الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
خامسًا: المخالفات العقدية التي قرَّرها ابن عجيبة في مسائل القدر
1 -
ترك التدبير والاختيار.
قال في تفسيره لقول الله تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}
(1)
: "في الآية تحضيضٌ على ترك التدبير والاختيار، مع تدبير الواحد القهَّار، وهو أصلٌ كبيرٌ عند أهل التصوُّف، أُفرد بالتأليف، وفي الحكم:«أرح نفسك من التدبير، فما قام به غيرك عنك لا تقم به أنت عن نفسك»
…
فإذا علمت أيها العبدُ أنَّ الحق تعالى هو الذي يخلق ما يشاء ويختار، لم يبق لك مع الله اختيار، فالحالة التي أقامك فيها هي التي تليق بك، ولذلك قيل: العارف لا يعارض ما حلَّ به، فقرًا كان أو غنى"
(2)
.
وقال في موضعٍ آخر: "ومن ذلك قصيدة في سلب الإرادة مع الحق وترك التدبير على ألسنة هواتف الحق.
مرادي منك رفض ما سوانا
…
بقصد سيرك إلى الرَّشاد
مرادي منك الترك للحظوظ
…
وما يفضي بك إلى البعاد
مرادي منك نسيان اللحوظ
…
لغير حُبِّنا بلا مراد
فكل ما تبني من الأماني
…
تهدمه الأقدار باستبداد"
(3)
وصرَّح به ابن عجيبة فقال: "التحقيق أنَّ العبد مجبور، لكن في قالب الاختيار، فمن نظر للجبر الباطني سمَّاه حقيقة، ومن نظر لقالب الاختيار سمَّاه شريعة"
(4)
.
(1)
سورة القصص: 68.
(2)
البحر المديد 4/ 270.
(3)
الفهرسة، ص 120.
(4)
الفتوحات الإلهية، ص 327.
وقال في موضعٍ آخر: "العبد إنما هو آلة مسخَّرة، فإذا سخَّره ربه تحرَّك، وإلا فلا، وإذا كان كذلك فلا نسبة لك في العمل إلا ظهور عليك الحكمة"
(1)
، ويقول أيضًا:"قد تقرَّر عند أهل الحق أنَّ العبد مجبور في قالب مختار، فليس له فعل ولا اختيار، وإنما الفاعل هو الواحد القهَّار، قال تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} "
(2)
، فإذا تقرَّر هذا فكيف يطلب العبد الأجر على عملٍ ليس هو فاعله"
(3)
.
فهو يقول بالجبر -باطنًا لا ظاهرًا-؛ لوقوعهم بين المقولة التي يزعمونها -الحقيقة والشريعة- وهذه العقيدة الفاسدة أجلاها علماء السَّلف وذمُّوها وبيَّنوا عورها.
قال ابن القيم رحمه الله: "مشهد أصحاب الجبر وهم الذين يشهدون أنهم مجبورون على أفعالهم، وأنها واقعة بغير قدرتهم، بل لا يشهدون أنها أفعالهم البتَّة، يقولون: إنَّ أحدهم غير فاعل في الحقيقة ولا قادر، وأنَّ الفاعل فيه غيره، والمحرِّك له سواه وأنَّه آلة محضة، وحركاته بمنزلة هبوب الرياح، وحركات الأشجار، وهؤلاء إذا أنكرت عليهم أفعالهم احتجُّوا بالقدر، وحملوا ذنوبهم عليه، وقد يغلون في ذلك حتى يروا أفعالهم كُلَّها طاعات خيرها وشرِّها؛ لموافقتها للمشيئة والقدر، ويقولون: كما أنَّ موافقة الأمر طاعة فموافقة المشيئة طاعة كما حكى الله تعالى عن المشركين إخوانهم، أنهم جعلوا مشيئة الله تعالى لأفعالهم دليلًا على أمره بها ورضاه، وهؤلاء شرٌّ من القدرية النُّفاة، وأشدُّ منهم عداوة لله ومناقضةً لكتبه ورسله ودينه، حتى إنَّ من هؤلاء من يعتذر عن إبليس، ويتوجَّع له، ويقيم عذره بجهده، وينسب ربه تعالى إلى ظلمه
(1)
إيقاظ الهمم، ص 425.
(2)
سورة القصص: 68.
(3)
إيقاظ الهمم، ص 237.
بلسان الحال والمقال
…
وهؤلاء أعداء الله حقًّا وأولياء إبليس وأحباؤه وإخوانه، وإذا ناح منهم نائحٌ على إبليس رأيت من البكاء والحنين أمرًا عجبا، ورأيت من ظلمهم الأقدار واتهامهم الجبَّار ما يبدو على فلتات ألسنتهم وصفحات وجوههم، وتسمع من أحدهم من التظلُّم والتوجُّع ما تسمعه من الخصم المغلوب العاجز عن خصمه فهؤلاء هم الذين قال فيهم شيخ الإسلام ابن تيمية في تائيته
(1)
:
ويُدعى خصوم الله يوم معادهم
…
إلى النَّار طُرًّا
(2)
معشر القدريةِ"
(3)
وكذلك في آراء ابن عجيبة السابقة تجد أنَّ تركه للتدبير والاختيار أدَّي به إلى عقيدة وحدة الوجود علم أم لم يعلم، وهذا ما يفعلونه مع السَّالك دائمًا حتى يرتقي إلى البقاء.
