الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ب- تأويلاته في باب الصفات
آراؤه في الصفات الذاتية.
تعريف صفة العلو وموقف ابن عجيبة منها.
العلو: ضدُّ السُّفل.
العين واللام والحرف المعتل ياءً كان، أو واوًا، أو ألفًا، أصلٌ واحدٌ يدلُ على السُّموِّ والارتفاع
(1)
، ومنه العلاء والعلوُّ، فالعلاءٌ: الرفعة، والعلوُّ: العظمة والتجبُّر
(2)
، والعلو يُطلق في اللُّغة على معان هي: علو الذات، وعلو القهر، وعلو القدر
(3)
.
وعلو الله سبحانه وتعالى من الصفات الذاتية الثابتة، سمعًا، وعقلًا، وفطرةً، ولقد أجمع أهل السُّنَّة والجماعة على إثبات هذه الصفة على الوجه اللائق به سبحانه وتعالى.
ويعتقد ابن عجيبة أنَّ الله عز وجل منزَّهٌ عن العلو، فقال:"كان الله ولا أين ولا مكان وهو الآن على ما عليه كان"
(4)
، وهو بهذا ينفي علو الله عز وجل الذاتي.
وما اعتقده ابن عجيبة يخالف ما ذهب إليه أهل السُّنَّة والجماعة في إثباتها بدلالة السَّمع والفطرة والعقل.
أولًا: الأدلة السَّمعية
الأدلة السمعيَّة على إثبات صفة العلو كثيرة، وقد عدَّ ابن القيم عشرين نوعًا، ذكر منها
(5)
:
(1)
مقاييس اللغة 4/ 112.
(2)
العين 2/ 245.
(3)
تهذيب اللغة 3/ 2536.
(4)
إيقاظ الهمم، ص 73.
(5)
ينظر: مختصر الصواعق 2/ 205.
* التصريح بالصعود، قال تعالى:{إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ}
(1)
.
* التصريح بذكر أنه في السَّماء، قال تعالى:{أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ}
(2)
.
* الفوقية المقرونة بـ (من)، قال تعالى:{يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}
(3)
.
* ذكر العلو، قال تعالى:{وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ}
(4)
.
* ذكر التنزيل، قال تعالى:{تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ}
(5)
.
ثانيًا: الأحاديث الدالة على علو الله تعالى وتنوع دلالتها
1 -
التصريح برفع الأيدي إلى الله عز وجل: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ ربكم تبارك وتعالى حييٌّ كريم يَستْحيى من عبده إذا رفع يديه إليه أن يرُدَّهما صِفْرًا»
(6)
.
2 -
التصريح بلفظ الأين، مثل سؤال النبي صلى الله عليه وسلم للجارية، فعن معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه قال: كانت لي جاريةٌ ترعى غنمًا لي قِبَل أُحُدٍ والجوانية
(7)
فاطلعت ذات يومٍ فإذا الذئب قد ذهب بشاةٍ من غنمها وأنا رجلٌ من بني آدم آسفُ كما
(1)
سورة فاطر: 10.
(2)
سورة الملك: 16 - 17.
(3)
سورة النحل: 50.
(4)
سورة الشورى: 4.
(5)
سورة غافر: 2.
(6)
أخرجه أحمد 5/ 438، وأبو داود، كتاب الصلاة، باب الدعاء، 2/ 366، وابن ماجه، باب رفع اليدين في الدعاء 5/ 33، وصحَّحه الألباني في صحيح الجامع، رقم 1757.
(7)
الجوّانية بالفتح وتشديد ثانية وكسر النون، وياء مشددة، هي موضع أو قرية قرب المدينة. ينظر: مراصد الاطلاع على أسماء الأمكنة والبقاع 1/ 354.
يأسفون، لكنى صككتُها صكَّةً، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعظُمَ ذلك عليَّ، قلتُ: يا رسول الله أفلا أعتقها؟ قال: «ائتني بها» ، فأتيته بها فقال لها:«أين الله؟» قالت: في السَّماء، قال:«من أنا؟» ، قالت: أنت رسول الله، قال:«أعتقها فإنها مؤمنة»
(1)
.
3 -
التشهيد، فقد خطب النبي صلى الله عليه وسلم في حجَّة الوداع وبلَّغهم، وعلَّمهم، ثم قال بأُصْبُعِهِ السَّبَّابة يرْفَعُها إلى السَّماء، وينكتها إلى الناس:«اللهم اشهد، اللهم اشهد»
(2)
.
4 -
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كانت زينب رضي الله عنها تفخر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وتقول: «زوجكنَّ أهاليكن، وزوجني الله تعالى من فوق سبع سماوات»
(3)
.
ثالثًا: دلالة الفطرة على إثباتها
الناس مفطورون على ذلك، والإنسان إذا ناجى ربَّه رفع رأسه إلى السَّماء، ولذلك لا يلتفت لمن أنكرها؛ لأنهم إما مقرِّون بقلوبهم ولكن جحدوا بألسنتهم ما في قلوبهم، أو أنَّ فطرتهم تغيَّرت بسبب علماء السوء، أو المجتمع، ولقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أنَّ الفطرة تتغيَّر بالمجتمعات، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وْيُنَصِّرانِهِ، كما تنتجون
(4)
البهيمة، هل تجدون فيها من جدعاء
(5)
حتى تكونوا أنتم تجدعونها»
(6)
.
(1)
أخرجه مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب تحريم الكلام في الصلاة ونسخ ما كان من إباحة 1/ 381، رقم 537.
(2)
أخرجه مسلم، كتاب الحج، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم 2/ 886، رقم 1218.
(3)
أخرجه البخاري، كتاب التوحيد، باب {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} 4/ 388، رقم 7420.
(4)
تنتجون: بالبناء للفاعل من الإنتاج يقال: أنتجت الناقة إذا أعنتها على النتاج. ينظر: منحة الباري بشرح صحيح البخاري، المسمَّى تحفة الباري 9/ 528.
(5)
جدعاء: مقطوعة الأطراف، المرجع نفسه، ص 528.
(6)
أخرجه البخاري، كتاب القدر، باب الله أعلم بما كانوا عاملين 4/ 209، رقم 6599.
رابعًا: دلالة العقل
أما ثبوتها بالعقل فمن وجوه:
أحدهما: العلم البديهي القاطع بأنَّ كلَّ موجودين إمَّا أن يكون أحدهما ساريًا في الآخر قائمًا به كالصفات، وإما أن يكون قائمًا بنفسه بائنًا من الآخر.
الثاني: أنَّه لما خلق العالم فإمَّا أن يكون خلقه في ذاته أو خارجًا عن ذاته، والأول باطل، أمَّا أولًا فبالاتفاق، وأمَّا ثانيًا؛ فلأنَّه يلزم أن يكون محلًّا للخسائس والقاذورات، تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا.
والثاني: يقتضي كون العالم واقعًا خارج ذاته، فيكون منفصلًا، فتعيَّنت المباينة؛ لأنَّ القول بأنَّه غير متصل بالعالم، وغير منفصل عنه غير معقول.
والثالث: أنَّ كونه تعالى لا داخل العالم ولا خارجه يقتضي نفي وجوده بالكليَّة؛ لأنَّه غير معقول، فيكون موجودًا إمَّا داخله وإمَّا خارجه، والأول باطل، فتعيَّن الثاني فلزمت المباينة
(1)
.
وذكر ابن تيمية رحمه الله قريبًا من هذا القول فقال: "قاعدة عظيمة في إثبات عُلوّه تعالى: وهو واجبٌ بالعقل الصريح، والفطرة الإنسانية الصحيحة، وهو أن يقال: كان اللَّه ولا شيءَ معه ثم خلق العالم، فلا يخلو: إما أن يكون خلقه في نفسه وانفصل عنه، وهذا محال، تعالى اللَّه عن مماسَّة الأقذار وغيرها، وإما أن يكون خلقه خارجًا عنه ثم دخل فيه، وهذا محالٌ أيضًا، تعالى أن يحلَّ في خلقه -وهاتان لا نزاع فيهما بين أحدٍ من المسلمين- وإمَّا أن يكون خلقه خارجًا عن نفسه الكريمة ولم يحلّ فيه، فهذا هو الحقُّ الذي لا يجوز غيره، ولا يليق باللَّه إلا هو، وهذه القاعدة للإمام أحمد من حججه على الجهمية في زمن المحنة"
(2)
.
(1)
ينظر: شرح الطحاوية ص 269 - 270.
(2)
مجموع الفتاوى 5/. 152، ينظر: الرَّد على الزنادقة والجهمية، ص 50 - 51.
خامسًا: دلالة الإجماع
تضافرت أقوال السلف لإثبات هذه الصفة لله عز وجل، ومنها:
قول أبي سعيد الدارمي في نقضه على بشر المرِّيسي
(1)
: "ثم إجماع من الأولين والآخرين العالمين منهم والجاهلين أنَّ كلَّ واحدٍ ممَّن مضى وممَّن غبر إذا استغاث بالله تعالى، أو دعاه، أو سأله يمد يديه وبصره إلى السماء يدعوه منها، ولم يكونوا يدعوه من أسفل منهم من تحت الأرض ولا من أمامهم، ولا من خلفهم، ولا عن أيمانهم ولا عن شمائلهم إلا من فوق السَّماء؛ لمعرفتهم بالله عز وجل أنه فوقهم، حتى اجتمعت الكلمة من المصلِّين في سجودهم (سبحان ربي الأعلى) لا ترى أحدًا يقول (ربي الأسفل) حتى لقد علم فرعون في كفره وعتوه على الله أنَّ الله عز وجل فوق السماء فقال فيما ذكره الله عنه في كتابه عز وجل:{وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَاهَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ}
(2)
"،
(3)
.
وقال أبو الحسن الأشعري في رسالته لأهل الثغر: "وأجمعوا على أنَّه تعالى فوق سماواته على عرشه دون أرضه"
(4)
.
وقد دلَّ على ذلك بقوله: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ}
(5)
.
(1)
هو: بشر بن غياث المرِّيسي، مبتدعٌ ضالٌّ يقول بخلق القرآن، وناظر عليه ودعا إليه، وكان رأس الجهمية، مات سنة 218 هـ. ينظر: سير أعلام النبلاء 8/ 337، الوافي بالوفيات 10/ 94، لسان الميزان 2/ 29.
(2)
الرَّد على الجهمية، ص 37.
(3)
سورة غافر: 36.
(4)
ينظر: رسالة لأهل الثغر، ص 231 - 232.
(5)
سورة الملك: 16 - 17.
وقال أيضًا: "ورأينا المسلمين جميعًا يرفعون أيديهم إذا دعوا نحو السماء؛ لأنَّ الله مستوٍ على العرش"
(1)
.
وقال ابن عبد البر: "ومن الحجة أيضًا في أنه عز وجل على العرش فوق السماوات، أنَّ الموحِّدين أجمعين من العرب والعجم إذا كربهم أمرٌ، أو نزلت بهم شدَّة، رفعوا وجوههم إلى السَّماء، يستغيثون ربهم تبارك وتعالى، وهذا أشهر وأعرف عند الخاصَّة والعامَّة من أن يُحتاج فيه إلى أكثر من حكايته؛ لأنه اضطرار، ولم يؤنِّبهم عليه أحدٌ، ولا أنكره عليهم مسلم"
(2)
.
