الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الأول: الكشف
أولًا: معنى الكشف في اللغة
الكاف والشين والفاء أصلٌ صحيحٌ يدلُّ على الإظهار ورفع شيءٍ عمَّا يواريه ويغطِّيه
(1)
.
ثانيًا: معناه في الاصطلاح
هو الاطلاع على ما وراء الحجاب من المعاني الغيبية والأمور الخفية وجودًا أو شهودًا
(2)
.
ثالثًا: تعريفه عند ابن عجيبة
يعرِّفه بـ"العلم اللدني" وهو: الذي يفيض على القلوب من غير اكتساب ولا علم"
(3)
، ويقول:"إن الحق سبحانه قسم الخلق إلى قسمين وفرقهم فرقتين، قسم اختصهم بمحبته وجعلهم من أهل ولايته، ففتح لهم الباب وكشف لهم الحجاب فأشهدهم أسرار ذاته ولم يحجبهم عنه بآثار قدرته، وقسم يكشف عن قلوبهم السرائر، ويريهم الأشياء كما هي بالوحي والإلهام والمنامات الصادقة وهذا القسم يختص بنيله الأنبياء والأولياء"
(4)
.
وتعريف ابن عجيبة للكشف وتقسيمه للخلق فيهم دعوى باطلة قد بين بطلانها أهل العلم.
(1)
ينظر: مقاييس اللغة 2/ 445.
(2)
ينظر: التعريفات، ص 148.
(3)
البحر المديد 3/ 288، 1/ 489، وإيقاظ الهمم، ص 500.
(4)
إيقاظ الهمم في شرح الحكم، ص 77.
قال ابن القيم رحمه الله: "وأمَّا دعوى وقوع نوع من العلم بغير سبب من الاستدلال: فليس بصحيح، فإن الله سبحانه وتعالى ربط التعريفات بأسبابها، كما ربط الكائنات بأسبابها، ولا يحصل لبشر علم إلا بدليل يدله عليه، وقد أيد الله سبحانه وتعالى رسله بأنواع الأدلة والبراهين التي دلَّتهم على أنَّ ما جاءهم هو من عند الله، ودلَّت أممهم على ذلك، وكان معهم أعظم الأدلة والبراهين على أنَّ ما جاءهم هو من عند الله
…
فكلُّ علمٍ لا يستند إلى دليل فدعوى لا دليل عليها، وحكم لا برهان عند قائله، وما كان كذلك لم يكن علمًا، فضلًا عن أن يكون لَدُنِّيًّا.
فالعلم اللَّدُنِّي: ما قام الدليل الصحيح عليه أنه جاء من عند الله سبحانه وتعالى على لسان رسله، وما عداه فلدُنِّيٌّ من لدن نفس الإنسان، منه بدأ وإليه يعود، وقد انبثق سد العلم اللَّدُنِّي، ورخص سعره، حتى ادعت كل طائفة أن علمهم لدُنِّي، وصار من تكلَّم في حقائق الإيمان والسلوك وباب الأسماء والصفات بما يسنح له ويلقيه شيطانه في قلبه: يزعم أنَّ علمه لدُنِّي، فملاحدة الاتحادية، وزنادقة المنتسبين إلى السلوك يقولون: إنَّ علمهم لدُنِّي، وقد صنَّف في العلم اللدُنِّي متهوكو المتكلمين، وزنادقة المتصوفين، وجهلة المتفلسفين، وكلٌّ يزعم أنَّ علمه لدُنِّي، وصدقوا وكذبوا فإنَّ اللدني منسوب إلى (لدن) بمعنى عند، فكأنهم قالوا: العلم العندي، ولكن الشأن فيمن هذا العلم من عنده ومن لدنه، وقد ذمَّ الله تعالى بأبلغ الذم من ينسب إليه ما ليس من عنده، كما قال تعالى:{وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}
(1)
، وقال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ
(1)
سورة آل عمران: 78.
عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ}
(1)
فكلُّ من قال: هذا العلم من عند الله -وهو كاذب في هذه النسبة- فله نصيبٌ وافر من هذا الذم، وهذا في القرآن كثير، يذم الله سبحانه وتعالى من أضاف إليه ما لا علم له به، ومن قال عليه ما لا يعلم، ولهذا رتَّب سبحانه وتعالى المحرمات أربع مراتب، وجعل أشدها: القول عليه بلا علم، فجعله آخر مراتب المحرمات التي لا تباح بحال، بل هي محرَّمة في كلِّ ملَّة، وعلى لسان كلِّ رسول، فالقائل: إن هذا علمٌ لدُنِّي لما لا يعلم أنه من عند الله، ولا قام عليه برهان من الله أنَّه من عنده: كاذبٌ مفترٍ على الله، وهو من أظلم الظالمين، وأكذب الكاذبين"
(2)
.
كما يرى ابن عجيبة بأنَّ الكشف حقٌّ لا مرية فيه، وهذا ظاهر في أقواله:"ما أدركته الروح أو السر من المعاني اللطيفة والأسرار القديمة فإنَّ ذلك أذواق وكشوفات ومشاهدات، لا يبقى معها وهمٌ ولا ظنٌّ ولا خاطر"
(3)
.
