الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني: الذوق
أولًا: معنى الذوق في اللغة
ذاقهُ ذوقًا، ذَوَاقًا، ومذاقًا، ومذاقةً: اختبر طعمه، والذوق يكون بالفم، وبغيره، وذَاقَ الشَّيْءَ مِنْ بَابِ قَالَ، وَذَاقَ مَا عِنْدَ فُلَانٍ: أَيْ خَبَرَهُ
(1)
.
ثانيًا: في اصطلاح الصوفية
عبارة عن نور عرفاني يقذفه الحق بتجليه في قلوب أوليائه، يفرقون بين الحق والباطل من غير أن ينقلوا ذلك من كتاب أو غيره، ويعبرون بذلك عما يجدونه من ثمرات التجلِّي، ثم الشرب
(2)
(3)
.
معنى الذوق عند ابن عجيبة: "الذوق يكون بعد العلم بالحقيقة، وهو عبارة عن بروق أنوار الذات القديمة على العقل، فيغيب عن رؤية الحدث في أنوار القدم، لكنه لا يدوم ذلك، بل يلمع تارة ويخفى أخرى، فصاحبه يدخل ويخرج، فإذا لمع غاب عن حسِّه، وإذا خفي رجع إلى حسِّه ورؤية نفسه، فهذا يُسمَّى عندهم ذوقًا، فإن دام له ذلك النور ساعةً أو ساعتين فهو الشرب، وإن اتصل ودام فهو السُّكر، ومرجعه إلى فناء الرُّسوم في شهود الحيِّ القيُّوم والغيبة عن الأثر في شهود المؤثّر، ويُسمَّى أيضًا الفناء، فإن رجع إلى شهود الأثر وقيامها بالله وأنها نورٌ من أنوار الله فهو الصحو، ويسمى أيضًا بالري وبالبقاء لإبقاء الأشياء بالله بعد فنائها، ويُسمَّى
(1)
ينظر: القاموس، ص 797، لسان العرب 10/ 1143، مختار الصحاح، ص 226، كلهم في مادة (ذوق).
(2)
الشرب: هو تلقي الأرواح والأسرار الطاهرة لما يرد عليها من الكرامات، وتنعُّمها بذلك، فشبه ذلك بالشرب؛ لتهنيه وتنعُّمه بما يردُ على قلبه من أنوار مشاهدة قرب سيده. ينظر: المعجم الصوفي، ص 133.
(3)
ينظر: التعريفات، ص 107، الرسالة القشيرية، ص 86.
أيضًا فناء الفناء؛ لأنه علم أنه لم يكن ثم شيءٌ يفنيه غير الوهم والجهل وهما لا حقيقة لهما"
(1)
.
ما ذكره ابن عجيبة في تعريفه للذوق حقيقته أحوال
(2)
ومقامات
(3)
ينتقل السالك فيها من مقام إلى مقام بعد تبحُّره بما سمّوه علم الحقيقة -أي علم الباطن- حتى يصل إلى مرحلة الفناء التي يغيب الفاني عن رؤية كلِّ شيء، والبقاء بأن يرى الله في كلِّ شيءٍ -تعالى الله- عمَّا يقول عُلوًا كبيرا، وهذا ما عُرِف بوحدة الوجود تلك العقيدة الكفرية التي عليها بعض المتصوفة.
أمَّا "الشُّرب، والسُّكر
(4)
، والصَّحو
(5)
، والغيبة
(6)
فهي مرادفات الفناء والبقاء، التي عبَّر عنها ابن عجيبة بقوله:"الفناءُ هو أن تبدو لك العظمة فتنسيك كلَّ شيء، وتغيبك عن كلِّ شيءٍ سوى الواحد الذي ليس كمثله شيء، وليس معه شيء، أو تقول هو شهود حق بلا خلق، وأما البقاء فهو شهود خلق بحق"
(7)
.
(1)
معراج التشوف، ص 65 - 66.
