أسماء الله عز وجل وصفاته على الاتفاق والتفرد 1/ 61، والتبصير في معالم الدين، ص 163، والإبانة عن شريعة الفرقة الناجية ومجانبة الفرق المذمومة 3/ 197.
(3)
الفتوحات الإلهية، ص 243.
يسأل عنها من أهل الباطن فليسأله على حذر، ويكون معه كالجالس مع العقرب والحيَّة، والله ما رأيت أحدًا قط من الفقراء قرب منهم، وصحبهم فأفلح أبدًا في طريق الخصوص"
(1)
.
أمَّا بالنسبة للكتب فلقد زعم أنها سبب لتبديع الصوفية ورميهم بالكفر.
فيقول: "النظر في الكتب يضعف المسالك؛ لتشعبها وكثرتها عند اختلاف الهمم، لا سيَّما من جبلت طبيعته على علم الظاهر، فإنه أبعد الناس عن الطريق ما لم يتداركه الله بفتح منه؛ لأن التشريع كل حكمة تحتها حكم من لم يفهمها فبستانه مزهر غير مثمر، ومن هنا وقع الإنكار، حتى امتحن الله كثيرًا من الصوفية على أيدي علماء الظاهر، عندما نسبوهم للكفر والزندقة والبدعة والضلال، وسر الخصوصية يقتضي ذلك لا محالة"
(2)
.
وهذا الذي سطره ابن عجيبة هو ديدن الصوفية الذين لقنوه لمريديهم منذ بداية سلوكهم في الطريق، فصوَّروا لهم علماء الشريعة بأنهم أعداء لهم حتى اعتقدوا أنه لا يصح منهم الاسترشاد ولا يقبل منهم نصيحة
(3)
.
ولذا أعرضوا عن الكتاب، ونبذوا السُّنَّة وراء ظهورهم، وزهَّدوا الناس فيها، وانسلخ أقوام من حفظها ومعرفتها، فطعنوا في أهلها، ورموهم بالقبيح من القول والفعل، فكيف لمن لم يكن عالمًا بمعاني القرآن خبيرًا بسُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم وآثار الصحابة رضي الله عنهم فقيهًا في ذلك عاملًا به أن يكون على صراط مستقيم!!
(4)
.
(1)
إيقاظ الهمم، ص 113.
(2)
المرجع نفسه، ص 412.
(3)
ينظر: الإبداع في مظاهر الابتداع، ص 309.
(4)
ينظر: الانتصار لأصحاب الحديث، ص 42 - 45، العقيدة الأصفهانية، ص 165.