قال ابن القيم رحمه الله: "والاتحادي يقول: إنَّ السالك في أول سلوكه يرى أنه لا فاعل في الحقيقة إلا الله، فهذا توحيد العلم، ولا يقدر في طوره الأول على أكثر من ذلك، ثم ينتقل عن هذا إلى الدرجة الثانية، وهي شهود عود الأفعال إلى الصفات، والصفات إلى الذات، فعاد الأمر كلُّه إلى الذَّات، فيجحد وجود السوى بالكُليَّة، فهذا هو الاضمحلال جحدًا، ثم يرتقي عن هذه الدرجة إلى ركوب البحر الذي تغرق فيه الأفعال والأسماء والصفات، ولا يبقى إلا أمرٌ مطلقٌ لا يتقيَّد باسمٍ ولا فعلٍ ولا صفة، قد اضمحلَّ فيه كلُّ معنى وقيد وصفة ورسم، وهذا عندهم غاية السَّفر
(1)
القصيدة التائية في القدر، ص 180.
(2)
طُرًّا أي: جميعًا، ويقول ذو الأصبع العدواني:
وأنتمُ مَعْشَرٌ زَيْدٌ على مِئَةٍ
…
فأجمعوا كَيْدَكم طُرًّا فَكِيدُونِي
ينظر: الصحاح 2/ 288، المحكم والمحيط الأعظم 1/ 125، دليل السالك إلى ألفية ابن مالك 1/ 370.
(3)
مدارج السالكين 1/ 436 - 437.
الأول، فحينئذٍ يأخذ في السَّفر الثاني، وهو البقاء"
(1)
.
وعند الصوفية أنَّ السَّالك لا بدَّ أن يرتقي إلى ثلاثة حقائق في باب القدر حتى يصل إلى عدم التفرقة بين الرَّبِّ والعبد فيصبح الأمر واحدًا، والعياذ بالله.
وبيَّن ابن القيم رحمه الله هذه الحقائق، وهي:
حقيقة إيمانية نبوية، وهى حقيقة العبودية التي هي كمال الحُبِّ وكمال الذُّل، وسير أهل الاستقامة إنما هو إلى هذه الحقيقة، ومنازل السير التي ينزلون فيها هي منازل الإيمان الموصلة إليها، والمنحرفون لا يرضون بهذه الحقيقة ولا يقفون معها ويرونها منزلة من منازل العامَّة.
الحقيقة الثانية: (حقيقة كونية قدرية) يشاهدون فيها انفراد الرَّبِّ تعالى بالتكوين والإيجاد وحده، وأنَّ العالم كالميت يقلِّبه ويصرِّفه كيف يشاء، وهم يعظمِّون هذا المشهد ويرون الفناءَ فيه غاية ما بعدها شيء.
وهذا من أغلاطهم في المعرفة والسُّلوك، فإنَّ هذا المشهد لا يدخل صاحبه في الإيمان فضلًا عن أن يكون أفضل مشاهد أولياءِ الله المقرَّبين، فإنَّ عُبَّاد الأصنام شهدوا هذا المشهد ولم ينفعهم وحده.
(2)
.
(1)
مدارج السالكين 1/ 170.
(2)
سورة المؤمنون: 84 - 89.
وقال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ}
(1)
.
(2)
.
وقال تعالى: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا}
(3)
.
وهذا كثيرٌ في القرآن، فالفناءُ في هذا المشهد لا يُدخل العبدَ في دائرة الإسلام، فكيف يجعله هو الحقيقة التي ينتهي إليها سير السَّالكين، ويجعل حقيقة الإيمان ودعوة الرُّسل منزل من منازل العامة، وهل هذا إلا غاية الانحراف والبعد عن الصراط المستقيم وقلب للحقائق؟ وكم قد هلك في هذه الحقيقة من أُمم لا يحصيهم إلا الله، وكم عطَّل لأجلها الواقفون معها من الشرائع، وخرَّبوا من المنازل، وما نجا من معاطبها إلا من شملته العناية الربانية، ونفذ ببصره من هذه الحقيقة إلى الحقيقة الإيمانية النبوية، حقيقة رُسل الله وأنبيائه وأتباعهم، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
والحقيقة الثالثة: (حقيقة اتحادية بل واحدية) لا يفرق فيها بين الرَّب والعبد، ولا بين القديم والمحدث، ولا بين صانعٍ ومصنوع، بل الأمر كلُّه واحد، والأمر المخلوق هو عين الأمر الخالق.
وهذه الحقيقة التي يشير إلى عينها طائفة الاتحادية، ويعدون من لم يكن من أهلها محجوبًا، وهذه حقيقة كفرية اتحادية، وهى مع ذلك خيالٌ فاسد، وعقلٌ منكوس، وذوقٌ من عين منتنة، وكفر أهلها أعظم من كفر كلِّ أُمَّة، فإنهم جحدوا
(1)
سورة الزخرف: 87.
(2)
سورة الزخرف: 20.
(3)
سورة الأنعام: 147.
الصانع حقًّا وإن أثبتوه جعلوا وجوده وجود كل موجود، والذين أثبتوا الصانع وعدلوا به غيره وسوَّوا بينه وبين غيره في العبادة مقالتهم خيرٌ من مقالة هؤلاء الذين جعلوه وجود كلِّ موجود وعين كلِّ شيءٍ تعالى الله عمَّا يقول الكاذبون المفترون علوًّا كبيرًا.
فعليك بالفرق بين السائرين إلى هذه الحقيقة، والسائرين إلى عين الحقيقة الكونية الحكمية"
(1)
.
2 -
نفي الأسباب قلبًا وقالبًا
قال ابن عجيبة: " فإذا أراد تحصيل علم اليقين فلينقطع إلى الله انقطاعًا كُليًّا، ويتجرَّد عن الأسباب قلبًا، وقالبًا، فإنَّ الله يُؤتيه رزقه من غير سبب"
(2)
.
