الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثالثًا: أمثلة على المقامات
أ- الشُّكر:
قسَّمه ابن عجيبة إلى ثلاثة أقسام فيقول: "واعلم أنَّ الناس في الشُّكر على ثلاث درجات: عوام، وخواص، وخواص الخواص، فشكر العوام على النعم فقط، وشكر الخواص على النعم والنقم، وشكر خواص الخواص: الغيبة
(1)
في المنعم عن شهود النعم والنقم"
(2)
.
وهذا انحراف عن المفهوم الصحيح للشكر والذي بيَّنه العلماء المحققون.
قال ابن القيم رحمه الله: "منزلة الشكر وهي من أعلى المنازل، وهي فوق منزلة الرضا وزيادة، فالرضا مندرج في الشكر، إذ يستحيل وجود الشكر بدونه، وهو نصف الإيمان
…
والإيمان نصفان: نصف شكر، ونصف صبر، وقد أمر الله به، ونهى عن ضده، وأثنى على أهله، ووصف به خواص خلقه، وجعله غاية خلقه وأمره، ووعد أهله بأحسن جزائه، وجعله سببًا للمزيد من فضله، وحارسًا وحافظًا لنعمته"
(3)
.
وابن عجيبة يعتبره من مقام العوام، بل جعل مقام الفناء فوقه، فيا عجبًا! "أي مقام أرفع من الشكر، الذي يندرج فيه جميع مقامات الإيمان، حتى المحبة والرضا والتوكل وغيرها، فإنَّ الشكر لا يصح إلا بعد حصولها، وتالله ليس لخواص أولياء الله وأهل القرب منه سبيل أرفع من الشكر، ولا أعلى"
(4)
.
(1)
الغيبة: من الأحوال المرادفة للفناء والبقاء، وهي:"غيبة القلب عن علم ما يجري من أحوال الخلق بما يرد عليه من الحق، ثم قد يغيب عن غيره فقط، وقد يغيب عن غيره وعن نفسه أيضًا إذا عظم الوارد". حدائق الحقائق، ص 307.
(2)
إيقاظ الهمم، ص 143 - 144.
(3)
مدارج السالكين 2/ 252.
(4)
المرجع نفسه 2/ 259.
"ولكن أصحاب الفناء كلهم يرون أن فوق هذا مقامًا أجل منه وأعلى؛ لأنَّ الشكر عندهم يتضمَّن نوع دعوى، وأنه شكر الحق على إنعامه، ففي الشاكر بقية من بقايا رسمه لم يتخلص عنها ويفرغ منها، فلو فني عنها بتحقيقه أن الحق سبحانه هو الذي شكر نفسه بنفسه، وأن من لم يكن كيف يشكر من لم يزل، علم أن الشكر من منازل العامة"
(1)
.
وردَّ عليهم ابن القيم بقوله: "فأمَّا تضمن الشكر لنوع دعوى فإن أريد بهذه الدعوى إضافة العبد الفعل إلى نفسه، وأنه كان به وغاب بذلك عن كونه بحول الله وقوته، ومنَّته على عبده فلعمر الله هذه علة مؤثِّرة ودعوى باطلة كاذبة.
وإن أريد: أن شهوده لشكره شهوده لنعمة الله عليه به وتوفيقه له فيه وإذنه له به ومشيئته عليه ومنَّته، فشهد عبوديته وقيامه بها، وكونها بالله، فأي دعوى في هذا؟ وأي علة؟ نعم غايته أنه لا يجامع الفناء، ولا يخوض تياره فكان ماذا؟ فأنتم جعلتم الفناء غاية، فأوجب لكم ما أوجب، وقدمتموه على ما قدمه الله ورسوله، فتضمَّن ذلك تقديم ما أخّر، وتأخير ما قدّم، وإلغاء ما اعتبر، واعتبار ما ألغى"
(2)
.
ب- الزهد.
قال ابن عجيبة: "الزهد في الشَّيء هو خروج محبته من القلب، وبرودته منه، وعند القوم بغض كل ما يشغل عن الله، ويحبس عن حضرة الله"
(3)
.
ثم ذكر تقسيمًا صوفيًّا للزهد فقال: "أولًا: الزهد في المال، وعلامته أن يستوي
(1)
مدارج السالكين 2/ 259 - 260.
(2)
المرجع نفسه 2/ 250.
(3)
إيقاظ الهمم، ص 114.