وقال ابن أبي شيبة
(3)
: "وأجمع الخلق جميعًا أنهم إذا دعوا الله عز وجل جميعًا رفعوا أيديهم إلى السَّماء، فلو كان الله عز وجل في الأرض السُّفلى ما كانوا يرفعون أيديهم إلى السَّماء وهو معهم على الأرض"
(4)
.
سادسًا: أقوال الصحابة رضي الله عنهم
1 -
عن ابن مسعود رضي الله عنه في قول الله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ}
(5)
، قال:«العرش على الماء، والله فوق العرش، وهو يعلم ما أنتم عليه»
(6)
.
2 -
قول عائشة رضي الله عنها: «وأيم الله، إنِّي لأخشى لو كنت أحبُّ قتله لقتلت-
(1)
الإبانة، ص 48.
(2)
التمهيد 7/ 343 - 344.
(3)
أبو بكر، عبد الله بن محمد القاضي أبي شيبة إبراهيم بن عثمان بن خُواسي العبسي مولاهم، من شيوخه: شريك بن عبد الله القاضي، ومن مؤلفاته: المصنف، والتفسير، مات سنة 235 هـ. ينظر: سير أعلام النبلاء 11/ 122، تهذيب التهذيب 6/ 2.
(4)
العرش، ص 291.
(5)
سورة الأعراف: 54.
(6)
أخرجه البخاري في كتابه (خلق أفعال العباد)، ص 43.
تعني عثمان رضي الله عنه، ولكن علم الله من فوق عرشه أنِّي لم أحبّ قتله»
(1)
.
3 -
(2)
.
صفة الوجه:
أوَّل ابن عجيبة هذه الصفة، فقال في تفسيره لقول الله تعالى:{وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ}
(3)
أي: ذاته المقدَّسة"
(4)
.
وصفة الوجه من الصفات الذاتيَّة الخبريَّة التي دلَّ على ثبوتها الكتاب والسُّنَّة، وتلقَّاها سلف الأُمَّة بالقبول والتسليم، ولم يتأولوها بل أمرُّوها كما جاءت من غير تحريفٍ ولا تمثيلٍ ولا تكييف، أمَّا الأشاعرة فهذا دأبهم في تأويل الصفات الخبرية، فلقد أوَّلوها بالذات كما ذكر ابن عجيبة، وكذلك أوَّلوها (بالثواب والجزاء)
(5)
، وأوَّلوها (بالقبلة، والوجود، والرحمة
(6)
) وغير ذلك من التأويلات الباطلة التي لم ترد لا في كتابٍ ولا سنَّةٍ ولا لغة العرب.
(1)
أخرجه الدارمي في الرَّد على الجهمية، ص 57.
(2)
أخرجه الدارمي في الرَّد على الجهمية، ص 53 - 54.
(3)
سورة الرحمن: 27.
(4)
البحر المديد 7/ 273.
(5)
ينظر: تفسير النسفي 4/ 318، والبحر المحيط، لأبي حيان 4/ 136.
(6)
الإرشاد، للجويني، ص 147 - 148، والأسماء والصفات، للبيهقي 2/ 89 - 90.
أولًا: الأدلة من القرآن
(1)
.
قال ابن كثير: "وقد نعت وجهه الكريم في هذه الآية بأنَّه ذو الجلال والإكرام، أي: هو أهلٌ أن يجلَّ فلا يعصى وأن يُطاع فلا يخالف"
(2)
.
وقال تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ}
(3)
.
قال ابن كثير: "يخبر تعالى أنَّ جميع أهل الأرض سيذهبون ويموتون أجمعون، وكذلك أهل السموات، إلا من شاء الله، ولا يبقى أحدٌ سوى وجهه الكريم؛ فإنَّ الرَّبَّ -تعالى وتقدَّس- لا يموت، بل هو الحيُّ الذي لا يموت أبدًا"
(4)
.
ثانيًا: الأدلة من السُّنَّة:
1 -
عن أبي موسى قال قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس كلمات فقال: «إنَّ الله عز وجل لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عملُ الليل قبلَ عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه»
(5)
.
2 -
وعن أبي بكر بن عبد الله بن قيس عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «جنَّتان من فضه وجنتان من ذهب، آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى
(1)
سورة القصص: 88.
(2)
تفسير القرآن العظيم 7/ 494.
(3)
سورة الرحمن: 27.
(4)
تفسير القرآن العظيم 7/ 494.
(5)
أخرجه البخاري، كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى:{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} 4/ 392، رقم 7444.
ربِّهم إلا رداء الكبرياء على وجه في جنَّة عدن»
(1)
.
3 -
وعن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه قال: كنتُ أضربُ غلامًا لي فسمعت من خلفي صوتًا: «اعلم أبا مسعود، الله أقدر عليك منك عليه» فالتفت فإذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلتُ: يا رسول الله: هو حرٌّ لوجه الله، فقال:«أما لو لم تفعل، للفحتك النار، أو لمستك النار»
(2)
.
ثالثًا: الإجماع
ردّ الإمام الدارمي على من أنكر صفة الوجه لله عز وجل بقوله: "ولولا كثرة من يستنكر الحق ويستحسن الباطل ما اشتغلنا كلَّ هذا الاشتغال بتثبيت وجه الله ذي الجلال والإكرام، ولو لم يكن فيه إلا اجتماع الكلمة من العالمين: أعوذ بوجه الله العظيم وأعوذ بوجهك يا رب، وجاهدت ابتغاء وجه الله وأعتقت لوجه الله لكان كافيًا مما ذكرنا، إذ عقله النساء والصبيان والبر والفاجر والعربي والعجمي غير هذه العصابة الزائغة الملحدة في أسماء الله المعطلة لوجه الله ولجميع صفاته عز وجل "
(3)
.
وقال ابن خزيمة
(4)
: "نحن نقول وعلماؤنا جميعًا في جميع الأقطار: إنَّ لمعبودنا عز وجل وجهًا كما أعلمنا الله في محكم تنزيله فذوَّاه -أي وصفه بذو- بالجلال والإكرام، وحكم له بالبقاء ونفي عنه الهلاك، ونقول: إنَّ لوجه ربنا عز وجل من النور والضياء والبهاء ما لو كشف حجابه لأحرقت سبحات
(1)
أخرجه البخاري، كتاب التفسير، باب قوله:{وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ} 12/ 169، رقم 4878.
(2)
أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب صحبة المماليك وكفَّارة من لطم عبده 5/ 92، رقم 4398.
(3)
نقض الدارمي على المرِّيسي 2/ 723 - 724.
(4)
محمد بن إسحاق بن خزيمة النيسابوري السلمي، الشافعي، ولد سنة 222 هـ، وقيل 23، توفي سنة 311 هـ. ينظر: سير أعلام النبلاء 14/ 365، شذرات الذهب 2/ 262.
وجهه كلَّ شيءٍ أدركه بصره، محجوب عن أبصار أهل الدنيا، لا يراه بشر ما دام في الدنيا الفانية، ونقول: إنَّ وجه ربنا القديم لا يزال باقيًا، فنفى عنه الهلاك والفناء"
(1)
.
رابعًا: من أقوال الصحابة رضي الله عنهم
1 -
عن خباب رضي الله عنه قال: «هاجرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم نلتمس وجه الله، فوقع أجرنا على الله، فمنَّا من مات لم يأكل من أجره شيئًا، منهم مصعب بن عمير، ومنَّا من أينعت له ثمرته فهو يهدبها
(2)
، قتل يوم أُحُدٍ فلم نجد ما نكفنه إلا بردة إذا غطينا بها رأسه خرجت رجلاه، وإذا غطينا رجليه خرج رأسه، فأمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نغطي رأسه، وأن نجعل على رجليه من الإذخر»
(3)
.
2 -
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: «إنَّ العبد المسلم إذا قال الحمد لله وسبحان الله ولا إله إلا الله والله أكبر وتبارك الله، أخذها ملك فجعلها تحت جناحه ثم صعد بها فلا يمرُّ بها على جمعٍ من الملائكة إلا استغفروا لقائلهنَّ حتى يجيء بها وجه الرحمن، ثم قرأ عبد الله {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ}
(4)
»،
(5)
.
(1)
كتاب التوحيد 1/ 53.
(2)
يهدبها: أي يجنيها ويقطفها كما يهدب الرجل الغضا والأرطى. ينظر: تاج العروس 4/ 382.
(3)
أخرجه البخاري، كتاب الجنائز، باب إذا لم يجد كفنًا إلا ما يواري رأسه أو قدميه غطَّى به رأسه 1/ 429، رقم 1217.
(4)
سورة فاطر: 10.
(5)
أخرجه البيهقي في الأسماء والصفات 2/ 104، رقم 667، والحاكم في المستدرك، كتاب التفسير، تفسير سورة الملائكة 2/ 461، وقال: هذا حديثٌ صحيحُ الإسناد ولم يخرجاه، وابن جرير في تفسيره 10/ 398، والسيوطي في الدر المنثور 7/ 8.
خامسًا: الرد على تأويلات الوجه (بالذات، أو الثواب، أو الجزاء، أو الرحمة)
قال ابن القيم: "إنَّه لا يعرف في لغةٍ من لغات الأمم وجه الشيء بمعنى ذاته ونفسه، وغاية ما شبه به المعطل وجه الرَّب أن قالوا: هو كقوله: وجه الحائط، ووجه الثوب، ووجه النهار، ووجه الأمر (فيقال) لهذا المعطِّل المشبِّه: ليس الوجه في ذلك بمعنى الذات بل هذا مبطل لقولك فإنَّ وجه الحائط أحد جانبيه فهو مقابل لدبره، وكمثل هذا وجه الكعبة ودبرها، فهو وجه حقيقة ولكنه بحسب المضاف إليه، فلما كان المضاف إليه بناء كان وجهه من جنسه"
(1)
.
وأنَّه قد ثبت في عرف الناس وعاداتهم في الخطاب العربي الذي أجمع عليه أهل اللغة أنَّ تسمية الوجه في أيِّ محلٍّ وقع في الحقيقة والمجاز يزيد على قولنا: ذات، وأمَّا في الحيوان فذلك مشهورٌ حقيقة لا يمكن دفعه، ولا يسوغ فيه غير ذلك، وأمَّا في مقامات المجاز فكذلك أيضًا؛ لأنه يُقال:(فلانٌ وجه القوم) لا يراد به ذات القوم؛ إذ ذوات القوم غيره قطعًا ويقينًا، ويقال:(هذا وجه الثوب)؛ لما هو أجوده، ويقال:(هذا وجه الرأي) أي: أصحُّه وأقومه، (وأتيت بالخبر على وجهه) أي: على حقيقته
(2)
.
والوجه في اللغة: مستقبل كل شيء؛ لأنه أوَّل ما يواجه منه، ووجه الرأي والأمر: ما يظهر أنه صوابه وهو في كلِّ محلٍّ بحسب ما يضاف إليه، فإن أضيف إلى زمن كان الوجه زمنًا، وإن أضيف إلى حيوان كان بحسبه، وإن أضيف إلى ثوب أو حائط كان بحسبه، وإن أضيف إلى مَن {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}
(3)
(1)
مختصر الصواعق المرسلة 3/ 996.
