الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الغوث الفرد الجامع ويدخل في هذه الأسماء ما هو من خصائص الربوبية مثل كونه يعطي الولاية من يشاء ويصرفها عمَّن يشاء"
(1)
.
خامسًا: طريق حصول الكشف عند ابن عجيبة
أوضح ابن عجيبة أنَّ طريق حصول الكشف يكون بالمجاهدة، وتطهير القلب من حظوظه وشهواته، وأورد أسبابًا للكشف، منها:
1 -
التزام الذكر، "والذكر الذي يحصل به الكشف هو الذكر الصوفي المتلقَّى عن شيوخ الطريقة، ويكون بطريقة خاصَّة يتعلمها من شيوخ الطريقة"
(2)
.
وقال أيضًا: "هو ركنٌ قويٌّ في طريق الوصول"
(3)
، وقال:"وأعظم الأعمال التي توجد ثمرتها عاجلًا وآجلًا هو ذكر الله، وثمرته هو النور الذي يشرق في القلب"
(4)
، وقال أيضًا:"الذكر الحقيقي هو الذي يغيب صاحبه عن شهود نفسه ورسمه وحسِّه، حتى يكون الحقُّ تعالى هو المتكلِّم على لسانه"
(5)
.
وقسَّم ابن عجيبة أقسام الذكر، واختلاف الناس فيه، قال: "أقسام الذكر: ذكر العامة
(6)
باللسان، وذكر الخاصة بالجنان، وذكر خاصة الخاصة بالروح والسر"
(7)
، وقال في نصٍّ آخر مبيِّنًا اختلاف الناس بحسب غاياتهم: "الناس في
(1)
بغية المرتاد في الرَّدِّ على المتفلسفة والقرامطة والباطنية، ص 393.
(2)
الفتوحات الإلهية، ص 72، 235.
(3)
معراج التشوف، ص 42.
(4)
إيقاظ الهمم، ص 426.
(5)
البحر المديد 1/ 236.
(6)
العامة: هم الذين اقتصروا على علمهم بالشريعة ويسمون علماءَهم الرسوم. معجم المصطلحات الصوفية، ص 111.
(7)
معراج التشوف، ص 42.
الذكر على ثلاثة أقسام: قسم يطلبون الأجور، وقسم يطلبون الحضور، وقسم وصلوا ورفعوا الستور"
(1)
.
والذي عليه أهل العلم أنَّ الذكر عبادة من العبادات التي بيَّنت الأدلة أنه يترتب عليه فضائل وأجور لم يذكر فيها الوصول بما يسمّونه بالكشف، إنما فيه تقوية الإيمان بالله وطمأنينة القلوب ورفع الدرجات، وتكفير السيئات، ومن أمثال ذلك ما ورد في الكتاب والسُّنَّة.
2 -
خرق العوائد: قال: "المريد لا تفيض عليه العلوم اللدنية والأسرار الربانية حتى يخرق عوائد نفسه
…
بتخريب ظاهره، حتى لا يقبله أحد، ولا يقبل عليه أحد
…
وأمَّا ما دام ظاهرًا متزيِّنًا بلباس العوائد فلا يطمع في ورود المواهب والفوائد"
(2)
.
وقال ابن عجيبة في تفسيره لسورة العصر {وَالْعَصْرِ}
(3)
. أي: "عصر الذاكرين {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ}
(4)
، حيث احتجب عن ربه بنفسه وبرؤيته وجوده {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}
(5)
إلا الذين آمنوا إيمان الخصوص، وعملوا عمل الخصوص، وهو خرق العوائد واكتساب الفوائد، حتى وصلوا إلى كشف الحجاب"
(6)
.
وهذه السبل التي سلكها فهي مثل سابقتها لا تدلُّ عليها الأدلة بل خرق العوائد من الأمور الخطيرة التي سلكها المتصوفة.
(1)
إيقاظ الهمم، ص 426.
(2)
البحر المديد 3/ 294، و 3/ 463، 1/ 475، وينظر: الفتوحات الإلهية، ص 67.
(3)
سورة العصر: 1.
(4)
سورة العصر: 2.
(5)
سورة العصر: 3.
(6)
البحر المديد 7/ 351.
قال ابن تيمية رحمه الله: "فإنه إن سلك طريق الجوع والرياضة المفرطة خاطر بقلبه ومزاجه ودينه وربما زال عقله ومرض جسمه وذهب دينه، وإن سلك طريق الوله والاختلاط بترك الشهوات ليتصل بالأرواح الجنية
…
فقد أزال عقله وأذهب ماله ومعيشته وأشقى نفسه شقاءً لا مزيد عليه، وعرَّض نفسه لعذاب الله في الآخرة لما تركه من الواجبات وما فعله من المحرَّمات"
(1)
.
