الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بقوله: "والحق أنَّ طرقه كلَّها ضعيفة، وإن كان حديث ابن عباس يقرب من شرط الحسن؛ إلا أنَّه شاذٌّ؛ لشدة الفردية فيه، وعدم المتابع والشاهد من وجه معتبر، ومخالفة هيئتها لهيئة باقي الصلوات
…
"
(1)
.
عاشرًا: الشرك في الألوهية
* تعريف الشرك لغةً:
يعود إلى المخالطة والمقارنة، "قال الخليل: الشِّرْكُ: ظُلْمٌ عظيمٌ، والشِّرْكةُ: مخالطةُ الشَّريكين، واشتركا بمعنى تشاركا، وجمع شريك: شركاء وأشراك
…
"
(2)
.
وقال ابن فارس: "الشين والراء والكاف أصلان، أحدهما: يدلُّ على مقارنة وخلاف انفراد، والآخر يدلُّ على امتدادٍ واستقامة.
فالأول: الشَّركة، وهو أن يكون الشيءُ بين اثنين لا ينفرد به أحدهما، ويقال: شاركت فلانًا في الشَّيء: إذا صرتُ شريكه، وأشركت فلانًا: إذا جعلته شريكًا لك، قال الله -جلَّ ثناؤه- في قِصَّة موسى:{وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي}
(3)
، ويقال في الدُّعاء: اللهم أشركنا في دعاء المؤمنين، أي: اجعلنا لهم شركاء في ذلك، وشركت الرَّجُلَ في الأمر أشركه.
وأما الأصل الآخر: فالشرك: لقم الطريق، وهو شراكه أيضًا، وشراك النعل مشبَّهٌ بهذا، ومنه شرك الصائد، سمي بذلك لامتداده"
(4)
.
(1)
التلخيص الحبير 2/ 7.
(2)
العين 5/ 239 - 294.
(3)
سورة طه: 32.
(4)
مقاييس اللغة 3/ 265.
* تعريفه في الاصطلاح:
قال الشيخ السعدي رحمه الله: "فهو أن يَجعل لله ندًّا يدعوه كما يدعو الله عز وجل أو يخافه أو يرجوه أو يحبه كحبِّ الله عز وجل، أو يصرف له نوعًا من أنواع العبادة"
(1)
.
وقال ابن تيمية: "ومن سوَّى بينه وبين غيره في أمرٍ من الأمور فهو مشرك
…
(2)
.
قال السَّعدي: "أي: يعدلون به سواه، يسوونهم به في العبادة والتعظيم، مع أنهم لم يساووا الله في شيءٍ من الكمال، وهم فقراء عاجزون ناقصون من كلِّ وجه"
(3)
.
* المخالفات العقدية عند ابن عجيبة في هذا المقام:
1 -
الاعتقاد في الأولياء أنَّهم يقدِّمون الضر والنفع، فيذهبون إلى قبورهم ويتمسَّحون بها ويدعون عندها.
قال ابن عجيبة: لله در صاحب العينية
(4)
:
وشَمِّرْ ولُذْ بالأولياءِ فإنَّهم
…
لهم من كتابِ الحقِّ تلك الوقائعُ
همُ الذُّخرُ للملهوفِ والكنز والرَّجا
…
ومنهم ينال الحبَّ ما هو طامعُ
(1)
القول السديد، ص 31.
(2)
سورة الأنعام: 1.
(3)
تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنَّان 1/ 250.
(4)
عبد الكريم بن إبراهيم الجيلي، صوفيٌّ فارسيٌّ من أهل جيلان، من مؤلفاته: الإنسان الكامل في معرفة الأواخر والأوائل، المناظر الإلهية، كانت وفاته سنة 826 هـ. ينظر: الموسوعة الصوفية، ص 340.
هم القصدُ والمطلوبُ والسُّؤل والمنى
…
وأُنسهمُ للصَّبِّ في الحبِّ شافعُ
همُ النَّاسُ فالزمْ إن عرفتَ جنابَهم
…
ففيهم لضرِّ العالمين منافعُ
(1)
ويقول أيضًا:
حُكي عن وليٍّ أنه قصد أذيته بعضُ الحكَّام، ففرَّ إلى الغزالي، فجلس عند ضريحه مشتكيًا بلسان الحال، فمدَّ له من القبر بعود الريحان مكتوبًا فيه بمداد لم يجف مداده:
إذا ما أتاك الدهرُ يومًا بنكبةٍ
…
فأفرغْ له صبرًا ووسِّع له صدرَا
فإنَّ تصاريف الزمانِ عجيبةٌ
…
فيومًا ترى عسرًا ويومًا ترى يسرَا
(2)
2 -
تعظيم الشيوخ ورفعهم فوق منزلتهم
قال ابن عجيبة في تفسير قول الله تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ}
(3)
: "ما زال الفقراء يعظِّمون أشياخهم، ويبالغون في ذلك حتى يقبِّلون أرجلهم والتراب بين أيديهم، ويجتهدون في خدمتهم، فإذا رآهم الأشياخ فعلوا ذلك سكتوا عنهم
…
لكنَّهم يرشدونهم إلى الحضرة، حتى يفنون عن شهود الواسطة، فيكون تعظيمهم وحطّ رأسهم إنما هو لله لا لغيره
…
وكان شيخنا يقول: لا تزوروني على أنِّي شيخكم، ولكن اعرفوا فينا، وافنوا عن رؤية حسِّنا، حتى يكون التعظيم إنما هو لله ربنا"
(4)
.