(2)
ينظر: بيان تلبيس الجهمية 1/ 35.
(3)
سورة الشورى: 11.
كان وجهه تعالى كذلك، فإذا كان هذا هو المستقرّ في لغة العرب وجب إثبات هذه الصفة على الوجه اللائق به سبحانه فهو وصفٌ زائدٌ على الذات المجرَّدة
(1)
.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم عند دخوله للمسجد يقول: «أعوذ بالله العظيم، وبوجهه الكريم، وسلطانه القديم، من الشيطان الرجيم»
(2)
.
فالنَّبي صلى الله عليه وسلم استعاذ بالذات مرَّة وبالوجه مرَّة، قال ابن القيم رحمه الله:"فتأمَّل كيف فرَّق في الاستعاذة بين استعاذته بالذات وبين استعاذته بالوجه الكريم، وهذا صريحٌ في إبطال قول من قال: إنه الذَّاتُ نفسها"
(3)
.
وحمله على الثواب المنفصل من أبطل الباطل، فإنَّ اللغة لا تحتمل ذلك ولا يعرف أنَّ الجزاء يُسمَّى وجهًا للمجازي.
وحمل الوجه في الآية {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}
(4)
على الجهة والقبلة، إمَّا أن يكون هو ظاهر الآية أو يكون خلاف ظاهرها، ويكون المراد بالوجه وجه الله حقيقة; لأنَّ الوجه إنَّما يراد به الجهة والقبلة إذا جاء مطلقًا غير مضافٍ إلى الله تعالى، وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: "لكن الصحيح أنَّ المراد بالوجه هنا وجه الله الحقيقي؛ أي إلى أي جهة تتوجَّهون، فثمَّ وجه الله سبحانه وتعالى؛ لأنَّ الله محيطٌ بكلِّ شيء، ولأنَّه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّ المصلِّي إذا قام
(1)
ينظر: مختصر الصواعق المرسلة 3/ 998.
(2)
أخرجه أبو داود، كتاب الصلاة، باب مما يقوله الرجل عند دخوله المسجد 1/ 157، رقم 466، وقال الحافظ بن حجر: حديثٌ حسن، بسند جيِّد. ينظر: نتائج الأفكار في تخريج أحاديث الأذكار 1/ 274، وصحَّحه الألباني في صحيح سنن أبي داود (441).
(3)
مختصر الصواعق 3/ 1010.
(4)
سورة البقرة: 115.
يصلِّي فإنَّ الله قِبَل وجهه، ولهذا نهى أن يبصق أمام وجهه؛ لأن الله قبل وجهه
…
وهذا معنى صحيح موافق لظاهر الآية، والمعنى الأول -وهو تفسير الوجه بالقبلة- لا يخالفه في الواقع
(1)
، إذا قلنا فثم وجه الله، وكان هناك دليل، سواء كان هذا الدليل تفسيرًا للآية الثانية في الوجه الثاني، أو كان الدليل ما جاءت به السُّنَّة، فإنك إذا توجَّهت إلى الله في صلاتك، ففي جهة الله التي يقبل الله صلاتك إليها، فثمَّ أيضًا وجه الله حقًّا، وحينئذٍ يكون المعنيان لا ينتفيان"
(2)
.
صفة السمع والبصر: قال ابن عجيبة: "إنَّه سميعٌ بصيرٌ يسمع من غير أصمخة وآذان، ويرى من غير حدقةٍ ولا أجفان"
(3)
.
يعتقد ابن عجيبة -بزعمه أنه مثبتٌ للصفة- ولقد نفاها فرارًا من إثبات أفعال الله عز وجل الذي يعبر عنها بقيام الحوادث بذات الرب سبحانه وتعالى، وأيضًا خالف أهل السُّنَّة والجماعة وفصَّل في النفي أيضًا، علمًا أنَّ النفي المفصَّل في القرآن لم يأتِ إلا على ثلاثة أسباب:
1 -
نفي ما ادَّعاه الكاذبون في حق الله تعالى من النقائص، كقوله:{بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}
(4)
.
2 -
دفع توهُّم النقص في كمال الله عز وجل، كقوله تعالى:{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ}
(5)
، وقوله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ
(1)
مختصر الصواعق 3/ 998، ص 1016 - 117، وينظر للاستزادة: مجموع الفتاوى 2/ 72، والنقض على بشر المرِّيسي 2/ 706.
(2)
شرح العقيدة الواسطية، للشيخ محمد بن صالح العثيمين 1/ 287.
(3)
مخطوط رسائل في العقائد، ل/8.
(4)
سورة الأنعام: 101.
(5)
سورة الدخان: 38.
أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ}
(1)
. 3 - في سياق تهديد الكافرين، كقوله تعالى:{وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ}
(2)
.
وما اعتقده ابن عجيبة باطل حتى من القاعدة الأصولية
(3)
التي نصَّت على أنَّ الإثبات مقدَّمٌ على النفي
(4)
، وما نفاه ابن عجيبة وجب عليه الدليل، ولا دليل.
والذي يظهر أنَّ ابن عجيبة يعتقد ما يعتقده الأشاعرة بأنَّ إثبات الصفات التي أثبتها الله عز وجل لنفسه يوصف بها المخلوق فكان سببًا للنفي، وهذا لا مرية في بطلانه؛ لأنَّ صفات الله عز وجل تليق بجلاله وكماله، وصفات الله عز وجل صفات كمال لا نقص فيها، ولا يصح سلبها عن الله عز وجل.
قال ابن خزيمة: "أفليس من المحال يا ذوي الحجا، أن يقول خليل الرحمن لأبيه آزر:{لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا}
(5)
، ويعيبه بعبادة ما لا يسمع، ولا يبصر، ثم يدعوه إلى عبادة من لا يسمع، ولا يبصر"
(6)
.
وفصل الخطاب أنَّ القول الحق هو ما عليه أهل السُّنَّة والجماعة فهم يعتقدون بأنَّ السمع والبصر صفتان ذاتيتان لله عز وجل، ويثبتونها على الوجه اللائق بالله تعالى، وتضافرت الأدلة على ذلك من القرآن والسُّنَّة والإجماع.
(1)
سورة ق: 38.
(2)
سورة إبراهيم: 42.
(3)
ينظر: قواعد الفقه، ص 53.
(4)
ينظر: البرهان في أصول الفقه 2/ 204.
(5)
سورة مريم: 42.
(6)
كتاب التوحيد 1/ 109.
أولًا: الأدلة من القرآن
قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}
(1)
.
(2)
.
ثانيًا: الأدلة من السُّنَّة
1 -
عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: لما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر، أو قال: لما توجَّه رسول الله صلى الله عليه وسلم أشرف الناس على وادٍ فرفعوا أصواتهم بالتكبير الله أكبر ألله أكبر لا إله إلا الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«اربعوا على أنفسكم، إنَّكم لا تدعون أصمَّ ولا غائبًا، إنَّكم تدعون سميعًا قريبًا وهو معكم»
(3)
.
2 -
وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: "قام فينا رسول الله بخمس كلمات، فقال:«إنَّ الله عز وجل لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجه ما انتهى إليه بصره من خلقه»
(4)
.
ثالثًا: الإجماع على إثبات صفة السمع والبصر
قال الدارمي: "ولكنَّنا نثبت له السمع والبصر والعين بلا تكييف كما أثبته لنفسه فيما أنزل من كتابه وأثبته له الرسول صلى الله عليه وسلم "
(5)
.
(1)
سورة الشورى: 11.
(2)
سورة الإسراء: 36.
(3)
أخرجه البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة خيبر 5/ 133، رقم 4205.
(4)
أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب في قوله عليه الصلاة والسلام:«إن الله لا ينام» 1/ 111، رقم 81.
(5)
نقض الدارمي 2/ 689.
ويقول أبو الحسن الأشعري: "وأجمعوا على إثبات حياة الله عز وجل لم يزل بها حيًّا، وعلمًا لم يزل به عالِمًا، وقدرةً لم يزل بها قادرًا، وكلامًا لم يزل به متكلِّمًا، وإرادةً لم يزل بها مريدًا، وسمعًا وبصرًا لم يزل به سميعًا بصيرًا"
(1)
.
والله عز وجل لم يكلفنا بمعرفة كنه الصفة، فلا نصف الله إلا بما وصف به نفسه في كتابه أو بما وصفه رسوله صلى الله عليه وسلم وعدم إدراكنا بالكيفية لا ينقص إيماننا؛ لأننا لم نكلَّف بذلك.
قال أبو القاسم الأصبهاني: "فإن قيل: كيف يصح الإيمان بما لا نحيط علمًا بحقيقته؟ قيل: إنَّ إيماننا صحيحٌ بحقِّ من كلّفناه، وعلمنا محيط بالأمر الذي ألزمناه، وإن لم نعرف ما تحتها حقيقة كيفيته، وقد أمرنا بأن نؤمن بملائكة الله وكتبه ورسله وباليوم الآخر وبالجنَّة ونعيمها، وبالنَّار وعذابها، ومعلومٌ أنا لا نحيط علمًا بكلِّ شيءٍ منها على التفصيل وإنما كلفناه الإيمان بها جملة
(2)
.
وقال البغوي: "إنَّ الامتناع عن الخوض في صفات الله تعالى بالتكييف والتشبيه واجب، وإنَّ المهتدي من سلك في نصوص الصفات عن طريق التسليم، وإنَّ الخائض فيها زائغ، والمنكر معطل، والمكيِّف مشبِّه، تعالى الله عمَّا يقول الظالمون علوًّا كبيرا"
(3)
.
والعلم بكيفية الصفة ليس بحاصلٍ لأحد؛ "لأنَّ العلم بكيفية الصفة فرع على العلم بكيفية الموصوف، فإذا كان الموصوف لا تعلم كيفيته، امتنع أن تعلم كيفية الصفة"
(4)
.
(1)
رسالة إلى أهل الثغر، ص 215.
(2)
الحجة في بيان المحجة 1/ 313 - 314.
(3)
شرح السُّنَّة 15/ 257 - 258.
(4)
مجموع الفتاوى 6/ 399.
والمعطلة لم يفهموا من أسماء الله وصفاته إلا ما هو لائقٌ بالمخلوق، فعطَّلوا صفات الله عز وجل.
قال ابن تيمية: "أمَّا المعطلون؛ فإنهم لم يفهموا من أسماء الله وصفاته إلا ما هو اللائق بالمخلوق، ثم شرعوا في نفي تلك المفهومات، فقد جمعوا بين التمثيل والتعطيل، مثَّلوا أولًا، وعطَّلوا آخرًا، وهذا تشبيهٌ وتمثيلٌ منهم للمفهوم من أسمائه وصفاته بالمفهوم من أسماء خلقه وصفاتهم، وتعطيلٌ لما يستحقه هو سبحانه من الأسماء والصفات اللائقة بالله عز وجل "
(1)
.
