الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المعنى العام للمجموعة الأولى في فقرة الربا:
لما ذكر الله تعالى، الأبرار المؤدين النفقات، المخرجين الزكوات، المتفضلين بالبر، والصدقات لذوي الحاجات، والقرابات، في جميع الأحوال، والأوقات، شرع في ذكر أكلة الربا، وأموال الناس بالباطل. وأنواع الشبهات. فأخبر في الآية الأولى من هذه الفقرة كيف أن أكلة الربا لا يقومون من قبورهم يوم القيامة إلى بعثهم، ونشورهم، إلا كما يقوم المصروع حال صرعه، وتخبط الشيطان له. ذلك التخبط المعرف، المنكر. وإنما جوزوا بذلك لاعتراضهم على أحكام الله في شرعه. إذ اعترضوا على الله في تحريمه الربا، من أنه- في زعمهم- شبيه بالبيع. وهذا اعتراض منهم على شرع الله مع علمهم بتفريق الله بين هذا، وهذا. إذ هذا محرم، أفظع تحريم. وهذا مباح. والله هو العليم الحكيم الذي لا معقب لحكمه، ولا يسأل عما يفعل، وهم يسألون. وهو العالم بحقائق الأمور، ومصالحها. وما ينفع عباده فيبيحه لهم.
وما يضرهم فينهاهم عنه. وهو أرحم بهم من الوالدة بطفلها. ثم بين الله عز وجل أنه من بلغه نهي الله عن الربا، فانتهى، فله ما كان أكل من الربا قبل التحريم. أي: قبل نزول هذا النص. ومن فعل الربا بعد بلوغه نهي الله عنه، فقد استوجب العقوبة، وقامت عليه الحجة، واستحق الخلود في النار.
وفي الآية الثانية من هذا المقطع يخبر تعالى أنه يمحق الربا. أي: يذهبه، إما بأن يذهبه بالكلية من يد صاحبه، أو يحرمه بركة ماله. فلا ينتفع به. بل يعدمه في الدنيا، ويعاقبه عليه يوم القيامة. بينما هو جل جلاله، يبارك وينمي، ويكثر الصدقات، بأن يضاعف لأصحابها أجورهم. وإنما ذكر بركة الصدقة يوم القيامة، ولم يذكر تنمية الأموال المزكاة في الدنيا- مع أنه كائن- تبيانا لقصد أصحابها، وإشعارا بأن الدنيا هينة، وأن الآخرة هي الهدف. ثم ختم الله عز وجل هذه الآية بتبيان أنه لا يحب كل كفور القلب، أثيم القول والفعل. والمناسبة بين بداية الآية وخاتمتها، هي: أن المرابي لا يرضى بما قسم الله له من الحلال، ولا يكتفي بما شرع له من الكسب المباح، فهو يسعى في أكل أموال الناس بالباطل بأنواع المكاسب الخبيثة. فهو جحود لما عليه من النعمة، ظلوم آثم بأكل أموال الناس بالباطل.
ثم جاءت الآية الثالثة التي أثنى بها الله على المؤمنين بربهم، المطيعين أمره، المؤدين شكره، المحسنين إلى خلقه، المقيمين الصلاة، والمؤدين الزكاة، ثم أخبر عما أعدلهم من الكرامة. وأنهم يوم القيامة من التبعات آمنون.
وقد ختمت الآية الثالثة بقوله تعالى: فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ كما ختمت الفقرة السابقة، إشارة إلى أن هذه الفقرة امتداد لما قبلها.
فالمقطع واحد.
وقبل أن نتحدث عن المعنى الحرفي للآيات، نحب أن نعرف الربا، وحكمة تحريمه.
الربا هو فضل مال، خال عن العوض في معاوضة مال بمال، وأنواعه كثيرة. روى الحاكم عن ابن مسعود رسول الله صلى الله عليه وسلم:«الربا ثلاثة وسبعون بابا أيسرها أن ينكح الرجل أمه. وإن أربى الربا عرض الرجل المسلم» . قال الحاكم صحيح على شرط الشيخين. وروى ابن ماجه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الربا سبعون جزءا. أيسرها أن ينكح الرجل أمه» .