والشيطان يتسلَّط على الإنسان إن لم يدفعه بالعلم والتقوى، فيوهمه بخرق العادات وأنها من الله عز وجل وقد أوضح ذلك ابن تيمية فقال:"وهؤلاء العُبَّاد والزُّهَّاد الذين ليسوا من أولياء الله المتقين المتبعين للكتاب والسُّنَّة تقترن بهم الشياطين فيكون لأحدهم من الخوارق ما يناسب حاله، لكن خوارق هؤلاء يعارض بعضُها بعضًا، وإذا حصل من له تمكُّن من أولياء الله تعالى أبطلها عليهم، ولا بدَّ أن يكون في أحدهم من الكذب جهلًا أو عمدًا، ومن الإثم ما يناسب حال الشياطين"
(2)
.
أمَّا تفسيره لسورة العصر فهو تفسير إشاري لأهل الباطن، وهو مخالف لما عليه المفسرون قال الشيخ السعدي رحمه الله
(3)
في تفسيره لهذه السورة: "أقسم تعالى بالعصر، الذي هو الليل والنهار، محل أفعال العباد وأعمالهم أنَّ كل إنسان خاسر، والخاسر ضد الرابح، والخسار مراتب متعددة متفاوتة: قد يكون خسارًا مطلقًا، كحال من
(1)
مجموع الفتاوى 11/ 330.
(2)
المرجع نفسه 11/ 295.
(3)
عبد الرحمن بن ناصر بن عبد الله آل سعدي من النواصر من بني عمرو أحد البطون الكبار من قبيلة بني تميم، ولد في محرَّم عام 1307 هـ في بلدة عنيزة، أخذ العلم عن عدة مشايخ منهم: محمد العبد الكريم الشبل، وإبراهيم بن حمد الجاسر، ومحمد أمين الشنقيطي، ومن تلاميذه: الشيخ محمد بن صالح العثيمين، والشيخ عبد الله بن عبد العزيز العقيل، له تصانيف عدة منها: القول السديد في شرح كتاب التوحيد، تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنَّان، وكانت وفاته ليلة الخميس عام 1376 هـ وعمره 69 عامًا. ينظر: مشاهير علماء نجد ص 256.
خسر الدنيا والآخرة، وفاته النعيم، واستحق الجحيم.
وقد يكون خاسرًا من بعض الوجوه دون بعض، ولهذا عمَّم الله الخسار لكل إنسان، إلا من اتصف بأربع صفات:
أ الإيمان بما أمر الله بالإيمان به، ولا يكون الإيمان بدون العلم، فهو فرعٌ عنه لا يتم إلا به.
ب والعمل الصالح، وهذا شاملٌ لأفعال الخير كلها، الظاهرة والباطنة، المتعلقة بحق الله وحق عباده، الواجبة والمستحبة.
ج والتواصي بالحق، الذي هو الإيمان والعمل الصالح، أي: يوصي بعضُهم بعضًا بذلك، ويحثه عليه، ويرغبه فيه.
د والتواصي بالصبر على طاعة الله، وعن معصية الله، وعلى أقدار الله المؤلمة.
فبالأمرين الأولين يكمل الإنسان نفسه، وبالأمرين الأخيرين يكمل غيره، وبتكميل الأمور الأربعة، يكون الإنسان قد سلم من الخسار، وفاز بالربح العظيم"
(1)
.
وبهذا يظهر أنه لا دليل على ما ذهب إليه ابن عجيبة لا من قريب ولا من بعيد.
3 -
العزلة: قال ابن عجيبة: "كل من اعتزل عن الخلق وانفرد بالملك الحق، طلبًا في الوصول إلى مشاهدة الحق، لا بدَّ أن تفيض عليه المواهب القدسية والأسرار الوهبية والعلوم اللدنية، وهي نتائج فكرة القلوب الصافية"
(2)
.
(1)
تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنَّان 1/ 934.
(2)
البحر المديد 3/ 393.
وقال أيضًا: "الاستئناس بالناس من علامة الإفلاس، وإقبالك على الحق إدبارك عن الخلق، وإقبالك على الخلق إدبارك عن الحق، وقد عدوا من أصول الطريق الإعراض عن الخلق في الإقبال والإدبار"
(1)
.
وقال في موضع آخر: "اتخاذ الأماكن للعبادة والعزلة مطلوب عند القوم"
(2)
.
والمتأمل لهذا الدين الإسلامي يجد أنه مبنيٌّ على التعاون بين المسلمين، ومخالطتهم والصبر على أذاهم، ونفعهم قدر الوسع، ورغم أنَّ السلف كانوا يؤثرون الوحدة والعزلة عن الناس اشتغالًا بالعلم والتعبُّد فإنَّ ذلك لم يقطعهم عن الجمعة والجماعات، ولم يُعرف عنهم أنهم التزموا أماكن مظلمة للعبادة، أو ترهبنوا في الجبال قال تعالى:{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}
(3)
(4)
.
ولقد قال نبيُّنا محمد صلى الله عليه وسلم في أفضل العبادات: «صلاة الرَّجُل مع الرَّجُل أزكى من صلاته وحده، وصلاته مع الرَّجُلين أزكى من صلاته مع الرَّجُل، وما كان أكثر فهو أحب إلى الله عز وجل»
(5)
.