والمقرر عند أهل العلم أنَّ الله عز وجل خلق الأسباب ومسبِّباتها وربطهما شرعًا وقدرًا، دلَّ على ذلك الكتاب والسُّنَّة والإجماع.
الأدلَّة من القرآن، وهي أنواع:
- ترتيب الحكم على ما قبله بحرف أفاد التسبُّب.
كقوله تعالى: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ}
(3)
.
- ترتيب الحكم الشرعي أو الجزائي على الوصف لفيد كونه سببًا له.
(4)
، وقوله:{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ}
(5)
.
(1)
طريق الهجرتين 1/ 347.
(2)
سلك الدر في ذكر القضاء والقدر، ص 67.
(3)
سورة الحاقة: 24.
(4)
سورة المائدة: 38.
(5)
سورة النور: 2.
- ترتيب الشرط على الجزاء.
(1)
،
(2)
.
قال ابن القيم: "وبالجملة فالقرآن من أوله إلى آخره صريحٌ في ترتيب الجزاء بالخير والشر، والأحكام الكونية والأمرية على الأسباب، بل ترتيب أحكام الدنيا والآخرة ومصالحهما ومفاسدهما على الأسباب والأعمال"
(3)
.
- الأدلة من السُّنَّة:
- عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّ هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها وإنَّ الله عز وجل ينورها لهم بصلاتي عليهم»
(4)
.
- وعن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعودني عام حجَّة الوداع من وجعٍ اشتدَّ بي فقلتُ: إني قد بلغ بي من الوجع وأنا ذو مالٍ ولا يرثني إلا ابنة أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال: «لا» فقلت: بالشطر فقال: «لا» ثم قال: «الثلث والثلث كبير أو كثير، إنَّك أن تذر ورثتك أغنياء خيرٌ من أن تذرهم عالة يتكففون الناس، وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أُجِرت بها حتى ما تجعلُ في فيِّ امرأتك» فقلت يا رسول الله: أُخَلَّف بعد أصحابي؟ قال: «إنَّك لن تُخلَّف فتعمل عملًا صالحًا إلا ازددتَ به درجةً ورفعة، ثم لعلَّك أن تُخلَّف حتى ينتفع بك أقوامٌ ويضرّ بك آخرون
…
»
(5)
.
(1)
سورة الأنفال: 29.
(2)
ينظر: شفاء العليل 1/ 188 - 189.
(3)
الداء والدواء، ص 34.
(4)
أخرجه مسلم، كتاب الجنائز، باب الصلاة على القبر، 3/ 56، رقم 2259.
(5)
أخرجه البخاري، كتاب الجنائز، باب رثاء النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن خولة، 1/ 399، رقم 1295.
- الإجماع:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "والعلماءُ متَّفقون على إثبات حكمة الله في خلقه وأمره، وإثبات الأسباب والقوى"
(1)
.
ويقول رحمه الله أيضًا: "والله سبحانه خلق الأسباب ومسبَّباتها، وجعل خلق البعض شرطًا وسببًا في خلق غيره، وهو مع ذلك غنيٌّ عن الاشتراط والتسبُّب ونظم بعضها ببعض، لكن لحكمةٍ تتعلَّق بالأسباب وتعود إليها، والله عزيزٌ حكيم"
(2)
.
وقال ابن القيم رحمه الله: "الله عز وجل ربط الأسباب بمسبَّباتها شرعًا وقدرًا، وجعل الأسباب محلَّ حكمته، في أمره الدينيِّ والشرعيِّ، وأمره الكونيِّ القدري"
(3)
.
وقال مرعي الكرمي رحمه الله
(4)
: "فإنَّ الله عز وجل أجرى عادته الإلهية في هذا العلم على أسبابٍ ومسبَّبات تُناط بتلك الأسباب"
(5)
.
وقال القرطبي رحمه الله: "وربط الأسباب بالمسبَّبات حِكمتُه وحُكمُه على ما سبق به علمه"
(6)
.
(1)
الرد على المنطقيين، ص 315.
(2)
مجموع الفتاوى 8/ 391.
(3)
شفاء العليل 2/ 532.
(4)
هو: مرعي بن يوسف بن أبى بكر بن أحمد الكرمي المقدسي الحنبلي، والكرمي نسبة إلى طور كرم، قرية بالقرب من نابلس بفلسطين، والمقدسي نسبة لبيت المقدس، وهو على مذهب الإمام أحمد في الفقه، أمَّا في العقيدة فهو مضطرب في نصوص الصفات، وميله إلى التأويل، ولد سنة 988 هـ، ومن شيوخه: محمد المرداوي، والشيخ القاضي يحيى الحجاوي، له مؤلفات منها: غاية المنتهى في الجمع بين الإقناع والمنتهى، دليل الطالب لنيل المطالب، توفي سنة 1033 هـ بمصر. ينظر: مقدمة رفع الشبهة والغرر، ص 47 - 48، خلاصة الأثر 3/ 356، إتحاف ذوي الألباب في قوله تعالى:{يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} ، دراسة وتحقيق لفضيلة الأستاذ الدكتور عبد الرحمن بن عبد الله التركي.
(5)
رفع الشبهة والغرر عمَّن يحتج على فعل المعاصي بالقدر، ص 22.
(6)
المفهم 5/ 592.
ويقول ابن القيم رحمه الله: "ولو تتبَّعنا ما يفيد إثبات الأسباب من القرآن والسُّنَّة لزاد على عشرة آلاف موضع، ولم نقل ذلك مبالغةً بل حقيقة"
(1)
.