وقال ابن عبد البر: "وقد عقلنا وأدركنا بحواسنا أنَّ لنا أرواحًا في أبداننا لا نعلم كيفية ذلك، وليس جهلنا بكيفية الأرواح يوجب أن ليس لنا أرواح، وكذلك ليس جهلنا بكيفيته على عرشه يوجب أن ليس على عرشه"
(2)
.
رابعًا: فمما جاء في ذلك من أقوال الصحابة رضي الله عنهم
عن عائشة رضي الله عنها قالت: «الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات لقد جاءت المجادلة إلى النبي صلى الله عليه وسلم تكلّمه في ناحية البيت، وما أسمع ما تقول، فأنزل الله عز وجل:{قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ}
(3)
»،
(4)
.
(1)
الفتوى الحموية 1/ 267.
(2)
التمهيد 7/ 137.
(3)
سورة المجادلة: 1.
(4)
أخرجه اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السُّنَّة 3/ 455، رقم 689.
* صفة الكلام:
قال ابن عجيبة: "والله تعالى متكلِّمٌ بكلامٍ قديمٍ واحدٍ أزلي، فليس بصوتٍ ولا حرف، ولا لهوات، أو شفة، أو تحريك لسان"
(1)
.
وقال في موضع آخر: "أما لفظ القرآن فمشتَّقٌ من القرء"
(2)
.
ومن خلال قوله تبيَّن أن ابن عجيبة يعتقد أنَّ كلام الله يُطلق على المعنى النفسي، فليس هو حروف وأصوات، وأنَّ كلام الله عز وجل واحد، ونفى مشيئة الله في كلامه كما هو مقرَّرٌ عند أهل السُّنَّة والجماعة، ولا شكَّ أنَّ ما يعتقده باطلٌ مبنيٌّ على عقيدته الأشعرية، كما قال الباجوري
(3)
: "مذهب أهل السُّنَّة -يريد الأشعرية- أن القرآن بمعنى الكلام النفسي ليس بمخلوق، وأمَّا القرآن بمعنى اللَّفظ الذي نقرؤه فهو مخلوق"
(4)
.
وهذا مردودٌ بكلام العلماء المحققين، فلم يقل أحدٌ من السَّلف أنَّ كلام الله عز وجل قديم، وإنما قالوا هو كلام الله غير مخلوق، وقالوا لم يزل متكلِّمًا، إذا شاء ومتى شاء وكيف شاء وكما شاء، ولم يقل أحدٌ منهم: إنَّ الله عز وجل في الأزل نادى موسى عليه السلام، ولا قال: إنَّ الله لم يزل ولا يزال يقول: يا آدم، يا نوح، يا موسى، ونحو ذلك مما أخبر أنه قال، واتباع السلف عندما يقولون: إن كلام الله عز وجل
(1)
مخطوط رسائل في العقائد، ل/8.
(2)
تفسير سورة الفاتحة، ص 73.
(3)
هو: إبراهيم بن محمد بن أحمد الباجوري، ولد في بيجور إحدى قرى المنوفية بمصر، وتعلَّم في الأزهر، له مصنفات منها: تحفة المريد على جوهرة التوحيد، حاشية على الشنشورية في الفرائض، كانت وفاته سنة 1276 هـ. ينظر: الأعلام 1/ 71.
(4)
شرح الجوهرة، ص 94.
قديم، أي لم يزل متكلِّمًا إذا شاء لا يقولون إنَّ نفس الكلمة المعيَّنة قديمة، كندائه لموسى ونحو ذلك
(1)
.
ولهذا بوَّب الإمام البخاري في صحيحه عدة أبواب على ذلك فقال: "باب: كلام الرب تعالى مع جبريل عليه السلام ونداء الملائكة، وباب: "كلام الله تعالى يوم القيامة مع الأنبياء وغيرهم، وباب: ما جاء في قوله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا}
(2)
، وباب:"كلام الرب مع أهل الجنَّة"
(3)
.
ولهذا ما قاله ابن عجيبة هو حجة عليه إذ يلزمه أن تكون الصفات السبع التي يثبتها -بزعمه- هي واحدة حقيقة ومعنى، وهذا لا شكَّ في فساده.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "فقال جمهور العقلاء لهم: تصور هذا القول يوجب العلم بفساده، وقالوا لهم: موسى سمع كلام الله كلَّه أو بعضه، إن قلتم كله لزم أن يكون قد علم علم الله، وإن قلتم بعضه فقد تبعّض، وقالوا لهم: إذا جوزتم أن تكون حقيقة الخبر هي حقيقة الأمر وحقيقة النهي عن كل منهي عنه، والأمر بكلِّ مأمورٍ به هو حقيقة الخبر عن كلِّ مخبر عنه فجوزوا أن تكون حقيقة العلم هي حقيقة القدرة وحقيقة القدرة هي حقيقة الإرادة، فاعترف حُذَّاقهم بأنَّ هذا لازم لهم لا محيد لهم عنه ولزمهم إمكان أن تكون حقيقة الذات هي حقيقة الصفات وحقيقة الوجود الواجب هي حقيقة الوجوب الممكن"
(4)
.
ويقول أيضًا: "وقد خالفتم الشرع والعقل في قولكم: إنَّه قديم، وابتدعتم بدعةً
(1)
ينظر: مجموع الفتاوى 17/ 85.
(2)
سورة النساء: 164.
(3)
ينظر لهذه الأبواب، شرح ابن حجر لما ورد فيها من أحاديث 13/ 461، 473، 477، 488.
(4)
مجموع الفتاوى 9/ 283.
لم يسبقكم إليها أحدٌ من الصحابة رضي الله عنهم والتابعين وأئمة المسلمين، وفررتم من محذور إلى محذور كالمستجير من الرمضاء بالنار، ثم قولكم: إنه معنى واحد وهو: مدلول جميع العبارات مكابرة للعقل والشرع، فإنَّا نعلم بالاضطرار أنه ليس معنى آية الكرسي هو معنى آية الدين، ولا معنى تبَّت يدا أبي لهب هو معنى سورة الإخلاص، والتوراة إذا عرَّبناها لم تصر هي القرآن العربي الذي جاء به محمَّد، وكذلك إذا ترجمنا القرآن بالعبرية لم يكن هو توراة موسى عليه السلام إلى أن قال
…
والسَّلف والأئمة لم يقل أحدٌ منهم بقولكم، لكن قالوا: إنَّ الله تكلَّم بالقرآن وغيره من الكتب المنزلة، وإنَّ الله عز وجل نادى موسى بصوت سمعه موسى بأذنه كما دلَّت على ذلك النصوص، ولم يقل أحدٌ منهم إن ذلك النداء الذي سمعه موسى قديم أزلي، ولكن قالوا: إنَّ الله لم يزل متكلِّمًا إذا شاء وكيف شاء؛ لأنَّ الكلام صفة كمال لا صفة نقص، وإنما تكون صفة كمال إذا قام به لا إذا كان مخلوقًا بائنًا عنه فإنَّ الموصوف إلا بما قام به لا يتصف بما هو بائن عنه.
فلا يكون الموصوف حيًّا عالِمًا قادرًا متكلِّمًا رحيمًا مريدًا بحياة قامت بغيره ولا بعلم وقدرة قامت بغيره ولا بكلام ورحمة وإرادة قامت بغيره.
والكلام بمشيئة المتكلِّم وقدرته، أكمل ممن لا يكون بمشيئته وقدرته، وأمَّا كلام يقوم بذات المتكلِّم بلا مشيئته وقدرته، فإمَّا أنَّه ممتنع أو هو صفة نقص كما يدعى مثل ذلك في المصروع، وإذا كان كمالًا فدوام الكمال له وأنه لم يزل موصوفًا بصفات الكمال أكمل من كونه صار متكلِّمًا بعد أن لم يكن لو قدر أن هذا ممكن فكيف إذا كان ممتنعًا.
وكان أئمة السُّنَّة والجماعة كلما ابتدع في الدين بدعة أنكروها ولم يقروها،
ولهذا حفظ الله دين الإسلام فلا يزال في أُمَّة محمد طائفة هادية مهدية ظاهرة منصورة"
(1)
.
"والتحقيق هو أنَّ الله عز وجل قد تكلَّم بالحروف كما يليق بجلاله وعظمته فإنه قادر، والقادر لا يحتاج إلى جوارح، ولا إلى لهوات، وكذلك له صوت كما يليق به، يُسمع، ولا يفتقر ذلك الصوت المقدَّس إلى الحلق والحنجرة كلام الله تعالى كما يليق به، وصوته كما يليق به، ولا ننفي الحروف ولا الصوت عن كلامه سبحانه؛ لافتقارهما منَّا إلى الجوارح واللهوات، فإنهما من جناب الحق تعالى لا يفتقران إلى ذلك، وهذا ينشرح الصدر له ويستريح الإنسان به من التعسُّف، والتكلف
…
"
(2)
.
فكلام الله عز وجل صفة ذاتيَّة باعتبار أصلها، وفعليَّة باعتبار أفرادها، وهي ثابتة لله عز وجل بالكتاب والسُّنَّة والإجماع والعقل.
قال ابن تيمية رحمه الله: "وعامَّة ما يوجد في الكتاب والسُّنَّة وكلام السلف والأئمة، بل وسائر الأمم عربهم وعجمهم من لفظ الكلام والقول، وهذا كلام فلان
…
فإنَّه عند إطلاقه يتناول اللَّفْظ والمعنى جميعًا؛ لشموله لهما، ليس حقيقة في اللَّفْظ فقط كما يقوله قوم، ولا في المعنى فقط كما يقوله قوم، ولا مشترك بينهما كما يقوله قوم، ولا مشترك في كلام الآدميين وحقيقة في المعنى في كلام الله كما يقوله قوم"
(3)
.
والكلام في الحقيقة يطلق على اللَّفْظ والمعنى، وليس على المعنى فقط أو اللفظ، وما عدا الحروف والأصوات فليس بكلامٍ حقيقة
(4)
.
(1)
الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح 4/ 340.
(2)
رسالة في إثبات الاستواء والفوقية ومسألة الحرف والصوت، ضمن الرسائل المنيرية 1/ 184.
(3)
مجموع الفتاوى 12/ 456 - 457.
(4)
ينظر الحجة في بيان المحجة 1/ 399.
فلفظ القول والكلام وما تصرَّف منهما من فعلٍ ماض ومضارعٍ وأمرٍ واسم فاعل، إنما يعرف في القرآن والسُّنَّة وسائر كلام العرب إذا كان لفظًا ومعنى، ولم يكن في مُسمَّى الكلام نزاع بين الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وإنما حصل النزاع بين المتأخرين من أهل البدع ثم انتشر.
ولا ريب أنَّ مُسمَّى الكلام والقول ونحوهما ليس هو مما يحتاج فيه إلى قول شاعر، فإنَّ هذا مما تكلَّم به الأوَّلون والآخرون من أهل اللغة، وعرفوا معناه، كما عرفوا مُسمَّى الرأس واليد والرِّجل ونحو ذلك.
