الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
من المتقدمين والمتأخرين، وهو غلط محض حتى أورث مما يدعيه هؤلاء شكًّا عند أهل النظر والكلام الذين يجوزون رؤية اللّه في الجملة، وليس لهم من المعرفة بالسُّنَّة ما يعرفون به هل يقع في الدنيا أو لا يقع؟ فمنهم من يذكر في وقوعها في الدنيا قولين، ومنهم من يقول يجوز ذلك، وهذا كلُّه ضلال؛ فإن أئمة السُّنَّة والجماعة متفقون من أن اللّه عز وجل لا يراه أحدٌ بعينه في الدنيا"
(1)
.
(2)
.
قال ابن جرير الطبري عند تفسيره لهذه الآية: "ولما جاء موسى للوقت الذي وعدنا أن يلقانا فيه وكلَّمه ربه، وناجاه قال موسى لربه: أرني أنظر إليك، قال الله له مجيبًا: لن تراني ولكن انظر إلى الجبل"
(3)
، فإنَّ الله عز وجل خلق الخلق في هذه الدار على نشأة لا يقدرون بها، ولا يثبتون لرؤية الله عز وجل
(4)
.
ثالثًا: أدلة ابن عجيبة على الوجد
1 -
الاحتجاج بالكتاب والسُّنَّة:
احتج ابن عجيبة بقول الله تعالى: {وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا}
(5)
، قال في هذه الآية: " ....
(1)
مجموع الفتاوى 5/ 489 - 491.
(2)
سورة الأعراف: 143.
(3)
جامع البيان 13/ 90.
(4)
ينظر: تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنَّان 1/ 302.
(5)
سورة الكهف: 14.
والقيام في إظهار الحق أو لداعي الوجد، والصدع بالحق من غير مبالاة بأحدٍ من الخلق"
(1)
.
وهذا مما تعلَّقت به الصوفية لإثبات عقائدهم الباطلة، وأوَّلوها على هواهم الفاسد.
قال القرطبي
(2)
: "وهذا تعلُّقٌ غير صحيح، هؤلاء قاموا فذكروا الله عز وجل على هدايته، وشكروا لما أولاهم من نعمه ونعمته، ثم هاموا على وجوههم منقطعين إلى ربهم خائفين من قومهم، وهذه سُنَّة الله في الرُّسل والأنبياء والفضلاء الأولياء، أين هذا من ضرب الأرض بالأقدام والرقص بالأكمام وخاصة في هذه الأزمان عند سماع الأصوات الحسان من المرد والنسوان، هيهات بينهما والله ما بين الأرض والسماء، ثم هذا حرامٌ عند جماعة العلماء"
(3)
.
وقال الشاطبي: "أين فيه أنهم قاموا يرقصون أو يزفنون
(4)
أو يدورون على أقدامهم، لكن هؤلاء الفقراء ليس لهم من التواجد -في الغالب- إلا الثاني المذموم، فهم إذًا متواجدون بالنغم واللُّحون، لا يدركون من معاني الحكمة شيئًا، فقد باؤوا إذًا بأخسر الصفقتين، نعوذ بالله"
(5)
.
(1)
البحر المديد 3/ 254.
(2)
هو أبو عبد الله، محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح الأنصاري الخزرجي، القرطبي الأندلسي المالكي، له مصنفات كثيرة منها: التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة، الجامع لأحكام القرآن، وكانت وفاته سنة 671 هـ. ينظر: البداية والنهاية 17/ 381، الوافي بالوفيات 7/ 264، نفح الطيب، للمقري 2/ 5، حسن المحاضرة 1/ 260.
(3)
الجامع لأحكام القرآن 10/ 366.
(4)
زفن يزفن زفنًا، أي رقص ولعب. ينظر: تاج العروس 47/ 135.
(5)
الاعتصام 1/ 359.