(1)
إيقاظ الهمم، ص 86.
(2)
البحر المديد 2/ 494.
(3)
سورة المائدة: 2.
(4)
سورة آل عمران: 103.
(5)
أخرجه أبو داود، كتاب الصلاة، باب فضل صلاة الجماعة 1/ 207، ح 554، والنسائي، كتاب الإمامة، باب الجماعة إذا كانوا اثنين، 2/ 104، ح 843، وصحَّحه الألباني في السلسلة الصحيحة 4/ 542 برقم 1912.
وقال صلى الله عليه وسلم: «الذي يخالطُ النَّاسَ ويصبرُ على أذاهم خيرٌ من الذي لا يخالطهم ولا يصبرُ على أذاهم»
(1)
.
وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من استطاع أن ينفعَ أخاه فلينفعه»
(2)
.
والذي يفعله المتصوفة هو من تلبيس الشيطان عليهم، يقول ابن الجوزي:"وقد لبَّس إبليس على جماعة من المتصوفة فمنهم من اعتزل في جبل كالرُّهبان يبيت وحده ويصبح وحده، ففاتته الجمعة وصلاة الجماعة ومخالطة أهل العلم، وعمومهم اعتزل في الأربطة ففاتهم السعي إلى المساجد وتوطَّنوا على فراش الراحة وتركوا الكسب"
(3)
.
وقد أوضح شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أنَّ الخلوة والعزلة المشروعة نوعان:
واجبة، ومستحبة:
الواجب اعتزال الناس في الأمور المحرمة، قال تعالى:{وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}
(4)
(5)
.
فإن أولئك لم يكونوا في مكان فيه جمعة ولا جماعة ولا من يأمر بشرع نبي فلهذا أووا إلى الكهف، والمستحب هو اعتزال الناس في فضول المباحات، أو أراد
(1)
أخرجه ابن ماجه، كتاب الفتن، باب الصبر على البلاء، وصحَّحه الألباني في صحيح الجامع برقم 6651، وفي السلسلة الصحيحة برقم 9339.
(2)
أخرجه مسلم، كتاب الآداب، باب استحباب الرقية من العين 4/ 1726 رقم 2199.
(3)
تلبيس إبليس، ص 352.
(4)
سورة الأنعام: 68.
(5)
سورة الكهف: 16.
الإنسان تحقيق علم أو عمل فتخلَّى في بعض الأماكن مع محافظته على الجمعة والجماعة فهذا حق
(1)
.
احتجاج ابن عجيبة على مشروعية الخلوة:
أ تحنث النبي صلى الله عليه وسلم في غار حراء في مبدأ الوحي، فالخلوة للمريد لا بدَّ منها في ابتداء أمره، فإذا قوي نوره ودخل مقام الفناء صلح له حينئذٍ الخلطة مع الناس، بحيث يكون جسده مع الخلق وقلبه مع الحق، فإن لله رجالًا أشباحُهم مع الخلق تسعى وأرواحهم في الملكوت ترعى
(2)
.
ب احتج بأنَّ الله واعد موسى أربعين ليلة ثم حصلت له المناجاة والمكالمة، وقاس النبيَّ على الولي
(3)
.
وهذه الأدلة التي استدل بها؛ ليصحح ما يراه حق، لا يسلم له بها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعله قبل النبوة ثم لم يفعلها بعد ذلك.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "والاعتكاف الشرعي في المساجد كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعله هو وأصحابه رضي الله عنهم من العبادات الشرعية، وأما الخلوات فبعضهم يحتج فيها بتحنثه بغار حراء قبل الوحي وهذا خطأ؛ فإن ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم قبل النبوة إن كان قد شرعه بعد النبوة فنحن مأمورون باتباعه فيه وإلا فلا، وهو من حين نبَّأه الله عز وجل لم يصعد بعد ذلك إلى غار حراء ولا خلفاؤه الراشدون رضي الله عنهم وقد أقام صلى الله عليه وسلم بمكة قبل الهجرة بضع عشرة سنة ودخل مكة في عمرة القضاء وعام الفتح أقام بها قريبًا من عشرين ليلة، وأتاها في حجة الوداع وأقام بها أربع ليال وغار حراء قريب منه ولم يقصده"
(4)
.
(1)
مجموع الفتاوى 10/ 405.
(2)
البحر المديد 2/ 494.
(3)
المرجع نفسه 2/ 255.
(4)
مجموع الفتاوى 10/ 394.
وأما احتجاجه على الخلوة بأن الله عز وجل واعد موسى أربعين ليلة فيرد عليه بما يلي:
- أنَّ هذه ليست من شريعة محمد صلى الله عليه وسلم بل شُرعت لموسى عليه السلام.