ولا شكَّ أنَّ من قال: إنَّ كلام الله معنى واحد قائم بنفسه تعالى وإنَّ المتلوَّ المحفوظ المكتوب المسموع من القارئ حكاية كلام الله وهو مخلوق، فقد قال بخلق القرآن في المعنى وهو لا يشعر، فإنَّ الله تعالى يقول:{قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا}
(1)
(2)
.
والأدلة مستفيضة من الكتاب والسُّنَّة وأقوال الصحابة والإجماع على إثبات كلام الله عز وجل.
أولًا: الأدلة من القرآن
(3)
.
وقال تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي
(1)
سورة الإسراء: 88.
(2)
شرح العقيدة الطحاوية، ص 149.
(3)
سورة النساء: 164.
وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ}
(1)
.
وقال تعالى: {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا}
(2)
.
وفيه إثبات النداء لله عز وجل وهو من أنواع الكلام، قال ابن تيمية:"والنداء في لغة العرب هو صوتٌ رفيعٌ لا يطلق النداء على ما ليس بصوت لا حقيقةً ولا مجازًا"
(3)
.
قال السجزي
(4)
: "والنداء عند العرب صوتٌ لا غير، ولم يرد عن الله تعالى ولا عن رسوله صلى الله عليه وسلم أنَّه من الله غير الصوت"
(5)
.
(6)
، والأدلة على أنَّ كلام الله يسمع وأنَّ القرآن كلام الله وأنَّ تلاوة التالي لله لا تخرجه عن كلام الله كثيرةٌ جدًّا
(7)
.
وقال تعالى مخاطبًا موسى عليه السلام: {وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى}
(8)
.
(1)
سورة الأعراف: 143.
(2)
سورة مريم: 52.
(3)
ينظر: مجموع الفتاوى 6/ 531.
(4)
عبد الله بن سعيد بن حاتم الوائلي السجزي، صاحب سنة، له مصنفات منها: الإبانة الكبرى في مسألة القرآن، الرَّد على من أنكر الحرف والصوت، توفي سنة 444 هـ. ينظر: سير أعلام النبلاء 17/ 654، الجواهر المضية في تراجم الحنفية 2/ 495، شذرات الذهب 13/ 271.
(5)
الرَّد على من أنكر الحرف والصوت، ص 66.
(6)
سورة التوبة: 6.
(7)
ينظر: الاستدلال بهذه الأدلة، كتاب التوحيد، لابن خزيمة، 1/ 332 - 334، والرد على الجهمية، للدارمي، ص 82 - 83، والعقيدة السلفية في كلام ربِّ البرية، لعبد الله الجديع، ص 66 - 67 - 68.
(8)
سورة طه: 13.
قال السجزي: "وكان يكلِّمه من وراء حجاب لا ترجمان بينهما، واستماع البشر في الحقيقة لا يقع إلا للصوت"
(1)
.
وقال أبو بكر الإسماعيلي الشافعي
(2)
: "القرآن كلام الله غير مخلوق، وأنه كيفما يُصرَّف بقراءة القارئ له وبلفظه، ومحفوظًا في المصاحف، غير مخلوق
…
"
(3)
.
ويقول ابن تيمية: "وربنا خاطبنا باللسان العربي الذي نفهمه، وليس فيه سماع يحصل من غير صوت"
(4)
.
ثانيًا: الأدلة من السُّنَّة
عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «احتج آدم وموسى فقال موسى: يا آدم أنت أبونا خيَّبتنا وأخرجتنا من الجنة، فقال آدم: يا موسى اصطفاك الله بكلامه وخطَّ لك التوراة بيده أتلومني على أمر قدَّره الله عليَّ قبل أن يخلقني بأربعين سنة فحجَّ آدمُ موسى عليهما السلام»
(5)
.
فإذا عُلم هذا ثبت أنَّ الله عز وجل نادى موسى عليه السلام بصوت، وينادي عباده يوم القيامة بصوت.
فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يقول الله يوم
(1)
الرد على من أنكر الحرف والصوت، ص 161.
(2)
أبو بكر، أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل بن العباس الإسماعيلي، شيخ الشافعية من حُفَّاظ الحديث والسُّنَّة، توفي سنة 371 هـ. ينظر: سير أعلام النبلاء 16/ 292.
(3)
اعتقاد أئمة أهل الحديث، ص 400 - 401.
(4)
درء تعارض العقل والنقل 2/ 93.
(5)
أخرجه البخاري، كتاب التوحيد، باب ما جاء في قول الله تعالى:{وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} 4/ 407، رقم 7515.
القيامة: يا آدم فيقول: لبَّيك ربنا وسعديك، فينادي بصوت: إنَّ الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثًا من النَّار، قال: يا رب وما بَعثُ النار؟ قال: من كل ألفٍ -أراه قال تسعمائة وتسعة وتسعين
…
»
(1)
.
ثالثًا: الإجماع
فلقد أجمع أهل الإسلام على إثبات هذه الصفة لله، قال ابن حزم:"أجمع أهل الإسلام على أنَّ الله تعالى كلَّم موسى، وعلى أنَّ القرآن كلام الله، وكذا غيره من الكتب المنزلة والصحف"
(2)
.
والله عز وجل عاب على من عبد العجل؛ لأنه قد سُلب صفة الكلام، وهذا يدلُّ على أنَّ سلبها صفة نقص، والله عز وجل منزَّه عن صفة النقص، قال تعالى:{أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا}
(3)
.
رابعًا: دلالة العقل الصريح وأهل اللغة على إثبات صفة الكلام
العقل الصريح يدلُّ على إثبات صفة الكلام لله عز وجل بصوتٍ وحرف؛ لأنَّ غير المتكلِّم موصوفٌ بالنَّقص، وعدم القدرة على الكلام نقصٌ في حقِّ كلِّ عاقل، والكلام ميزة، ونفيه نقص.
واتفق أهل اللغة على أنَّ الكلام يشتمل على اللَّفْظ والمعنى.
قال ابن فارس: "الكاف واللام والميم أصلان، أحدهما يدلُّ على نطقٍ مفهم، والآخر على جراح، فالأول: الكلام،
…
والأصل الآخر: الكَلْم وهو الجرح"
(4)
.
(1)
أخرجه البخاري، كتاب التوحيد، باب في المشيئة والإرادة، 1/ 401، رقم 7483.
(2)
الفصل في الملل والأهواء والنحل 3/ 11.
(3)
سورة طه: 89.
(4)
مقاييس اللغة 5/ 131.
خامسًا: من أقوال الصحابة رضي الله عنهم على إثبات هذه الصفة
1 -
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: «إذا تكلَّم الله بالوحي سمع أهل السموات شيئًا، فإذا فُزِّع عن قلوبهم وسكن الصوت عرفوا أنَّه الحق ونادوا: {مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ}»
(1)
.
2 -
وعن عائشة رضي الله عنها في قصة الإفك وفيه أنها قالت: «ولكنَّ والله ما كنت أظنُّ أنَّ الله منزلٌ في شأني وحيًا يُتلى، ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلَّم الله فيَّ بأمرٍ يُتلى، ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم رؤيا يبرئني الله بها"
(2)
.
(1)
أخرجه البخاري، كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى:{وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} 9/ 141، رقم 7481.
(2)
أخرجه البخاري، كتاب التفسير، باب قول الله تعالى:{لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ} 6/ 101، رقم 4141.
* آراؤه في الصفات الاختياريَّة الفعليَّة:
صفة الاستواء:
وقع ابن عجيبة في هذه الصفة في محذورين باطلين:
أولهما: تأويل الاستواء بالاستيلاء.
ثانيهما: التفويض.
قال ابن عجيبة في تفسير قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ}
(1)
، "استواء استيلاءٍ وإحاطة، حتى صار العرش غيبًا في إحاطة قهريته وأسرار ذاته"
(2)
.
وقال في موضعٍ آخر: "وأنه مستوٍ على العرش على الوجه الذي أراد وبالمعنى الذي أراد"
(3)
.
ويعتقد أهل السُّنَّة والجماعة أنَّ الله عز وجل مستوٍ على عرشه حقيقةً، استواءً يليق بجلاله، من غير تكييفٍ ولا تمثيل، ولا تحريفٍ، ولا تعطيل.
قيل للإمام أحمد "والله تعالى فوق السماء السابعة على عرشه، بائن من خلقه، وقدرته وعلمه بكلِّ مكان؟ قال: نعم، على عرشه لا يخلو شيءٌ من علمه"
(4)
.
وقال ابن خزيمة: "فنحن نؤمن بخبر الله عز وجل وأنَّ خالقنا مستوٍ على عرشه، لا نبدل كلام الله، ولا نقول قولًا غير الذي قيل لنا"
(5)
.
وقال القرطبي: "وقد كان السلف الأول رضي الله عنهم لا يقولون بنفي الجهة، ولا
(1)
سورة الرعد: 2.
(2)
البحر المديد 3/ 6.
(3)
مخطوط رسائل في العقائد ل/1، مخطوط تفسير الفاتحة الصغير ل/3.
(4)
شرح أصول اعتقاد أهل السُّنَّة والجماعة 1/ 401.
(5)
التوحيد، ص 68.
ينطقون بذلك، بل نطقوا هم والكافة بإثباتها لله تعالى كما نطق كتابه، وأخبرت به رسله، ولم ينكر أحدٌ من السلف الصالح أنه استوى على عرشه حقيقة
…
وإنما جهلوا كيفية الاستواء، فلا تعلم حقيقة"
(1)
.
أما ابن عجيبة فحاله كحال المؤولة الذين ينفون استواء الله عز وجل على عرشه بالمعنى الصحيح الذي جاء في الكتاب والسُّنَّة، ويؤولونها على عدة مذاهب، فمنهم من يؤول الاستواء بالقهر والغلبة، مثل المعتزلة
(2)
، وهو رأي للجويني
(3)
،
وابن فورك
(4)
، والغزالي
(5)
، والرازي
(6)
، والإيجي
(7)
.
(1)
تفسير القرطبي 7/ 219.
(2)
ينظر: شرح الأصول الخمسة لعبد الجبار، ص 226.
(3)
قال: المراد بالاستواء القهر والغلبة وذلك شائع في اللغة. ينظر: الإرشاد 40 - 41، لمع الأدلة، ص 95.
والجويني هو: عبد الملك بن عبد الله بن يوسف ين محمد الجويني النيسابوري المعروف بإمام الحرمين، له مصنفات منها: البرهان في أصول الفقه، الورقات في أصول الفقه، الشامل في أصول الدين، كانت وفاته سنة 478 هـ. ينظر: سير أعلام النبلاء 18/ 468 - 477.
(4)
ينظر: مشكل الحديث، ص 146.
(5)
قال: وليس ذلك إلا بطريق القهر والاستيلاء. ينظر: قواعد العقائد، ص 165 - 167.
والغزالي هو: أبو حامد، محمد بن محمد بن محمد بن أحمد الطوسي، الشافعي، الغزالي، لازم الجويني وأخذ عنه معظم العلوم، ثم رحل إلى بغداد مدرسًا في المدرسة النظامية، له مصنفات منها: كتاب الإحياء، الإملاء على مشكل الإحياء، كتاب الأربعين، والمستصفى في أصول الفقه، كانت وفاته سنة 505 هـ. ينظر: النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة 15/ 713.
