الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يقول الشاطبي رحمه الله: "إنهم يعتمدون في كثيرٍ من الأحكام على الكشف والمعاينة، وخرق العادة فيحكمون بالحل والحرمة ويثبتون على ذلك الإقدام والإحجام"
(1)
.
ويقول الصنعاني رحمه الله: "إن أكثر الكرامات التي شاعت بين العوام وحازت على عقول الخواص كذب من العوام الذين هم فتنة دين الإسلام أتباع كل ناعق لم يستضيئوا بنور العلم وهم الهمج الرعاع"
(2)
.
رابعًا: أقسام الكرامات
1 -
الكرامة الحسيَّة، وعرَّفها ابن عجيبة بقوله:"هي خرق الحسِّ العادي، كالمشي على الماء، والطيران في الهواء، وطي الأرض، ونبع الماء، وجلب الطعام، والاطلاع على المغيَّبات، وغير ذلك من خوارق العادات"
(3)
.
2 -
الكرامة المعنويَّة، وعرَّفها بـ:"استقامة العبد مع ربه في الظاهر والباطن، وكشف الحجاب عن قلبه، حتى عرف مولاه، والظفر بنفسه، ومخالفة هواه، وقوة يقينه، وسكونه وطمأنينته بالله"
(4)
.
وذكر نماذج للكرامات الحسيَّة فقال: "فمنها وضع البركة في الطعام وغيره، حتى يكثر القليل، ويكفي اليسير، وهذا مشاهد لأولياء الله كثيرًا"
(5)
.
ومنها: "تيسير دراهم أو دنانير أو كليهما مما تدعو إليه الحاجة، وقد كان
(1)
الاعتصام 1/ 271.
(2)
الإنصاف في حقيقة الأولياء ومالهم من الكرامات والألطاف، ص 69.
(3)
إيقاظ الهمم، ص 317.
(4)
المرجع نفسه، ص 317.
(5)
اللوائح القدسية، ص 120.
بعض المشايخ في أول أمره جزَّارًا فتعذر عليه شغل الجزارة تعذُّرًا شرعيًّا، فكان إذا قضى وظيفته ذكره يرفع رأسه فيجد في حجره درهمًا يشتري به قوت ذلك اليوم"
(1)
.
ومنها: الاطلاع على المغيَّبات فيقول: "
…
وقد يخرق له العادة فيطلعه الله على جميع اللُّغات"
(2)
.
ولا غرابة بأن يحتار العقل في الكرامات الحسيَّة؛ إذ هي خرقٌ لما اعتاد عليه البشر ولما ألفوه، يقول ابن تيمية رحمه الله:"والرُّسل جاءت بما يعجز العقل عن دركه، لم تأت بما يعلم بالعقل امتناعه، لكن المسرفون فيه قضوا بوجوب أشياء وجوازها وامتناعها لحجج عقلية بزعمهم اعتقدوها حقًّا وهي باطل، وعارضوا بها النبوات وما جاءت به، والمعرضون عنه صدَّقوا بأشياء باطلة، ودخلوا في أحوال وأعمال فاسدة، وخرجوا عن التمييز الذي فضَّل الله به بني آدم على غيرهم"
(3)
.
ولهذا فإنَّ العُبَّاد والزُّهَّاد الذين لا يتَّبعون الكتاب والسُّنَّة تقترن بهم الشياطين، فيكون لأحدهم من الخوارق ما يناسب حاله، ولكن خوارق هؤلاء يعارض بعضها بعضًا، وإذا حصل من له تمكُّن من أولياء الله أبطلها عليهم، ولا بدَّ أن يكون في أحدهم الكذب جهلًا أو عمدًا، ومن الإثم ما يناسب حال الشياطين المقترنة بهم؛ ليفرِّق الله بذلك بين أوليائه المتقين وبين المتشبِّهين بهم من أولياء الشياطين
(4)
.
ولقد ضرب ابن تيمية رحمه الله أمثلةً على تلبيس الشياطين على هؤلاء القوم وهي من مخاطبة الشيطان لهم، فقال: " فإني أعرف من تخاطبه النباتات بما فيها من المنافع
(1)
اللوائح القدسية، ص 120.
(2)
البحر المديد 3/ 43.
(3)
مجموع الفتاوى 3/ 339.
(4)
ينظر: مجموع الفتاوى 11/ 295.
وإنما يخاطبه الشيطان الذي دخل فيها، وأعرف من يخاطبهم الحجر والشَّجر وتقول: هنيئًا لك يا وليَّ الله فيقرأ آية الكرسي فيذهب ذلك، وأعرف من يقصد صيد الطير فتخاطبه العصافير وغيرها وتقول: خذني حتى يأكلني الفقراء ويكون الشيطان قد دخل فيها كما يدخل في الإنس ويخاطبه بذلك، ومنهم من يكون في البيت وهو مغلق فيرى نفسه خارجه وهو لم يفتح وبالعكس، وكذلك في أبواب المدينة وتكون الجن قد أدخلته وأخرجته بسرعة، أو تمر به أنوار أو تحضر عنده من يطلبه ويكون ذلك من الشياطين يتصورون بصورة صاحبه فإذا قرأ آية الكرسي مرة بعد مرة ذهب ذلك كله، وأعرف من يخاطبه مخاطب ويقول له: أنا من أمر الله ويعده بأنه المهدي الذي بشَّر به النَّبي صلى الله عليه وسلم ويظهر له الخوارق"
(1)
.