2 -
احتج ابن عجيبة على جواز الوُجد الحاصل عن طريق السماع بحديث أنس رضي الله عنه قال: «كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ نزل جبريل، فقال يا رسول الله: إن فقراء أمتك يدخلون الجنة قبل الأغنياء بنصف يوم، وهو خمسمائة عام، ففرح رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: هل منكم من ينشدنا؟ فقال بدوي: نعم يا رسول الله فقال: هات؛ فأنشد أعرابيٌّ:
قد لسعت حيَّةُ الهوى كبدي
…
فلا طبيبٌ لها ولا راقي
إلا الحبيب الذي شغفت به
…
فعنده رُقيتي وترياقي
فتواجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وتواجد أصحابه معه، حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فلما فرغوا أوى كلُّ واحد إلى مكانه، فقال معاوية رضي الله عنه ما أحسن لعبكم يا رسول الله، فقال: "مه مه يا معاوية ليس بكريمٍ من لم يهتزَّ عند ذكر الحبيب، ثم اقتسم رداءه من حضرهم بأربعمائة قطعة»
(1)
.
وهذا من تلاعب الشيطان على المتصوفة إذا يحتجون على باطلهم بالأحاديث التي لا يمكن أن تنسب للنبي صلى الله عليه وسلم ولا لأصحابه رضي الله عنهم.
وردّ أبو العباس القرطبي رحمه الله على فريتهم هذه بقوله: "إنَّ الواقف على متن الحديث يعلم على القطع أنه مصنوعٌ موضوع؛ لأن الشعر الذي فيه لا يناسب شعر العرب، ولا يليق بجزالة شعرهم ولا ألفاظهم وإنما يليق بمخنثي شعر المولَّدين
(2)
"
(3)
، وقال في موضع آخر: "إنَّ هذا الحديث مما لا يوجد مسندًا ولا أخرجه في كتابه أحدٌ
(1)
إيقاظ الهمم، ص 192 - 193.
(2)
الشعراء المولَّدون: هم الذين جاوؤا بعد عصر الاحتجاج، وسُمِّوا بذلك؛ لأنَّهم ولَّدوا في الكلام أي: استحدثوا فيه مالم يكن من معاني العرب وكلامهم. ينظر: ترتيب المقاصد والمسالك بشرح ألفية ابن مالك 1/ 229.
(3)
كشف القناع عن حكم الوجد والسماع، ص 161.
من أئمة المحدثين، وإنما هي أحاديث مروجة وأكاذيب مبهرجة وضعها الزنادقة وأهل المجون المخرقة يرمون بذلك نسبة اللهو والمجون إلى الأنبياء الفضلاء"
(1)
.
وقال الشاطبي: "فمنها اعتمادهم على الأحاديث الواهية الضعيفة والمكذوب فيها على رسول الله صلى الله عليه وسلم والتي لا يقبلها أهل صناعة الحديث في البناء عليها
…
كحديث أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم تواجد واهتز عند السماع حتى سقط الرداء عن منكبيه وما أشبه ذلك، فإنَّ ناقل أمثال هذه الأحاديث -على ما هو معلوم- جاهلٌ ومخطئٌ في نقل العلم الشرعي، فلم ينقل الأخذ بشيء منها عمَّن يُعتدُّ به في طريق العلم، ولا طريق السلوك"
(2)
.
وقال ابن تيمية: "ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم يجتمعون على مثل هذا السماع ولا حضروه قط، ومن قال إنَّ النبي صلى الله عليه وسلم حضر ذلك فقد كذب عليه باتفاق أهل المعرفة بحديثه وسُنَّته، والحديث الذي ذكره محمد بن طاهر المقدسي في "مسألة السماع" و"في صفة التصوف" ورواه من طريقه الشيخ أبو حفص عمر السهروردي
(3)
صاحب عوارف المعارف أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أنشده أعرابيٌّ:
قد لسعت حيَّةُ الهوى كبدي
…
فلا طبيبٌ لها ولا راقي
إلا الحبيب الذي شغفت به
…
فعنده رُقيتي وترياقي
وأنه تواجد حتى سقطت البردة عن منكبيه فقال له معاوية: ما أحسن لهوكم
(1)
كشف القناع عن حكم الوجد والسماع، ص 101 - 102.
(2)
الاعتصام 1/ 182.
(3)
أبو حفص وأبو عبد الله، شهاب الدين عمر بن محمد بن عبد الله السهروردي الصوفي، ثم البغدادي، ولد في رجب سنة 539 هـ، وصحب عمَّه أبا النجيب السهروردي، وأخذ عنه الفقه، والوعظ، والتصوف، توفي سنة 632 هـ. ينظر: سير أعلام النبلاء 14/ 75، وفيات الأعيان 1/ 380.
