الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصيَّره إلى النفوس، فالناس المحجوبون عن أذواقهم يعبدون الله وهو ومن على شاكلته يعبدون أنفسهم
(1)
.
ثالثًا: الذوق والوجدان أساسٌ لمعرفة التوحيد عند ابن عجيبة
قال ابن عجيبة: "قد أخذ الصوفية من هذا الدين القيِّم، الذي هدى الله إليه نبيَّه عليه الصلاة والسلام خلاصته ولبابه، فأخذوا من عقائد التوحيد: الشهود والعيان على طريق الذوق والوجدان ولم يقنعوا بالدليل والبرهان"
(2)
.
وابن عجيبة بكلامه هذا يصرِّح تصريحًا لا مرية فيه أنَّ القوم اعتبروا الذوق مصدر تَلقٍّ لمعرفة التوحيد، وهذا باطلٌ؛ فإن عقيدة التوحيد مبنيَّة على أصلين عظيمين هما الكتاب والسُّنَّة وفق فهم سلف الأمة، فمن حاد عنهما تخبَّط في أودية الباطل، وما قاله بأنَّ الهداية إلى الله عز وجل تكون عن طريق الذوق، فهذا باطل.
قال عبد الرحمن الوكيل
(3)
: "ويدين الصوفية ببهتان آخر يدمغها بالمروق عن الإسلام ذلك هو اعتقادها أنَّ الذوق الفردي -لا الشرع ولا العقل- هو وحده وسيلة المعرفة ومصدرها معرفة الله وصفاته وما يجب له فهو -أي الذوق- الذي
(1)
مدارج السالكين 2/ 107، بتصرف.
(2)
البحر المديد 2/ 192.
(3)
هو: عبد الرحمن بن عبد الوهاب الوكيل، ولد في قرية زاوية البقلي مركز الشهداء بمحافظة المنوفية عام 1332 هـ، حفظ القرآن، ثم التحق بمعهد طنطا، ونشأ مع أهل التصوُّف وعايشهم وفعل بعض أعمالهم، ثم التحق بكلية أصول الدين شعبة التوحيد والفلسفة، وقد وقعت يداه على كتاب بعنوان (رأي ابن تيمية في ابن عربي)، وكان نقطة تحوله إلى منهج السَّلف، إضافة إلى تعرفه على الشيخين محمد حامد الفقي، وعبدالرزاق عفيفي، ثم عُيِّن رئيسًا لجماعة أنصار السُّنَّة المحمدية، له مؤلفات وتحقيقات عدة منها: هذه هي الصوفية، البهائية، ومن تحقيقاته: الروض الأنف، للسهيلي، إعلام الموقعين، لابن القيم، ثم انتدب أستاذًا بكلية الشريعة بمكة المكرمة، وكانت وفاته سنة 1390 هـ. ينظر: جماعة أنصار السُّنَّة المحمدية، د أحمد محمد الطاهر، ص 184.
يُقَوِّم حقائق الأشياء، ويحكم عليها بالخيرية أو الشرِّية، بالحسن أو القبح، بأنها حقٌّ أو باطل، فلا جرم أن تدين الصوفية بعدد عديد من أرباب وآلهة، ولا عجب أن ترى النِّحلة منها تعبد وثنًا بغير ما تعبده به أخرى، أو تخنع لصنم يكفر به سواها من النِّحل الصوفية، لا عجب من ذلك كله، ما دامت تجعل الذوق الفردي حاكمًا وقيِّمًا على المسمَّيات وأسمائها، فيصح للشيء معناه مرة، ثم ينسخه بنقيضه مرة أخرى، هذه الحدة في توتر التناقض صبغة الصوفية دائمًا في منطقها المخبول، ولقد ضربت الصوفيين أهواء أحبارهم بالحيرة والفرقة، فحاولوا طرائق قددا، تؤلِّه كل طريقة منها ما ارتضاه كاهنها صنمًا له، وتعبده بما يفتريه هواه من خرافات"
(1)
،
وهؤلاء عندما يطالبون بدليلٍ شرعيٍّ لما يقولون يرجعون إلى مصطلحاتهم الفاسدة من وجد، وذوق، قال ابن خلدون
(2)
: "وإذا كانت كلماتهم وتفاسيرهم لا تفارق الإبهام والاستغلاق فما الفائدة فيها؟ فالرجوع إذن إلى كلمات الشرع واقتباس معانيها من التفاسير المعتضدة بالأثر، ولو كانت لا تخلص من الإبهام أولى من ابهامهم الذي لا يستند إلى برهان عقل ولا قضية شرع"
(3)
.