(2)
الأحوال: ما يرد على القلب من طربٍ أو حزنٍ أو بسطٍ أو قبض، وتُسمَّى الحال بالوارد. ينظر: معجم مصطلحات الصوفية، ص 73، وسيأتي بحثها في موضعها من الكتاب.
(3)
مقامات: مثل التوبة، والورع، والزهد، والفقر
…
وشرطه أن لا يرتقي من مقام إلى مقام، مالم يستوف أحكام ذلك المقام. ينظر: معجم مصطلحات الصوفية، ص 73.
(4)
السُّكر: أن يغيب عن تمييز الأشياء، ولا يغيب عن الأشياء وهو ألا يميز بين مرافقه وملاذه وبين أضدادها في مرافقة الحق؛ فإنَّ غلبات وجود الحق تسقطه عن التمييز بين ما يؤلمه. ينظر: التعرف لمذهب أهل التصوف، للكلاباذي، ص 116.
(5)
الصَّحو: أن يميِّز فيعرف المؤلم من الملذ، فيختار المؤلم من موافقة الحق، ولا يشهد الألم بل يجد لذة في المؤلم. ينظر: التعرف لمذهب أهل التصوف، ص 135.
(6)
الغَيْبَة: أَن يغيب عَن حظوظ نَفسه فَلَا يَرَاهَا وهي أعنى الحظوظ قَائِمَة مَعَه مَوْجُودَة فِيهِ غير أَنه عَنْهَا بِشُهُود مَا للحق. ينظر: التعرف لمذهب التصوف ص 118.
(7)
إيقاظ الهمم، ص 299.
وحقيقة الأمر أنَّ الذوق يرتبط بالكشف والتجلِّي
(1)
، ظهر ذلك من خلال استقراء عبارات ابن عجيبة في تعريفه للذوق، ولقد ذكر ابن عجيبة أنَّ هذه الأوراد سبب الأحوال والمقامات، فعند شرحه للوارد قال:"الوارد نورٌ إلهيٌّ، يقذفه الله في قلب من أحبَّ من عباده، وهو على ثلاثة أقسام: على حسب البداية، والوسط، والنهاية، أو تقول على حسب الطالبين، والسائرين، والواصلين، القسم الأول: وارد الانتباه: وهو نورٌ يخرجك من ظلمة الغفلة إلى نور اليقظة، وهو لأهل البداية من الطالبين، فإذا تيقَّظ من نومه، وانتبه من غفلته استوى على قدمه طالبًا لربِّه، فيُقبل عليه بقلبه وبقالبه، وينجمع عليه بكلِّيته، والقسم الثاني: وارد الإقبال، وهو: نورٌ يقذفه الله في قلب عبده، فيحرِّكه لذكر مولاه، ويغيبه عما سواه، فلا يزال مشتغلًا بذكره، غائبًا عن غيره، حتى يمتلئ القلب بالنور، ويغيب عمَّا سوى المذكور، فلا يرى إلا النور، فيخرج من سجن الأغيار، ويتحرَّر من رقِّ الآثار، والقسم الثالث: وارد الوصال وهو: نورٌ يستولي على قلب العبد، ثم يستولي على ظاهره وباطنه، فيخرجه من سجن نفسه، ويغيبه عن شهود حسِّه"
(2)
.
والمتأمِّل لما أورده ابن عجيبة في هذه التقسيمات يلحظ أنها درجات الفناء.
ولقد دحضها ابن القيم رحمه الله بقوله: "وهذا الاسم يطلق على ثلاثة معان: الفناء عن وجود السوى، والفناء عن شهود السوى، والفناء عن إرادة السوى.
فأمَّا الفناء عن وجود السوى: فهو فناء الملاحدة، القائلين بوحدة الوجود، وأنه ما ثمَّ غير، وأن غاية العارفين والسالكين الفناء في الوحدة المطلقة، ونفي التكثُّر
(1)
التجلِّي: ما يظهر للقلوب من أنوار الغيوب. معجم اصطلاحات الصوفية، ص 146.
(2)
إيقاظ الهمم، ص 125 - 126.