فقال له: مهلًا يا معاوية ليس بكريم من لم يتواجد عند ذكر الحبيب "فهو حديث مكذوب موضوع باتفاق أهل العلم بهذا الشأن
…
وهذا وأمثاله إنما يرويه من هو من أجهل الناس بحال النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ومن بعدهم ومعرفة الإسلام والإيمان"
(1)
.
وعنَّف ابن القيم من استدلَّ بالحديث المكذوب على تواجد النبي صلى الله عليه وسلم: "من ذلك حديث «حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسًا للفقراء ورقص حتى شقَّ قميصه» فلعن الله واضعه ما أجرأه على الكذب"
(2)
.
وقال في موضع آخر: "
…
وركاكة شعره، وسماجته، وما تجد عليه من الثقالة، من أبين الشواهد على أنه من شعر المتأخرين البارد، السمج، فقبَّح الله عز وجل الكاذبين على رسول الله صلى الله عليه وسلم "
(3)
.
وقال محمد بن موسى الدَّمِيري
(4)
: "من نسب السماع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤدب أدبًا شديدًا، ويعزَّر تعزيرًا بليغًا، ويدخل في زمرة الكاذبين عليه صلى الله عليه وسلم "
(5)
.
3 -
احتجاج ابن عجيبة على الوُجد بالقياس:
قال: "السَّماع هو مَثَار الوُجد، أي سماع خطاب المحبوب، ومَثَار الوُجدان، هو شهود جمال المحبوب.
(1)
مجموع الفتاوى 11/ 562، وينظر: الاستقامة 1/ 729
(2)
المنار المنيف، ص 137.
(3)
الكلام على مسألة السماع، ص 200.
(4)
هو كمال الدين محمد بن عيسى الدَّميري المصري، ولد في حدود 750 هـ، وله شرح المنهاج، والديباجة في شرح سنن ابن ماجه، وجمع كتابًا سمَّاه (حياة الحيوان)، توفي في جمادى الأولى سنة 808 هـ. ينظر: طبقات الشافعية 4/ 61.
(5)
ينظر: الرهص والوقص لمستحل الرقص، إبراهيم الحلبي، حقَّقه وعلَّق عليه: أبو عبد الرحمن وائل بن صدقي، ص 57 - 58.
ومثال ذلك الطفل في المهد، فإنه يسكن إذا تحرَّك به المهد، ويبكي إذا سكن، كذلك القلب يرتاح إذا تحرَّك القلب، وإلا بقي يضطرب فربما يخرج عن طوره"
(1)
.
وهذا قياسٌ فاسد، وإن الرجل ليعجبُ من إنسان ينسب للعلم والعلماء كيف يرضى بهذه الأقيسة التي لا يستند بها العلماء الربانيون، بل استند بها أصحاب الأهواء الباطلة.
قال الطرطوشي
(2)
: "انظروا يا ذوي الألباب كيف قادهم الهوى وعشق الباطل، وقلة الحيلة إلى هذه السخافة، وحسبك من مذهب إمامهم فيه الأنعام، والصبيان في المهد، وهكذا يفضح الله عز وجل من اتبع الباطل، وحسبك من عقولٍ لا تقتدى بأخيار المسلمين وعلمائهم وتقتدي بالإبل، فإنَّ كل ما طربت له البهائم مندوبًا أو مباحًا، فإننا نرى البهيمة تنزو على أُمِّها وأختها وتركب بنتها، أفيلزم الاقتداء بالبهيمة في مثل هكذا"
(3)
.
(1)
خمرية ابن الفارض، ص 20 - 21.
(2)
أبو بكر، محمد بن الوليد بن محمد بن خلف القرشي الفهري الأندلسي الطرطوشي المالكي، ولد سنة 451 هـ، صحب أبا الوليد الباجي بمدينة سرقسطة، وأخذ عنه مسائل الخلاف وسمع منه وأجاز له، وقرأ الفرائض والحساب بوطنه، وقرأ الأدب على أبي محمد بن حزم بمدينة إشبيلية، ورحل إلى المشرق سنة 476 هـ، وحجَّ ودخل بغداد والبصرة، وتفقَّه على أبي بكر محمد بن أحمد الشاشي المعروف بالمستظهري الفقيه الشافعي، له مؤلفات منها: سراج الملوك، الحوادث والبدع، توفي سنة 520 هـ. ينظر: وفيات الأعيان 4/ 262.
(3)
تحريم الغناء والسماع، ص 234.