وهذه الكرامات الحسيَّة ليست معتبرة لحصول الولاية، فإنها قد تظهر على شخص متلبِّس بالمعاصي، وظهورها عليه لا يعني كمال صاحبها، ولكن القوم عمدتهم فيما اعتقدوا فيه الولاية أنه قد صدر منه مكاشفة في بعض الأمور، أو بعض التصرُّفات الخارقة للعادة كأن يملأ إبريقًا من الهواء، أو أن يختفي أحيانًا عن أعين الناس، أو أن بعض الناس استغاث به وهو غائب أو ميت فرآه قد جاءه فقضى حاجته، وليس في شيءٍ من هذه الأمور ما يدلُّ على أنَّ صاحبها وليُّ لله، بل قد اتفق أولياء الله على أنَّ الرجل لو طار في الهواء أو مشى على الماء لم يغتر به حتى ينظر متابعته لرسول الله صلى الله عليه وسلم وموافقته لأمره ونهيه، فإن هذه الخوارق قد تكون لكثير من الكُفَّار والمشركين وأهل الكتاب والمنافقين، وتكون لأهل البدع، وتكون من الشياطين، فلا يجوز أن يظن أن كل من كان له شيءٌ من هذه الأمور أنه وليُّ
(1)
مجموع الفتاوى 11/ 300.
لله، فكرامات أولياء الله سببها الإيمان والتقوى، فمن كانت خوارقه تحصل عند الشرك بالله، مثل دعاء الميت، أو الاطلاع على المغيَّبات فهذه من خوارق أعداء الله لا من كرامات أولياء الله
(1)
.
قال ابن حجر رحمه الله: "إنَّ الذي استقرَّ عند العامَّة أنَّ خرق العادة يدلُّ على أن من وقع له ذلك من أولياء الله تعالى، وهو غلطٌ ممن يقوله؛ فإن الخارق قد يظهر على يد المبطل من ساحر وكاهن وراهب، فيحتاج من يستدلُّ بذلك على ولاية أولياء الله تعالى إلى فارق، وأولى ما ذكروه أن يختبر حال من وقع له ذلك، فإن كان متمسِّكًا بالأوامر الشرعية والنواهي كان ذلك علامة ولايته ومن لا فلا"
(2)
، ومع ذلك فإن أهل العلم بيَّنوا أنَّ الوليَّ ليس بمعصوم بل يجوز عليه ما يجوز على سائر عباد الله المؤمنين، وكرامات الصالحين دلَّت على صحة الدين الذي جاء به الرسول لا على أنَّ الوليَّ معصومٌ وتجب طاعته
(3)
.
وقد ذهب ابن عجيبة إلى أنَّ الكرامة الحسيَّة ليست معتبرة، فهي تظهر على يد من لم تكمل استقامته، وهذا حقٌّ كما بيَّنه أهل العلم، ثم بعد ذلك يذهب إلى أنَّ الكرامة المعتبرة: الفهم عن الله، والرضا بقضاء الله، وترك التدبير، وهي المعتبرة عند المحققين -يقصد الكرامة المعنوية - أمَّا الحسيَّة فلا يطلبونها ولا يلتفتون إليها
(4)
.
ويريد ابن عجيبة أن يصل إلى أبعد من هذا عند ذمِّه للكرامة الحسيَّة؛ لأنها حسب زعمه مانعة له من مشاهدة الوحدة، وكشف الحجاب بينه وبين الله - تعالى
(1)
ينظر: مجموع الفتاوى 11/ 213، 302.
(2)
فتح الباري 7/ 443.
(3)
ينظر: النبوات، ص 19 - 20، قطر الولي، ص 248.
(4)
ينظر: إيقاظ الهمم، ص 317 - 318.
عمَّا يقول علوًا كبيرًا-، فهو يبيِّن أنَّ من وقف مع هذه الكرامات الحسيَّة فهو محجوبٌ عن رؤية النُّور الأصلي، فالكرامة عنده هي الرُّسوخ والتمكين في معرفة الله، أي زوال الحجاب
(1)
.
فهو يرى مشاهدة الحق أعظم كرامة، فيقول في موضع آخر:"وأي كرامة أعظم من كشف الحجاب بينهم وبين محبوبهم، حتى عاينوه وشاهدوه حقًّا ووجود السوي محالًا ضروريًّا"
(2)
.
ولا ريب أن ما عناه هنا هي وحدة الوجود، فالذي لا يشهد السوي مطلقًا هو قول الملاحدة القائلين بوحدة الوجود، وهؤلاء قد يبلغ بهم الأمر إلى أن يروا أنَّ شهود الذات مجردة عين الصفات هو أعلى مقامات الشهود، وهذا من جهلهم؛ فإنَّ الذات المجردة عن الصفات لا حقيقة لها في الخارج، وليس ذاك رب العالمين، ولكنَّهم في أنفسهم جردوها عن الصفات وشهدوا مجرد الذات كما يشهد الإنسان تارة علم الرب وتارة قدرته، فهؤلاء شهدوا مجرد ذات مجردة، فهذا في غاية النقص في معرفة الله والإيمان به فكيف يكون هذا غاية؟ ومنهم من ينظر هذا شرطًا في السُّلوك وليس كذلك بل السابقون الأولون أكمل الناس ولم يكن مثل هذا يخطر بقلوبهم ولو ذكره أحد عندهم لذمُّوه وعابوه
(3)
.
(1)
ينظر: الفهرسة، ص 72، شرح نونية الششتري، ص 23.
(2)
البحر المديد 3/ 234.
(3)
ينظر: الرد على المنطقيين 1/ 518.