(6)
قال: إن الاستيلاء عبارة عن حصول الغلبة بعد العجز. ينظر: أساس التقديس، ص 203.
والرازي هو: محمد بن عمر الحسين، فخر الدين القرشي الرازي الأصولي المفسر، ولد سنة 544 هـ، له مصنفات منها: أساس التقديس، التفسير الكبير، المحصول في أصول الفقه، كانت وفاته سنة 606 هـ. ينظر: سير أعلام النبلاء 21/ 500 - 501، طبقات السبكي 5/ 33 - 40.
(7)
قال: فيؤول الاستواء بالاستيلاء. ينظر: المواقف 1/ 207.
والإيجي هو: عبدالرحمن بن أحمد بن عبد الغفار بن أحمد بن عضد الدين الإيجي الشيرازي الشافعي، عالم مشارك في أنواع العلوم، ولد سنة 708 هـ، وتوفي سنة 765 هـ. ينظر: طبقات الشافعية الكبرى 6/ 108، الدرر الكامنة 2/ 323.
ومنهم من فسَّر الاستواء بالملك، والمراد: أنَّ الملك ما استوى لأحدٍ غيره
(1)
، وبهذا خالفوا صحيح المنقول، وصريح المعقول، ولم يسيروا وفق مذهب السَّلف؛ لأنهم -زعموا- أنَّ إثبات الاستواء يلزم منه الجهة والتحيُّز.
وهذه الألفاظ مجملة تحتمل حقًّا وباطلًا، ولم يرد في نفيها ولا إثباتها كتابٌ ولا سُنَّة، فمن نفى الجهة ومراده بذلك أنَّ الله عز وجل ليس مباينًا للعالم، وليس فوقه، ولا تجوز الإشارة إليه، فهذا المعنى باطلٌ غير صحيح، ومن نفاها مريدًا أنَّ المخلوقات لا تحيط به ولا تحصره، فهذا جمعٌ بين حقٍّ وباطل فالمعنى حق، واللَّفْظ المصرَّح به باطل؛ لإيهامه المعنى الأول.
وأمَّا قولهم: لو كان في جهة لكان محتاجًا لهذا الحيِّز، فيجاب عنه بأنَّنا لا نُسلِّم أنَّ كلَّ ما يُسمَّي حيِّزًا وجهة فهو أمرٌ وجودي، بل قد يُقال إنَّ المُسمَّى بالجهة والحيِّز منه ما يكون وجوديًّا وهو الأمكنة الوجودية مثل داخل العالم فإنَّ الشمس والقمر والأفلاك والأرض والحجر والشجر ونحو هذه الأشياء كلها في أحياز وجوديَّة، أمَّا ما وراء العالم، فهو ليس في حيِّزٍ أو جهة وجوديَّة لكي يصح ما زعمتموه
(2)
.
وأمَّا قولهم: لو كان مستويًا على العرش لكان محتاجًا إليه، محمولًا به، فيُجاب عنه أنَّه يصحُّ هذا المعنى لو أُثبت لله عز وجل استواءً كاستواء المخلوقين، أمَّا إذا كان استواء الله عز وجل استواءً يليق بجلاله غير مماثل لاستواء خلقه، فلا يصح هذا الإلزام.
(1)
رأي عبد القاهر البغدادي، في كتاب أصول الدين، ص 113 - 114.
(2)
ينظر: مجموع الفتاوى 17/ 326، 5/ 262، تلبيس الجهمية 2/ 115، التدمرية 65 - 67.
قال ابن تيمية رحمه الله: "فيظنُّ المتوهِّم أنَّه إذا وُصف بالاستواء على العرش كان استواؤه كاستواء الإنسان على ظهور الفُلْك والأنعام، كقوله:{وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ}
(1)
، فيتخيَّل أنَّه إذا كان مستويًا على العرش كان محتاجًا إليه كحاجة المستوي على الفُلْك والأنعام، فلو انخرقت السفينة لسقط المستوي عليها
…
فقياس هذا أنَّه لو عُدم العرش لسقط الرَّبُّ تبارك وتعالى، ثم يريد -بزعمه- أن ينفي هذا فيقول: ليس استواؤه بقعودٍ ولا استقرار، وكان هذا الخطأ من خطئه في مفهوم استوائه على العرش، حيث ظنَّ أنَّه مثل استواء الإنسان على ظهور الأنعام والفُلْك.
وليس في اللَّفْظ ما يدلُّ على ذلك؛ لأنَّه أضاف الاستواء إلى نفسه الكريمة، كما أضاف إليها سائر أفعاله وصفاته
…
فلم يذكر استواءً مطلقًا يصلح للمخلوق ولا عامًّا يتناول المخلوق، كما لم يذكر مثل ذلك في سائر صفاته، وإنما ذكر استواءً أضافه إلى نفسه الكريمة"
(2)
.
ولم يأتِ نصٌّ واحدٌ من الوحيين يدلُّ على أنَّ معنى (استوى)(استولى).
يقول ابن القيم: "إنَّ هذا اللَّفْظ- استوى- قد اطرد في القرآن والسُّنَّة حيث ورد بلفظ الاستواء دون الاستيلاء، ولو كان معناه استولى لكان استعماله في أكثر مورده كذلك، فإذا جاء موضعٌ أو موضعان بلفظ استوى حمل على معنى استولى؛ لأنه المألوف المعهود، وأمَّا أن يأتي إلى لفظٍ قد اطرد استعماله في جميع موارده على معنى واحد، فيدعي صرفه في الجميع إلى معنى لم يعهد استعماله فيه ففي غاية الفساد، ولم يقصده ويفعله من قصد البيان، هذا لو لم يكن في السياق ما يأتي حمله
(1)
سورة الزخرف: 12 - 13.
(2)
شرح الرسالة التدمرية 1/ 254.
على غير معناه الذي اطرد استعماله فيه، فكيف وفي السياق ما يأبى ذلك"
(1)
.
وقال أيضًا: "إنَّ لفظ الاستواء في كلام العرب الذي خاطبنا الله تعالى بلغتهم، وأنزل بها كلامه نوعان:(مطلق) و (مقيَّد).
فالمطلق ما لم يوصل معناه بحرف مثل قوله: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ}
(2)
وهذا معناه كَمل وتَمّ، يقال: استوى النبات واستوى الطعام.
وأما المقيد فثلاثة أضرب:
أحدها: مقيد بإلى كقوله: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ}
(3)
واستوى فلانٌ إلى السطح وإلى الغرفة، وقد ذكر سبحانه هذا المعدى بـ (إلى) في موضعين من كتابه: في البقرة في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}
(4)
، والثاني في قوله تعالى:{ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ}
(5)
وهذا بمعنى العلو والارتفاع بإجماع السلف.
والثاني: مقيد بـ (على) كقوله: {وَقِيلَ يَاأَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَاسَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}
(6)
، وقوله: {فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ
(1)
مختصر الصواعق المرسلة 2/ 381 - 382.
(2)
سورة القصص: 14.
(3)
سورة الأعراف: 54.
(4)
سورة البقرة: 29.
(5)
سورة فصلت: 11.
(6)
سورة هود: 44.
يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا}
(1)
، وهذا أيضًا معناه العلو والارتفاع والاعتدال بإجماع أهل اللغة.
الثالث: المقرون بواو (مع) التي تعدي الفعل إلى المفعول معه، نحو:(استوى الماء والخشبة) بمعنى ساواها، وهذه معاني الاستواء المعقولة في كلامهم، ليس فيها معنى استولى البتَّة، ولا نقله أحدٌ من أئمة اللغة الذين يعتمد قولهم
…
والذين قالوا ذلك لم يقولوه نقلًا، فإنَّه مجاهرة بالكذب وإنما قالوه استنباطًا وحملًا منهم للفظة استوى على استولى
(2)
.
ثانيًا: الأدلة من السُّنَّة على إثبات صفة الاستواء لله عز وجل
منها حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لما فرغ الله من خلقه استوى على عرشه»
(3)
.
وأهل السُّنَّة والجماعة يخبرون عن الله صلى الله عليه وسلم كما أخبر عن نفسه في كتابه.
سُئل ابن الأعرابي
(4)
عن معنى قول الله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}
(5)
فقال: هو على عرشه كما أخبر عز وجل، فقيل يا أبا عبد الله: ليس هذا معناه، إنما معناه: استولى، فقال: اسكت ما أنت وهذا لا يقال: استولى على الشيء إلا أن يكون له مضاد
(1)
سورة الفتح: 29.
(2)
مختصر الصواعق 1/ 372.
(3)
أخرجه النسائي في السنن الكبرى، كتاب التفسير، باب سورة السجدة 6/ 11392.
(4)
أبو عبد الله محمد بن زياد بن الأعرابي الهاشمي، يروي عن: أبي معاوية الضرير، والقاسم بن معن، وأبي الحسن الكسائي، وعنه: إبراهيم الحربي، وعثمان الدارمي، وثعلب، وأبو شعيب الحراني، وشمر بن حمدويه، وآخرون، ولد بالكوفة سنة خمسين ومائة، من مصنفاته: كتاب النوادر، كتاب الخيل، كتاب تاريخ القبائل، مات بسامراء سنة 231 هـ. ينظر: وفيات الأعيان 4/ 306، سير أعلام النبلاء 9/ 75، ومعجم المؤلفين 1/ 33.
(5)
سورة طه: 5.
فإذا غلب أحدهما قيل استولى.
أما سمعت النابغة
(1)
يقول:
ألا لمثلك أو ما أنت سابقه
…
سبق الجواد إذا استولى على الأمدِ
(2)
(3)
وكذلك يستشهدون بمعاني الاستواء التي يدور عليها تفاسيرهم له.
فلهم عباراتٌ عليها أربعٌ
…
قد حُصِّلت للفارسِ الطعَّان
وهي (استقرَّ) وقد (علا) وكذلك
…
(ارتفع) الذي ما فيه من نكران
وكذاك قد (صعد) الذي هو رابعٌ
…
وأبو عبيدة صاحب الشيباني
يختار هذا القول في تفسيرِهِ
…
أدري من الجهمي بالقرآنِ
(4)
ثالثًا: الرد على ابن عجيبة في مسألة تفويضه لصفة الاستواء
1 -
تعريف التفويض في اللغة
قال ابن فارس: الفاء والواو والضاد أصلٌ صحيحٌ يدلُّ على الاتكال في الأمر على آخر ورده عليه"
(5)
.
2 -
تعريف التفويض عند أهل الكلام
"هو صرف اللَّفْظ عن ظاهره مع عدم التعرض لبيان المعنى المراد به، بأن يُترك ويقال: الله أعلم بمراده"
(6)
.
(1)
أبو أمامة، زياد بن معاوية بن ضباب الذبياني الغطفاني المضري، شاعر جاهلي من أهل الحجاز، توفي سنة 18 هـ. ينظر: الأعلام 3/ 54.
(2)
ذكره اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السُّنَّة والجماعة 2/ 399، وابن عبد البر في التمهيد 7/ 131، وكذلك ابن القيم في اجتماع الجيوش الإسلامية 104.