(1)
إيقاظ الهمم، ص 25.
(2)
المستطرف في كل فن مستطرف، للأبشيهي 1/ 315، إيقاظ الهمم، ص 387.
(3)
سورة آل عمران: 79.
(4)
البحر المديد 1/ 374.
ولقد ضرب ابن عجيبة مثالًا في الغلو الممدوح في الشيخ حسب ما زعم، فقال:
"ينبغي للمريد الذي تحقَّق بخصوصية شيخه أن يلاعن من يخاصمه فيه، ويبعد عنه كل البعد، ولا يهين له لئلا يركبه، ويدفع عن شيخه ما استطاع، فإنَّ هذا من التعظيم الذي هو سبب في سعادة المريد، ولا يصغي إلى المفسدين الطاعنين في أنصار الدين، قلتُ: وقد جاءني بعض من ينتسب إلى العلم من أهل فاس، فقال لي: قد اتفقت علماء فاس على بدعة شيخكم، فقلتُ له: لو اتفق أهل السَّموات السَّبع والأرضين السَّبع على أنَّه من أهل البدعة لقلتُ أنا: إنَّه من أهل السُّنَّة؛ لأنِّي تحقَّقت بخصوصيته كالشَّمس في أفق السَّماء ليس دونها سحاب"
(1)
.
ورغم أنَّ ابن عجيبة عُرف بكونه حافظًا لكتاب لله عز وجل بالقراءات العشر إلا أنَّه لم يُوفَّق لما دلَّت عليه النصوص وفق فهم سلف الأُمَّة، فأين هو من قول الله تعالى:{أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ}
(2)
.
(3)
.
(4)
.
(1)
البحر المديد 1/ 377.
(2)
سورة النمل: 60.
(3)
سورة فاطر: 13.
(4)
سورة فاطر: 14.
وتأمَّل {مِنْ دُونِهِ} فإنَّه عامٌّ يدخل فيه كلُّ من اعتقد في الأوثان والأصنام والأولياء، فهم لا يملكون شيئًا، لا قليلًا ولا كثيرًا، حتى القطمير الذي هو أحقر الأشياء، وهذا من تنصيص النفي وعمومه، فكيف يُدْعَوْنَ وهم غير مالكين لشيءٍ من ملك السَّماوات والأرض، ومع هذا لا يسمعوكم؛ لأنَّهم ما بين جمادٍ وأمواتٍ وملائكةٍ مشغولين بطاعة ربهم، وعلى فرض أنهم سمعوا لن يستجيبوا، بل يتبرؤون منكم يوم القيامة
(1)
.
فكيف يُدعى ميتٌ لا حراك فيه ولا حس، قال تعالى:{اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}
(2)
.
قال السَّعدي: "يخبر تعالى أنَّه المتفرِّد بالتصرُّف بالعباد، في حال يقظتهم ونومهم، وفي حال حياتهم وموتهم"
(3)
.
وقال ابن القيم: "ومن المحال أن يكون دعاء الموتى، أو الدعاء بهم، أو الدعاء عندهم، مشروعًا وعملًا صالحًا، ويُصرف عنه القرون الثلاثة المفضَّلة بنصِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يُرزقه الخلوف الذين يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فهذه سُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أهل القبور بضعًا وعشرين سنة،
…
هل يمكن بشر على وجه الأرض أن يأتي عن أحد منهم بنقل صحيح، أو حسن، أو ضعيف، أو منقطع: أنهم كانوا إذا كان لهم حاجة قصدوا القبور فدعوا عندها، وتمسَّحوا بها، فضلًا أن
(1)
ينظر: تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنَّان 1/ 686.
(2)
سورة الزمر: 42.
(3)
تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنَّان 1/ 725.