وبهذا يتضح أنَّ من نفى الأسباب فقد خالف الكتاب والسُّنَّة وإجماع السَّلف والأئمة وصرائح المعقول.
3 -
الرِّضا بكلِّ مقضيٍّ كيفما كان:
قال ابن عجيبة: "فإذا علمت أيُّها الإنسان أنَّ أنفاسك قد عمَّها القدر، ولا يصدر منك ولا من غيرك إلا ما سبق به علمه، وجرى به قلمه لزمك أن ترضى بكلِّ ما يجري به القضاء، فأنفاسك معدودة، وطرفاتك ولحظاتك محصورة
…
وحقيقة الرِّضا هو تلقِّي المهالك بوجهٍ ضاحك"
(2)
.
ولذلك لا فرق بين الطاعة والمعصية عنده، قال:"وأمَّا خاصَّة الخاصَّة فلا يطلبون شيئًا، ولا يخافون من شيء، صارت الأشياء عندهم شيئًا واحدًا، واستغنوا بشهودٍ واحدٍ عن كلِّ واحد، فهم ينظرون ما يبرز من عنصر القدرة، فيتلقَّونه بالقبول والرِّضا، فإن كان طاعة شهدوا فيها المنَّة، وإن كان معصية شهدوا فيها القهرية، وتأدَّبوا مع الله فيها بالتوبة والانكسار، قيامًا بأدب شريعة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم المختار"
(3)
.
والأمر بالرِّضا بكلِّ مرضيٍّ فيه تفصيل، فهل علينا أن نرضى بكلِّ ما قضى الله عز وجل؟ الجوابُ: أنَّنا "غير مأمورين بالرِّضا بكلِّ ما يقضيه الله عز وجل، ويقدِّره، ولم يرد بذلك كتابٌ ولا سنة"
(4)
.
(1)
شفاء العليل 2/ 532.
(2)
البحر المديد 1/ 235.
(3)
إيقاظ الهمم، ص 254.
(4)
شرح العقيدة الطحاوية، ص 258، وينظر: منهاج السُّنَّة 3/ 205، الاستقامة 2/ 125 - 126.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في قصيدته التائية في القدر:
وأمَّا رضانا بالقضاءِ فإنِّما
…
أُمرنا بأن نرضى بمثل المصيبة
كسُقْمٍ وفَقْرٍ ثم ذلٍّ وغُربةٍ
…
وما كان من مؤذٍ بدون جريمة
فأمَّا الأفاعيلُ التي كُرهت لنا
…
فلا نصَّ يأتي في رضاها بطاعة
وقد قال قومٌ من أولي العلم لا رضًا
…
بفعلِ المعاصيْ والذنوبِ الكبيرة
فإنَّ إلهَ الخلقِ لم يرضَها فلا
…
نرتضي مسخوطةً لمشيئة
وقال فريقٌ: نرتضي بقضائِهِ
…
ولا نرتضي المقضيَّ أقبحَ خصلة
وقال فريقٌ: نرتضي بإضافةٍ
…
إليه وما فينا فنلقى بسخطةِ
(1)
وبيَّن رحمه الله أقسام الرِّضا فقال: "وذلك أنَّ الرِّضا نوعان:
أحدهما: الرِّضا بفعل ما أمر به وترك ما نهي عنه، ويتناول ما أباحه الله من غير تعدٍّ إلى المحظور، كما قال:{وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ}
(2)
(3)
وهذا الرِّضا واجب؛ ولهذا ذمّ من تركه بقوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ}
(4)
.
والنوع الثاني: الرِّضا بالمصائب كالفقر والمرض والذُّلِّ، فهذا الرِّضا مستحبٌّ
(1)
القصيدة التائية في القدر 1/ 199.
(2)
سورة التوبة: 62.
(3)
سورة التوبة: 59.
(4)
سورة التوبة: 58.
في أحد قولي العلماء وليس بواجب، وقد قيل: إنه واجب، والصحيح أنَّ الواجب هو الصبر.
وأمَّا الرِّضا بالكفر والفسوق والعصيان، فالذي عليه أئمَّة الدين أنه لا يرضى بذلك؛ فإنَّ الله لا يرضاه كما قال تعالى:{وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ}
(1)
، وقال تعالى:{وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ}
(2)
، وقال تعالى:{فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ}
(3)
(4)
، وقال تعالى:{ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ}
(5)
(6)
، وقال تعالى:{لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ}
(7)
، وقال تعالى:{فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ}
(8)
، فإذا كان الله سبحانه لا يرضى لهم ما عملوه بل يسخطه ذلك وهو يسخط عليهم ويغضب عليهم فكيف يشرع للمؤمن أن يرضى ذلك وألَّا يسخط ويغضب لما يسخط الله ويغضبه.
(1)
سورة الزمر: 7.
(2)
سورة البقرة: 205.
(3)
سورة التوبة: 96.
(4)
سورة النساء: 93
(5)
سورة محمد: 28.
(6)
سورة التوبة: 68.
(7)
سورة المائدة: 80.
(8)
سورة الزخرف: 55.