- قاس الولي على النبي متأثرًا بالفلاسفة فالنبوة عندهم: فيضٌ يفيض على الإنسان بحسب استعداده، وهي مكتسبة عندهم، ومن كان متميزًا -في قوته العلمية، بحيث يستغني عن التعليم، وشُكِّلَ في نفسِهِ خطابٌ يَسمعه كما يَسْمَعُ النائمُ، وشخصٌ يُخاطبه كما يُخاطَبُ النائمُ، وفي العملية بحيث يؤثر في العنصريات تأثيرًا غريبًا- كان نبيًّا عندهم
…
وهم لا يثبتون ملكًا مفضلًا يأتي بالوحي من الله تعالى، ولا ملائكة، بل ولا جنًّا يخرق الله بهم العادات للأنبياء، إلا قوى النفس
…
وقول هؤلاء، وإن كان شرًّا من أقوال كفَّار اليهود والنصارى وهو أبعد الأقوال عمَّا جاءت به الرُّسُل، فقد وقع فيه كثيرٌ من المتأخرين الذين لم يشرق عليهم نور النبوة من المدعين للنظر العقلي والكشف الخيالي الصوفي وإن كان غاية هؤلاء الأقيسة الفاسدة والشك، وغاية هؤلاء الخيالات الفاسدة والشطح
(1)
.
ج- أن الله عز وجل لم يجعل الرياضات والمجاهدة والخلوات شرطًا، لكي يطلع رسله على الغيب، بل ارتضى لهم ذلك {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا}
(2)
.
والنبوة كما هو مقرَّرٌ عند أهل السُّنَّة والجماعة اصطفاء من الله عز وجل قال سبحانه وتعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ}
(3)
.
(1)
ينظر: منهاج السُّنَّة النبوية 2/ 415، النبوات 1/ 34.
(2)
سورة الجن: 26 - 27.
(3)
سورة الحج: 75.
قال ابن جرير الطبري: "الله يختار من الملائكة رسلًا كجبرئيل وميكائيل اللذين كانا يرسلهما إلى أنبيائه، ومن شاء من عباده ومن الناس، كأنبيائه الذين أرسلهم إلى عباده من بني آدم، ومعنى الكلام: الله يصطفي من الملائكة رسلًا ومن الناس أيضًا رسلًا"
(1)
.
قال ابن تيمية: "فمن أين يحصل لغير الأنبياء نورٌ إلهيٌّ تدرك به حقائق الغيب وينكشف له أسرار هذه الأمور على ما هي عليه، بحيث يصير بنفسه مدركًا لصفات الرَّبِّ وملائكته، وهذا الكلام أصله من مادة المتفلسفة والقرامطة الباطنية، الذين يجعلون النبوة فيضًا من العقل الفعَّال على نفس النبي، ويجعلون ما يقع في نفسه من الصور هي ملائكة الله، وما يسمعه في نفسه من الأصوات هو كلام الله، ولهذا يجعلون النبوة مكتسبة، فإذا استعد الإنسان بالرياضة والتصفية فاض عليه ما فاض على نفوس الأنبياء، وعندهم هذا الكلام باطلٌ باتفاق المسلمين واليهود والنصارى"
(2)
.
وقال في موضعٍ آخر: "ولا يزال الأولياء مع الأنبياء في إيمان الغيب، ولا يتصور أن يُعطى الولي ما أعطيه النَّبيُّ من المشاهدة والمخاطبة، وأفضل الأولياء أبو بكر رضي الله عنه وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم ونحوهم، وليس في هؤلاء من شاهد ما شاهده النبي صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج، ولا شاهد الملائكة الذين كانوا ينزلون بالوحي على النبي صلى الله عليه وسلم ولا سمع أحد منهم كلام الله عز وجل الذي كلَّم به نبيَّه ليلة المعراج، ولا سمع عامة الأنبياء فضلًا عن الأولياء كلام الله كما سمعه موسى بن عمران، ولا كلَّم الله
(1)
جامع البيان 18/ 687.
(2)
درء تعارض العقل والنقل 5/ 353.
تكليمًا لداود وسليمان ولا إبراهيم ولا عيسى فضلًا عن أن يكون ذلك يحصل لأحدٍ من الأولياء، والإيمان بكلِّ ما جاء به الأنبياء واجب، فإنهم معصومون، ولا يجب الإيمان بكلِّ ما يقوله الوليُّ بل ولا يجوز، فإنه ما من أحد من الناس إلا ويؤخذ من كلامه ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن سبَّ نبيًّا من الأنبياء قُتِل وكان كافرًا مرتدًّا بخلاف الولي"
(1)
.
وابن عجيبة يوجب على من كان في عزلته أن يلتزم بأوراد مبتدعة للوصول لدرجة الكشف، وهو يسير على منهج الصوفية في ذلك مثل:
- ترديد اسم عز وجل الله الله الله الله
(2)
.
- ثم ذكر لا إله إلا الله، حتى يمتحى صور الأشياء من قلوبهم، وتحصل لهم الطمأنينة بالله أو بذكره ثم ينتقلون إلى الاسم المفرد
…
حتى ينكشف لهم من معناه أنوار الحقائق
(3)
.
