الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إنَّ ما يزعمه من هذه المكاشفات التي يختصُّ بها الأولياء هي في الحقيقة منازعة لله عز وجل في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته، والله عز وجل هو المتصرِّف في هذا الكون لا يشاركه ملكٌ مقرَّبٌ ولا نبيٌّ مرسل، قال تعالى:{قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ}
(1)
.
وكذلك أقرَّ بما يُسمَّى بالمعرفة الاستشراقية
(2)
، وهي التي عبّر عنها بالنور الذي يشرق على القلب نتيجة تصفيته من الأغيار عن طريق المجاهدة والرياضة وخرق العوائد، وما هي إلا خيالات فاسدة وأحوال شيطانية ومن تلاعب الشيطان بهم.
قال ابن تيمية رحمه الله: "فإنهم يدخلون في أنواع من الخيالات الفاسدة، والأحوال الشيطانية المناسبة لطريقهم
…
وكثيرًا ما تتخيَّل له أمور يظنُّها موجودة في الخارج ولا تكون إلا في نفسه، فيسمع خطابًا يكون من الشيطان أو من نفسه، يظنُّه من الله تعالى، حتى إنَّ أحدهم يظنُّ أنه يرى الله بعينه، وأنه يسمع كلامه بأذنه من خارج، كما سمعه موسى بن عمران، ومنهم من يكون ما يراه شياطين وما يسمعه كلامهم وهو يظنُّه من كرامات الأولياء"
(3)
.
رابعًا: ذكره للعلوم الغيبية التي تحصل عن طريق الكشف
يقول: "ويكاشف له
(4)
عن حقيقة الذات، وهذا من خصائص القطبانية، إذ
(1)
سورة النمل: 65.
(2)
المعرفة الاستشراقية: هي تلقٍّ مباشر من العالم الغيبي بحيث ينعكس على النفوس أو يشرق فيها ما هو منقوش من العالم العلوي من العلوم والمعارف. ينظر: المعجم الفلسفي، لجميل صوفيا 1/ 94، أصول الفلسفة الإشراقية، ص 119، عقيدة الصوفية وحدة الوجود الخفية، ص 499.
(3)
درء تعارض العقل والنقل 5/ 351.
(4)
يقصد القطب: وهو عند الصوفية رجل واحد موضع نظر الله عز وجل من العالم في كل زمان، ويسمى بالغوث أيضًا، باعتبار التجاء الملهوف إليه، وهو خُلق على قلب محمد صلى الله عليه وسلم، ويسمى أيضًا بطب العالم، وقطب الأقطاب، والقطب الأكبر، وقطب الإرشاد، وقطب المدار، ينظر: معجم المصطلحات الصوفية، ص 217 - 218، اصطلاحات الصوفية، ص 86 - 87.
القطب لا يكون إلا عارفًا راسخًا متمكنًا، فقد كُشف له عن الحجاب
…
وإحاطة الصفات، أي ويكشف له عن إحاطة الصفات بالكائنات"
(1)
.
وقال في موضع آخر: "يكشف له عن قلوبهم السَّرائر، ويريهم الأشياء كما هي بالوحي والإلهام والمنامات الصادقة وهذا القسم يختص بنيله الأنبياء والأولياء"
(2)
.
وهذا كلامٌ باطلٌ ولا يصح؛ لأنَّ "لفظ الغوث والقطب في حق البشر كما تقدَّم لم ينطق به كتاب ولا سُنَّة، ولا تكلَّم به أحدٌ من الصحابة والتابعين لهم بإحسان في هذا المعني، بل غياث المستغيثين على الإطلاق هو الله -تعالى- كما قال تعالى:{إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ}
(3)
، ولم يجعل الله أحدًا من الخلق غوثًا يغيث الخلق في كلِّ ما يستغيثون فيه، لا ملكًا ولا نبيًّا ولا غيرهما، بل في الصحيحين أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال:«لا أُلفِيَنَّ أحدكم يأتي يوم القيامة على رقبته بعير له رُغاءُ فيقول: يا رسول الله أغثني أغثني، فأقول: لا أملك من الله شيئًا، يا عباس عمِّ قد أبلغتك»
(4)
(5)
،
(1)
الجواهر العجيبة، ص 268.
(2)
اللوائح القدسية في شرح الوظيفة الزروقية، ص 131.
(3)
سورة الأنفال: 9.
(4)
أخرجه البخاري، كتاب بدء الوحي، باب الغلول 4/ 90 رقم 3073.
(5)
أخرجه البخاري، كتاب بدء الوحي، باب هل يدخل النساء والولد في الأقارب 3/ 1012 رقم 2602.
وهذا من تأويل قوله تعالى: " {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ}
(1)
، وقد يكون بعض الناس سببًا لشرٍّ يندفع في بعض الأمور فيقال: فلانٌ يستغيث بفلان، كما قال تعالى:{فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ}
(2)
هذا كلفظ النصر والرزق والهدى، فالله الهادي النصير الرزاق وليس هذا النعت على الإطلاق لأحد إلا الله وحده، لا ملكٌ مقرَّبٌ ولا نبيٌّ مرسل، لكن من الخلق من يكون سببًا في رزق أو هدىً أو نصر يحصل لغيره وهو في ذلك سبب لا يستقل بالحكم، بل لا بدَّ معه من أسباب أُخر، ولا بدَّ من موانع يدفعها الله وإلَاّ لم يحصل المطلوب
…
وأمَّا لفظ القطب فما دار عليه أمرٌ من الأمور قيل: إنه قطبه، كقطب الرَّحا وقطب الفلك، فمن كانت له مرتبة من إمارة أو علم أو دين فهو قطب تلك الأمور التي دارت عليه، فالملك قطب الملك، والوالي قطب الولاية ونحو ذلك، وقطب الدين الذي يؤخذ عنه ولا يزاحمه أحد هو محمد صلى الله عليه وسلم، ومن الصالحين من يُجرى الله عز وجل على يديه من الخير ما يكون قطب أمته، وأمَّا أن يكون للوجود قُطب يدور عليه به ينزل المطر مطلقًا، وبه يحصل الهدى مطلقًا، وبه يحصل النصر مطلقًا، فهذا لا يكون لمخلوق ألبته، ولكن قد يكون من المخلوقين من يحصل به ما يحصل من نصر ورزق وهدى كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:«وهل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم، بدعائهم وإخلاصهم وصلاتهم»
(3)
".