والتعدد عن الوجود بكلِّ اعتبار، فلا يشهد غيرًا أصلًا، بل يشهد وجود العبد عين وجود الرب، بل ليس عندهم في الحقيقة ربٌّ وعبد.
وفناء هذه الطائفة في شهود الوجود كله واحد، وهو الواجب بنفسه، ما ثم وجودان ممكن، وواجب، ولا يفرقون بين كون وجود المخلوقات بالله عز وجل، وبين كون وجودها هو عين وجوده، وليس عندهم فرقان بين العالمين ورب العالمين، ويجعلون الأمر والنهي للمحجوبين عن شهودهم وفنائهم، والأمر والنهي تلبيس عندهم، والمحجوب عندهم يشهد أفعاله طاعات أو معاصي، ما دام في مقام الفرق، فإذا ارتفعت درجته شهد أفعاله كلها طاعات لا معصية فيها، لشهوده الحقيقة الكونية الشاملة لكل موجود، فإذا ارتفعت درجته عندهم فلا طاعة ولا معصية، بل ارتفعت الطاعات والمعاصي؛ لأنها تستلزم اثنينية وتعددًا، وتستلزم مطيعًا ومطاعًا، وعاصيًا ومعصيًّا، وهذا عندهم محض الشرك، والتوحيد المحض يأباه، فهذا فناء هذه الطائفة.
وأما عن شهود السوى: الفناء فهو الفناء الذي يشير إليه أكثر الصوفية المتأخرين، ويعدونه غاية
…
وليس مرادهم فناء وجود ما سوى الله في الخارج، بل فناؤه عن شهودهم وحسِّهم، فحقيقته: غيبة أحدهم عن سوى مشهوده، بل غيبته أيضًا عن شهوده ونفسه؛ لأنه يغيب بمعبوده عن عبادته، وبمذكوره عن ذكره، وبموجوده عن وجوده، وبمحبوبه عن حُبِّه، وبمشهوده عن شهوده"
(1)
.
وقال ابن القيم رحمه الله: "لم يرد في الكتاب، ولا في السُّنَّة، ولا في كلام الصحابة رضي الله عنهم والتابعين مدح لفظ الفناء ولا ذمُّه، ولا استعملوا لفظه في هذا المعنى المشار إليه البتَّة، ولا ذكره مشايخ الطريق المتقدمون، ولا جعلوه غايةً ولا مقامًا، وقد كان
(1)
مدارج السالكين 2/ 293 - 295.
القوم
(1)
أحق بكلِّ كمال، وأسبق إلى كلِّ غاية محمودة، ونحن لا ننكر هذا اللفظ مطلقًا، ولا نقبله مطلقًا، ولا بدَّ فيه من التفصيل، وبيان صحيحه من معلوله،
…
فنقول: حقيقة "الفناء" المشار إليه هو استهلاك الشيء في الوجود العلمي الذهني، وهاهنا تَقسَّمه أهل الاستقامة وأهل الزيغ والإلحاد، فزعم أهل الاتحاد -القائلون بوحدة الوجود- أنَّ الفناء هو غاية الفناء عن وجود السوى، فلا يثبت للسوى وجود البتة، لا في الشهود ولا في العيان، بل يتحقق بشهود وحدة الوجود، فيعلم حينئذ أنَّ وجود جميع الموجودات هو عين وجود الحق، فما ثم وجودان، بل الموجود واحد، وحقيقة الفناء عندهم أن يفنى عمَّا لا حقيقة له، بل هو وهمٌ وخيال، فيفنى عمَّا هو فانٍ في نفسه، لا وجود له، فيشهد فناء وجود كل ما سواه في وجوده، وهذا تعبير محض، وإلا ففي الحقيقة ليس عند القوم "سوى" ولا "غير" وإنما السوى والغير في الوهم والخيال، فحول هذا الفناء يدندنون وعليه يحومون، وأمَّا أهل التوحيد والاستقامة: فيشيرون بالفناء إلى أمرين، أحدهما أرفع من الآخر، الأمر الأول: الفناء في شهود الربوبية والقيومية، فيشهد تفرُّد الرب تعالى بالقيومية والتدبير، والخلق والرزق، والعطاء والمنع، والضر والنفع، وأنَّ جميع الموجودات منفعلة لا فاعلة، وما له منها فعل فهو منفعل في فعله، محل محض لجريان أحكام الربوبية عليه، لا يملك شيئًا منها لنفسه ولا لغيره، فلا يملك ضرًّا ولا نفعًا، فإذا تحقق العبد بهذا المشهد؛ خمدت منه الخواطر والإرادات، نظرا إلى القيوم الذي بيده تدبير الأمور، وشخوصًا منه إلى مشيئته وحكمته فهو ناظر منه به إليه، فان بشهوده عن شهود ما سواه، ومع هذا فهو ساع في طلب الوصول إليه، قائمًا بالواجبات والنوافل.