(3)
مجموع الفتاوى، لابن تيمية 5/ 146، وينظر: مختصر الصواعق 1/ 380 - 400.
(4)
النونية مع شرح الهراس 1/ 233.
(5)
مقاييس اللغة، ص 822.
(6)
أساس التقديس، للرازي، ص 133، وهداية المريد إلى جوهرة التوحيد، بكري رجب، ص 48.
وقد يقول قائل: إنَّ التفويض هو مذهب السَّلف؛ فيُردُّ عليه بأنَّ السَّلف فوَّضوا في كيفيَّة الصفة فقط دون المعنى، قال الإمام أحمد رحمه الله:"إنَّا لا نعلم كيفيَّة ما أخبر الله به عن نفسه، وإن علمنا تفسيره ومعناه"
(1)
.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وقد فسَّر الإمام أحمد النصوص التي تسمِّيها الجهمية متشابهات، فبيَّن معانيها آيةً آية، وحديثًا حديثًا، ولم يتوقَّف في شيءٍ منها هو والأئمة قبله، مما يدلُّ على أنَّ التوقف عن بيان معاني آيات الصفات وصرف الألفاظ عن ظواهرها لم يكن مذهبًا لأئمة السُّنَّة، وهو أعرف بمذهب السَّلف، وإنِّما مذهب السَّلف إجراء معاني آيات الصفات على ظواهرها بإثبات الصفات له حقيقة"
(2)
.
ومراد السَّلف بقولهم بلا كيف هو نفي للتأويل.
قال ابن القيم رحمه الله: "ومراد السَّلف بقولهم (بلا كيف) هو نفي التأويل، فإنه التكييف الذي يزعمه أهل التأويل، فإنهم هم الذين يثبتون كيفية تخالف الحقيقة فيقعون في ثلاثة محاذير: نفي الحقيقة، وإثبات التكييف بالتأويل، وتعطيل الرَّب -سبحانه- عن صفته التي أثبتها لنفسه، وأمَّا أهل الإثبات فليس أحد منهم يكيف ما أثبته الله تعالى لنفسه، ويقول: كيفية كذا وكذا حتى يكون قول السَّلف بلا كيف ردًّا عليهم، وإنما ردوا على أهل التأويل الذي يتضمَّن التحريف والتعطيل، تحريف اللَّفْظ وتعطيل معناه"
(3)
.
(1)
درء تعارض العقل والنقل 1/ 207.
(2)
الإكليل في المتشابه والتأويل (ضمن مجموع الفتاوى) 13/ 295.
(3)
اجتماع الجيوش الإسلامية، ص 199.
والتأويل هو أصل البلايا وبابه الذي وقع بسبهها الانحرافات العقدية المخالفة لنصوص الكتاب والسُّنَّة، ولذا قال ابن القيم رحمه الله في قصيدته:
هذا وأصلُ بليَّة الإسلامِ من
…
تأويل ذي التحريف والبطلان
وهو الذي قد فرق السبعين بل
…
زادت ثلاثًا قول ذي البرهان
وجميع ما في الكون من بدعٍ
…
وأحداثٍ تخالف موجب القرآن
فأساسها التأويل ذو البطلان لا
…
تأويل أهل العلم والإيمان
إذ ذاك تفسير المراد وكشفُهُ
…
وبيانُ معناهُ إلى الأذهانِ
(1)
أما التفويض عند ابن عجيبة فمبنيٌّ على من سبقه بهذا وهو قول اللقاني
(2)
:
وكلُّ نصٍّ أوهمَ التشبيها
…
أوِّله أو فوِّض ورم تنزيهًا
(3)
ولذلك يعتبر هذا البيت عمدة عند الأشاعرة.
وهذا كلام خطيرٌ -والعياذ بالله- يلزم منه لوازم باطلة، منها:
1 -
القدح في كتاب الله عز وجل ومخالفة نصوص الكتاب التي ورد فيها التدبُّر لكتاب الله عز وجل قال تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}
(4)
.
2 -
الطعن على النبي صلى الله عليه وسلم بأنَّه لم يعلم المراد من كتاب الله عز وجل.
(1)
الكافية الشافية، ص 111.
(2)
برهان الدين إبراهيم بن محمد اللقاني، ولد في صفر سنة 817 هـ، ومن شيوخه: أحمد بن قاسم الشافعي، ويحيى القرافي المالكي، وأبو العباس الشرنوبي، ومن تلاميذه: ابنه عبد السلام اللقاني، ومن مصنفاته: جوهرة التوحيد في العقيدة، حاشية على مختصر خليل، توفي سنة 896 هـ. ينظر: شجرة النور الزكية، محمد مخلوف، ص 211، خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر، محمد الدمشقي 1/ 372.
(3)
إتحاف المريد بشرح جوهرة التوحيد، ص 131 - 132.
(4)
سورة محمد: 24.
ولهذا قال عنهم ابن تيمية رحمه الله: "وأمَّا التفويض فإنَّه من المعلوم أنَّ الله عز وجل أمرنا أن نتدبَّر القرآن، وحضَّنا على عقله وفهمه، فكيف يجوز مع ذلك أن يراد منَّا الإعراض عن فهمه ومعرفته وعقله؟ فعلى قول هؤلاء: يكون الأنبياء والمرسلون لا يعلمون معاني ما أنزل الله عليهم من هذه النصوص، ولا الملائكة، ولا السابقون الأولون، وحينئذٍ فيكون ما وصف الله به نفسه في القرآن، أو كثير مما وصف الله به نفسه لا يعلم الأنبياء معناه، بل يقولون كلامًا لا يعقلون معناه
…
ومعلومٌ أنَّ هذا قدح في القرآن والأنبياء، إذ كان الله أنزل القرآن، وأخبر أنَّه جعله هدىً وبيانًا للناس، وأمر الرسول أن يبلِّغ البلاغ المبين، وأن يبيِّن للناس ما نُزِّل إليهم، وأمر بتدبُّر القرآن وعقله، ومع هذا فأشرف ما فيه -وهو ما أخبر به الرَّبُّ عن صفاته، أو عن كونه خالقًا لكلِّ شيء، وهو بكلِّ شيءٍ عليم، أو عن كونه أمر ونهى، ووعد وتوعَّد، أو عمَّا أخبر به عن اليوم الآخر لا يعلم أحد معناه، فلا يعقل ولا يتدبّر، ولا يكون الرَّسول بيَّن للناس ما نُزِّل إليهم، ولا بلَّغ البلاغ المبين، وعلى هذا التقدير فيقول كلُّ ملحدٍ ومبتدعٍ: الحق في نفس الأمر ما علمته برأيي وعقلي، وليس في النصوص ما يناقض ذلك، لأنَّ تلك النصوص مشكلة متشابهة لا يعلم أحدٌ معناها، وما لا يعلم أحدٌ معناه لا يجوز أن يُستدلَّ به.
فيبقي هذا الكلام سدًّا لباب الهدى والبيان من جهة الأنبياء، وفتحًا لباب من يعارضهم ويقول: إنَّ الهدى والبيان في طريقنا لا في طريق الأنبياء، لأنَّا نحن نعلم ما نقول ونبيِّنه بالأدلة العقلية، والأنبياء لم يعلموا ما يقولون: فضلًا عن أن يبيِّنوا مرادهم.
فتبيَّن أنَّ قول أهل التفويض الذين يزعمون أنهم متبعون للسنة والسلف من شرِّ أقوال أهل البدع والإلحاد"
(1)
.
(1)
درء تعارض العقل والنقل 1/ 115، 204.
3 -
أنَّ أئمة السَّلف فسَّروا الكثير من آيات الصفات، ونقل تفاسيرهم لها غير واحد، مما يدلُّ على أنَّهم فهموا معانيها
(1)
.
4 -
أنَّ نصوص الصفات قد تواترت بأساليب متعددة ودلالات متعاضدة أوضحت أنَّ ظاهرها هو المطلوب فهمه، فصرف العقول والقلوب عن إدراك هذا المعنى، هو تعطيلٌ للنصوص عن معانيها
(2)
.
5 -
جنوا على النصوص حيث جعلوها دالةً على معنى باطل غير لائق بالله تعالى، ولا مراد له
(3)
.
6 -
معلوم أنَّ مجلس النبي صلى الله عليه وسلم كان يحضره أقوام اختلفت أفهامهم وتباينت مداركهم، ومع ذلك لم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يحذر من الإيمان بما يظهر من كلامه في صفات الله عز وجل أو غير ذلك من المسائل في العقائد والأحكام، وهذا يبيِّن أنَّها على ظاهرها، وأنَّها مفهومة عندهم
(4)
.
(1)
ينظر: مذهب أهل التفويض، ص 527.
(2)
المرجع نفسه، ص 392.
(3)
ينظر: علاقة الإثبات والتفويض بصفات رب العالمين، ص 110.
(4)
ينظر: أقاويل الثقات في تأويل الأسماء والصفات، ص 85.
* صفة القُرْب ورأيه فيها:
قال ابن عجيبة: "ولا يماثل قربُه قربَ الأجسام كما لا تماثل ذاتُه ذاتَ الأجسام، وهو مع ذلك قريبٌ من كلِّ بعيد، وهو أقرب إلى العبيد من حبل الوريد"
(1)
.
ويقول في موضع آخر: "قربه رحمةٌ واجتباء، وتقريبٌ واصطفاء"
(2)
.
وقال في موضع آخر: "فإذا تحقَّق المحو والاضمحلال، وزال البَيْن، وثبت الوصال، لم يبقَ قربٌ ولا بعدٌ ولا بَينٌ ولا انفصال"
(3)
.
الملاحظ عند ابن عجيبة الاضطراب، فقوله الأول قولٌ صحيحٌ لا غبار عليه، وهذا هو ما عليه أهل السُّنَّة والجماعة، ولكن سرعان ما نقض قوله الأول بأقواله الأخرى؛ وهذه عادة أهل البدع في التناقض دائمًا، وبهذا خالف أهل السُّنَّة والجماعة والأدلة الصريحة التي أثبت القرب لله عز وجل بما يليق بجلاله سبحانه وتعالى.
أولًا: الأدلة من القرآن
1 -
(4)
.
2 -
(5)
.
(1)
مخطوط رسائل في العقائد، ل/2.
(2)
إيقاظ الهمم، ص 505.
(3)
البحر المديد 1/ 214.
(4)
سورة البقرة: 186.
(5)
سورة سبأ: 50.
ثانيًا: الأدلة من السُّنَّة
1 -
عن أبي موسى رضي الله عنه أنَّهم كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فكانوا يرفعون أصواتهم بالتكبير، فقال:«أيُّها النَّاس، ارْبعوا على أنفسكم، فإنَّكم لا تدعون أصَمَّ ولا غائبًا، إنما تدعون سميعًا قريبًا، إنَّ الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عُنُق راحلته»
(1)
.
قال ابن بطال رحمه الله
(2)
: "ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: (فإنَّكم لا تدعون أصمَّ ولا غائبًا) نفي الآفة المانعة من السَّمع، ونفى الجهل المانع من العلم، وفى هذا القول منه صلى الله عليه وسلم دليلٌ على أنَّه لم يزل سميعًا بصيرًا عالِمًا، ولا تصحُّ أضداد هذه الصفات عليه، وقوله: (قريبًا) إخبارٌ عن كونه عالِمًا بجميع المعلومات لا يعزب عنه شيء"
(3)
.