يصلُّوا عندها، أو يسألوا الله بأصحابها، أو يسألوهم حوائجهم، فليوقفوا على أثرٍ واحدٍ أو حرفٍ واحدٍ من ذلك، بلى، يمكنهم أن يأتوا عن الخلوف التي خلفت بعدهم بكثيرٍ من ذلك، وكلَّما تأخَّر الزَّمانُ وطال العهدُ كان ذلك أكثر، حتى لقد وجد في ذلك عدة مصنفات ليس فيها عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ولا عن خلفائه الراشدين ولا عن أصحابه حرفٌ واحدٌ من ذلك، بلى فيها من خلاف ذلك كثير"
(1)
.
ومعلوم بنصوص الوحي أنَّ الإنسان إذا مات انقطع عمله، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال، قال النبي صلى الله عليه وسلم:«إذا مات الإنسانُ انقطع عنه عملُه إلا من ثلاثة: إلَّا من صدقةٍ جاريةٍ، أو علمٍ يُنتفع به، أو ولدٍ صالحٍ يدعو له»
(2)
.
ومن اعتقد في الأولياء بأنَّهم يتصرفون في الكون، أو ينفعون أو يضرُّون فقد ضلَّ ضلالًا مبينًا، وعليه التوبة قبل الموت، وإلا مات على الشِّرك الأكبر والعياذ بالله.
قال ابن تيمية رحمه الله: "فهذه الأنواع من خطاب الملائكة والأنبياء والصالحين بعد موتهم عند قبورهم، وفي مغيبهم وخطاب تماثيلهم هو من أعظم أنواع الشرك الموجود في المشركين من غير أهل الكتاب وفي مبتدعة أهل الكتاب والمسلمين الذين أحدثوا من الشرك والعبادات ما لم يأذن به الله قال الله تعالى:{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}
(3)
.
(1)
إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان 1/ 202.
(2)
أخرجه مسلم، كتاب الهبات، باب ما يلحق الإنسان من ثواب 3/ 1255، رقم 1631.
(3)
سورة الشورى: 21.
وعملهم هذا من الدين الذي لم يشرعه الله ولا ابتعث به رسولًا ولا أنزل به كتابًا، وليس هو واجبًا ولا مستحبًّا باتفاق المسلمين، ولا فعله أحدٌ من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ولا أمر به إمامٌ من أئمَّة المسلمين وإن كان ذلك مما يفعله كثيرٌ من الناس ممَّن له عبادة وزهد ويذكرون فيه حكايات ومنامات، فهذا كلُّه من الشَّيطان، وفيهم من ينظم القصائد في دعاء الميت والاستشفاع به والاستغاثة أو يذكر ذلك في ضمن مديح الأنبياء والصالحين، فهذا كلُّه ليس بمشروع ولا واجب ولا مستحب باتفاق أئمَّة المسلمين، ومن تعبَّد بعبادةٍ ليست واجبة ولا مستحبة وهو يعتقدها واجبةً أو مستحبةً فهو ضالٌّ مبتدعٌ بدعةً سيئةً لا بدعةً حسنةً باتفاق أئمة الدين، فإنَّ الله لا يُعبد إلا بما هو واجبٌ أو مستحب، وكثير من الناس يذكرون في هذه الأنواع من الشرك منافع ومصالح ويحتجون عليها بحججٍ من جهة الرأي أو الذوق، أو من جهة التقليد والمنامات ونحو ذلك،
…
ولا ريب أنَّ الأوثان يحصل عندها من الشياطين وخطابهم وتصرفهم ما هو من أسباب ضلال بني آدم، وجعل القبور أوثانًا هو أول الشرك، ولهذا يحصل عند القبور لبعض الناس من خطاب يسمعه وشخص يراه وتصرف عجيب ما يظن أنه من الميت وقد يكون من الجن والشياطين، مثل أن يرى القبر قد انشق وخرج منه الميت وكلَّمه وعانقه، وهذا يُرى عند قبور الأنبياء وغيرهم، وإنما هو شيطانٌ فإنَّ الشيطان يتصوَّر بصور الإنس ويدعي أحدهم أنَّه النبي فلان أو الشيخ فلان ويكون كاذبًا في ذلك، وفي هذا الباب من الوقائع ما يضيق هذا الموضع عن ذكره وهي كثيرة جدًّا، والجاهل يظنُّ أنَّ ذلك الذي رآه قد خرج من القبر وعانقه أو كلَّمه هو المقبور أو النبي أو الصالح وغيرهما والمؤمن العظيم يعلم أنه شيطان"
(1)
.
(1)
مجموع الفتاوى 1/ 159.
