الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وعن عائشة رضي الله عنها قالت قال: صلى الله عليه وسلم: «ما من مصيبة تصيب المسلم إلا كفَّر الله بها عنه حتى الشَّوكة يشاكها»
(1)
.
وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما يصيب المسلم من نصبٍ ولا وصبٍ ولا همٍّ ولا حزن ولا أذى ولا غمٍّ حتى الشوكة يشاكها إلا كفَّر الله بها من خطاياه»
(2)
.
وذهب جمهور أهل العلم إلى أنَّ الأعمال الصالحة تُكفِّر صغائر الذنوب وأمَّا الكبائر فلا تُكَفَّر بمجرَّد فعل الأعمال الصالحة بل لا بدَّ من التوبة بشروطها حتى تُكَفَّر
(3)
.
ويقول القاضي عياض: "هذا المذكور في الحديث من غفران الذنوب ما لم تؤت كبيرة هو مذهب أهل السُّنَّة والجماعة وأنَّ الكبائر إنما تكفِّرها التوبة أو رحمة الله تعالى وفضله"
(4)
.
ثالثًا: حد الكبيرة وحصرها
ورد الاختلاف في حدِّ الكبيرة والصغيرة على أقوال، وملخصها على ضربين:
الضرب الأول: من حصر الكبيرة في عددٍ معيَّن.
قال ابن عجيبة: "واختلف في الكبائر، هل تعرف بالعدِّ أو بالحد؟ فقيل: سبع
(5)
، وقيل ثلاث، وقيل أربع
(6)
، وقيل: سبعون
(7)
، وقيل: كل معصية فهي
(1)
أخرجه البخاري، كتاب المرضى، باب ما جاء في كفارة المرض 4/ 23، رقم:5640.
(2)
أخرجه البخاري، كتاب المرضى، باب ما جاء في كفارة المرض، 4/ 23، رقم 5641.
(3)
ينظر: نيل الأوطار 3/ 57.
(4)
ينظر: شرح النووي على صحيح مسلم، باب فضل الوضوء والصلاة عقبه، 3/ 112.
(5)
روى ذلك ابن جرير عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه 5/ 41.
(6)
روى ذلك ابن جرير عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه 5/ 37، 40.
(7)
روى ذلك ابن جرير عن ابن مسعود رضي الله عنه 5/ 41.
كبيرة
(1)
، وقيل: "كلُّ ما نهى من أوّل السُّورة
(2)
إلى ههنا
(3)
من الكبائر"
(4)
.
وهذا التحديد ليس له دليل ولا وجه له؛ لأن هناك نصوص صحيحة ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم وعدَّها من الكبائر، مثل: حديث السبع الموبقات عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اجتنبوا السبع الموبقات» قالوا: يا رسول الله وما هنَّ"، قال:«الشِّرك بالله، والسِّحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات»
(5)
.
قال ابن كثير رحمه الله: "فالنص على هذه السبع بأنهن كبائر لا ينفي ما عداهن، إلا عند من يقول بمفهوم اللقب
(6)
، وهو ضعيف عند عدم القرينة، ولا سيِّما عند قيام الدليل بالمنطوق على عدم المفهوم"
(7)
.
وسبب حصر هذه السبع والتنصيص عليها؛ لكونها من أفحش الكبائر مع كثرة وقوعها لا سيِّما فيما كانت عليه الجاهلية
(8)
.
(1)
البحر المديد 1/ 459.
(2)
سورة النساء.
(3)
إلى قوله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا} ، سورة النساء:31.
(4)
درج الدرر في تفسير الآي والسور 1/ 483.
(5)
أخرجه البخاري، كتاب الوصايا، باب قول الله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} 5/ 393، رقم 2766.
(6)
مفهوم اللقب: هو تخصيص اسم بحكم، وهو حجة عند مالك وأحمد، وأنكره الأكثر، ينظر: شرح الكوكب المنير، ص 457، المدخل، لابن بدران 1/ 308.
