الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القدري وهذا يعني أنه إذا كان للمسلمين النصر والفتح فللمسألة وجهة أخرى غير الصفح والعفو، إذ في تلك الحالة يحال هؤلاء إذا كانوا من مواطني الدولة المسلمة إلى القضاء الإسلامي، أما إذا لم يكن للمسلمين السلطان والدولة فإن الصفح والعفو يسعانهم في معاملتهم لأهل الكتاب، على أنه في هذه الحالة يكون العفو والصفح مباحين للمسلمين، ويجوز لهما غير ذلك كالقتال أخذا من وجهة النظر الأخرى.
فخلال السير للوصول إلى أن تكون كلمة الله هي العليا يخير المسلمون بين عدة مواقف على حسب ما تقتضيه عملية السير، والآية تشعرنا بأن الموقف الأصلح في التعامل مع أهل الكتاب هو العفو والصفح حتى يتم النصر، ولكن هذا كله يكون إذا لم يكن الصراع مباشرا مع أهل الكتاب. ومن سبب النزول ندرك أن هذه الآية صورتها فيما إذا كان أهل الكتاب على الأرض الإسلامية نفسها، ولعل الصفح والعفو هو الموقف المناسب لمسلم يعيش بين أهل الكتاب على الأرض الكافرة.
إنني أرى أنه ما دام أهل الكتاب على الأرض الإسلامية مواقفهم منا في حدود الرغبات والأقوال، أن نعاملهم بالصفح والعفو، وأن يكون هذا جزءا من خطتنا ونحن نسعى لاسترداد السلطان السياسي للمسلمين. أما إذا تجاوزت مواقفهم ذلك بأن حملوا السلاح وقرروا أن يستعملوه ضدنا، أو أنهم بدءوا يستعملونه ضدنا، فالأمر وقتذاك يختلف .. أما الموقف من دولة اليهود فسنراه إذا جاءت مناسبته في هذه السلسة.
كلمة في السياق:
قلنا عن سياق الآيتين بأنهما بمثابة البيان والتعليل للنهي الذي جاء من قبل عن متابعة أهل الكتاب، وبعد هاتين الآيتين يذكر الله عز وجل مجموعة من الأقوال والمواقف لأهل الكتاب، فمثلا يأتي بعد هاتين الآيتين قوله تعالى وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى والمفسرون يقولون بأن الواو من (وقالوا) حرف عطف يعطف (قالوا) في هذه الآية على قوله تعالى (ود) من الآية وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً.
وإذن فسيعرض الله عز وجل علينا مجموعة من الأقوال والمواقف هي بمثابة البيان والتعليل للنهي عن متابعة أهل الكتاب فضلا عن غيرهم. وإذا تذكرنا أننا في نهاية الفصل الذي بدئ بقوله تعالى أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ .. فإن هذه المواقف والأقوال تكمل الصورة الداعية إلى ترك الطمع بإيمان أهل الكتاب مع دعوتهم وإقامة الحجة عليهم. وإذا تذكرنا أن هذه الفقرة هي نهاية المقطع الذي بدأ بدعوة بني إسرائيل للدخول في الإسلام فإن ذلك كذلك يفسر لنا عرض مجموعة من أقوالهم وأفعالهم ومناقشتهم فيها وتعليمنا الرد عليها أو الموقف الحكيم منها لأننا دعاة وهم مدعوون فلا بد أن نعرف كيف نناقشهم. إن عرض هذه الأقوال والمواقف في هذه الفقرة وفي نهاية الفصل الثاني وفي نهاية المقطع كله مرتبط بما سبقه جميعا فهو يخدم قوله تعالى:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا
…
ويخدم قوله تعالى:
أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ
…
ويخدم قوله تعالى:
يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ* وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ.
وسنرى عند استعراض كل موقف وقول محله في السياق وخدمته لما سبق.
1 -
وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ* بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ.
يبين تعالى اغترار اليهود والنصارى بما هم فيه حيث ادعت كل طائفة من اليهود والنصارى أنه لن يدخل الجنة إلا من كان على ملتها، كما أخبر الله عنهم في سورة
المائدة أنهم قالوا نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ فكذبهم الله تعالى بما أخبرهم أنه معذبهم بذنوبهم، ولو كانوا كما ادعوا لما كان الأمر كذلك، إن دخول الجنة متعلق بالإخلاص لله والاتباع لرسوله صلى الله عليه وسلم فمن كان كذلك نال رضوان الله.
وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى أي وقالت اليهود لن يدخل الجنة إلا من كان هودا، وقالت النصارى لن يدخل الجنة إلا من كان نصرانيا، فلف بين القولين ثقة بأن السامع يرد إلى كل فريق قوله وأمنا من الإلباس لما علم من التعادي بين الفريقين وتضليل كل واحد منهما صاحبه وبين ذلك في آية لاحقة وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ التي تمنوها على الله بغير حق. أشير بالآية هنا إلى الأماني المذكورة في الآية وفي الفقرة وهي أمنيتهم ألا ينزل على المؤمنين خير من ربهم، وأمنيتهم أن يردوهم كفارا، وأمنيتهم ألا يدخل الجنة غيرهم، أي تلك الأماني الباطلة أمانيهم، والأمنية على وزن أفعولة من التمني مثل الأضحوكة، قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ أي هلموا حجتكم وبينتكم على اختصاصكم بدخول الجنة. وهات: بمنزلة هاء بمعنى أحضر إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في دعواكم أنكم أهل الجنة.
بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ في قوله بَلى إثبات لما نفوه من دخول غيرهم الجنة ومعنى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ أي من أخلص نفسه لله لا يشرك به غيره. ومعنى وَهُوَ مُحْسِنٌ أي مصدق بالقرآن ومتبع لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال ابن كثير: «فإن للعمل المتقبل شرطين أحدهما أن يكون خالصا لله وحده، والآخر أن يكون صوابا موافقا للشريعة، فمتى كان خالصا ولم يكن صوابا لم يتقبل، وأما إن كان العمل موافقا للشريعة في الصورة الظاهرة ولكن لم يخلص عامله القصد لله فهو أيضا مردود على فاعله، وهذا حال المرائين والمنافقين» فلا بد من أن يسلم المؤمن لله وجهه قال صاحب الظلال: والوجه رمز على الكل ولفظ (أسلم) يعني الاستسلام والتسليم الاستسلام المعنوي والتسليم العملي، ومع هذا فلا بد من الدليل الظاهر على هذا الاستسلام وَهُوَ مُحْسِنٌ فسمة الإسلام هي الوحدة بين الشعور والسلوك، بين العقيدة والعمل بين الإيمان القلبي والإحسان العملي، بذلك تستحيل العقيدة منهجا للحياة كلها، وبذلك تتوحد الشخصية الإنسانية بكل نشاطها واتجاهاتها، وبذلك يستحق المؤمن هذا العطاء كله:
فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ
ضمن لهم تعالى على ذلك تحصيل الأجور، وأمنهم مما يخافونه من المحذور، فلا خوف عليهم فيما يستقبلونه، ولا هم يحزنون على ما مضى مما يتركونه، قال سعيد بن جبير:
«فلا خوف عليهم يعني في الآخرة، ولا هم يحزنون يعني لا يحزنون للموت» ، وهكذا رأينا