الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقرَّر هذا الطحاوي في بيان اعتقاد أهل السُّنَّة والجماعة على مذهب أبي حنيفة وصاحبيه حيث قال: "ونؤمن بملك الموت الموكَّل بقبض أرواح العالمين، وبعذاب القبر لمن كان له أهلًا، وسؤال منكر ونكير في قبره عن ربِّه ودينه ونبيِّه، على ما جاءت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة رضي الله عنهم، والقبر روضة من رياض الجنَّة أو حفرة من حفر النيران"
(1)
.
وقال أبو عمر الداني: (فصل في القبر وفتنته): "ومن قولهم: إنَّ المؤمنين والكافرين يحيون في قبورهم، ويُفتنون ويسألون، وإنَّ فتَّاني القبر أسودان أزرقان وهما منكر ونكير، يسألان المؤمن والكافر كما صحَّ الخبر وثبت النَّقل بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وقوله تعالى:{يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ}
(2)
، وأنَّ أرواح المؤمنين منعَّمة إلى يوم الدين، وأنَّ أرواح الكافرين في العذاب الأليم"
(3)
.
وهذه الأخبار ثابتة توجب العلم، فنرغب إلى الله أن يثبِّتنا في قبورنا عند مسألة منكر ونكير بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة
(4)
.
رابعًا: النَّفخ في الصور والصعق
بيَّن ابن عجيبة أنَّ النافخ في الصُّور هو إسرافيل عليه السلام صاحب القرن
(5)
، الذي ذكر في قول الله عز وجل:{وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ}
(6)
، "وهو القرن الذي ينفخ فيه
(1)
شرح ابن أبي العز 1/ 50.
(2)
سورة إبراهيم: 27.
(3)
الرسالة الوافية 1/ 197.
(4)
ينظر: السُّنَّة 2/ 419، شرح السُّنَّة، للبربهاري 1/ 37.
(5)
ينظر: شجرة اليقين بما يتعلق بكون رب العالمين، ص 207.
(6)
سورة النمل: 86.
إسرافيل عليه السلام
(1)
.
ولقد ورد تسمية الصور بالقرن، فعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: جاء أعرابيٌّ إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فقال: ما الصُّورُ؟ قال: «قرْنٌ يُنفَخ فيه»
(2)
.
والصُّور كهيئة البوق
(3)
، وقد يقول قائل: إنَّ تشبيه الصُّور بالبوق تشبيه قبيح؛ لأنَّ البوق من آلات المعازف، ويجاب عليه بأنَّه "لا يلزم من كون الشيء مذمومًا أن لا يشبه به الممدوح فقد وقع تشبيه صوت الوحي بصلصلة الجرس مع النهي عن استصحاب الجرس كما تقدم تقريره في بدء الوحي، والصُّور إنما هو قرن كما جاء في الأحاديث المرفوعة"
(4)
.
وجاءت تسميته بصاحب القرن، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كيف أنعم وقد التقم صاحب القرنِ القرنَ وحنى جبهته وأصغى سمعه ينتظر أن يؤمر أن ينفخ فينفخ»
(5)
.
وقد أجمع العلماء على أنَّ الذي ينفخ في الصُّور هو إسرافيل، قال القرطبي رحمه الله:"قال علماؤنا: والأمم مجمعون على أنَّ الذي ينفخ في الصُّور إسرافيل عليه السلام "
(6)
.
(1)
البحر المديد 4/ 222.
(2)
أخرجه أبو داود، باب في ذكر البعث والصور 4/ 236، رقم 4742، والترمذي، في صفة القيامة، باب ما جاء في شأن الصور، 5/ 373، رقم 3244، وقال: هذا حديث حسن صحيح، والنسائي في سننه الكبرى 6/ 448، رقم 11456، وأحمد في مسنده 2/ 192، رقم: 6805، وابن حبان في صحيحه 16/ 304، رقم 7312، والحاكم في مستدركه 2/ 550، رقم 3870، وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وقال الشيخ الألباني: صحيح، ينظر: السلسلة الصحيحة 3/ 154.
(3)
نقله الحافظ ابن حجر عن مجاهد. ينظر: فتح الباري 11/ 446.
(4)
فتح الباري 18/ 359.
(5)
أخرجه الترمذي في سننه 5/ 373، رقم 3243، وقال: حديث حسن، وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن الترمذي 7/ 243.
(6)
التذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة 1/ 488.
وقال ابن عجيبة عند تفسير قول الله تعالى: {فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ}
(1)
أي: نفخ في الصور
…
واختُلف في أنَّ المراد به يوم النفخة الأولى أو الثانية، والحقُّ أنها الثانية؛ إذ هي التي يختص عسرها بالكافرين، وأمَّا النفخة الأولى فحكمها -الذي هو الإصعاق- يعمُّ البر والفاجر، على أنها مختصة بمن كان حيًّا عند وقوعها، وقد جاء في الأخبار: أنَّ في الصور ثقبًا بعدد الأرواح، وأنها تجمع في تلك الثقب في النفخة الثانية، فتخرج عند النفخ من كلِّ ثقبة روح، فترجع إلى الجسد الذي نزعت منه، فيعود الجسد كما كان حيًّا"
(2)
.
