الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثانيًا: أمور يجب على المريد أن يسلكها
من جملة الأمور التي يسلكها المريد وبدونها لا يصل لمقام الولاية -حسب زعمهم- المجاهدة والعزلة، والصوم، والجوع، وتسليط النَّاس، والتجرُّد من الدنيا وملذَّاتها
(1)
.
قال ابن عجيبة: "وأعظم ما يشتغل عنه المريد ويغيب عنه حُبُّ الدنيا، فإنه سُمٌّ قاطع، ولا يمكن السير إلى الله بصفاء القلوب مع بقاء شيءٍ منها، وقليلها ككثيرها"
(2)
.
وقال في موضعٍ آخر: "فإن أضاف المريد إلى العزلة
(3)
الصمت والجوع والسَّهر فقد كملت ولايته، وظهرت عنايته، وأشرقت عليه الأنوار، وانمحت من مرآة قلبه صور الأغيار"
(4)
.
ويقسِّم الصوفية العزلة إلى قسمين: عزلة المريد بالجسم عن مخالطة الأغيار، وهو في هذا المقام لم يصل إلى وحدة الشُّهود، والقسم الثاني: عزلة المحققين وتكون بالقلب عن الكون، فهؤلاء وصلوا -بزعمهم- لوحدة الشُّهود والعيان، فكملت ولايتهم، وهم بذلك يتحقق فيهم المقولة الكفرية وحدة الوجود.
وهذا ليس ممدوحًا، فالممدوح من العزلة اعتزال ما يؤذي، ومن الخلطة ما ينفعُ، فلا ينبغي أن تقطع العزلةُ عن العلم والجماعات ومجالس الذكر والاحتراف للعائلة، وحضور الجنائز، وعيادة المرضى
(5)
.
(1)
ينظر: شرح الصلاة المشيشية، ص 14، البحر المديد 4/ 324، 1/ 566.
(2)
إيقاظ الهمم، ص 436.
(3)
ينظر: الإسفار عن رسالة أهل الأنوار فيما يتجلَّى لأهل الذكر في الخلوة من الأنوار، ص 83، لطائف الأعلام 2/ 306.
(4)
إيقاظ الهمم، ص 60.
(5)
غذاء الألباب شرح منظومة الآداب 2/ 372، ينظر: مختصر منهاج القاصدين، ص 116، تلبيس إبليس، ص 352.
ولقد فسَّر ابن عجيبة قول الله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ}
(1)
بقوله: "الحرم الآمن في هذه الدار هو التبتُّل والانقطاع عن الدنيا وأبنائها، والتجرُّد من أسبابها"
(2)
.
وهذا التفسير مخالفٌ لتفسير العلماء المحققين، قال ابن كثير رحمه الله: "يقول تعالى ممتنًّا على قريش فيما أحلَّهم من حرمه الذي جعله للنَّاس سواءً العاكف فيه والباد، ومن دخله كان آمنا فهم في أمنٍ عظيم، والأعراب حوله ينهب بعضهم بعضا، ويقتل بعضهم بعضا، كما قال تعالى:{لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ}
(3)
"
(4)
.
وتفسير ابن عجيبة المخالف للآية جاء نتيجة المجاهدة والرياضة التي كان عليها ابن عجيبة فقد "كان قليل اللحم، يابس الجلد على العظم؛ من كثرة المجاهدة والزهد والورع، ويلبس جلابة مرتقعة"
(5)
، فهو يصف نفسه عندما تكون تلك حالته بقوله: "ولقد كنتُ في حال الرياضة والمجاهدة إذا أردت أن أتكلَّم في التفسير، أو غيره أشرع في الكلام، ثم أغيب
(6)
، فكنت أحس بالكلام يخرج مني من غير اختيار كأنه السَّحاب، فتصدر مني علومٌ وحِكَم، فإذا سكت لم يبق منه إلا القليل"
(7)
.
(1)
سورة العنكبوت: 67.
(2)
البحر المديد 4/ 321.
(3)
سورة قريش: 1 - 4.
(4)
تفسير ابن كثير 6/ 265، وينظر: المحرر الوجيز 4/ 325، والبحر المحيط 3/ 273.
(5)
ينظر: مخطوط كنز الأسرار، للمعسكري، ص 31، وهذه مسالك الصوفية المبتدعة التي لم ترد في الشرع.
