الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وما أشار إليه ابن عجيبة من أنَّ هذه الكتب يُراد بها الكتب المعيَّنة تارة، ويراد بها الجنس تارة، فهو صحيح.
قال ابن القيم رحمه الله: "فإنَّ لفظ التوراة والإنجيل والزبور والقرآن يُراد به الكتب المعنيَّة تارة، ويُراد به الجنس تارة، فيُعبَّر بلفظ القرآن عن الزَّبور، وبلفظ التوراة عن الإنجيل، وعن القرآن أيضًا"
(1)
.
ثالثًا: الإيمان بالقرآن الكريم ومنزلته
قال ابن عجيبة: "أما القرآن العظيم فلا بدَّ من الإيمان أنه مُنَزَّلٌ على نبيِّنا محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم "
(2)
.
ويقول أيضًا: "إنَّ القرآن مقروءٌ بالألسن مكتوبٌ في المصاحف، محفوظٌ في القلوب، وأنه مع ذلك قديمٌ قائمٌ بذاته تعالى"
(3)
.
قد يتبادر إلى الذهن أنَّ قول ابن عجيبة هذا صحيح موافق لاعتقاد أهل السُّنَّة والجماعة، خاصَّة أنَّ هذا ما قرره أبو الحسن الأشعري فقال:"والقرآنُ مكتوبُ في مصاحفنا في الحقيقة، محفوظٌ في صدورنا في الحقيقة، متلوٌّ بألسنتنا في الحقيقة، مسموعٌ لنا في الحقيقة"
(4)
.
ولكنَّ هذا الكلام ليس على حقيقته، بل هذه عبارات عن الكلام القديم، وهي معانٍ مخلوقةٌ عند الأشاعرة، قال ابن فُورَك: "كلامُ الله تعالى محفوظٌ في القلوب متلوٌّ بالألسِنَة مكتوبٌ في المصاحف كما أنَّ الله جلَّ ذكره مذكورٌ بالألسِنَة معبودٌ
(1)
هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى 2/ 369.
(2)
البحر المديد 1/ 75.
(3)
مخطوط رسائل في العقائد، ل/4.
(4)
الإبانة في أصول الديانة، ص 100.
بالجوارح، ولا يجوز أن يكون في شيءٍ من ذلك حالًا، ومثل هذا قوله تعالى:{وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}
(1)
.
والمراد حُبُّ العجل؛ لأنَّ العجل لم يحل في قلوبهم، واعلم أنَّا لا نأبى أن كلام الله تعالى محفوظٌ على الحقيقة، يُحفظ في القلوب مكتوب على الحقيقة في المصحف كتابة حالة فيها متلوٌ بالألسِنَة بتلاوة فيها مسموع في الأسماع غير حال في شيءٍ من هذه المخلوقات ولا يُجَاوَز"
(2)
.
وأفصح عن ذلك أيضًا عبد القاهر البغدادي حيث قال:
(3)
: "كلام الله في المصحف مكتوب، وفي القلب محفوظ، وباللسان متلوّ، ولا يقال: إنه في المصاحف مطلقًا، ولا نقول على التقييد: إنه مكتوبٌ في المصاحف"
(4)
.
وبهذا يتضح ما قصده ابن عجيبة من كلامه السابق الذي وافق فيه الأشاعرة، بأن الذي يوجد في المصحف هي كتابة كلام الله التي هي الألفاظ أو هو عبارة عن العربية، لا كونه كلام الله حقيقة.
ولقد بيَّن ابن تيمية رحمه الله غلطهم من جهة تصوير مذهبهم، وغلطهم في الشريعة، فقال: "فإنَّ هؤلاء غلطوا غلطين غلطًا في مذهبهم وغلطًا في الشريعة.
أمَّا الغَلطُ في (تصوير مذهبهم) فكان الواجب أن يقولوا: إنَّ القرآن في
(1)
سورة البقرة: 93.
(2)
مشكل الحديث، ص 130.
(3)
هو: أبو منصور، عبد القاهر بن طاهر البغدادي، متكلِّم، أشعري، من مصنفاته: الفرق بين الفرق، أصول الدين، توفي سنة 429 هـ. ينظر: سير أعلام النبلاء 17/ 572، وفيات الأعيان 3/ 203.
(4)
أصول الدين، ص 108.