الذهب والتراب، والفضَّة والحجر، والغنى والفقر، والمنع والعطاء، وثانيًا: الزهد في الجاه والمراتب، وعلامته أن يستوي عنده العز والذل، والظهور والخمول، والمدح والذم، والرفعة والسقوط، وثالثًا: ويكون ثالثًا في المقامات، والكرامات، والخصوصيات، وعلامته أن يستوي عنده الخوف والرجاء، والقوة والضعف، والبسط والقبض، يسير بهذا كما يسير بهذا، أو يعرف في هذا كما يعرف في هذا، ثم يكون الزهد في الكون بأسره بشهود المكون وأمره، فإذا تحقق المريد بهذا المقامات في الزهد أو جلها كان عمله كله عظيمًا كبيرًا في المعنى عند الله، وإن كان قليلًا في الحس عند الناس"
(1)
.
ولا ريب أنَّ الزهد مقام شريف يحرص عليه المؤمن، لكن وفق الكتاب والسُّنَّة وما عليه سلف الأُمَّة، فمن رغب عن شيءٍ نافع مشروع لا يُسمَّى زاهدًا، بل هو جهلٌ وضلال.
وكُلَّما ابتعد الزاهد عن المفهوم الشرعي للزهد ظهرت البدع والخرافات.
قال ابن الجوزي رحمه الله: "دخل المتزهدون في طرق لم يسلكها الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا أصحابه رضي الله عنهم من إظهار التخشُّع الزائد في الحد والتنوق
(2)
في تخشين الملبس
…
"
(3)
.
وقال أيضًا: "قد يسمع العامي ذم الدنيا في القرآن المجيد والأحاديث فيرى أنَّ النَّجاة تركها ولا يدري ما الدنيا المذمومة فيلبِّس عليه إبليس بأنك لا تنجو في الآخرة إلا بترك الدنيا، فيخرج على وجهه إلى الجبال، فيبعد عن الجمعة والجماعة والعلم ويصير كالوحش، ويُخيَّل إليه أنَّ هذا هو الزهد الحقيقي"
(4)
.
(1)
إيقاظ الهمم، ص 114.
(2)
التنوق: المبالغة في التجويد، يقال: تنوق في منطقه، وتنوق في ملبسه. ينظر: العين 5/ 220، المحكم والمحيط الأعظم 6/ 511.
(3)
صيد الخاطر، ص 112.
(4)
تلبيس إبليس، ص 185.
وديننا أمرنا بالاعتدال في كلِّ شؤوننا، فلا يكلف الإنسان نفسه بما لا يستطيع، قال تعالى:{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}
(1)
.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «دعوني ما تركتكم، إنما هلك من كان قبلكم بسؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيءٍ فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمرٍ فأتوا منه ما استطعتم»
(2)
.
وعن عائشة رضي الله عنها أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها وعندها امرأة فقال: من هذه؟ قالت: فلانة تذكر من صلاتها قال: «مه عليكم بما تطيقون، فوالله لا يملّ الله حتى تملوا، وكان أحب الدين إليه ما دام عليه صاحبه»
(3)
.
ولا شكَّ أنَّ ابن عجيبة جانب الصواب بمحاربة النفس وقهرها، وترك الدنيا بالكُليَّة والتجرُّد من المال.
يقول ابن قدامة المقدسي رحمه الله: "والزهد عبارة عن انصراف الرغبة عن الشَّيء إلى ما هو خير منه، وشرط المرغوب عنه أن يكون مرغوبًا فيه بوجه من الوجوه، فمن رغب عن شيءٍ ليس مرغوبًا فيه ولا مطلوبًا في نفسه لم يُسمَّ زاهدًا، كمن ترك التراب لا يُسمى زاهدًا.
وقد جرت العادة بتخصيص اسم الزاهد بمن ترك الدنيا، ومن زهد في كلِّ شيءٍ سوى الله تعالى، فهو الزاهد الكامل، ومن زهد في الدنيا مع رغبته في الجنَّة ونعيمها فهو أيضًا زاهد، ولكنه دون الأول، واعلم أنه ليس من الزهد ترك المال،
(1)
سورة التغابن: 15.
(2)
أخرجه البخاري، كتاب الاعتصام، باب الاقتداء بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم، 4/ 361، رقم 7288.
(3)
أخرجه البخاري، كتاب الإيمان، باب أحب الدين إلى الله أدومه، 1/ 30، رقم 43.
وبذله على سبيل السَّخاء والقوَّة، واستمالة القلوب، وإنما الزهد أن يترك الدنيا للعلم بحقارتها بالنسبة إلى نفاسة الآخرة"
(1)
.