وقال أيضًا: "ولكن الشياطين قد تعينهم وتتصوَّر لهم في صور الآدميين فيرونهم بأعينهم ويقول أحدهم: أنا إبراهيم أنا المسيح أنا محمَّد أنا الخضر أنا أبو بكر أنا عمر أنا عثمان أنا عليٌّ أنا الشيخ فلان، وقد يقول بعضهم عن بعض: هذا هو النبي فلان أو هذا هو الخضر ويكون أولئك كلهم جنًّا يشهد بعضهم لبعض، والجن كالإنس فمنهم الكافر ومنهم الفاسق ومنهم العاصي وفيهم العابد الجاهل فمنهم من يحب شيخًا فيتزيَّا في صورته ويقول: أنا فلان، ويكون ذلك في بريَّة ومكان قفر فيطعم ذلك الشخص طعامًا ويسقيه شرابًا أو يدلُّه على الطريق أو يخبره ببعض الأمور الواقعة الغائبة فيظن ذلك الرَّجُلُ أنَّ نفس الشيخ الميت أو الحي فعل ذلك وقد يقول: هذا سرُّ الشيخ وهذه رقيقته وهذه حقيقته أو هذا ملك جاء على صورته، وإنما يكون ذلك جنيًّا؛ فإنَّ الملائكة لا تعين على الشِّرك والإفك والإثم والعدوان"
(1)
.
قال ابن القيم: "ومن أعظم مكايده التي كاد بها أكثر الناس، وما نجا منها إلا من لم يرد الله تعالى فتنته: ما أوحاه قديمًا وحديثًا إلى حزبه وأوليائه من الفتنة بالقبور، حتى آل الأمر فيها إلى أن عُبد أربابها من دون الله، وعُبدت قبورهم، واتخذت أوثانًا، وبُنيت عليها الهياكل، وصُوِّرت صور أربابها فيها، ثم جُعلت تلك الصور أجسادًا لها ظل، ثم جُعلت أصنامًا، وعُبدت مع الله تعالى، وكان أول هذا الداء العظيم في قوم نوح، كما أخبر الله عز وجل عنهم في كتابه، حيث يقول:{قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا}
(2)
،
…
وغرَّهم الشيطان، فقال: بل هذا تعظيمٌ لقبور المشايخ والصالحين، وكُلَّما كنتم أشدَّ لها تعظيمًا، وأشدَّ فيهم غلوًّا، كنتم بقربهم أسعد، ومن أعدائهم أبعد.
(1)
مجموع الفتاوى 1/ 157 - 158.
(2)
سورة نوح: 21.
ولعمر الله، من هذا الباب بعينه دخل على عبَّاد يغوث ويعوق ونسر، ومنه دخل على عُبَّاد الأصنام منذ كانوا إلى يوم القيامة.
فجمع المشركون بين الغلو فيهم والطعن في طريقتهم، وهدى الله أهل التوحيد لسلوك طريقتهم، وإنزالهم التي أنزلهم الله إيَّاها من العبودية وسلب خصائص الإلهية عنهم، وهذا غاية تعظيمهم وطاعتهم.
فأمَّا المشركون فعصوا أمرهم، وتنقصوهم في صورة التعظيم لهم، وكل من شمَّ أدنى رائحة من العلم والفقه يعلم أنَّ من أهمِّ الأمور سد الذريعة إلى هذا المحظور، وأنَّ صاحب الشرع أعلم بعاقبة ما نهى عنه لما يؤول إليه، وأحكم في نهيه عنه وتوعده عليه، وأنَّ الخير والهدى في اتباعه وطاعته، والشر والضلال في معصيته ومخالفته، ورأيت لأبى الوفاء بن عقيل في ذلك فصلًا حسنًا، فذكرته بلفظه، قال: "لما صعبت التكاليف على الجُهَّال والطغام عدلوا عن أوضاع الشرع إلى تعظيم أوضاع وضعوها لأنفسهم، فسهلت عليهم، إذ لم يدخلوا بها تحت أمر غيرهم، قال: وهم عندي كُفَّارٌ بهذه الأوضاع، مثل تعظيم القبور وإكرامها، بما نهى عنه الشرع، من إيقاد النيران وتقبيلها وتخليقها، وخطاب الموتى بالحوائج، وكتب الرقاع فيها، يا مولاي افعل بي كذا وكذا، وأخذ تربتها تبرُّكًا، وإفاضة الطيب على القبور، وشدّ الرحال إليها، وإلقاء الخرق على الشجر، اقتداءً بمن عبد اللات والعُزَّى
…
ومن جمع بين سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في القبور، وما أمر به ونهى عنه، وما كان عليه أصحابه رضي الله عنهم، وبين ما عليه أكثر الناس اليوم رأى أحدهما مضادًا للآخر، مناقضًا له، بحيث لا يجتمعان أبدًا"
(1)
.
(1)
إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان 1/ 195.
وتعظيم ابن عجيبة للشيخ ورفعه فوق منزلته والإلزام بطاعته بحجة أنهم علماء لا يُسلَّم له.