وإنما ضلَّ هنا فريقان من الناس:
قومٌ من أهل الكلام المنتسبين إلى السُّنَّة في مناظرة القدرية
(1)
ظنُّوا أنَّ محبَّة الحقِّ ورضاه وغضبه وسخطه يرجع إلى إرادته، وقد علموا أنَّه مريدٌ لجميع الكائنات خلافًا للقدرية، وقالوا: هو أيضًا محبٌّ لها مريدٌ لها، ثم أخذوا يحرِّفون الكلام عن مواضعه، فقالوا: لا يحب الفساد، بمعنى لا يريد الفساد: أي لا يريده للمؤمنين ولا يرضى لعباده الكفر، أي لا يريده لعباده المؤمنين، وهذا غلط عظيم؛ فإن هذا عندهم بمنزلة أن يقال: لا يحب الإيمان ولا يرضى لعباده الإيمان، أي لا يريده للكافرين ولا يرضاه للكافرين، وقد اتفق أهل الإسلام على أنَّ ما أمر الله به فإنه يكون مستحبًّا يحبه، ثم قد يكون مع ذلك واجبًا وقد يكون مستحبًّا ليس بواجب سواءً فُعِل أو لم يفعل.
والفريق الثاني: من غالطي المتصوفة شربوا من هذه العين، فشهدوا أنَّ الله رب الكائنات جميعها، وعلموا أنَّه قدر على كل شيء وشاءه وظنُّوا أنهم لا يكونون راضين حتى يرضوا بكلِّ ما يقدِّره ويقضيه من الكفر والفسوق والعصيان، حتى قال بعضهم: المحبَّة نارٌ تحرق من القلب كلَّ ما سوى مراد المحبوب، قالوا: والكون كلُّه مراد المحبوب، وضلَّ هؤلاء ضلالًا عظيمًا حيث لم يفرِّقوا بين الإرادة الدينية والكونية والإذن الكوني والديني والأمر الكوني والديني والبعث الكوني والديني، والإرسال الكوني والديني.
(1)
القدرية: هم الذين كانوا يخوضون في القدر، ويذهبون إلى إنكاره، ورأس هؤلاء معبد الجهني المقتول سنة 80 هـ، والمعتزلة أصحاب واصل بن عطاء الغزالي، لما اعتزل مجلس الحسن البصري وقرر أنَّ مرتكب الكبيرة ليس بمؤمن ولا كافر، وأثبت المنزلة بين المنزلتين فطرده، فاعتزله، وتبعه جماعة سُمُّوا بالمعتزلة، والمعتزلة يسمون أصحاب العدل والتوحيد، ويُلقَّبون بالقدرية، وقد جعلوا لفظ القدرية مشتركًا، وقالوا: لفظ القدرية يطلق على من يقول بالقدر خيره وشره من الله تعالى احترازًا عن وصمة اللقب. ينظر: الملل والنحل 1/ 57 - 60.
وهؤلاء يؤول الأمر بهم إلى ألَّا يُفرِّقوا بين المأمور والمحظور وأولياء الله وأعدائه والأنبياء والمتقين، ويجعلون الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض ويجعلون المتقين كالفُجَّار ويجعلون المسلمين كالمجرمين ويعطلون الأمر والنهي والوعد والوعيد والشرائع وربما سموا هذا (حقيقة)، ولعمري إنه حقيقة كونية لكن هذه الحقيقة الكونية قد عرفها عُبَّاد الأصنام كما قال:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ}
(1)
، وقال تعالى:{قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ}
(2)
.
فالمشركون الذين يعبدون الأصنام كانوا مقرِّين بأنَّ الله خالقُ كلِّ شيءٍ وربُّه ومليكُه، فمن كان هذا منتهى تحقيقه كان أقرب أن يكون كعُبَّاد الأصنام، و (المؤمن) إنما فارق الكفر بالإيمان بالله وبرسله وبتصديقهم فيما أخبروا وطاعتهم فيما أمروا واتباع ما يرضاه الله ويحبه دون ما يقدِّره ويقضيه من الكفر والفسوق والعصيان، ولكن يرضى بما أصابه من المصائب لا بما فعله من المعائب، فهو من الذنوب يستغفر، وعلى المصائب يصبر، فهو كما قال تعالى:{فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ}
(3)
، فيجمع بين طاعة الأمر والصبر على المصائب، كما قال تعالى:{وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ}
(4)
"
(5)
.
(1)
سورة الزمر: 38.
(2)
سورة المؤمنون: 84 - 85.
(3)
سورة غافر: 55.
(4)
سورة آل عمران: 120.
(5)
مجموع الفتاوى 10/ 681 - 685، وينظر: الدرة البهية في شرح العقيدة التائية، ص 68، تسلية أهل المصائب، ص 152، 161.
وبيَّن ابن القيم رحمه الله اضطراب النَّاس في هذا الأمر فقال: "وقد اضطرب النَّاسُ في ذلك اضطرابًا عظيمًا، ونجا منه أصحاب الفرق والتفصيل، فإنَّ لفظ الرِّضا بالقضاء لفظٌ محمودٌ مأمورٌ به، وهو من مقامات الصدِّيقين، فصارت له حرمة أوجبت لطائفة قبوله من غير تفصيل، وظنُّوا أنَّ كلَّ ما كان مخلوقًا للربِّ تعالى فهو مقضيٌّ مرضيٌّ له ينبغي له الرِّضا به، ثم انقسموا على فرقتين:
فقالت فرقةٌ: إذا كان القضاء والرِّضا متلازمين فمعلومٌ أنَّا مأمورون ببُغض المعاصي، والكفر والظلم، فلا تكون مقضية مقدرة.
وفرقةٌ قالت: قد دلَّ العقل والشَّرع على أنها واقعةٌ بقضاء الله وقدره فنحن نرضى بها.
والطائفتان منحرفتان، جائرتان عن قصد السَّبيل، فأولئك أخرجوها عن قضاء الرَّب وقدره، وهؤلاء رضوا بها ولم يسخطوها، هؤلاء خالفوا الرَّب تعالى في رضاه وسخطه، وخرجوا عن شرعه ودينه، وأولئك أنكروا تعلُّق قضائه وقدره بها.