وهذا الترديد كما يزعمون أن آثاره هي الوصول إلى الاتحاد والحلول
(4)
، فأحدهم قد يذكر الله عز وجل حتى يغلب على قلبه ذكر الله ويستغرق في ذلك فلا يبقى له مذكورٌ مشهودٌ لقلبه إلا الله، ويفنى ذكره وشهوده لما سواه، فيتوهم أنَّ الأشياء قد فنيت وأنَّ نفسه فنيت حتى يتوهَّم أنه هو الله -تعالى الله عمَّا يقول علوًا كبيرًا- وأن الوجود هو الله
(5)
.
(1)
شرح العقيدة الأصفهانية، ص 158.
(2)
مخطوط الأدعية والأذكار الممحقة للذنوب والأوزار بالحيللة والاستغفار، خزانة تطوان، ل 18.
(3)
منازل السائرين والواصلين، وأسرار علم الطريقة، ضمن الجواهر العجيبة، ص 251 - 252.
(4)
سيأتي الحديث عنها في الباب الثالث من هذا الكتاب.
(5)
ينظر: الرَّدّ على الشاذلي، ص 106، مجموع الفتاوى 13/ 198، الرَّدّ على المنطقيين 2/ 242.
قال ابن تيمية رحمه الله: "وهذه طريقة أهل التصوف، فهم ظنوا أن توحيد الربوبية هو الغاية، والفناء
(1)
فيه هو النهاية، وأنه إذا شهد ذلك سقط عنه استحسان الحسن واستقباح القبيح، فآل بهم الأمر إلى تعطيل الأمر والنهي والوعد والوعيد
…
ومجرد شهود الربوبية من غير فعل ما يحبه الله ويرضاه ليس بإيمان ينجي من عذاب الله فضلًا عن أن يكون غاية العارفين"
(2)
.
ولو تأمل ابن عجيبة النصوص النبوية، وعرف ما كان يأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم ويفعله الصحابة رضي الله عنهم للزم طريق الحق ولم يَحِد عنه.
كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر بقول: لا إله إلا الله بعد دبر كلِّ صلاة لما لها من الفضل العظيم، ولم يأمر الناس باختصارها، وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم:«أنه كان يقول في دبر كلِّ صلاة لا إله إلا الله وحده لا شريك له»
(3)
.
وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قال أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأنَّ محمدًا عبده ورسوله، وأنَّ عيسى عبد الله وابن أمته وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وأنَّ الجنة حقٌّ والنار حقٌّ، أدخله الله الجنَّة من أي أبواب الجنة الثمانية شاء"
(4)
.
ولقد أوضح شيخ الإسلام ابن تيمية أن الذكر بالاسم المضمر المفرد أبعد عن السُّنَّة وأقرب إلى ضلال الشيطان، "والمقصود هنا أن المشروع في ذكر الله سبحانه وتعالى هو
(1)
يزعمون أنَّ العبد يفنى في شخصه ويبقى في ربه بعد مجاهدة ومجالدة وتصفية للنفس، وأول من قال بها أبو يزيد البسطامي في القرن الثالث الهجري. ينظر: المعجم الفلسفي، ص 141، والتعريفات، للجرجاني، ص 179.
(2)
اقتضاء الصراط المستقيم 2/ 854 - 856، وينظر: مجموع الفتاوى 8/ 100 - 101
(3)
أخرجه البخاري، كتاب صفة الصلاة، باب الذكر بعد الصلاة، 1/ 289، رقم 844.
(4)
أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب الدليل على أنَّ من مات على التوحيد دخل الجنة 1/ 57، رقم 28.
ذكره بجملة تامة وهو المسمى بالكلام والواحد منه بالكلمة، وهو الذي ينفع القلوب ويحصل به الثواب والأجر والقرب إلى الله عز وجل، ومعرفته ومحبته وخشيته وغير ذلك من المطالب العالية والمقاصد السامية، وأمَّا الاقتصار على الاسم المفرد مظهرًا أو مضمرًا فلا أصل له، فضلًا عن أن يكون ذكر الخاصة والعارفين، بل هو وسيلة إلى أنواع البدع والضلالات، وذريعة إلى تصورات أحوال فاسدة من أحوال أهل الإلحاد وأهل الاتحاد"
(1)
.
وقال أيضًا: "ولا يجوز أن يقال إنَّ هذا مستحبٌّ أو مشروعٌ إلا بدليل شرعيٍّ، ولا يجوز أن يثبت شريعة بحديث ضعيف، لكن إذا ثبت أنَّ العمل مستحبٌّ بدليلٍ شرعيٍّ وروي له فضائل بأسانيد ضعيفة جاز أن تروى إذا لم يُعلم أنها كذب، وذلك أنَّ مقادير الثواب غير معلومة فإذا روي في مقدار الثواب حديثٌ لا يعرف أنه كذب لم يجز أن يُكذَّب به، وهذا هو الذي كان الإمام أحمد بن حنبل وغيره يرخِّصون فيه وفي روايات أحاديث الفضائل، وأمَّا أن يثبتوا أنَّ هذا عملٌ مستحبٌّ مشروعٌ بحديثٍ ضعيفٍ فحاشا لله، كما أنَّهم إذا عرفوا أنَّ الحديث كذب فإنهم لم يكونوا يستحلون روايته إلا أن يبيِّنوا أنَّه كذب؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح:«من روى عني حديثا يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين»
(2)
"
(3)
.