قال البربهاري: "العلم ليس بكثرة الرواية والكتب، وإنما العالم من اتبع العلم والسُّنن وإن كان قليل العلم والكتب، ومن خالف الكتاب والسُّنَّة فهو صاحب بدعة، وإن كان كثير العلم والكتب"
(1)
.
ويقول أيضًا: "لم تجئ بدعةٌ قط إلا من الرعاع أتباع كل ناعق
…
فمن كان هكذا فلا دين له
…
وهم علماء السُّوء وأصحاب البدع"
(2)
.
وكل من عمل عملًا أو تكلَّم بكلامٍ لا يوافق كتاب الله ولا سُنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم وسُنَّة الخلفاء الراشدين وقول صحابته رضي الله عنهم فهو بدعة، وهو ضلالة، وهو مردودٌ على قائله أو فاعله
(3)
.
ولو اعتصم الصوفية ومن تبعهم بالكتاب والسُّنَّة وفهموهما وفق فهم سلف الأُمَّة لما وصلوا إلى هذه المخالفات العقدية، فعجبًا لأفعالهم!! ينهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن الصَّلاة إلى القبور فهم يُصَلُّون عندها، ويدعون الأموات من دون الله، بل وصل بعض من طمس الله على بصيرته أن ألَّف مؤلفًا
(4)
يحثُّ على زيارة المشاهد وتعظيمها ويهتفون باسمها عند الشدائد.
"وقد عُلم بالاضطرار من دين الإسلام أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر بما ذكروه من أمر
(1)
شرح السُّنَّة، ص 102.
(2)
المرجع نفسه، ص 101.
(3)
ينظر: كتاب الأربعين حديثًا، للآجري، ص 97.
(4)
قال ابن تيمية رحمه الله: صنَّف ابن النعمان المعروف بالمفيد (رافضي) شيخ الموسوي والطوسي كتابًا سماه (مناسك المشاهد) جعل قبور المخلوقين تُحج كما تُحج الكعبة البيت الحرام، منهاج السُّنَّة النبوية 1/ 476.
المشاهد، ولا شرع لأُمَّته مناسك عند قبور الأنبياء والصالحين، بل هذا من دين المشركين الذين قال الله فيهم:{وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا}
(1)
"،
(2)
.
وفعلهم هذا كفعل قوم نوح عليه السلام.
قال الصنعاني في داليته:
وكم هتفوا عندَ الشدائدِ باسمِها
…
كما يهتفُ المضطرُّ بالصَّمَدِ الفرد
وكم عقروا في سوحها من عقيرةٍ
…
أُهلَّت لغير الله جهرًا على عَمْد
وكم طائفٍ حولَ القبورِ مُقَبِّلٍ
…
ومستلمِ الأركانِ منهنَّ بالأيدِي
(3)
3 -
التوجه إلى الرَّسُول صلى الله عليه وسلم بالدُّعاء والتوسُّل والاستغاثة
كثرت أشعار المتصوفة التي يقررون بها التوجه بالدعاء والتوسل والاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم.
قال البوصيري
(4)
:
يا أكرمَ الخلقِ مالي من ألوذُ بِهِ
…
سواك عند حلولِ الحادثِ العممِ
(5)
شرحه ابن عجيبة بقوله: لاذ به لوذًا ولياذًا: التجأ إليه، والحلول: النزول،
(1)
سورة نوح: 23.
(2)
منهاج السُّنَّة النبوية 1/ 476.
(3)
ديوان الصنعاني، ص 19.
(4)
هو: محمد بن سعيد بن حماد البوصيري، من شعراء الصوفية، من قصائده: الكواكب الدرية في مدح خير البرية، المشهورة بمسمَّى (البردة)، توفى سنة 694 هـ. ينظر: الوافي بالوفيات 2/ 205، الأعلام 6/ 139، معجم المؤلفين 1/ 28.
(5)
البردة، ص 207.
والحادثُ: ضد القديم، والعممِ: العام، والمراد هنا الموت الذي يعمُّ جميع الخلق وما بعده من أهوال الموقف والصراط والميزان وغير ذلك من الأهوال
…
ثم نادى
(1)
مسؤوله المهم من حاجته بعد تقدُّم الوسيلة التصريح بالكرم المشعر ببراعة الاستهلال على قضاء حاجته، ومضمون هذا الكلام مؤذن بحصول الثواب"
(2)
.
وأقرَّ الاستغاثة به في شرحه لهذا البيت:
ومن هو الآية الكبرى لمعتبرٍ
…
ومن هو النعمةُ العظمى لمغتنم
"الشرح: يقول رحمه الله
(3)
متمِّمًا للاستغاثة به واصفًا له بوصفين عظيمين عطفهما على ما قبله، أي: يا مَن قصده الطالبون فسعدوا بما طلبوا،
…
"
(4)
.