ويبيِّن ابن القيم المعنى الحقيقي للزهد فيقول: "وليس المراد تخليها من اليد ولا إخراجها وقعوده صفرًا منها، وإنما المراد إخراجها من قلبه بالكُليَّة، فلا يلتفت إليها، ولا يدعها تساكن قلبه، وإن كانت في يده، فليس الزهد أن تترك الدنيا من يدك وهي في قلبك وإنما الزهد أن تتركها من قلبك وهى في يدك، وهذا كحال الخلفاء الراشدين وعمر بن عبد العزيز الذى يضرب بزهده المثل مع أنَّ خزائن الأموال تحت يده، بل كحال سيِّد ولد آدم صلى الله عليه وسلم حين فتح الله عليه من الدنيا ما فتح، ولا يزيده ذلك إلا زُهدًا فيها"
(2)
.
ج- الرجاء:
قال ابن عجيبة: "الرجاءُ: تمنِّي الشَّيء مع السَّعي في أسبابه، وإلا فهو أمنية"
(3)
.
ويرى أنَّ عدم الخوف من الذنب من مظاهر الاعتدال في باب المقامات، والطاعة والمعصية سواء.
وهذا؛ لأنه متأثِّرٌ ببدعة وحدة الوجود، فهو يصفهم بأهل الخصوص الواصلين؛ لأنه يرى أنَّ أفعال العباد ليست فعلًا لهم، وإنما هي لله تعالى، وهذه المسألة مرتبطة بعقيدته في الجبر كما مر معنا.
فقال: "وأمَّا الواصلون فلا يرون لأنفسهم فعلًا ولا تركًا، فهم ينظرون إلى
(1)
مختصر منهاج القاصدين، ص 355.
(2)
طريق الهجرتين 1/ 252.
(3)
إيقاظ الهمم، ص 66.
تصريف الحق، وما يجري به سابق القدر، فيتلقونه بالقبول والرضا، فإن كان طاعة شكروا وشهدوا منَّة الله، وإن كان معصية اعتذروا وتأدَّبوا، ولم يقفوا مع أنفسهم، إذ لاوجود لها عندهم، وإنما ينظرون إلى ما يبرز من عنصر القدرة"
(1)
.
ويقول أيضًا: "ومن جملة ذلك الخوف والرجاء بحيث إذا صدرت منهم طاعة لا يزيد رجاؤهم، وإذا وقعت منهم زلَّة لا يعظم خوفهم، ولا تنقص استقامتهم"
(2)
.
وهذا مصادمٌ للنصوص الشرعية التي أمرت بعبادة الله خوفًا، وطمعًا، ورجاءً.
والتوحيد والإيمان لا يتم إلا بالمحبة، والخوف، والرجاء؛ لذلك أثنى الله عز وجل على عباده؛ لأنهم يعبدونه بالخوف والرجاء، قال عز وجل:{أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا}
(3)
، وقال سبحانه:{تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}
(4)
والطمع هو الرجاء، ولما ذكر الله تعالى الأنبياء إبراهيم وإسحاق ويعقوب وداود وسليمان وأيوب وإسماعيل واليسع وهود، قال بعد ذلك:{إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ}
(5)
الرَّغبُ: الرجاء، والرَّهبُ: الخوف، فإذا فُقد الخوف والرجاء والمحبَّة لم يكن هناك إيمانٌ ولا توحيد
(6)
.
(1)
إيقاظ الهمم، ص 121 - 122.
(2)
المرجع نفسه، ص 279.
(3)
سورة الإسراء: 57.
(4)
سورة السجدة: 16.
(5)
سورة الأنبياء: 90.
(6)
شريط كاسيت مفرغ في المكتبة الشاملة لشرح الطحاوية للشيخ عبد العزيز الراججي. http://shamela.ws/index.php/page/download-shamela.
ويقول ابن القيم رحمه الله في الكافية الشافية:
وعبادةُ الرحمنِ غايةُ حُبِّهِ
…
مع ذُلِّ عابدِهِ هما قطبان
وعليهما فَلَكُ العبادةِ دائرٌ
…
ما دار حتى قامت القطبان
ومدارُهُ بالأمرِ أمر رسولِهِ
…
لا بالهوى والنَّفس والشيطان
فقيامُ دينِ اللهِ بالإخلاص والإ
…
حسان إنهما له أصلانِ
(1)
وبهذا يتضح مخالفة ابن عجيبة لأهل السُّنَّة والجماعة وموافقته للمرجئة بتغليبه جانب الرجاء، فمن فعل طاعة لا يَعْظُم رجاؤه، ومن فعل معصية لا يَعْظُم خوفه ولا تنقص استقامته.