وابن عجيبة تابع سلفه من الصوفية بأنَّ جميع علومهم لا تُعرف إلا عن طريق الذوق.
(1)
هذه هي الصوفية، ص 21 - 22 ..
(2)
هو: عبد الرحمن بن محمد بن خلدون الحضرمي الأشهيلي، المعروف بابن خلدون، ولد بتونس سنة 732 هـ، وحفظ القرآن، وسمع الحديث، ودرس العربية في صغره، رحل إلى الشَّام ثم مصر حيث تولى فيها منصب قاضي المالكية، له مؤلفات منها: مقدمة ابن خلدون، شفاء السائل لتهذيب المسائل، وكانت وفاته سنة 808 هـ. ينظر: المنهل الصافي والمستوفى بعد الوافي، لابن تغري بردي 7/ 205، الضوء اللامع، للسخاوي 4/ 154.
(3)
شفاء السائل لتهذيب المسائل، ص 211 - 212.
ونقل الشعراني
(1)
قول ابن عربي
(2)
،
(3)
،:"جميع علومنا من علوم الذوق لا من علوم بلا ذوق؛ فإنَّ علوم الذوق لا تكون إلا عن تجلٍّ إلهيّ، والعلم قد يحصل لنا بنقل المخبر الصادق وبالنظر الصحيح"
(4)
.
أما أهل السُّنَّة والجماعة -ولله الحمد- فهم مطبقون على أنَّ التوحيد مصدره الكتاب والسُّنَّة.
ولم يثبت عن أحد من السلف أنه قال: إنه عرف الله بأسمائه وصفاته عن طريق الذوق، ولو كان خيرًا لسَبقوا ولم يُسبقوا.
فمصادر المعرفة عند أهل السُّنَّة والجماعة توقيفية على الكتاب والسُّنَّة وإجماع الأُمَّة، وهذه الأصول الثلاثة عندهم ميزان لأقوال الناس جميعًا.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "
…
وهم يَزنِوُنَ بهذه الأصول الثلاثة جميع ما عليه الناس من أقوال وأعمال باطنة أو ظاهرة مما له تعلُّق بالدين"
(5)
.
وفي ختام هذا المبحث يتضح جليًّا أنَّ ابن عجيبة يقدِّم الذوق والكشف على مصادر التلقي المعتبرة عند أهل السُّنَّة والجماعة، وهذا نصٌّ صريحٌّ لقوله بذلك، فعند
(1)
أبو محمد، عبد الوهاب بن أحمد بن علي الحنفي الشعراني الصوفي، له مؤلفات عدة منها: لواقح الأنوار في طبقات الأخيار المعروف بالطبقات الكبرى، لطائف المنن، توفي سنة 973 هـ. ينظر: الموسوعة الصوفية، ص 189، 340.
(2)
أبو بكر، محمد بن علي بن محمد بن أحمد بن عبد الله، محيي الدين الطائي الحاتمي الأندلسي المعروف بابن عربي الصوفي، ولد بمرسية بالأندلس سنة 560 هـ، وسكن في أشبيلية، ثم رحل إلى أفريقية، ثم إلى مكة، ثم استقر بالشَّام إلى أن توفي سنة 638 هـ، من مؤلفاته: الفتوحات المكية، فصوص الحكم. ينظر: تاريخ الإسلام 14/ 237، البداية والنهاية 17/ 252 - 253.
(3)
سيأتي دفاع ابن عجيبة عن ابن عربي في الباب الثالث من الكتاب.
(4)
اليواقيت والجواهر في عقيدة الأكابر، للشعراني 2/ 84.
(5)
مجموع الفتاوى 3/ 175.
تأويله لقول الله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}
(1)
قال: "هم العارفون بالله، فإذا أشكل علينا أمرٌ من أمر القلوب كأسرار التوحيد، وأمر الخواطر، رجعنا إليهم؛ لأنهم أهل الذوق والكشف، يُجيبون سائلهم بالهمَّة والحال، حتى يقلعوا عروق ما أشكل على السائل"
(2)
.
وهذا هو حال كثير من الصوفية يُعرضون عن الدليل الشرعيِّ المبنيِّ على الكتاب والسُّنَّة إلى أقوال وخرافات مشايخهم وإن كانت مخالفة للنصوص الشرعية.