وفي قوله:
يا خيرَ مَنْ يمَّمَ العافون ساحَتَهُ
…
سعيًا وفوق متون الأَيْنُقِ الرُّسُمِ
(5)
4 -
التوجه إلى الأولياء بالدعاء والاستغاثة بهم
يقول ابن عجيبة: "فإن تعذَّر عليه
(6)
الوصول إلى الشيخ وقد عرض له مرضٌ
(1)
يقصد البوصيري.
(2)
شرح البردة، ص 310.
(3)
يقصد صاحب البردة البوصيري.
(4)
المرجع السابق، ص 240، وسيأتي في مبحث خاص عن عقيدته في الرسول صلى الله عليه وسلم.
(5)
شرح البردة له، ص 238.
وقد شرح ابن عجيبة هذا البيت شرحًا لغويًّا فقال: يمَّم تيمُّمًا: قصد، والعافون: الطالبون، والاستعفاء: طلب العفو، والمتين: القوي، والأينُق: جمع ناقة، والرُّسُم: جمع رسوم وهي الناقة الشديدة التي تؤثر في الأرض لشدة وطئها، وقد طوَّع البيت لما يعتقده في تصوفه، ولا غرو في ذلك، فلقد سبق أن شرح الآجرومية شرحًا صوفيًّا.
(6)
يقصد المريد.
أو أمرٌ فليشخص بين عينيه بصفته وهيئته، ويشكو له، فإنَّه يبرأ بإذن الله، وإن كان مع جماعة واستحيا فليشتك إليه في قلبه"
(1)
.
والدعاء والاستغاثة من جملة أنواع العبادة التي لا يصلح منها شيءٌ إلا لله سبحانه وتعالى، فمن صرف منها شيئًا لغير الله عز وجل فيما لا يقدر عليه إلا الله فهو عابدٌ لغير الله، سواءً سمَّى دعاءه توكُّلًا أو تبرُّكًا وما إلى ذلك، فإنَّ هذه التسمية لا تغيِّر شيئًا ولو يسيرًا من حقيقة ما ذهب إليه ذلك الداعي، ولا لذة للعبد إلا أن يكون الله سبحانه هو إلهه ومستغاثه، الذي إليه مفزعه عند الشدائد وإليه مرجعه في عامَّة المطالب والمقاصد.
قال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا}
(2)
.
قال الطبري: "يعني أفردوا له التوحيد، وأخلصوا له العبادة"
(3)
.
ومن قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنَّ محمَّدًا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يستغيث بغير الله عز وجل فهذا شركٌ أكبر، ولا ينفعه هذا التوحيد مع هذه الاستغاثة.
والاستغاثة التي أرشدنا إليها النبي صلى الله عليه وسلم ليعلم الأُمَّة هي تجريد التوحيد، قال الألوسي
(4)
: "فإذا قيل: تجوز الاستغاثة بالأنبياء والصالحين ودعاؤهم والنذر لهم على أنهم وسائط ووسائل بين الله وبين عباده وأنَّ الله يفعل لأجلهم، انهدمت القاعدة
(1)
الفتوحات الإلهية، ص 339.
(2)
سورة الجن: 23.
(3)
جامع البيان 23/ 665.
(4)
هو أبو المعالي، محمود شكري جمال الدين بن عبد الله بهاء الدين بن محمود شهاب الدين الألوسي، ونسبته تعود إلى قرية (ألوس) وهي قرية صغيرة على نهر الفرات، ولد في بغداد سنة 1273 هـ، وتوفي سنة 1342 هـ، له مؤلفات منها: صبُّ العذاب على من سبَّ الأصحاب، رسالة في التوحيد والتثليث، ومن شيوخه: إسماعيل بن مصطفى الموصلي، عبد السلام بن محمد النجدي، الشهير بالشواف. ينظر: الأعلام 7/ 172 - 173.
الإيمانية، وانتقضت الأصول التوحيدية، وفتح باب الشرك الأعظم، وعادت الرغباب والرهبات، والمقاصد والتوجيهات إلى سُكَّان القبور والأموات، ومن دعا مع الله من سائر المخلوقات، وهذه هي الغاية الشركية، والعبادة الوثنية، فنعوذ بالله من الضلال والشقاء والانحراف عن أسباب الفلاح والهدى
…
وعلى القول بجعل الوسائط والشفعاء بين العباد وبين الله تقلع أصول هذا الأصل العظيم، الذي هو قطب رحى الإيمان، وينهدم أساسه الذي ركب عليه البنيان، فأيُّ فرحٍ وأيُّ نعيمٍ وأيُّ فاقةٍ سُدَّت، وأيُّ ضرورةٍ دُفعت، وأيُّ سعادةٍ حصلت، وأيُّ أنسٍ واطمئنانٍ إذا كان التوجُّه والدعاء والاستغاثة والذَّبح والنَّذر لغير الملك الحنَّان المنَّان"
(1)
.