(1)
هم الصحابة رضي الله عنهم.
الأمر الثاني: الفناء في مشهد الإلهية، وحقيقته (الفناء) عن إرادة ما سوى الله ومحبته، والإنابة إليه، والتوكل عليه، وخوفه ورجائه، فيفنى بحبِّه عن حُبِّ ما سواه، وبخوفه ورجائه عن خوف ما سواه ورجائه، وحقيقة هذا الفناء إفراد الرب سبحانه بالمحبة، والخوف والرجاء، والتعظيم والإجلال
…
"
(1)
.
ولا شكَّ أنَّ تحكيم الذوق أعقب الكثير من المفاسد، أخطرهما نبذ الكتاب والسُّنَّة، وعدم التحاكم إليهما وهذا خلاف ما عليه أهل السُّنَّة والجماعة وسلف الأُمَّة، بل هي من البدع.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "ومن خرج عن الشرع الذي بعث الله به محمدًا صلى الله عليه وسلم ظانًا أنه متبعٌ للحقيقة فإنه مضاهٍ للمشركين المكذِّبين للرسل عليهم السلام"
(2)
.
وقال ابن القيم رحمه الله: "وقع من تحكيم الذوق من الفساد ما لا يعلمه إلا الله عز وجل، فإنَّ الأذواق مختلفة في أنفسها، كثيرة الألوان، متباينة أعظم التباين، فكلُّ طائفة لهم أذواقٌ وأحوالٌ ومواجيد، بحسب معتقداتهم وسلوكهم، فالقائلون بوحدة الوجود لهم ذوق وحال ووجد في معتقدهم بحسبه، والنصارى لهم ذوق في النصرانية بحسب رياضتهم وعقائدهم، وكل من اعتقد شيئًا أو سلك سلوكًا -حقًّا كان أو باطلًا- فإنه إذا ارتاض وتجرَّد لزمه، وتمكَّن من قلبه، وبقي له فيه حال وذوق ووجد، فيذوق من يزن الحقائق إذن ويعرف الحق من الباطل"
(3)
.
(1)
مدارج السالكين 3/ 351، وينظر: مجموع الفتاوى، لابن تيمية 10/ 353.
(2)
مجموع الفتاوى 11/ 508.
(3)
مدارج السالكين 1/ 491 - 492، وينظر: ص 496.
وعلاقة الذوق بالكشف والتجلِّي
(1)
تكمن في ثلاث مراتب
(2)
:
1 -
التجلِّي الأول: هو التجلِّي الذاتي، وهو تجلِّي الذات وحدها لذاتها، وهي الحضرة الأحدية
(3)
، التي عرَّفها ابن عجيبة بقوله:"الحضرة عبارة عن كشف رداء الصون عن أصل نور الكون، فتلوح أنوار القدم على صفحات العدم فيتلاشى الحادث ويبقى القديم"
(4)
.
2 -
التجلِّي الثاني: هو الذي تظهر به أعيان الممكنات الثانية، التي هي شؤون الذات لذاته تعالى وهو التعيين الأول بصفة العالمية والقابلية؛ لأنَّ الأعيان معلوماته الأولى الذاتية القابلة للتجلِّي الشهودي، وللحق بهذا تنزل الحضرة الأحدية إلى الحضرة الواحدية بالنسبة الأسمائية
(5)
.