ولا شك أنه يدخل في هذه الأنواع الكثيرة، أنواع من الربا معنوية. كالاستطالة في عرض المسلم.
قال ابن كثير: وباب الربا من أشكل الأبواب على كثير من أهل العلم. وقد قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب: (ثلاث، وددت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلينا فيهن عهدا، ننتهي إليه: الجد، والكلالة، وأبواب من الربا) يفهم من هذا أن هناك أبوابا من الربا تحتاج إلى فقه أهل الاجتهاد حتى تعرف على ضوء نصوص الكتاب والسنة. ولا ننسى أن ما أدى إلى الحرام، فهو محرم.
وكما حرم الله الربا، حرم المسالك المفضية إليه، والوسائل الموصلة إليه. وتتفاوت أنظار المجتهدين بحسب ما وهب الله لكل منهم من العلم. فأدخل بعضهم في أبواب الربا، ما لم يدخله غيره. والذي يدل على أن الوسائل التي تفضي إلى الربا محرمة، ما رواه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه، والإمام أحمد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«يأتي على الناس زمان يأكلون فيه الربا» . قال: قيل له الناس كلهم؟. قال: «من لم يأكله منهم ناله من
غباره». ومن أبواب الربا: ربا الفضل. ومن أبوابه ربا النساء. ومن أبوابه بيع العينة.
ومن أبوابه ما كان ظاهره بيعا، وحقيقته ربا. فالعبرة في العقود للمعاني لا للألفاظ والمباني. ومن أبوابه المخابرة. وهي المزارعة ببعض ما يخرج من الأرض. والمزابنة. وهي:
اشتراء الرطب في رءوس النخل، بالتمر على وجه الأرض. والمحاقلة وهي: اشتراء الحب في سنبله في الحقل، بالحب على وجه الأرض.
وأدخل الحنفية في الربا، كل ما كان من أنواع البيوع الفاسدة.
وأما البيع، فإنه معاوضة مال بمال. وله أنواع كثيرة. والفارق بينه، وبين الربا، واضح. فالربا أعلى مظاهر الاستغلال والجشع. والبيع ضرورة، لا بد منها للحياة الاقتصادية ولنضرب مثالين، لنرى نتائج الربا الخبيثة. والحكمة في تحريمه.
المثال الأول: يستقرض المزارع بالربا، ليشتري بذرا، يبذره في أرضه البعل وقد يأتي ذلك العام، عام جدب. فيخسر البذر، ويخسر ثمنه، ويجب عليه وفاء الدين
والربا.
ولما كان لا يستطيع أن يدفع شيئا، فإن عليه أن يؤجل الدين مع ربا العام القادم. وعليه أن يستقرض للبذار من جديد، بربا كذلك. فإذا ما جاء عام جدب آخر تضاعف عليه، ربا السنة الأولى ثلاث مرات. وربا السنة الثانية مرتين، وعليه أن يستقرض بربا من أجل أن يبذر للسنة الثالثة. ويستغل المرابون احتياجه، فيرفعون سعر الربا فإلى أي حد- لو جاء موسم جيد- يستطيع أن يفي بما استقرض، وبرباه، وبنفقات عياله. إن ثمرات جهده، خلال السنين تذهب إلى صندوق المرابي دون مقابل من جهد شخصي، ودون أن يتحمل رأس المال في مقابل ربحه، أي شيء من الخسارة.
والمثال الثاني: نفرض أن مرابيا واحدا كان موجودا ببلد، واحتاج الناس أن يستقرضوا من هذا المرابي بالربا. ولنفرض أنه يملك عشرين مليونا. وأقرض بالربا بأرخص الأسعار.
وليكن بخمسة بالمائة. فإذا ما أقرض العشرين مليونا، فإن العشرين تصبح خلال سنة واحدا وعشرين مليونا، وفي سنة ثانية، وثالثة .. وكل ذلك وهو جالس. ورأس المال مضمون الربح. ولا يتحمل أي خسارة. والجميع يجهدون. فإذا استمر الأمر. فلا بد أن يأتي يوم، تصبح فيه كل رءوس الأموال في البلد في صندوق المرابي، والجميع مدينون له.