وفي قوله أيضًا: "إذا وعدك الحق تعالى بشيءٍ على لسان الوحي أو الإلهام من نبيٍّ أو وليٍّ أو تجلِّي قوي، فلا تشك أيها المريد في ذلك الوعد"
(4)
.
وقال في موضع آخر: "يقال للعارف
(5)
إذا أعرض الخلق عنه، ولم ينفع قلوبهم تذكيره ووعظه: اتبع ما يوحى إليك من وراء الإلهام، فإنَّه حقٌّ في حق الخصوص، إذ لا يتجلَّى في قلوبهم إلا ما هو حق"
(6)
.
(1)
سورة الأنعام: 93 ..
(2)
مدارج السالكين 3/ 432 - 433.
(3)
الفتوحات الإلهية، ص 317.
(4)
إيقاظ الهمم، ص 44، والبحر المديد 5/ 503.
(5)
يقصد الصوفية بالعارف: الولي، وهو من أشهده الله تعالى ذاته وصفاته وأسماءه وأفعاله، فالمعرفة حال تحدث عن شهود. ينظر: التعريفات، للجرجاني، ص 112، وينظر: معجم اصطلاحات الصوفية، ص 110.
(6)
البحر المديد 2/ 505.
وأنزل ابن عجيبة كشف الولي مكانة ومرتبة عظيمة، بل ذهب إلى أنه محفوظٌ من الشياطين، ويستدل بقول الله عز وجل {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ}
(1)
، قال:"وحي الإلهام الذي يتنزل على القلوب الصافية من الأغيار كوحي الأحكام ما تتنزل به الشياطين، وما ينبغي لهم وما يستطيعون؛ لأنهم ممنوعون من قلوب العارفين؛ لما احتفت به من الأنوار، وما صانها من الأسرار"
(2)
.
ويصف ابن عجيبة الولي المكاشف بقوله: "أدركت أنوار الملكوت متصلة ببحر الجبروت، وصرت أنت قطب الوجود، تدوِّره بيدك كيف شئت، خليفة الله في أرضه، نقطة دائرة كونه"
(3)
.
ويوجب ابن عجيبة طاعة الوارد الإلهي، والعقوبة لمن يخالف ذلك، قال:"الوارد الإلهي تجب طاعته؛ لأنه يتجلَّى من حضرة الحق، وهو أمينٌ على ما يأتي به من العلوم"
(4)
، وقال:"فإذا تجلَّى فيه شيءٌ بأمر أو نهي فاستهان به وخالفه أدَّبه الحقُّ على ذلك إما في ظاهره وهو أخف، وإما في باطنه بالحجبة أو الفرقة، ولقد سمعت شيخ شيخنا العربي الدرقاوي يقول: لي ثلاثون سنة ما خالفت قلبي في شيءٍ إلا أدَّبني الحقُّ تعالى"
(5)
.
ومن إغراقه فيما يعتقده في الكشف أنه يزعم أنَّ العلم الشرعي حجاب عن الكشف؛ وعلَّل بأنَّ العلماء لم يصلوا لعلم المعاني؛ لأنهم "اشتغلوا بعلم المنقول،
(1)
سورة الشعراء: 210.
(2)
البحر المديد 4/ 166.
(3)
الفتوحات الإلهية، ص 67.
(4)
البحر المديد 6/ 396.
(5)
المرجع نفسه 5/ 303، وينظر: إيقاظ الهمم، ص 278.
والاطلاع على الأقوال الغريبة، وتحرير المسائل الفرعية والتغلل فيها، وهو سببُ حجاب علماء الظاهر"
(1)
.
وقال: "كان للشبلي
(2)
تلميذ، فكساه رجلٌ يومًا جُبَّة، وكان على رأس الشبلي قلنسوة، فخطر على قلب التلميذ محبَّة القلنسوة ليجمعها مع الجُبَّة، فكاشفه الشيخ، فأزال له الجُبَّة، وجمعهما مع القلنسوة، ورمى بهما في النار، وقال له: لا تبق في قلبك التفاتًا لغير الله"
(3)
.
وغير ذلك من الأقوال التي ملئت بها كتبه.
وهذه الأقوال التي ذكرها ابن عجيبة عن الكشف حوت الكثير من المآخذ العقدية:
ومنها: زعمه الوصول عن طريق الكشف لعلم الغيب.
ولا شكَّ في بطلان هذا القول فعلم الغيب لله عز وجل وحده لم يُطلع عليه أحدًا من عباده إلا من ارتضى من رسول قال الله عز وجل: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا}
(4)
.
قالت عائشة رضي الله عنها في حق النبي صلى الله عليه وسلم: «ومن حدَّثك أنَّه يعلم الغيب فقد كذب»
(5)
.
(1)
الفتوحات الإلهية، ص 276.
(2)
هو: أبو بكر الشبلي الصوفي، صاحب الأحوال والمجاهدات، اختلف في اسمه واسم أبيه قيل: دلف بن جحدر، وقيل جعفر بن يونس، صحب الجنيد، توفي سنة 334 هـ ببغداد. ينظر: سير أعلام النبلاء 11/ 544، الوافي بالوفيات 14/ 18.
(3)
إيقاظ الهمم في شرح الحكم، ص 361.
(4)
سورة الجن: 26 - 27.
(5)
أخرجه البخاري، كتاب التوحيد، باب {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا} رقم 738.