2 -
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ومن تَقَرَّبَ إليَّ شبرًا تقرَّبت إليه ذراعًا، ومن تقرَّب إليَّ ذراعًا تقربَّت إليه باعًا»
(4)
.
ثالثًا: الرد على ابن عجيبة في تفسير القرب بوحدة الوجود
قال ابن تيمية رحمه الله: "ففي الجملة: ما نطق به الكتاب والسُّنَّة من قرب الرَّب من عابديه وداعيه هو مقيَّد مخصوص؛ لا مطلق عام لجميع الخلق فبطل قول الحلولية كما قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ}
(5)
فهذا قربه من داعيه، وأمَّا
(1)
أخرجه البخاري، كتاب الجهاد، باب ما يكره من رفع الصوت بالتكبير، 2/ 356، رقم 2992.
(2)
أبو الحسن، علي بن خلف بن عبد الملك بن بطال القرطبي المالكي، المعروف بابن اللجام، توفي سنة 449 هـ. ينظر: سير أعلام النبلاء 18/ 47، شذرات الذهب 3/ 283.
(3)
شرح صحيح البخاري، لابن بطال 10/ 417.
(4)
أخرجه مسلم، كتاب التوبة، باب في الحض على التوبة والفرح بها، 4/ 2102، رقم 2675.
(5)
سورة البقرة: 186.
قربه من عابديه ففي مثل قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا}
(1)
.
وقول النَّبي صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي: «من عادى لي وليًّا فقد آذنته بالحرب، وما تقرَّب إليَّ عبدي بشيءٍ أحبُّ إليَّ مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرَّب إليَّ بالنوافل حتى أحبَّه
…
»
(2)
، وقال:«إذا تقرَّب العبد منِّي شبرًا تقرَّبت منه ذراعًا»
(3)
فهذا قربه إلى عبده وقرب عبده إليه، ودنوه عشية عرفة إلى السَّماء الدنيا لا يخرج عن القسمين،
…
فدنوه لدعائهم، وأمَّا نزوله إلى سماء الدنيا كلَّ ليلة فإن كان لمن يدعوه ويسأله ويستغفره فإنَّ ذلك الوقت يحصل فيه من قرب الرَّبِّ إلى عابديه ما لا يحصل في غيره"
(4)
.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وهذه الزيادة تكون على الوجه المتفق عليه، بزيادة تقريبه للعبد إليه جزاء على تقرُّبه باختياره، فكلَّما تقرَّب العبد باختياره قَدْر شبر زاده الرَّبُّ قُربًا إليه حتى يكون كالمتقرِّب بذراع، فكذلك قرب الرَّبِّ من قلب العابد، وهو ما يحصل في قلب العبد من معرفة الرَّبِّ والإيمان به، وهو المثل الأعلى، وهذا أيضًا لا نزاع فيه، وذلك أنَّ العبد يصير مُحبًّا لما أحبَّ الرَّبُّ، مبغضًا لما أبغض، مواليًا لمن يوالي، معاديًا لمن يعادي، فيتحد مراده مع المراد المأمور به الذي يحبه الله ويرضاه"
(5)
.
(1)
سورة الإسراء: 57.
(2)
أخرجه البخاري، كتاب الرقاق، باب التواضع، 4/ 192، رقم 6502.
(3)
أخرجه البخاري، كتاب التوحيد، باب ذكر النبي صلى الله عليه وسلم وروايته عن ربه، 9/ 157، رقم 7537.
(4)
مجموع الفتاوى 5/ 247.
(5)
شرح حديث النزول، ص 133 - 134.
وقال أيضًا
…
"فهذا القرب كلُّه خاصٌّ في بعض الأحوال دون بعض، وليس في الكتاب والسُّنَّة -قط- قرب ذاته من جميع المخلوقات في كلِّ حال؛ فعلم بذلك بطلان قول الحلوليَّة؛ فإنَّهم عمدوا إلى الخاص المقيَّد فجعلوه عامًّا مطلقا"
(1)
.
ويقول أيضًا مبيِّنًا أنَّ القرب ليس كالمعية: "وجميع ما وصف به الرَّبُّ عز وجل نفسَه من القرب، فليس فيه ما هو عام لجميع المخلوقات كما في المعيَّة؛ فإنَّ المعيَّة وصف نفسه فيها بعموم وخصوص، وأمَّا قربه مما يقرب منه، فهو خاصٌّ لمن يقرب منه، كالداعي والعابد، وكقربه عشية عرفة، ودنوه إلى السَّماء الدنيا لأجل الحجاج"
(2)
.
(1)
مجموع الفتاوى 5/ 240.
(2)
شرح حديث النزول، ص 114.
* صفة الغضب:
قال ابن عجيبة: "الغضب ثوران النَّفس وإرادة الانتقام"
(1)
.
يثبت أهل السُّنَّة والجماعة صفة الغضب، وهي من الصفات الفعليَّة التي يفعلها الله عز وجل إذا شاء، ومتى شاء، كما يليق بجلاله سبحانه وتعالى، وإثباتها من غير تعطيل، ولا تحريف، ولا تمثيل، ولا تكييف.
وما ذهب إليه ابن عجيبة من تأويلها بإرادة الانتقام فهو باطل، قال ابن أبي العز
(2)
: "مذهب السَّلف وسائر الأئمة إثبات صفة الغضب والرضى، والعداوة والولاية، والحب والبغض ونحو ذلك من الصفات التي ورد بها الكتاب والسُّنَّة، ومنع التأويل الذي يصرفها عن حقائقها اللائقة بالله تعالى، كما يقولون مثل ذلك في السَّمع والبصر والكلام وسائر الصفات
…
ولا يقال: إنَّ الرضى إرادة الإحسان، والغضب إرادة الانتقام، فإنَّ هذا نفي للصفة"
(3)
.
ويقال لابن عجيبة وغيره من المؤولة الذين نفوا صفة الغضب عن الله عز وجل خشية مشابهة غضب المخلوق كما زعموا: إنَّ هناك ثمة فروق بين غضب المخلوق، وغضب الخالق، ومنها:
1 -
غضب المخلوق حقيقته غليان دم القلب، وجمرة يلقيها الشيطان في قلب ابن آدم حتى يفور.
أمَّا غضب الخالق فإنَّه صفة لا تماثل هذا، قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ
(1)
اللوائح القدسية في شرح الوظيفة الزروقية، ص 133، وينظر: تفسير الفاتحة، ص 344.
(2)
هو: أبو الحسن، علي بن علاء الدين بن شمس الدين، المعروف بابن أبي العز، حنفي المذهب، كان قاضي القضاة بدمشق، ثم الديار المصرية، توفي سنة 792 هـ. ينظر: الدرر الكامنة 3/ 87.
(3)
شرح العقيدة الطحاوية 2/ 685.
وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}
(1)
.
2 -
أنَّ غضب الآدمي يؤثر آثارًا غير محمودة، فالآدميُّ إذا غضب قد يحصل منه ما لا يحمد، فيقتل المغضوب عليه، وربما يطلق زوجته، أو يكسر الإناء، ونحو ذلك، أمَّا غضب الله فلا يترتب عليه إلا آثار حميدة لأنَّه حكيم، فلا يمكن أن يترتب على غضبه إلا تمام الفعل المناسب الواقع في محله، فغضب الله ليس كغضب المخلوقين، لا في الحقيقة ولا في الآثار، وإذا قلنا ذلك فلا نكون وصفنا الله بما يماثل صفات المخلوقين، بل وصفناه بصفةٍ تدلُّ على القوة وتمام السلطان; لأنَّ الغضب يدلُّ على قدرة الغاضب على الانتقام وتمام سلطانه; فهو بالنسبة للخالق صفة كمال، وبالنسبة للمخلوق صفة نقص.
ويدلُّ على بطلان تأويل الغضب بالانتقام قوله تعالى: {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ}
(2)
فإنَّ معنى {آسَفُونَا} : أغضبونا; فجعل الانتقام غير الغضب، بل أثرًا مترتبًا عليه; فدلَّ هذا على بطلان تفسير الغضب بالانتقام
(3)
.
وكذلك من القواعد المقرَّرة عند أهل السُّنَّة والجماعة أنَّ القول في بعض الصفات كالقول في البعض الآخر.
يقول ابن تيمية رحمه الله: "القول في بعض الصفات كالقول في بعض؛ فإن كان المخاطب ممن يقول بأنَّ الله حيٌّ بحياة، عليمٌ بعلم، قديرٌ بقدرة، سميعٌ بسمع، بصيرٌ ببصر، متكلِّمٌ بكلام، مريدٌ بإرادة، ويجعل ذلك كله حقيقة، وينازع في محبته ورضاه
(1)
سورة الشورى: 11.
(2)
سورة الزخرف: 55.
(3)
ينظر: القول المفيد على كتاب التوحيد 1/ 422.
وغضبه وكراهته فيجعل ذلك مجازًا ويفسره إمَّا بالإرادة وإمَّا ببعض المخلوقات من النعم والعقوبات فيقال له: لا فرق بين ما نفيته وبين ما أثبته بل القول في أحدهما كالقول في الآخر؛ فإن قلتَ: إنَّ إرادته مثل إرادة المخلوقين فكذلك محبته ورضاه وغضبه وهذا هو التمثيل، وإن قلتَ: إنَّ له إرادة تليق به، كما أنَّ للمخلوق إرادة تليق به قيل لك: وكذلك له محبَّة تليق به وللمخلوق محبَّة تليق به وله رضًا وغضبٌ يليق به وللمخلوق رضًا وغضبٌ يليق به وإن قلتَ: الغضب غليان دم القلب لطلب الانتقام فيقال له: والإرادة ميل النَّفس إلى جلب منفعة أو دفع مضرَّة، فإن قلتَ: هذه إرادة المخلوق، قيل لك: وهذا غضبُ المخلوق، وكذلك يلزم القول في كلامه وسمعه وبصره وعلمه وقدرته، إن نفي عنه الغضب والمحبة والرضا ونحو ذلك مما هو من خصائص المخلوقين، فهذا منتف عن السَّمع والبصر والكلام وجميع الصفات، وإن قال: إنَّه لا حقيقة لهذا إلا ما يختصُّ بالمخلوقين، فيجب نفيه عنه، قيل له: وهكذا السَّمع والبصر والكلام والعلم والقدرة"
(1)
.
وعلى هذا يجب إثبات صفة الغضب لله عز وجل كما أثبتها لنفسه في كتابه.
(2)
.
وكما أثبتها له نبيُّنا محمَّد صلى الله عليه وسلم في سنَّته، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ الله إذا أحبَّ عبدًا دعا جبريل فقال: إنِّي أحبُّ فلانًا فأحبّه، قال: فيحبه جبريل ثم ينادي في السماء فيقول: إنَّ الله يحبُّ فلانًا فأحبوه فيحبه أهل
(1)
التدمرية، ص 32، وينظر: شرح الطحاوية 2/ 686.
(2)
سورة النساء: 93.