المصحف مثل ما أنَّ العلم والمعاني في الورق، فكما يُقال: العلم في هذا الكتاب يُقال: الكلام في هذا الكتاب؛ لأنَّ الكلام عندهم هو المعنى القائم بالذات فيصور له المثل بالعلم القائم بالذات لا بالذات نفسها.
وأما الغلط في (الشريعة) فيقالُ لهم: إنَّ القرآن في المصاحف مثل ما أنَّ اسم الله في المصاحف؛ فإنَّ القرآن كلام: فهو محفوظٌ بالقلوب كما يُحفظ الكلام بالقلوب وهو مذكور بالألسن، كما يذكر الكلام بالألسن وهو مكتوب في المصاحف والأوراق، كما أنَّ الكلام يُكتب في المصاحف والأوراق، والكلام الذي هو اللَّفظ يطابق المعنى، ويدلُّ عليه والمعنى يطابق الحقائق الموجودة.
فمن قال: إنَّ القرآن محفوظٌ كما أنَّ الله معلوم، وهو متلوٌّ كما أنَّ الله مذكور، ومكتوب كما أنَّ الرَّسول مكتوب، فقد أخطأ القياس والتمثيل بدرجتين: فإنه جعل وجود الموجودات القائمة بأنفسها بمنزلة وجود العبارة الدالة على المعنى المطابق لها، والمسلمون يعلمون الفرق بين قوله تعالى:{إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ}
(1)
وبين قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ}
(2)
.
فإنَّ القرآن لم ينزل على أحدٍ قبل محمَّد صلى الله عليه وسلم لا لفظه ولا جميع معانيه ولكن أنزل الله ذكره والخبر عنه، كما أنزل ذكر محمَّد والخبر عنه.
فذكر القرآن في زبر الأولين كما أنَّ ذكر محمد في زبر الأولين، وهو مكتوب عندهم في التوراة والإنجيل، فالله ورسوله معلوم بالقلوب مذكور بالألسن، مكتوب في المصحف، كما أن القرآن معلوم لمن قبلنا، مذكور لهم، مكتوب عندهم، وإنما ذاك
(1)
سورة الواقعة: 77 - 78.
(2)
سورة الشعراء: 196.
ذكره والخبر عنه، وأمَّا نحن فنفس القرآن أُنزل إلينا، ونفس القرآن مكتوبٌ في مصاحفنا، كما أنَّ نفس القرآن في الكتاب المكنون، وهو في الصحف المطهرة.
ولهذا يجب التفريق بين قوله تعالى: {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ}
(1)
، وبين قوله تعالى:{وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ}
(2)
.
فإنَّ الأعمال في الزبر كالرَّسول وكالقرآن في زبر الأولين، وأمَّا (الكتاب المسطور في الرَّقِّ المنشور) فهو كما يُكتب الكلام نفسه والصحيفة فأين هذا من هذا؟ "
(3)
.
وقال أيضًا: "بل إذا قرأه الناس أو كتبوه بذلك في المصاحف، لم يخرج بذلك عن أن يكون كلام الله تعالى حقيقة، فإنَّ الكلام إنما يُضاف حقيقة إلى من قاله مبتدئًا، لا إلى من قاله مُبلِّغًا مُؤديًا، وهو كلام الله، حروفه ومعانيه، ليس كلام الله الحروف دون المعاني، ولا المعاني دون الحروف"
(4)
.
وقال الذهبي
(5)
: "إنَّك تنقل من المصحف مائة مصحف، وذاك الأوَّل لا يتحوَّل في نفسه ولا يتغيَّر، وتُلقِّن القرآن ألف نفس، وما في صدرك باق بهيئته لا انفصل عنك ولا تغيَّر، وذاك لأنَّ المكتوب واحد والكتابة تعدَّدت، والذي في صدرك واحد وما في صدور المقرئين عينُ ما في صدرك سواءٌ، والمتلوُّ وإن تعدَّد التالون به
(1)
سورة القمر: 52.
(2)
سورة الطور: 2 - 3.
(3)
مجموع الفتاوى 12/ 383 - 385.
(4)
المرجع نفسه 3/ 144.
(5)
هو: محمد بن أحمد بن عثمان بن قايماز التركماني الذهبي، ولد بدمشق، سنة 673 هـ، وتوفي سنة 748 هـ، قال عنه السبكي: هو شيخ الجرح والتعديل، له مصنفات منها: ميزان الاعتدال، وتاريخ الإسلام الكبير. ينظر: طبقات الشافعية 9/ 101، شذرات الذهب 1/ 61.