(1)
مجموع الفتاوى 10/ 226 - 233.
(2)
أخرجه الترمذي، كتاب العلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، باب فيمَن روى حديثًا وهو يرى أنه كذب، من حديث المغيرة بن شعبة 5/ 36، رقم 2662، وأخرجه ابن ماجه، باب من حدَّث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثًا وهو يرى أنه كذب، 1/ 14 رقم 38، وصحَّحه الألباني في السلسلة الصحيحة 2/ 440.
(3)
مجموع الفتاوى 10/ 408.
4 -
ترويض النَّفس بالذُّل:
قال ابن عجيبة: "فالذُّلُّ والفقرُ بابان عظيمان للدخول على الله عز وجل، والوصول إلى حضرته"، وعرَّف المراد بالذُّلِّ بأنه:"الذُّلُّ بين الأقران حتى يراه الخاص والعام وكلُّ من كان يعظِّمه من الأصحاب والإخوان"
(1)
، وقال في موضع آخر:"المراد بالذُّلِّ هو ذلُّ النفس في طلب الحق، يظهر ذلك بين الأقران، لتموت به النفس سريعًا، فتحيا الروح بمعرفة الحق وشهوده، وذلك: كالمشي بالحفا، وتعرية الرأس في المواضع الذي يراه الناس، والسؤال في الأسواق والحوانيت، فهذا هو الذُّلُّ الذي يعقبه العزُّ بالله"
(2)
.
وذكر ابن عجيبة تأصيلًا لأمر السؤال فقال: "كيفيته: أن يتوضأ الرَّجُل ويصلي ركعتين، ويأخذ الزنبيل (الوعاء) بيده اليمنى، ويخرج إلى السوق ومعه رجلٌ آخر يذكر الله ويذَّكر الناس، والناس يعطونه في ذلك الزنبيل حتى يجمع ما تيسَّر من الطعام، ويعُبه بين الفقراء فيأكلون طعامًا حلالًا بلا تكلُّف، ولا كلفة هذا ما تيسَّر لنا في حكم السؤال"
(3)
.
وما ذكره ابن عجيبة من ترويض النفس وإذلالها لم يأمر به الله عز وجل ولم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم ولا الصحابة رضي الله عنهم ولا التابعون لهم بإحسان إلى يوم الدين، وقد أمر الدين الإسلامي بإكرام النفس وحفظ المال، وعدم إسقاط الجاه، قال عز وجل:{وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا}
(4)
، ودعا النبي صلى الله عليه وسلم لأنس بن مالك رضي الله عنه فقال: «اللهم أكثر ماله
(1)
الفهرسة، ص 53 - 54.
(2)
شرح المقدمة الآجرومية، ص 24.
(3)
إيقاظ الهمم، ص 333.
(4)
سورة الإسراء: 75.
وولده وبارك له»
(1)
.
وصحَّ عن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أنه قال: «نعم المالُ الصالحُ للرَّجُل الصالح»
(2)
، وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه ادخر لأزواجه قوت سنة
(3)
، ولاريب أنَّ بعد الصوفية عن الصواب بسبب بعدهم عن فهم كلام الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم ولهذا عندما خرجوا من أموالهم سقطوا في أمورٍ نهى عنها الشرع، ولم يتورَّعوا عن الشبهات، أو استشراف الأموال من الظلمة.
قال صلى الله عليه وسلم: «
…
فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه»
(4)
.
قال ابن الجوزي: "لقد أبان هؤلاء القوم عن جهلٍ بالشرع وعدم عقل، والشرع أمر بحفظ المال وأن لا يُسلَّم إلا إلى رشيد، وجعله قوامًا للآدمي، والعقل يشهد بأنه إنما خُلق للمصالح فإذا رمى به الإنسان فقد أفسد ما هو سبب صلاحه وجهل حكمه، ومِنْ جَهْل هؤلاء حملهم تفسير القرآن على رأيهم الفاسد؛ لأنه يحتج بمسح السوق والأعناق ويظن بذلك جواز الفساد، والفساد لا يجوز في شريعة وإنما مسح بيده عليها وقال أنت في سبيل الله"
(5)
.
وقال صلى الله عليه وسلم: «لا تزال المسألة بأحدكم حتى يلقى الله عز وجل وليس في وجهه
(1)
أخرجه البخاري، كتاب الدعوات، باب قول الله تعالى:{وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} ومن خصَّ أخاه بالدعاء دون نفسه 5/ 2333، رقم 5975، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب جواز الجماعة في النافلة 1/ 457 رقم 268.
(2)
أخرجه أحمد 4/ 197، رقم 17798، قال شعيب الأرنؤوط: إسناده قويٌّ على شرط مسلم من حديث عمرو بن العاص.