ومن عرف الشرك حق المعرفة يعلم أنَّ من قال: تجوز الاستغاثة والتوسُّل بالأنبياء والصالحين والنذر لهم والحلف وما أشبهه من التعظيم له نصيب وافر من الكذب على الله وعلى رسوله، ومن الصَّد عن سبيل الله وابتغاء العوج، والله المستعان
(2)
.
أمَّا الاستغاثة بالمخلوق فيما يقدر عليه، فيجوز ذلك، ومثاله: أن يستغيث إنسانٌ مكروب بإنسانٍ قادر، والدليل عليه قول الله تعالى:{وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ}
(3)
.
فهذا استغاثةٌ بقادر، فهي صحيحة.
(1)
غاية الأماني في الرد على النبهاني 1/ 348.
(2)
المرجع نفسه 1/ 359.
(3)
سورة القصص: 15.
أمَّا إذا استغيث بمخلوقٍ في أمرٍ لا يقدر عليه إلا الله عز وجل فهذا شركٌ أكبر، وقد أتت النصوص بالوعيد لمن فعل هذا قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا}
(1)
.
ولقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم من الغلو في تعظيمه، ومدحه، قال صلى الله عليه وسلم: «لا تُطروني
(2)
كما أطرت النصارى ابن مريم فإنِّما أنا عبده فقولوا عبد الله ورسوله»
(3)
.
ولا شكَّ أنَّ البوصيري في البردة يوجه الدعاء واللياذ والعياذ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا شركٌ صريح.
قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن
(4)
: "هذه الأبيات التي مضمونها إخلاص الدعاء واللياذ والرجاء والاعتماد في أضيق الحالات، وأعظم الاضطرار لغير الله فناقضوا الرَّسُول صلى الله عليه وسلم بارتكاب ما نهى عنه أعظم مناقضة، وشاقوا الله ورسوله أعظم مشاقة، وذلك أنَّ الشيطان أظهر لهم هذا الشرك العظيم في قالب محبة النبي صلى الله عليه وسلم وتعظيمه وأظهر لهم التوحيد والإخلاص الذي بعثه الله به في قالب تنقيصه، وهؤلاء المشركون هم المتنقِّصون الناقصون أفرطوا في تعظيمه بها نهاهم عنه أشد النهي وفرَّطوا في متابعته، فلم يعبأوا بأقواله وأفعاله ولا رضوا بحكمه ولا سلَّموا له، وإنما يحصل تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم بتعظيم أمره ونهيه، والاهتداء بهديه واتباع سُنَّته، والدعوة إلى دينه
(1)
سورة النساء: 48.
(2)
الإطراء: مجاوزة الحد في المدح والكذب فيه. ينظر: النهاية في غريب الحديث 3/ 271.
(3)
أخرجه البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا} 4/ 167، رقم 3445.
(4)
هو: عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب، تفقَّه بنجد، ثم بمصر، نقله إليها إبراهيم باشا بعد استيلائه على الدرعية فيمن نقل من آل سعود وآل الشيخ، ثم عاد إلى نجد سنة 1241 هـ، وتولى قضاء الرياض، وتوفي فيها عام 1285 هـ. ينظر: مشاهير علماء نجد 1/ 59.
الذي دعا إليه ونصرته، وموالاة من عمل به، ومعاداة من خالفه.
فعكس أولئك المشركون ما أراد الله ورسوله علمًا وعملًا وارتكبوا ما نهى عنه ورسوله فالله المستعان"
(1)
.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحذِّر من الغلو، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إيَّاكم والغلو فإنَّما أهلك من كان قبلكم الغلو»
(2)
.
قال ابن تيمية رحمه الله: "هذا عامٌّ في جميع أنواع الغلو في الاعتقادات والأعمال"
(3)
.
وقال الشيخ سليمان بن عبد الله رحمه الله: "فتأمَّل ما في هذه الأبيات من الشرك.
منها: أنَّه نفى أن يكون له ملاذًا إذا حلَّت به الحوادث إلا النبي صلى الله عليه وسلم وليس ذلك إلا لله وحده لا شريك له، فهو الذي ليس للعباد ملاذٌ إلا هو.
الثاني: أنَّه دعاه وناداه بالتضرُّع وإظهار الفاقة والاضطرار إليه، وسأل منه هذه المطالب التي لا تُطْلَبُ إلا من الله، وذلك هو الشِّرك في الإلهية.