(1)
سورة الشعراء: 214.
(2)
سورة القصص: 15 ..
(3)
جامع المسائل 1/ 77 - 79.
والحديث أخرجه البخاري، كتاب بدء الوحي، باب من استعان بالضعفاء والصالحين في الحرب، بدون قوله:«بدعائهم وإخلاصهم وصلاتهم» ، 4/ 44، رقم 2896، والنسائي في سننه ح 3180، بلفظ:«إنما ينصر هذه الأمة بضعيفها، بدعوتهم وصلاتهم وإخلاصهم» ، وصحَّح الألباني لفظ النسائي في السلسلة الصحيحة 2/ 278.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وقد يكون في الزمان رجلٌ هو أفضل أهل الأرض، كما قد يكون رجلان وثلاثة وأربعة، ولكن ليس في الوجود رجلٌ هو أفضل أهل الأرضِ، وفيه ما يَقتضي أنه بوجودِه يَحصُلُ للناسِ الرزقُ، ويَنتَصِرونَ على الأعداء، وتهتدي قلوبهم مع كونهم مُعرِضين عن طاعة الله ورسوله، بل كان نوح أفضلَ أهل الأرضِ، وقد مَكثَ في قومِه ألفَ سنةٍ إلا خمسين عامًا يدعوهم إلى الله، وقد قال نوح:{قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا}
(1)
، ثم إن الله أغرق أهل الأرض إلا من آمن به، وكذلك غيره من الرُّسل كهود وصالح وشعيب ولوط وغيرهم، نعم قد يحصل بدعائه وعبادته من الخير ويندفع من الشر ما لا يحصل بدون ذلك كما في قوله:«بدعائهم وصلاتهم وإخلاصهم» .
وقال تعالى لنبيه: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}
(2)
.
(3)
يقول: لولا أن تطأوا أولئك المؤمنين والمؤمنات الذين لم تعلموهم إذا دخلتم مكة بالسيف، لسلَّطكم على أهل مكة، ولو تميَّز المؤمنون من الكفار لعذَّبنا الكفار عذابًا أليمًا، فهذا ونحوه مما يوافق دين المسلمين"
(4)
.
(1)
سورة نوح: 5 - 6.
(2)
سورة الأنفال: 33.
(3)
سورة الفتح: 25.
(4)
جامع المسائل 2/ 72 - 73.
وما يزعمه ابن عجيبة في القطب هو من جنس غلو النصارى
(1)
والرافضة
(2)
، وهذا من قوادح توحيد الربوبية، إذ أنه منازعة للربوبية، ومضاهاة لها، وتسوية بين الله عز وجل وبين المخلوقين، وكل من جعل مخلوقًا مثلًا للخالق في شيءٍ من الأشياء فأحبَّه مثل ما يحب الخالق، أو وصفه بمثل ما يوصف به الخالق فهو مشرك
(3)
.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "وكذلك ما يدَّعيه بعضهم من أن الواحد من هؤلاء قد يعلم كل ولي لله كان، ويكون، واسمه، واسم أبيه، ومنزلته من الله، ونحو ذلك من المقالات الباطلة التي تتضمَّن أنَّ الواحد من البشر يشارك الله في بعض خصائصه مثل أنه بكل شيءٍ عليم، أو على كلِّ شيءٍ قدير، ونحو ذلك، كما يقول بعضهم في النبي صلى الله عليه وسلم، وفي شيوخه: إن علم أحدهم ينطبق على علم الله عز وجل وقدرته منطبقة على قدرة الله عز وجل فيعلم ما يعلمه الله عز وجل ويقدر على ما يقدر الله عليه، فهذه المقالات وما يشبهها من جنس قول النصارى، والغالية في علي رضي الله عنه، وهي باطلة بإجماع علماء المسلمين"
(4)
.
وقال أيضًا: "وتارة يدَّعي أحدهم المهدية أو القطبية ويقول: أنا القطب
(1)
قال ابن تيمية: "والنصارى يصفون المخلوق بما يتصف به الخالق فيجعلونه رب العالمين، خالق كل شيء، ومليكه الذي هو بكل شيء عليم وعلى كل شيء قدير، {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}، واتخذوا الملائكة والنبيين أربابًا، وصوَّروا تماثيل المخلوقات، واتخذوهم شفعاء لهم عند الله كما فعل عُبَّاد الأوثان" الجواب الصحيح 2/ 141 - 142.
(2)
يزعمون أنَّ الأئمة علموا ما كان وما يكون، ولا يحجب عنهم علم السماء والأرض والجنة والنار. ينظر الكافي 1/ 59، 61، بحار الأنوار 26/ 117، 137.
(3)
ينظر: مجموع الفتاوى 13/ 163 - 164.
(4)
منهاج السُّنَّة النبوية 1/ 95 - 96.