واختلفت طرق أهل الإثبات للقدر والشرع في جواب الطائفتين.
فقالت طائفة: لم يقم دليلٌ من الكتاب ولا السُّنَّة ولا الإجماع على جواز الرِّضا بكلِّ قضاء، فضلًا عن وجوبه واستحبابه، فأين أمر الله عباده أو رسوله أن يرضوا بكل ما قضاه الله وقدره؟.
وهذه طريقة كثير من أصحابنا وغيرهم
…
فإن قيل: أفترضون بقضاء الله وقدره؟ قيل له: نرضى بقضاء الله الذي هو خلقه، الذي أمرنا أن نرضى به، ولا نرضى من ذلك ما نهانا عنه أن نرضى به، ولا نتقدَّم بين يدي الله تعالى، ولا نعترض على حكمه.
وقالت طائفةٌ أخرى: يطلق الرِّضا بالقضاء في الجملة، دون تفاصيل المقضي المقدَّر.
فنقول: نرضى بقضاء الله جملةً ولا نسخطه، ولا نطلق الرِّضا على كلِّ واحد من تفاصيل المقضي.
وقالت طائفةٌ أخرى: نرضى بها من جهة إضافتها إلى الرَّبِّ خلقًا ومشيئة، ونسخطها من جهة إضافتها إلى العبد كسبًا له وقيامًا به.
وقالت طائفةٌ أخرى: بل نرضى بالقضاء ونسخط المقضي، فالرِّضا والسخط لم يتعلَّقا بشيءٍ واحد"
(1)
.
وكذلك وضَّح ابن القيم رأيه في هذه المسألة وما يدين الله به فقال: "والذي يكشف هذه الغُمَّة، ويبصِّر من هذه العماية، وينجي من هذه الورطة إنما هو التفريق بين ما فرَّق الله بينه، وهو المشيئة والمحبَّة، فإنهما ليسا واحدًا، ولا هما متلازمين، بل قد يشاء ما لا يحبه، ويحب ما لا يشاء كونه.
فالأول: كمشيئته لوجود إبليس وجنوده، ومشيئته العامَّة لجميع ما في الكون مع بغضه لبعضه.
والثاني: كمحبَّته إيمان الكفَّار، وطاعات الفجَّار، وعدل الظالمين، وتوبة الفاسقين، ولو شاء ذلك لوجد كله وكان جميعه، فإنه ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن.
فإذا تقرَّر هذا الأصل، وأنَّ الفعل غير المفعول، والقضاء غير المقضي، وأنَّ الله سبحانه لم يأمر عباده بالرِّضا بكلِّ ما خلقه وشاءه، زالت الشبهات، وانحلَّت الإشكالات، ولله الحمد، ولم يبق بين شرع الرَّب وقدره تناقض، بحيث يظنُّ إبطال
(1)
مدارج السالكين 2/ 185.
أحدهما للآخر، بل القدر ينصر الشرع، والشرع يصدِّق القدر، وكلٌّ منهما يحقق الآخر، وإذا عُرِف هذا فالرِّضا بالقضاء الديني الشرعي واجب، وهو أساس الإسلام وقاعدة الإيمان، فيجب على العبد أن يكون راضيًا به بلا حرج ولا منازعة ولا معارضة ولا اعتراض، قال الله تعالى:{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}
(1)
.
والرِّضا بالقضاء الكوني القدري الموافق لمحبَّة العبد وإرادته ورضاه -من الصحة، والغنى، والعافية، واللذة- أمرٌ لازمٌ بمقتضى الطبيعة؛ لأنه ملائم للعبد، محبوب له، فليس في الرِّضا به عبودية، بل العبودية في مقابلته بالشُّكر، والاعتراف بالمنَّة، ووضع النِّعمة مواضعها التي يحبُّ الله أن تُوضع فيها، وأن لا يعصى المنعم بها، وأن يرى التقصير في جميع ذلك.
والرِّضا بالقضاء الكوني القدري الجاري على خلاف مراد العبد ومحبته -مما لا يلائمه، ولا يدخل تحت اختياره- مستحبٌّ، وهو من مقامات أهل الإيمان، وفي وجوبه قولان، وهذا كالمرض والفقر، وأذى الخلق له، والحر والبرد، والآلام ونحو ذلك.
والرِّضا بالقدر الجاري عليه باختياره -مما يكرهه الله ويسخطه، وينهى عنه كأنواع الظلم والفسوق والعصيان- حرامٌ يعاقب عليه، وهو مخالفة لربه تعالى، فإنَّ الله لا يرضى بذلك ولا يحبه، فكيف تتفق المحبة ورضا ما يسخطه الحبيب ويبغضه؟ فعليك بهذا التفصيل في مسألة الرضا بالقضاء"
(2)
.
(1)
سورة النساء: 65.
(2)
مدارج السالكين 2/ 188 - 189.
وقال الحافظ ابن عبد الهادي رحمه الله
(1)
: "القضاءُ يراد به ثلاثة أشياء: أحدهما: الأمر والنَّهي، فهذا الرِّضا به واجب، والثاني: الكفر والمعاصي، فهذا الرِّضا به ليس بواجب، والثالث: المصائب التي تصيب العبد فهذا الرِّضا به واجبٌ أو مستحب؟ قال: ثم يقال: القضاء الذي هو صفة الله الرِّضا به واجب، وأمَّا المقضي وهو الكفر والمعاصي التي هي أفعال العباد، فالرِّضا بها ليس بواجب"
(2)
.
4 -
نفي الحكمة والتعليل في أفعال الله عز وجل:
قال ابن عجيبة: "جلّ حكم الأزل أن يضاف إلى العلل"
(3)
.