(7)
تفسير القرآن العظيم 2/ 272.
(8)
ينظر: شرح النووي على مسلم 2/ 270، الزواجر عن اقتراف الكبائر 1/ 14، لوامع الأنوار البهية 1/ 367.
كذلك وردت أحاديث صحيحة ونصَّت على أنَّ من يفعل هذا الفعل فقد فعل كبيرة، ومنها:
عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟» قلنا: بلى يا رسول الله، قال:«الإشراك بالله، وعقوق الوالدين» ، وكان متكئًا فجلس فقال:«ألا وقول الزور وشهادة الزور، ألا وقول الزور وشهادة الزور»
(1)
.
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الكبائرُ: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل النَّفس، واليمين الغموس»
(2)
.
ويُلاحظ زيادة (عقوق الوالدين، وشهادة الزور) في الحديث الأول، و (اليمين الغموس) في هذا الحديث، فهذه نصوصٌ صحيحةٌ دلَّت على أنَّ هذه الأفعال من الكبائر.
الضرب الثاني: وهو تعريف الكبيرة -بضابط- دون ذكر عددٍ معيَّن مع اختلافهم في التعريف.
عرَّفها ابن عجيبة بقوله: "ما يكبر عقابه من الذنوب، وهو ما رتب عليه الوعيد بخصوصه"
(3)
.
ونقل قول ابن عطيه رحمه الله
(4)
: "وتحرير القول في الكبائر: أنها كل معصية يوجد
(1)
أخرجه البخاري، كتاب الأدب، باب عقوق الوالدين من الكبائر، 10/ 405، رقم 5976.
(2)
أخرجه البخاري، كتاب الأيمان والنذور، باب اليمين الغموس، 11/ 564، رقم 6675.
(3)
البحر المديد 5/ 511.
(4)
هو: أبو محمد، عبد الحق بن غالب بن عبد الملك بن تمام بن عطية الأندلسي المحاربي، ولد سنة 480 هـ، له مصنفات منها: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، فهرس ابن عطيه، وتوفي سنة 542 هـ. ينظر: الوافي بالوفيات 18/ 40.
فيها حدٌّ في الدنيا، أو توعّد عليها بنارٍ في الآخرة، أو بلعنةٍ ونحوها"
(1)
.
وقال أيضًا: "وقيل: كلُّ ما فيه حق الغير فهو كبائر، وما كان بينك وبين الله تعالى صغائر"
(2)
.
وقيل في تعريفها: "كل ما اتفقت عليه الشرائع بتحريمها"
(3)
.
وقيل أيضًا هي: كل ذنب يترتَّب عليه حدٌّ أو توعّد عليه بالنار، أو اللعنة، أو غضب الله عز وجل
(4)
.
وقال المباركفوري رحمه الله: "والراجح: أنَّ كلَّ ذنبٍ نُصَّ على كِبَره، أو عظمه أو توعَّد عليه بالعقاب في الآخرة، أو خُتم بالغضب، أو اللَّعنة، أو عُلِّق عليه حدٌّ، أو شُدِّد النكير عليه، أو وصِف فاعلها بالفسق فهو كبيرة"
(5)
.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "إنَّ هذا الضابط أولى من سائر تلك الضوابط لعدة وجوه:
أحدها: أنه المأثور عن السَّلف، بخلاف تلك الضوابط؛ فإنها لا تعرف عن أحدٍ من الصحابة والتابعين والأئمَّة.
الثاني: أنَّ الله قال: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا}
(6)
فقد وعد مجتنب الكبائر بتكفير السيئات واستحقاق
(1)
المحرر الوجيز 5/ 184.
(2)
المرجع نفسه 1/ 495، وقريبٌ من هذا قول سفيان الثوري:(الكبائر: ما كان فيه من المظالم بينك وبين العباد، والصغائر: ما كان بينك وبين الله). مدارج السالكين 1/ 327.