(3)
أخرجه البخاري، كتاب النفقات، باب حبس نفقة الرَّجُل قوت سنة على أهله وكيف نفقات العيال 5/ 2048، رقم 5042 من حديث عمر رضي الله عنه.
(4)
أخرجه البخاري، كتاب الإيمان، باب فضل من استبرأ لدينه 1/ 28، رقم 52.
(5)
تلبيس إبليس، ص 218 - 231.
مزعة لحم»
(1)
، وقال صلى الله عليه وسلم:«لئن يأخذ أحدكم حبله فيأتي بحزمة من الحطب على ظهره فيبيعها فيكفُّ بها وجهه خيرٌ له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه»
(2)
.
وكان فقراء الصحابة رضي الله عنهم من أهل الصفة يكتسبون عند إمكان الاكتساب الذي لا يشغلهم عمَّا هو أوجب وأحبُّ إلى الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم من الكسب
(3)
.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "ولم يكن في الصحابة رضي الله عنهم لا أهل الصفة ولا غيرهم من يتخذ مسألة الناس ولا الإلحاف في المسألة بالكدية والشحاذة لا بالزنبيل ولا غيره صناعة وحرفة" وقال أيضًا: "وجمع المال إذا قام بالواجبات فيه ولم يكتسبه من الحرام لا يعاقب عليه، لكن إخراج فضول المال والاقتصار على الكفاية أفضل وأسلم وأفرغ للقلب وأجمع للهم وأنفع في الدنيا والآخرة"
(4)
.
وبيَّن ابن تيمية كيفية طلب المال وأنَّها نوعان، الأُولى: ما يحتاج العبد إليه كما يحتاج إلى طعامه وشرابه ومسكنه ومنكحه، فهذا يطلبه من الله عز وجل ويرغب إليه فيه فيكون المال عنده يستعمله في حاجته، والثانية: ما لا يحتاج العبد إليه، فهذا لا ينبغي له أن يعلِّق قلبه بها، فإذا تعلَّق قلبه بها صار مستبعدًا لها، فنقصت عبوديته وتوكله
(5)
.
ولقد وُجِد الغنى في الأنبياء، وما زال في بعض الصالحين ولكنهم راقبوا الله عز وجل فيه، يرونه وديعة في أيديهم، ابتلاهم الله عز وجل به؛ لينظر هل يتصرفون فيه تصرف العبد أو تصرف الملاك الذين يعطون لهواهم ويمنعون لهواهم
(6)
.
(1)
أخرجه البخاري، كتاب الزكاة، باب من سأل الناس تكثُّرًا 2/ 536، رقم 1474.
(2)
أخرجه البخاري، كتاب الزكاة، باب الاستعفاف عن المسألة 2/ 535، رقم 1470.
(3)
ينظر: مجموع الفتاوى، لابن تيمية 11/ 44، 46.
(4)
المرجع نفسه 11/ 108.
(5)
نفسه، بتصرف يسير 10/ 189.
(6)
ينظر: طريق الهجرتين 1/ 13.
والمحتاج الذي يقدر على التكسُّب فلا يجوز له المسألة، وما يأخذه من الناس في هذه الحالة حرام عليه؛ لحديث قبيصة بن مخارق الهلالي رضي الله عنه قال:«تحمَّلت حمالة، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أسأله فيها، فقال: «أقم حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها» ثم قال: "يا قبيصة، إنَّ المسألة لا تحلُّ إلا لأحد ثلاثة: رجلٌ تحمَّل حمالة فحلَّت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك، ورجل أصابته جائحة
(1)
اجتاحت ماله فحلَّت له المسألة حتى يصيب قوامًا من عيش -أو قال: سدادًا من عيش-، ورجلٌ أصابته فاقة حتى يقول ثلاثة من ذوي الحجا
(2)
من قومه: لقد أصابت فلانًا فاقة
(3)
فحلَّت له المسألة حتى يصيب قوامًا من عيش -أو قال: سدادًا من عيش-، فما سواهن من المسألة يا قبيصة فسحتٌ يأكلها صاحبها سحتًا
(4)
»،
(5)
.
"والمسألة في الأصل حرام، وإنما أُبيحت للحاجة والضرورة؛ لأنها ظلمٌ في حقِّ الربوبية، وظلمٌ في حقِّ المسؤول، وظلمٌ في حقِّ السائل:
أمَّا الأول: فلأنه بذل سؤاله وفقره وذلَّه واستعطاءه لغير الله، وذلك نوع
(1)
الجائحة: الآفة التي تهلك الثمار والأموال وتستأصلها وكل مصيبة عظيمة وفتنة كبيرة. ينظر: شرح الطيبي على مشكاة المصابيح المسمَّى الكاشف عن حقائق السنن 5/ 1509.