وقال في شرحه لقول ابن عطاء: "خير من تصحب من يطلبك لا لشيءٍ يعود منك إليه".
قال: "قلتُ: ولا يوجد هذا الوصف المجيد إلا للغنيِّ الحميد الفعَّال لما يريد، يحب من يشاء بلا علة ولا سبب، ويمقت من يشاء بلا ضررٍ يلحقه ولا تعب، يقرِّب من يشاء بلا عمل، ويبعد من يشاء بلا زلل، قال تعالى:{لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ}
(4)
"،
(5)
.
وقال في تفسيره لقول الله تعالى: {أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}
(6)
"أي: يُضيِّق لمن يشاء بلا سببٍ ولا عِلَّة"
(7)
.
(1)
هو: أبو عبد الله، شمس الدين محمد بن أحمد بن عبد الهادي بن عبد الحميد بن عبد الهادي المقدسي الجماعيلي الأصل، ثم الصالحي، ولد سنة 704 هـ، وله مصنَّفات منها: العقود الدرية، والمحرر في الحديث، توفي سنة 744 هـ. ينظر: طبقات الحنابلة 5/ 115.
(2)
نقله السفاريني في لوامع الأنوار البهية 1/ 362.
(3)
البحر المديد 1/ 177.
(4)
سورة الأنبياء: 23.
(5)
إيقاظ الهمم، ص 256.
(6)
سورة الزمر: 52.
(7)
البحر المديد 5/ 90.
وابن عجيبة في قوله هذا لم يخرج عن عقيدة الأشاعرة في نفيهم للحكمة والتعليل
(1)
، وأنَّ الله يفعل الأفعال لمحض المشيئة؛ فتعمَّقوا وخاضوا في فعل الله إثباتًا ونفيًا، وفكرًا، بالأقيسة العقلية، وبذلك انحرفوا عن منهج أهل السُّنَّة والجماعة وسلف الأُمَّة، وأقوالهم شاهدة عليهم.
قال الإيجي: "المقصد الثامن في أنَّ أفعال الله تعالى ليست معللة بالأغراض، إليه ذهب الأشاعرة"
(2)
.
ويقول الرازي: "المسألة السادسة والعشرون: في أنَّه لا يجوز أن تكون أفعال الله تعالى وأحكامه معلَّلة بعلة البتَّه"
(3)
.
والقول الحق الذي عليه أهل السُّنَّة والجماعة: "أنَّ أفعاله عز وجل صادرة عن حكمة بالغة لأجلها فعل كما هي ناشئة عن أسباب بها فعل"
(4)
، "وله الحكمة البالغة فيما فعل وترك، وقدَّر، وقضى"
(5)
، "والقرآن وسُنَّة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم مملوآن من تعليل الأحكام بالحكم والمصالح، وتعليل الخلق بهما، والتنبيه على وجوه الحِكَم التي لأجلها شرع تلك الأحكام، ولأجلها خلق تلك الأعيان، ولو كان هذا في القرآن والسُّنَّة في نحو مئة موضع أو مئتين لسقناها، ولكنه يزيد على ألف موضع بطرقٍ متنوِّعة"
(6)
.
(1)
ينظر لشبهات الأشاعرة في هذا المسلك كتاب: تمهيد الأوائل وتلخيص الدلائل، ص 50، ونهاية الأقدام، ص 399، والأربعين، للرازي، ص 350، وغيرها، ولقد أبطلها ابن القيم في كتابه: شفاء العليل 2/ 577 - 584، 586 - 593.
(2)
المواقف، ص 331.
(3)
الأربعين في أصول الدين، ص 350.
(4)
شفاء العليل 1/ 190.
(5)
إيثار الحق، ص 249.
(6)
مفتاح دار السعادة 2/ 363.
الأدلة من القرآن:
النوع الأول: التصريح بلفظ الحكمة وما تصرَّف منه، كقوله تعالى:{حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ}
(1)
، وقوله:{وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ}
(2)
، وقوله:{وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا}
(3)
.
النوع الثاني: إخباره أنه فعل كذا لكذا وأنه أمر بكذا لكذا، كقوله:{ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ}
(4)
(5)
.
النوع الثالث: الإتيان بكي الصريحة في التعليل، كقوله تعالى:{مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ}
(6)
فعلَّل سبحانه تسمية الفيء بين هذه الأصناف كي لا يتداوله الأغنياء دون الفقراء والأقوياء دون الضعفاء.
النوع الرابع: ذكر المفعول له وهو علة للفعل المعلَّل به، كقوله تعالى:{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ}
(7)
.
(1)
سورة القمر: 5.
(2)
سورة النساء: 113.
(3)
سورة البقرة: 269.
(4)
سورة المائدة: 97
(5)
سورة الطلاق: 12.
(6)
سورة الحشر: 7.
(7)
سورة النحل: 89.
النوع الخامس: الإتيان بأن والفعل المستقبل بعدها تعليلًا لما قبله، كقوله:{أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا}
(1)
.
النوع السادس: ذكر ما هو من صرائح التعليل وهو من أجل، كقوله:{مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا}
(2)
.
النوع السابع: ذكر الحكم الكوني والشرعي عقيب الوصف المناسب له وتارة يذكر بأن وتارة يقرن بالفاء وتارة يذكر مجردًا، فالأوَّل كقوله:{وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ}
(3)
(4)
.