والواصلون -حسب ما وصفهم- يسقط عنهم التدبير والاختيار، وأمَّا العوام فهم يبقون في هذه المقامات.
قال ابن تيمية رحمه الله: "وبعض من تكلَّم في علل المقامات، جعل الخوف والرجاء والحبَّ والرضا من مقامات العامة، بناءً على مشاهدة القدر، وأنَّ من شهد القدر فشهد توحيد الأفعال حتى فني من لم يكن، وبقي من لم يزل، يخرج عن هذه الأمور، وهذا كلام مستدرك حقيقةً وشرعًا، أمَّا الحقيقة فإنَّ الحيَّ لا يتصور أن لا يكون حساسًا محبًا لما يلائمه مبغضًا لما ينافره، ومن قال إنَّ الحيَّ يستوي عنده جميع المقدورات فهو أحد رجلين إمَّا أنه لا يتصور ما يقول بل هو جاهل، وإمَّا أنه مكابر معاند ولو قدر أنَّ الإنسان حصل له حال أزال عقله -سواء سمي اصطلامًا أو محوًا أو فناءً أو غشيًا أو ضعفًا- فهذا لم يسقط إحساس نفسه بالكلية بل له إحساس بما يلائمه وما ينافره وإن سقط إحساسه ببعض الأشياء فإنه لم يسقط بجميعها،
(1)
النونية، ص 35.
فمن زعم أنَّ المشاهد لتوحيد الربوبية يدخل إلى مقام الجمع والفناء فلا يشهد فرقًا فإنه غالط بل لا بدَّ من الفرق فإنه أمر ضروري، لكن إذا خرج عن الفرق الشرعي بقي في الفرق الطبعي فيبقى متبعًا لهواه لا مطيعًا لمولاه"
(1)
.
د- المحبة:
قال ابن عجيبة: "المحبة لها بداية، ووسط، ونهاية، فأول المحبة وبدايتها: ملازمة امتثال أمر الله عز وجل، واجتناب النهي، قال تعالى:{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}
(2)
، ووسطها: لهج اللسان بالذكر، وتعلُّق القلب بشهود المحبوب، ونهايتها: لا تُدرك بالعبارة، ولا تلحقها الإشارة، وفي هذا المعنى قيل:
فلم يبق إلا الله لا رب غيره
…
حبيبٌ لقلبٍ غاب عن كلِّ مقصد
فهذه المعاني لا تدركها العامة ولا الخاصة، وإنما يذوقها خاصة الخاصة"
(3)
.
وقال أيضًا: "المحبة الحقيقية والمعرفة الكامنة لا تكون على أيدي الوسائط، والأولياء وسائطهم خلفاء الأنبياء، وهم أهل العلم بالله الذوقي العياني
…
وتوسيط الأنبياء للعموم في مطلق المحبة، وتعليم ما يقرب إليها، وأمَّا المحبة الحقيقية فهي خاصة بالأولياء للأولياء"
(4)
.
وقول ابن عجيبة في المحبة امتثال أمر الله عز وجل واجتناب ما نهى عنه، هذا ما يعبر عنه الصوفية بالحب العام، "الحبُّ حبان: حبٌّ عام، وحبٌّ خاص، فالحبُّ
(1)
مجموع الفتاوى 10/ 242.
(2)
سورة آل عمران: 31.
(3)
إيقاظ الهمم، ص 359.
(4)
البحر المديد 3/ 556.
العام يفسر بامتثال الأمر، ومن شرط المحب أن يكون مطيعًا، وهذا الذي عناه بعض شيوخ الطريق حين وضع الحب في المقامات لا في الأحوال، فيكون الحبُّ هنا منظورًا إليه بعين الكسب بالأعمال، وهو أيضًا صحيح، ولكنه حبٌّ عامٌّ يدخل فيه كل أهل طاعة الله كسبًا بطاعتهم، والحب الخاص الذي هو من أعلى وأرقى المقامات الموهوبة -عند الصوفية- هو حب الذات للذات هبة من الله وفضلًا، وينشأ عن مطالعة الروح، وهو من نور الله إلى تجلي نور الله على الكائنات والعوالم، وهو من اصطفاء الله ومنَّته على عبده كما قلنا، وهذا الحبُّ ليس للكسب فيه دخل، ولذلك كان من أشرف الأحوال وأجلِّ المذاهب الإلهية"
(1)
.
بل يزعمون أنَّ المحبة الخاصة محبة وهبية، واصطفاء من الله عز وجل.