3 -
التجلِّي الشهودي: هو ظهور الوجود المسمَّى باسم النور، وظهور الحقِّ بصور أسمائه في الأكوان التي هي صورها وهذه هي عقيدة وحدة الوجود.
وعقيدة وحدة الوجود
(6)
حوت الكثير من المفاسد العقدية، منها:
الأول: أنَّ حقيقة قولهم: أنَّ الله لم يخلق شيئًا ولا ابتدعه ولا برأه ولا صوَّره؛ لأنَّه
(1)
التجلِّي الصحيح إذا أريد به كون جميع الكائنات آيات لله عز وجل شاهدة دالة مظهرة لما هو مستحق له من الأسماء الحسنى والصفات العلى، وعن مقتضى أسمائه وصفاته خلق الكائنات، فهو تعالى قد أظهر من آثار علمه وحكمته ورحمته ما لا يحصيه إلا هو فهو ربُّ العالمين، والعالمون ممتلئون بما فيهم من آثار أسمائه وصفاته. ينظر: مجموع الفتاوى 2/ 400 - 401.
(2)
ينظر: المصادر العامَّة للتلقي عند الصوفية عرضًا ونقدًا، ص 193، 540.
(3)
معجم اصطلاحات الصوفية، ص 146.
(4)
إيقاظ الهمم، ص 91.
(5)
معجم اصطلاحات الصوفية، ص 146.
(6)
لها مبحث خاص في الباب الثالث من هذا الكتاب.
إذا لم يكن وجود إلا وجوده فمن الممتنع أن يكون خالقًا لوجود نفسه أو بارئًا لذاته فإنَّ العلم بذلك من أبين العلوم وأبدهها للعقول، إن الشيء لا يخلق نفسه ولهذا قال سبحانه وتعالى:{أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ}
(1)
فإنهم يعلمون أنهم لم يكونوا مخلوقين من غير خالق ويعلمون أنَّ الشيء لا يخلق نفسه فتعيَّن أنَّ لهم خالقًا، وعند هؤلاء الكفَّار الملاحدة الفرعونية أنَّه ما ثمَّ شيءٌ يكون الرَّبُّ قد خلقه أو برأه أو أبدعه إلا نفسه المقدسة، ونفسه المقدسة لا تكون إلا مخلوقة مربوبة مصنوعة مبروءة؛ لامتناع ذلك في بدائه العقول، وذلك من أظهر الكفر عند جميع أهل الملل والآراء، وهذا ردٌّ للكتاب والسُّنَّة والإجماع، أين هم من قول الله عز وجل {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}
(2)
.
قال الشيخ السعدي رحمه الله: "أي: خالقهما ومبدعهما، في غاية ما يكون من الحسن والخلق البديع، والنظام العجيب المحكم"
(3)
.
وقال أيضًا: "والله خالقٌ كلَّ شيء وليس شيءٌ من المخلوقات مشابهًا لله بوجهٍ من الوجوه، ولما ذكر عموم خلقه للأشياء، ذكر إحاطة علمه بها فقال:{وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}
(4)
، وفي ذكر العلم بعد الخلق، إشارة إلى الدليل العقلي إلى ثبوت علمه، وهو هذه المخلوقات، وما اشتملت عليه من النظام التام، والخلق الباهر، فإنَّ في ذلك دلالة على سعة علم الخالق، وكمال حكمته، كما قال تعالى: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ
(1)
سورة الطور: 35.
(2)
سورة الأنعام: 101.
(3)
تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنَّان 1/ 984.
(4)
سورة الحديد: 3.
وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}
(1)
، وكما قال تعالى:{وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ}
(2)
ذلكم الذي خلق ما خلق، وقدَّر ما قدر"
(3)
.