ومال ابن عجيبة في عدد النفخات إلى قول القرطبي، وظاهره أنَّ النفخ مرتان فقط، واعتمده القرطبي وغيره
(3)
.
وقد اختلف أهل العلم في ذلك على قولين:
القول الأول: أنها ثلاث نفخات، وذهب إليه جماعة من أهل العلم كشيخ الإسلام ابن تيمية، وابن كثير، وابن العربي المالكي
(4)
.
قالوا: إنَّ هذه النفخات نفخة فزع، ونفخة صعق، ونفخة بعث.
نفخة الفزع: قال الله عز وجل: {وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ}
(5)
.
(1)
سورة المدثر: 8 - 10.
(2)
البحر المديد 7/ 173.
وهذا الخبر أخرجه أبو الشيخ في كتاب العظمة 2/ 603 من قول وهب بن منبّه، وسنده فيه محمد بن إبراهيم بن علاء، وهو منكر الحديث، ينظر: التقريب، ص 466، رقم 5698، وذكره الحافظ في فتح الباري 11/ 367، والسيوطي في الحبائك في أخبار الملائك، ص 31 - 32، وإن ثبت هذا الأثر فهو من الإسرائيليات.
(3)
البحر المديد 4/ 222.
(4)
نقله عنه الحافظ ابن حجر في الفتح 11/ 449.
(5)
سورة طه: 102.
والنفخة الثانية نفخة الصعق، قال الله عز وجل:{وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ}
(1)
.
والنفخة الثالثة: نفخة البعث، قال الله عز وجل:{ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ}
(2)
(3)
.
القول الثاني: أنهما نفختان، وذهب إليه طائفة من أهل العلم، كالقرطبي، وابن حجر، والشوكاني، رحمهم الله
(4)
.
واستدلوا بقول الله تعالى: {مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ}
(5)
.
وقال تعالى: {يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ}
(6)
.
وقال تعالى: {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ}
(7)
.
والذي يظهر أنهما نفختان فقط؛ لثبوت الاستثناء بقوله تعالى: {إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} في كلٍّ من الآيتين، ولا يلزم من مغايرة الصعق للفزع أن لا يحصلا معًا من النفخة الأولى
(8)
.
(1)
سورة الزمر: 68.
(2)
سورة الزمر: 68.
(3)
ينظر: مجموع الفتاوى 16/ 35، والفتن والملاحم 1/ 270، والبيان والتحصيل 18/ 368.
(4)
ينظر: فتح الباري 11/ 449، وفتح القدير 4/ 154، والتذكرة بأحوال الموتى والآخرة 1/ 507.
(5)
سورة يس: 49.
(6)
سورة النازعات: 6.
(7)
سورة الزمر: 68.
(8)
فتح الباري 11/ 370، تفسير القرطبي 13/ 240.
ولم يجزم ابن عجيبة بالمستثنى من الصعق في قول الله عز وجل: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ}
(1)
، فقال: إن قلنا: المراد بها النفخة الثانية، فالمستثنى هم من سبقت لهم الحسنى، بدليل قوله:{لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ}
(2)
، وإن قلنا: هي نفخة الصعق، فالمستثنى قيل: هم جبريل، وميكائيل، وإسرافيل، وملك الموت، وقيل: الحور وحملة العرش، وإن قلنا: المراد نفخة الفزع في الدنيا، فالمستثنى أرواح الأنبياء والأولياء والشهداء والملائكة
(3)
.
واستضعف بعض أهل النظر أكثر هذه الأقوال؛ لأنَّ الاستثناء وقع من سكان السَّماوات والأرض وهؤلاء ليسوا من سكانها؛ لأنَّ العرش فوق السماوات فحملته ليسوا من سكانها وجبريل وميكائيل من الصافِّين حول العرش
…
ويدل على أنَّ المستثنى غير الملائكة ما أخرجه عبد الله بن أحمد في زوائد المسند وصححه الحاكم من حديث لقيط بن عامر مطولًا وفيه: «يلبثون ما لبثتم ثم تبعث الصائحة
(4)
فلعمر إلهك ما تدع على ظهرها من أحد إلا مات حتى الملائكة الذين مع ربك
…
»
(5)
.
ورجَّح الطبري والقرطبي وابن كثير والحليمي أنَّ المستثنى في الآية هم الشهداء
(6)
.
(1)
سورة الزمر: 68.
(2)
سورة الأنبياء: 103.
(3)
ينظر: البحر المديد 4/ 223.
(4)
الصائحة هي: صيحة المناحة والفزع، المعجم الوسيط، باب الصاد 1/ 530.
(5)
أخرجه عبد الله بن أحمد في زوائده على المسند 4/ 13، والطبراني في معجمه الكبير 19/ 214، رقم 477، وأبو داوود في سننه 3/ 221، رقم 3266، وصححه الحاكم في المستدرك 4/ 608، رقم 8683.
(6)
ينظر: جامع البيان في تأويل القرآن 21/ 331، التذكرة بأحوال الموتى والآخرة 1/ 454، النهاية في الفتن والملاحم 2/ 388، المنهاج 1/ 431.