قال الشاطبي: "رأى نابتة متأخرة الزمان ممن يدَّعى التخلُّق بخلق أهل التصوف المتقدِّمين، أو يروم الدخول فيهم، يعمدون إلى ما نُقل عنهم في الكتب من الأحوال الجارية عليهم أو الأقوال الصادرة عنهم، فيتخذونها دينًا وشريعةً لأهل الطريقة وإن كانت مخالفة للنصوص الشرعية من الكتاب والسُّنَّة، أو مخالفة لما جاء عن السلف الصالح، لا يلتفتون معها إلى فُتيا مفتٍ ولا نظر عالم، بل يقولون: إنَّ صاحب هذا الكلام ثبتت ولايته، فكل ما يفعله أو يقوله حق، وإن كان مخالفًا فهو أيضًا ممن يُقتدى به، والفقه للعموم، وهذه طريقة الخصوص.
فتراهم يحسنون الظن بتلك الأقوال والأفعال ولا يحسنون الظن بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم، وهو عين اتباع الرجال وترك الحق، مع أنَّ أولئك المتصوفة الذين ينقل عنهم لم يثبت أنَّ ما نقل عنهم كان في النهاية دون البداية، ولا علم أنهم كانوا مقرِّين بصحة ما صدر عنهم أم لا، وأيضًا فقد يكون من أئمة التصوف وغيرهم من زلَّ زلةً يجب سترها عليه، فينقلها عنه من لا يعلم حاله ممن لم يتأدَّب بطريق القوم كلَّ التأدب.
(1)
سورة النحل: 43.
(2)
البحر المديد 3/ 132.
وقد حذَّر السَّلف الصالح من زلة العالم، وجعلوها من الأمور التي تهدم الدين، فإنه ربما ظهرت فتطير في الناس كلَّ مطار، فيعدونها دينًا، وهي ضد الدين، فتكون الزلة حجة في الدين، فكذلك أهل التصوف، ولا بد لمن يريد الاقتداء بالصوفي من عرض أقواله وأفعاله على حاكم يحكم عليها: هل هي من جملة ما يتخذ دينًا أم لا؟ والحاكم هو الشرع، وأقوال العالم تعرض على الشرع أيضًا، وأقل ذلك في الصوفي أن نسأله عن تلك الأعمال إن كان عالمًا بالفقه، كالجنيد وغيره رحمهم الله، ولكن هؤلاء الرجال النابتة لا يفعلون ذلك، فصاروا متبعين الرجال من حيث هم رجال لا من حيث هم راجحون بالحاكم الحق، وهو خلاف ما عليه السلف الصالح"
(1)
.
"وأما انتساب الطائفة إلى شيخٍ معيَّن: فلا ريب أنَّ الناس يحتاجون من يتلقون عنه الإيمان والقرآن، كما تلقَّى الصحابة ذلك عن النَّبي صلى الله عليه وسلم وتلقَّاه عنهم التابعون؛ وبذلك يحصل اتباع السابقين الأولين بإحسان، فكما أنَّ المرء له من يعلمه القرآن ونحوه فكذلك له من يعلمه الدين الباطن والظاهر، ولا يتعين ذلك في شخصٍ معيَّن؛ ولا يحتاج الإنسان في ذلك أن ينتسب إلى شيخٍ معيَّن، كل من أفاد غيره إفادة دينية هو شيخه فيها؛
…
فسلف الأُمَّة شيوخ الخلفاء قرنًا بعد قرن؛ وليس لأحدٍ أن ينتسب إلى شيخٍ يوالي على متابعته ويعادي على ذلك؛ بل عليه أن يوالي كلَّ من كان من أهل الإيمان ومن عُرف منه التقوى من جميع الشيوخ وغيرهم ولا يخصُّ أحدًا بمزيد موالاة إلا إذا ظهر له مزيد إيمانه وتقواه، فيقدِّم من قدَّم الله تعالى ورسوله عليه، ويفضِّل من فضَّله الله ورسوله، قال الله تعالى:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}
(2)
،
(3)
.
(1)
الاعتصام 2/ 865 - 867.
(2)
سورة الحجرات: 13.
(3)
مجموع الفتاوى، لابن تيمية 11/ 511 - 512.
وقول ابن عجيبة: إنَّ الصوفية قد أخذوا من هذا الدين القيم خلاصته ولبابه، فيه تعدٍّ ومجانبة للحق؛ فهم لم يعتنوا بنصوص الوحي التي أنزلها الله فكيف يصل للحق من كانت هذه حاله، ثم زعمه أنهم أخذوا خلاصة الدين ولبابه فهذا يؤدي إلى القول بأنَّ في دين الله ما هو لبٌّ ومنه ما هو قشور، ومنه ما يُؤخذ ويُترك، وهذا باطلٌ جملةً وتفصيلًا.