الأدلة من السُّنَّة:
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل يتهجَّد قال: «اللَّهم لك الحمد، أنت ربُّ السَّموات والأرض، لك الحمد أنتَ قيِّم السَّموات والأرض ومن فيهنّ، ولك الحمد لك ملك السَّموات والأرض ومن فيهنّ، لك الحمد، أنت نور السَّموات والأرض قولك الحق، ووعدك الحق، ولقاؤك حق، والجنَّة حق، والنَّار حق، والسَّاعة حق، اللَّهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكَّلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، فاغفر لي ما قدَّمتُ وما أخَّرت، وما أسررتُ وما أعلنت، أنت إلهي لا إله لي غيرك»
(5)
.
(1)
سورة الأنعام: 156.
(2)
سورة المائدة: 32.
(3)
سورة الأنبياء: 89 - 90.
(4)
ينظر شفاء العليل 1/ 188 - 190.
(5)
أخرجه البخاري، كتاب التوحيد، باب {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ} ، 4/ 381، رقم 7385.
قال ابن الوزير رحمه الله
(1)
: فيه إشارة من البخاري إلى مذهب أهل السُّنَّة في إثبات الحكمة
(2)
.
وذلك أن البخاري رحمه الله بوَّب على هذا الحديث، باب قول الله تعالى:{وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ}
(3)
(4)
.
وقال الرَّاغب الأصفهاني: "والحقُّ يقال على أوجه:
الأول: يقال لموجد الشَّيء بسبب ما تقتضيه الحكمة، ولهذا قيل في الله تعالى: هو الحق، قال الله تعالى:{وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ}
(5)
، وقيل بعيد ذلك:{فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ}
(6)
.
والثاني: يقال للموجد بحسب مقتضى الحكمة، ولهذا يقال: فعل الله تعالى كله حق، نحو قولنا: الموت حق، والبعث حق، وقال تعالى:{هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا}
(7)
، إلى قوله تعالى:{مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ}
(8)
، وقال في القيامة:
(1)
هو: أبو عبد الله، محمد بن إبراهيم بن عليّ المرتضى بن الفضل الحسني القاسمي، المعروف بابن الوزير اليمني الصنعاني، ولد بهجرة الظهراوي من شظب، وهو جبل عال باليمن، في رجب عام 775 هـ، وله مصنفات منها: العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم، توفي سنة 840 هـ. ينظر: فهرس الفهارس 2/ 1124، البدر الطالع 2/ 81، معجم المؤلفين 8/ 210.
(2)
إيثار الحق، ص 192.
(3)
سورة الأنعام: 73.
(4)
صحيح البخاري 9/ 117.
(5)
سورة يونس: 31.
(6)
سورة يونس: 32.
(7)
سورة يونس: 4.
(8)
سورة يونس: 5.
{وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ}
(1)
، وقوله عز وجل:{الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ}
(2)
"
(3)
.
وقال ابن القيم رحمه الله: "وهذه الحكمة هي الغاية، والفعل وسيلة إليها، فإثبات الفعل مع نفيها إثبات للوسائل ونفى للغايات وهو محال، إذ نفي الغاية مستلزم لنفى الوسيلة، فنفي الوسيلة وهي: الفعل لازم لنفى الغاية وهى الحكمة، ونفى قيام الفعل والحكمة به نفى لهما في الحقيقة، إذ فعل لا يقوم بفاعله وحكمة لا تقوم بالحكيم شيء لا يعقل، وذلك يستلزم إنكار ربوبيته وإلهيته
(4)
.
الإجماع:
وممن حكى الإجماع كثير من العلماء المحققين فمنهم:
شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قال: "وكذلك الحكمة وشرع الأحكام للحكم مما اتفق عليه الفقهاء مع السَّلف"
(5)
، ويقول أيضًا:"ومن وافق جهم بن صفوان من المثبتين للقدر على أنَّ الله لا يفعل شيئًا لحكمة ولا لسبب، وأنه لا فرق بالنسبة إلى الله بين المأمور والمحظور، ولا يحب بعض الأفعال ويبغض بعضها، فقوله فاسد مخالف للكتاب والسُّنَّة واتفاق السَّلف"
(6)
.
وقال ابن القيم رحمه الله: "وجمهور الأُمَّة يثبت حكمته سبحانه، والغايات
(1)
سورة يونس: 53.
(2)
سورة البقرة: 147.
(3)
المفردات في غريب القرآن، ص 246.
(4)
طريق الهجرتين وباب السعادتين 1/ 90.
(5)
مجموع الفتاوى 8/ 485.
(6)
منهاج السُّنَّة 3/ 98.
المحمودة في أفعاله، فليس مع النُّفاة سمعٌ ولا عقلٌ ولا إجماع، بل السَّمع والعقل والإجماع والفطرة تشهد ببطلان قولهم"
(1)
.
وبهذا يتضح أنَّ من أنكر الحكمة والتعليل قد خالف الكتاب والسُّنَّة وصريح المعقول، ووافق الفلاسفة في أصل نفيهم للحكمة والتعليل "وهو البحث عن حكمة الإرادة، ولم فعل ما فعل؛ وهي مسألة القدر، ظهر بها ما كان السَّلف يقولونه: إنَّ الكلام في القدر هو أبو جاد الزندقة، وعلم بذلك حكمة نهيه صلى الله عليه وسلم لما رآهم يتنازعون في القدر عن مثل ما هلك به الأمم، قال لهم: بهذا هلكت الأمم قبلكم أن تضربوا كتاب الله بعضه ببعض، وعن هذا نشأ مذهب المجوس القدرية، مجوس هذه الأُمَّة، حيث خاضوا في التعديل والتجويز بما هو من فروع هذه الحجة، كما أن التجهُّم من فروع تلك الحجة"
(2)
.
(1)
شفاء العليل 2/ 570 - 571.
(2)
بيان تلبيس الجهمية 1/ 479.