(3)
شرح العقيدة الطحاوية 2/ 525.
(4)
قاله ابن أبي العز في شرح العقيدة الطحاوية 2/ 525.
(5)
مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح 1/ 121.
(6)
سورة النساء: 31.
الوعد الكريم، وكل من وعد بغضب الله أو لعنته أو نار أو حرمان جنَّة أو ما يقتضي ذلك فإنه خارج عن هذا الوعد.
الثالث: أنَّ هذا الضابط مرجعه إلى ما ذكره الله ورسوله في الذنوب، فهو حَدُّ يُتلقَّى من خطاب الشارع، وما سوى ذلك ليس متلقّى من كلام الله عز وجل وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم.
الرابع: أنَّ هذا الضابط يمكن الفرق به بين الكبائر والصغائر، وأمَّا تلك الأمور فلا يمكن الفرق بها بين الكبائر والصغائر.
الخامس: أنَّ تلك الأقوال فاسدة:
فقول من قال: إنها ما اتفقت الشرائع على تحريمه دون ما اختلفت فيه؛ يوجب أن تكون الحَبَّة من مال اليتيم ومن السرقة والخيانة والكذبة الواحدة وبعض الإساءات الخفيَّة ونحو ذلك كبيرة، وأن يكون الفرار من الزحف ليس من الكبائر؛ إذ الجهاد لم يجب في كل شريعة، وكذلك يقتضي أن يكون التزوُّج بالمحرمات بالرضاعة والصهر وغيرهما ليس من الكبائر؛ لأنه مما لم تتفق عليه الشرائع، وكذلك إمساك المرأة بعد الطلاق الثلاث ووطئها بعد ذلك مع اعتقاد التحريم.
وكذلك من قال: إنها ما تسدُّ باب المعرفة أو ذهاب النفوس والأموال؛ يوجب أن يكون القليل من الغضب والخيانة كبيرة، وأن يكون عقوق الوالدين وقطيعة الرَّحم وشرب الخمر وأكل الميتة ولحم الخنزير وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات ونحو ذلك ليس من الكبائر.
ومن قال: إنها سميت كبائر بالنسبة إلى ما دونها وأنَّ ما عُصي الله عز وجل به فهو كبيرة؛ فإنه يوجب أن لا تكون الذنوب في نفسها تنقسم إلى كبائر وصغائر،
وهذا خلاف القرآن فإنَّ الله قال: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ}
(1)
، وقال تعالى:{وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ}
(2)
(3)
(4)
، وقال:{وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ}
(5)
، والأحاديث كثيرة في الذنوب الكبائر.
ومن قال: هي سبعة عشر، فهو قولٌ بلا دليل.
ومن قال: إنها مبهمة أو غير معلومة، فإنما أخبر عن نفسه أنه لا يعلمها.
ومن قال: إنه ما تُوعِّد عليه بالنار قد يقال: إنَّ فيه تقصيرًا؛ إذ الوعيد قد يكون بالنار وقد يكون بغيرها، وقد يقال: إنَّ كل وعيد فلا بدَّ أن يستلزم الوعيد بالنار.
وأمَّا من قال: إنها كلُّ ذنب فيه وعيد، فهذا يندرج فيما ذكره السَّلف؛ فإنَّ كلَّ ذنب فيه حَدُّ في الدنيا ففيه وعيدٌ من غير عكس، فإن الزِّنا والسرقة، وشرب الخمر، وقذف المحصنات ونحو ذلك فيها وعيد، كمن قال: إن الكبيرة ما فيها وعيد"
(6)
.
(1)
سورة النجم: 32.
(2)
سورة الشورى: 37.
(3)
سورة النساء: 31.
(4)
سورة الكهف: 49.
(5)
سورة القمر: 53.
(6)
مجوع الفتاوى 11/ 654.