الثاني: أنَّ عندهم أنَّ الله ليس ربُّ العالمين ولا مالك الملك، إذ ليس إلا وجوده وهو لا يكون رب نفسه ولا يكون الملك المملوك هو الملك المالك، وقد صرَّحوا بهذا الكفر مع تناقضه وقالوا: إنه هو ملك الملك بناءً على أنَّ وجوده مفتقرٌ إلى ذوات الأشياء، وذوات الأشياء مفتقرة إلى وجوده فالأشياء مالكة لوجوده فهو ملك الملك.
الثالث: عندهم، أنَّ الله عز وجل لم يرزق أحدًا شيئًا ولا أعطى أحدًا شيئًا ولا رحم أحدًا ولا أحسن إلى أحدٍ ولا هدى أحدًا، ولا أنعم على أحد نعمةً ولا علَّم أحدًا علمًا ولا علَّم أحدًا البيان وعندهم في الجملة: لم يصل منه إلى أحد لا خير، ولا شر، ولا نفع، ولا ضر، ولا عطاء، ولا منع، ولا هدى ولا إضلال أصلًا، وأنَّ هذه الأشياء جميعها عين نفسه ومحض وجوده فليس هناك غيرٌ يصل إليه ولا أحدٌ سواه ينتفع بها ولا عبد يكون مرزوقًا أو منصورًا أو مهديًّا
(4)
.
وقول ابن عجيبة بالحضرة الأحدية يلزم عليه نفي ذات الله عز وجل ووصفه بالمعدومات، بل هو تعطيل لله عز وجل عمَّا يستحق سبحانه وتعالى، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "
…
وكذلك كونه لا يتكلَّم، أو لا ينزل، ليس في ذلك صفة مدح، ولا كمال، بل هذه الصفات فيها تشبيه له بالمنقوصات، أو المعدومات، فهذه الصفات
(1)
سورة الملك: 14.
(2)
سورة يس: 81.
(3)
تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنَّان 1/ 237.
(4)
ينظر: مجموع الفتاوى 2/ 239.
منها ما لا يتصف به إلا المعدوم، ومنها ما لا يتصف به إلا الجمادات، والناقص"
(1)
.
أما الأحوال والمقامات التي ذكرها ابن عجيبة أثناء تعريفه للذوق فبيَّنها ابن القيم بقوله: "ولأرباب السلوك اختلاف كثير في عدد المقامات وترتيبها، كلٌّ يصف منازل سيره، وحال سلوكه ولهم اختلاف في بعض منازل السير، هل هي من قسم الأحوال؟ والفرق بينهما: أنَّ المقامات كسبية والأحوال وهبية، ومنهم من يقول: الأحوال من نتائج المقامات والمقامات نتائج الأعمال فكلُّ من كان أصلح عملًا كان أعلى مقامًا، وكلُّ من كان أعلى مقامًا كان أعظم حالًا
…
والصحيح في هذا أنَّ الواردات والمنازلات لها أسماء باعتبار أحوالها، فتكون لوامع وبوارق ولوائح عند أول ظهورها وبدوها، كما يلمع البارق، ويلوح عن بعد فإذا نازلته وباشرها فهي أحوال، فإذا تمكَّنت منه وثبتت له من غير انتقال فهي مقامات وهي لوامع ولوائح في أولها وأحوال في أوسطها، ومقامات في نهاياتها، فالذي كان بارقًا هو بعينه الحال، والذي كان حالًا هو بعينه المقام، وهذه الأسماء له باعتبار تعلُّقه بالقلب، وظهوره له، وثباته فيه، وقد ينسلخ السالك من مقامه كما ينسلخ من الثوب، وينزل إلى ما دونه، ثم قد يعود إليه، وقد لا يعود"
(2)
.
ولا ريب أنَّ من تحاكم إلى الذوق فيما يسوغ ويمتنع، وفيما هو صحيح وفاسد وجعله محكًّا للحق والباطل فنبذ لذلك موجب العلم والنصوص وحكَّم فيها الأذواق، وطمست معالم الإيمان والسلوك المستقيم وانعكس السير وكان إلى الله
(1)
الرسالة التدمرية، ص 22.
(2)
مدارج السالكين 1/ 151 - 152.