(2)
أصحاب العقول الراشدة، المرجع نفسه 5/ 1509
(3)
وهذا ليس من باب الشهادة، ولا يريد به التنصيص علي أنَّ الفاقة لا تثبت إلا بثلاثة شهود، إذ لم يسمع أنَّ أحدًا من الأئمة قال به، ولم نجد لهذا العدد من الرجال مدخلًا في شيءٍ من الشهادات، بل لعلَّه ذكره علي وجه الاستحباب وطريقة الاحتياط؛ ليكون أدلَّ على براءة السائل عن التهمة وأدعى للناس إلي سدِّ حاجته. ينظر: شرح الطيبي على مشكاة المصابيح المسمَّى الكاشف عن حقائق السنن 5/ 1509 ..
(4)
أخرجه مسلم في صحيحه، باب من تحلُّ له المسألة 2/ 722، رقم 2451.
والسُّحتُ: هو الحرام الذي لا يحلُّ كسبه؛ لأنَّه يسحت البركة، أي يذهبها. ينظر: شرح الطيبي على مشكاة المصابيح 5/ 1509.
(5)
انظر: فتاوى اللجنة الدائمة، ترتيب أحمد عبد الرزاق الدويش، باب التسول، 24/ 375.
عبودية، فوضع المسألة في غير موضعها، وأنزلها بغير أهلها، وظلم توحيده وإخلاصه، وفقره إلى الله، وتوكله عليه ورضاه بقسمه، واستغنى بسؤال الناس عن مسألة رب الناس، وذلك كلُّه يهضم من حق التوحيد، ويطفئ نوره ويضعف قوته.
وأما ظلمه للمسؤول: فلأنه سأله ما ليس عنده، فأوجب له بسؤاله عليه حقًّا لم يكن له عليه، وعرضه لمشقة البذل، أو لوم المنع، فإن أعطاه أعطاه على كراهة، وإن منعه منعه على استحياء وإغماض، هذا إذا سأله ما ليس عليه، وأما إذا سأله حقًّا هو له عنده: فلم يدخل في ذلك، ولم يظلمه بسؤاله.
وأما ظلمه لنفسه: فإنه أراق ماء وجهه وذلَّ لغير خالقه، وأنزل نفسه أدنى المنزلتين، ورضي لها بأبخس الحالتين، ورضي بإسقاط شرف نفسه، وعزَّة تعفُّفِه، وراحة قناعته، وباع صبره ورضاه وتوكله وقناعته بما قسم له واستغناءه عن الناس بسؤالهم، وهذا عينُ ظلمه لنفسه، إذ وضعها في غير موضعها، وأخمل شرفها، ووضع قدرها، وأذهب عزَّها، وصغَّرها وحقَّرها، ورضي أن تكون نفسه تحت نفس المسؤول، ويده تحت يده، ولولا الضرورة لم يبح ذلك في الشرع"
(1)
.
وإن تعجب فعجبٌ لقول ابن عجيبة: "إذا عارض كشفك الكتاب والسُّنَّة فاعمل بالكتاب"، "ولا يلزم من عدم العمل بها انتقادها على أهلها، فإنَّ العملَ واسع، له ظاهرٌ وباطن، ومسائل الإلهامات تارة ترد على حسب العلم الظاهر، وتارة على حسب العلم الباطن، فإن لم تفهم فسلِّم، ودع ما تعرف لما لا تعرف"
(2)
.
ثم يقول بعد ذلك: "طريق التصوف مؤسَّسة على الكتاب والسُّنَّة وإلهامات
(1)
مدارج السالكين 2/ 242.
(2)
إيقاظ الهمم، ص 368.
العارفين، الذين تنوَّرت عقولهم، وانصقلت مرآة قلوبهم، فتجلَّى فيها ما كان حقًّا، وزهق منها ما كان باطلًا، فكانت طريقتهم مبنيَّةً على التحقيق"
(1)
، وقال أيضًا:"إذا وقع الاختلاف في الأحكام الظاهرة رُجع فيه إلى الكتاب العزيز، أو السُّنَّة المحمدية، أو الإجماع، أو القياس، وإن وقع الاختلاف في الأمور القلبية وهي: ما يتعلَّق بالعقائد التوحيدية من طريق الذوق أو العلوم يُرجع فيه إلى أرباب القلوب الصافية، فإنه لا يتجلَّى فيها إلا ما هو حقٌّ وصواب"
(2)
.
وما ذكره ابن عجيبة هو نوع تلبيس وتدليس؛ فمدار الأعمال على أصلين: الإخلاص وهو عملٌ قلبي، وقد جعله ابن عجيبة تابعًا لأذواق أرباب القلوب الصافية كما يزعم، والأصل الآخر: المتابعة، وجعل لها ظاهرًا وباطنًا فليس العبرة بفعل الظاهر كما يزعم.
"فالكشفُ الصحيحُ أن يَعرفَ الحقَّ الذي بعث اللهُ به رسلَه، وأنزلَ به كتبَه، معاينةً لقلبه، ويُجرِّد إرادةَ القلبِ له، فيدورُ معه وجودًا وعدمًا، هذا هو التحقيق الصحيح، وما خالفه فغرورٌ قبيح"
(3)
.
(1)
إيقاظ الهمم، ص 344.
(2)
البحر المديد 4/ 217.
(3)
ينظر: مدارج السالكين 3/ 236.