الثالث: سؤاله منه أن يشفع له في قوله:
ولن يضيقَ -رسولَ اللهِ- جاهُكَ بي
…
إذا الكريمُ تجلَّى باسمِ منتقم
وهذا هو الذي أراده المشركون ممَّن عبدوه، وهو الجاه والشفاعة عند الله، وذلك هو الشرك، وأيضًا فإنَّ الشفاعة لا تكون إلا بعد إذن الله فلا معنى لطلبها من غيره، فإنَّ الله تعالى هو الذي يأذن للشافع أن يشفع لأنَّ الشافع يشفع ابتداء.
(1)
فتح المجيد 1/ 381.
(2)
أخرجه النسائي، كتاب المناسك، باب التقاط الحصى 5/ 278، وسنن ابن ماجه، كتاب المناسك، باب قدر حصى الرمي 2/ 1008، وصحَّحه الألباني في صحيح سنن النسائي 2/ 460.
(3)
اقتضاء الصراط المستقيم 1/ 328.
الرابع: قوله: (فإنِّ لي ذمة) إلى آخره، كذبٌ على الله عز وجل وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم فليس بينه وبين من اسمه محمَّد ذمَّةٌ إلا بالطاعة، لا بمجرَّد الإشراك في الاسم مع الشرك.
فهذا تناقض عظيم وشرك ظاهر، فإنَّه طلب أوَّلًا أن لا يضيق به جاهه، ثم طلب هنا أن يأخذ بيده فضلًا وإحسانًا، وإلا فيا هلاكه! فيقال: كيف طلبت منه أوَّلًا الشفاعة ثم طلبت منه هنا أن يتفضَّل عليك؟! فإن كنت تقول: إنَّ الشفاعة لا تكون إلا بعد إذن الله، فكيف تدعو النبي صلى الله عليه وسلم وترجوه وتسأله الشفاعة؟! فهلَّا سألتها مَنْ له الشفاعة جميعًا الذي له ملك السموات والأرض الذي لا تكون الشفاعة إلا من بعد إذنه، فهذا يبطل عليك طلب الشفاعة من غير الله.
وإن قلت: ما أريد إلا جاهه، وشفاعته بإذن الله عز وجل قيل: فكيف سألته أن يتفضَّل عليك ويأخذ بيدك في يوم الدين، فهذا مضادٌّ لقوله تعالى:{وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ}
(1)
، فكيف يجتمع في قلب عبد الإيمان بهذا وهذا؟! وإن قلت: سألته أن يأخذ بيدي، ويتفضَّل عليَّ بجاهه وشفاعته، قيل: عاد الأمر إلى طلب الشَّفاعة من غير الله، وذلك هو محضُ الشرك.
السادس: في هذه الأبيات من التبرِّي من الخالق -تعالى وتقدَّس- والاعتماد على المخلوق في حوادث الدنيا والآخرة ما لا يخفى على مؤمن، فأين هذا من قوله تعالى:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}
(2)
، وقوله تعالى:{فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ}
(3)
، وقوله: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ
(1)
سورة الانفطار: 17 - 19.
(2)
سورة الفاتحة: 5.
(3)
سورة التوبة: 129.
وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا}
(1)
"
(2)
.
فكم ضيع على نفسه من عبادة من هتف وتغنَّى بالبردة، ولو رسخ التوحيد في قلبه لقويت علاقته بالله عز وجل وقطع العلائق من دونه، وتبرَّأ من كل معبود سوى الله عز وجل، قال تعالى:{قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا}
(3)
.
وحذَّر الله عز وجل من مجاوزة الحد في الحق قال تعالى: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ}
(4)
.
قال ابن كثير في تفسيره: "أي: لا تجاوزوا الحد في اتباع الحق، ولا تطروا من أُمرتم بتعظيمه فتبالغوا فيه، حتى تخرجوه عن حيِّز النبوة إلى مقام الإلهية، كما صنعتم في المسيح، وهو نبيٌّ من الأنبياء، فجعلتموه إلهًا من دون الله، وما ذاك إلا لاقتدائكم بشيوخ الضلال، الذين هم سلفكم ممن ضلَّ قديمًا، {وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} أي: وخرجوا عن طريق الاستقامة والاعتدال، إلى طريق الغواية والضلال"
(5)
.
(1)
سورة الفرقان: 58.
(2)
تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد 1/ 182، وينظر: تأسيس التقديس في كشف تلبيس داود بن جرجيس، ص 25، 45، 58 - 59، القول المفيد على كتاب التوحيد، 1/ 218، إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد 1/ 241.
(3)
سورة الجن: 23.
(4)
سورة المائدة: 77.
(5)
تفسير القرآن العظيم 3/ 159.