(6)
غيبة القلب عن علم ما يجري من أحوال الخلق؛ لاشتغال الحس بما ورد عليه، ثم قد يغيب عن إحساسه بنفسه وغيره بوارد من تذكر ثواب أو تفكر عقاب. ينظر: الرسالة القشيرية، ص 63.
(7)
إيقاظ الهمم، ص 366.
قال ابن تيمية رحمه الله: "الرياضة تستعمل في ثلاثة أنواع: في رياضة الأبدان بالحركة والمشي كما يذكر الأطباء وغيرهم، وفي رياضة النُّفوس بالأخلاق الحسنة المعتدلة والآداب المحمودة، وفي رياضة الأذهان بمعرفة دقيق العلم والبحث عن الأمور الغامضة"
(1)
.
وما توهَّمه ابن عجيبة هو في الحقيقة خطاباتٌ شيطانية، نتيجة الرياضات والمجاهدات الشاقَّة على النَّفس.
قال ابن القيم رحمه الله: "فمن أين للمخاطب أن هذا الخطاب رحماني، أو ملكي؟ بأيِّ برهان؟ أو بأيِّ دليل؟ والشيطان يقذف في النفس وحيه، ويلقي في السمع خطابه، فيقول المغرور المخدوع: قيل لي وخوطبت، صدقت لكن الشأن في القائل لك والمخاطب
…
خطاب حالي، تكون بدايته من النفس، وعوده إليها، فيتوهمه من خارج، وإنما هو من نفسه، منها بدأ وإليها يعود، وهذا كثيرًا ما يعرض للسَّالك، فيغلط فيه، ويعتقد أنه خطاب من الله، كلَّمه به منه إليه، وسبب غلطه أنَّ اللطيفة المدركة من الإنسان إذا صفت بالرياضة، وانقطعت علقها عن الشواغل الكثيفة صار الحكم لها بحكم استيلاء الروح والقلب على البدن، ومصير الحكم لهما، فتنصرف عناية النفس والقلب إلى تجريد المعاني التي هي متصلة بهما، وتشتد عناية الروح بها، وتصير في محل تلك العلائق والشواغل، فتملأ القلب، فتنصرف تلك المعاني إلى المنطق والخطاب القلبي الروحي بحكم العادة، ويتفق تجرد الروح، فتشكل تلك المعاني للقوة السامعة بشكل الأصوات المسموعة، وللقوة الباصرة بشكل الأشخاص المرئية، فيرى صورها، ويسمع الخطاب، وكله في نفسه ليس في
(1)
الرد على المنطقيين، ص 255.
الخارج منه شيء، ويحلف أنه رأى وسمع، وصدق، لكن رأى وسمع في الخارج، أو في نفسه؟ ويتفق ضعف التمييز، وقلة العلم، واستيلاء تلك المعاني على الروح، وتجردها من الشواغل"
(1)
.
وبيَّن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله خطر هذه الرياضات والمجاهدات وما ينتج عنها من اعتقادات فاسدة فقال: "وكذلك أصحاب الرياضة والتجرُّد
…
قد تنعقد في قلبه مقاييس فاسدة ومواجيد فاسدة يحكم بمقتضاها في الربوبية أحكامًا فاسدة مثل:
…
اعتقاد أنَّ الرَّب هو الوجود المطلق الذي لا يتميَّز، وأنَّ عين الوجود هو عين الخالق وأنه ليس وراء السموات والأرض شيءٌ آخر، وإنما هذه الأشياء كلها مراتب للصفات وأنَّ الربوبية والإلهية مراتب ذهنية شكوكية، وأمَّا في الحقيقة فليس إلا عين ذاته فالمحجوبون يرون المراتب والمكاشف ما ترى إلا عين الحق"
(2)
.
وهذه المجاهدات المبتدعة ليست من الدين، فالمشقة لا تقصد لذاتها، أمَّا المشقة التي يثاب عليها المؤمن فهي التي تلحقه أثناء التكليف، وأمَّا أن تقصد لذاتها وتجتنب رخص الله فلا، قال تعالى:{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}
(3)
(4)
.
قال الشاطبي رحمه الله وهو يبيِّن البدع التي عليها المتصوفة: "ومن ذلك أنهم يبنون طريقهم على اجتناب الرخص جملة
…
فالتزام العزائم مع وجود مضار الرخص التي
(1)
مدارج السالكين 1/ 58.
(2)
مجموع الفتاوى 2/ 63، 66.
(3)
سورة التوبة: 120.
(4)
ينظر: الموافقات 2/ 215.