يقول الكلاباذي
(2)
في وصف هذه المحبة: "المحبة على وجهين: محبة الإقرار، وهي للخاص والعام، ومحبة الوجد من طريق الإصابة فلا يكون فيه رؤية النفس والخلق، ولا رؤية الأسباب والأحوال بل يكون مستغرقًا في رؤية ما لله وما منه"
(3)
.
وهذا القول خطير؛ فالصوفي ليس بحاجة -كما يزعمون- إلى صلاة ولا صيام ولا طاعة، بل ينتظر اصطفاء الله عز وجل له، عند ما تتجلَّى الأنوار إلى قلبه.
وإن تعجب فعجبٌ قولهم، فالله عز وجل ذكر في كتابه الاصطفاء، أي اصطفاء الملائكة، والرسل ومع ذلك أمرهم بطاعته.
قال تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ
(1)
جمهرة الأولياء 1/ 241.
(2)
أبو بكر، محمد بن أبي إسحاق بن إبراهيم بن يعقوب الكلاباذي البخاري، من أهل بخارى، ومن أهل الحديث والفقه والأصول، توفي سنة 380 هـ. ينظر: الفوائد البهية في تراجم الحنفية، ص 209.
(3)
التعرف لمذهب التصوف، ص 110.
بَصِيرٌ}
(1)
، ومع ذلك طالبهم بطاعته، قال تعالى:{يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ}
(2)
.
وقول الصوفية بأن المحبة تنال هبة بدون عمل وطاعة، مصادمٌ لنصوص الشرع التي جعلت الطاعات سببًا لمحبة الله عز وجل للعبد.
قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي: «وما تقرَّب إليَّ عبدي بشيءٍ أحبَّ إليَّ مما افترضتُه عليه، ولا يزال عبدي يتقرَّب إليَّ بالنوافل حتى أُحبَّه»
(3)
.
والغاية التي يسعى لها ابن عجيبة من لهج اللسان بالذكر هي الوصول إلى وحدة الوجود، ويتضح ذلك من قوله في دوام ذكر الاسم المفرد:"فكُلَّما فني فيه ذابت بشريته، وقويت روحانيته، حتى تستولي على بشريته فحينئذ يكون الحكم لها"
(4)
، وهذا هو الذي صرَّح به بقوله:"شراب المحبة هو خمرة الفناء، والغيبة في الله"
(5)
.
وأما التقسيمات التي ذكرها في المحبة، فباطلة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وهذه الأعمال الباطنة كمحبة الله والإخلاص له والتوكل عليه والرضا عنه ونحو ذلك كلها مأمور بها في حق الخاصة والعامة لا يكون تركها محمودًا في حال أحد وإن ارتقى مقامه
…
وهي حسنة محبوبة في حق كل أحد من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، ومن قال إنَّ هذه المقامات تكون للعامة دون الخاصة فقد غلط في ذلك إن أراد خروج الخاصة عنها فإنَّ هذه لا يخرج عنها مؤمن قط وإنما
(1)
سورة الحج: 75.
(2)
سورة الأنبياء: 51.
(3)
أخرجه البخاري، كتاب الرقاق، باب التواضع، 4/ 192، رقم 6502.
(4)
إيقاظ الهمم، ص 251.
(5)
البحر المديد 4/ 142.
يخرج عنها كافر أو منافق"
(1)
.
وقال أيضًا: "وكثيرٌ من السَّالكين سلكوا في دعوى حب الله أنواعًا من أمور الجهل بالدين، إمَّا من تعدي حدود الله عز وجل، وإمَّا من تضييع حقوق الله، وإمَّا من ادعاء الدعاوى الباطلة التي لا حقيقة لها"
(2)
.
وقد بيَّن ابن القيم رحمه الله مسألة عظيمة لمدعي المحبة فقال:
"ههنا مسألة يغلط فيها كثيرٌ من المدِّعين للمحبة، وهي أنَّ موافقة المحبوب في مراده ليس المعنى بها مراده الخلقي الكوني، فإنَّ كل الكون مراده، وكل ما يفعله الخلائق فهو موجب مشيئته وإرادته الكونية، فلو كانت موافقته في هذا المراد هي محبته لم يكن له عدوًّا أصلًا، وكانت الشياطين والكُفَّار والمشركون عُبَّاد الأوثان والشمس والقمر أولياءه وأحبابه، تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا"
(3)
.
(1)
مجموع الفتاوى 10/ 16 - 17.
(2)
المرجع نفسه 10/ 209.
(3)
طريق الهجرتين، ص 452.