الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مقدمة الأساس فى التفسير
رأينا في مقدمة هذه السلسلة (الأساس في المنهج) مجموعة من الأمور لها صلة بالسلسلة كلها. ولا شك أن قسما مما ذكرنا هناك هو بمثابة مقدمة لهذا التفسير، غير أنا رأينا أن نقدم مقدمة خاصة لهذا التفسير ولو تكررت بعض المعاني لإبراز بعض خصائصه، ليدرك القارئ أن هذا التفسير- وإن كان في بعض جوانبه- لا يحوي جديدا إلا أنه في جوانب أخرى كان جديدا، وما ذلك إلا من فضل الله عز وجل.
إن الخاصية الأولى لهذا التفسير وقد تكون ميزته الرئيسية أنه قدم لأول مرة- فيما أعلم- نظرية جديدة في موضوع الوحدة القرآنية، وهو موضوع حاوله كثيرون وألفوا فيه الكتب ووصلوا فيه إلى أشياء كثيرة، ولكن أكثر ما اشتغلوا فيه، كان يدور إما حول مناسبة الآية في السورة الواحدة، أو مناسبة آخر السورة السابقة لبداية السورة اللاحقة، ولم يزيدوا على ذلك- فيما أعلم- هذا مع ملاحظة أن الموضوع الأول نادرا من استوعبه والتزم به في تفسير كامل للقرآن، وإذا التزم به فلم يكن ذلك على ضوء نظرية شاملة تحتوي مفاتيح الوحدة القرآنية.
ولقد من الله علي منذ الصغر أنني كنت كثير التفكير في أسرار الصلة بين الآيات والسور ووقع في قلبي منذ الصغر مفتاح للصلة بين سورة البقرة والسور السبع التي جاءت بعدها وهي بمجموعها تشكل القسم الأول من أقسام القرآن كما سنرى ذلك في حديث حسن.
فقد لاحظت مثلا أن الآيات الأولى في سورة البقرة مبدوءة بقوله تعالى: الم ومنتهية بقوله تعالي: وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وأن سورة آل عمران مبدوءة ب:
الم ومنتهية بقوله تعالى: لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ فقلت في نفسي هل سورة آل عمران تفصيل للآيات الأولى من سورة البقرة؟
ثم لاحظت أنه بعد مقدمة سورة البقرة يأتي قوله تعالى:
يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ وأن سورة النساء الآتية بعد سورة آل عمران مبدوءة بقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ ....
فتساءلت عما إذا كانت سورة النساء تفصيلا لآيات تقابلها من سورة البقرة. ثم لاحظت أنه بعد آيات من سورة البقرة يأتي قوله تعالى:
وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ
…
وأن سورة المائدة الآتية بعد سورة النساء مبدوءة بقوله تعالى:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ.
فتساءلت عما إذا كانت سورة المائدة تفصيلا لشئ يقابلها في سورة البقرة.
ثم لاحظت أنه بعد ذلك في سورة البقرة يأتي قوله تعالى:
هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً.
وأن سورة الأنعام تفصل هذا المعني ولذلك تتكرر فيها الآيات المبدوءة بقوله تعالى:
وَهُوَ. بل آخر آية فيها هي قوله تعالى:
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ
…
وصلة ذلك بآية البقرة واضحة فتساءلت عما إذا كانت سورة الأنعام تفصيلا لآية أو لأكثر تقابلها في سورة البقرة؟
ثم لاحظت أنه بعد ذلك في سورة البقرة، تأتي قصة آدم وهي منتهية بقوله تعالى:
فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ....
وأن الآية الثانية في سورة الأعراف هي قوله تعالى: اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ. وأن قصة آدم معروضة فيها منذ بدايتها، فهل لسورة الأعراف صلة بآيات تقابلها في سورة البقرة؟
ثم بعد ذلك بآيات كثير في سورة البقرة، تأتي الآية التي يفرض بها القتال كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ
…
وبعدها مباشرة آية فيها سؤال عن قضية لها صلة بالقتال يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ .... وأن سورة الأنفال وبراءة- وهما في موضوع واحد: وهو القتال- قد بدئتا بقوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ فكأنهما تفصيل لقضايا متعلقة بالقتال.
وهكذا وجدنا أن السور السبع التي جاءت بعد البقرة، وهي التي تشكل مع سورة البقرة القسم الأول من أقسام القرآن كما سنرى، هذه السور التي جاءت بعد سورة البقرة مباشرة أتت على تسلسل معين هو نفس التسلسل الذي جاءت به
المعاني في سورة البقرة، وأن لكل سورة منها محورا موجودا في سورة البقرة
هذه الملاحظة وقعت في قلبي منذ الصغر وسجلتها في كتاب (الرسول) صلى الله عليه وسلم في فصل المعجزة القرآنية، ورأيتني بعد استعراضات كثيرة لكتاب الله قد عثرت فعلا على مفتاح من مفاتيح الوحدة القرآنية، وتفتحت لدي من آفاق الفهم معان كثيرة بخصوص السياق العام للقرآن والسياق الخاص داخل السورة الواحدة. وكلما سرت في عرض القرآن الكريم تبين لي من الأدلة على سلامة سيري الكثير الكثير. وليست هذه المقدمة هي محل عرض هذا الاتجاه في موضوع فهم الوحدة القرآنية، ولكنها نموذج على عملي في التفسير أكملت فيه بناء أو حققت فيه أملا، فلقد دندن علماؤنا حول هذا الموضوع ولم يستوعبوه، واستوعبته بفضل الله، وأشاروا إليه ولم يفصلوا فيه، ولقد فصلت فيه تفصيلا استوعب الآيات في السورة الواحدة والسور في القرآن كله على ضوء نظرية شاملة أثبت البحث صحتها، وهي تعطي الجواب على كثير من الأمور مما له صلة بوحدة السورة، ووحدة المجموعة القرآنية، ووحدة القسم القرآني، ثم في الوحدة القرآنية كلها. وبدون هذه النظرية فإن كثيرا من الصلات التي تحدث عنها المتحدثون، إنما تتحقق بنوع من الاستكراه. ولئن توسعت في هذا الشأن بما لم يتوسع به أحد، فلأنه كما ذكرت احتياج عصر وضرورته، أما الماضون فلم يكونوا يستشعرون ضرورته، فاكتفوا بالتلميح إليه مع اعتقادهم أنه موجود. قال الإمام فخر الدين الرازي في تفسيره لسورة البقرة ما نصه:
«ومن تأمل في لطائف نظم هذه السورة وفي بدائع ترتيبها علم أن القرآن كما أنه معجز بحسب فصاحة ألفاظه وشرف معانيه، فهو أيضا بسبب ترتيبه ونظم آياته. ولعل الذين قالوا: إنه معجز بسبب أسلوبه أرادوا ذلك، إلا أني رأيت جمهور المفسرين معرضين عن هذه اللطائف غير منتبهين لهذه الأسرار. وليس الأمر في هذا الباب إلا
كما قيل:
والنجم تستصغر الأبصار رؤيته
…
والذنب للطرف لا للنجم في الصغر»
ا. هـ وقال الشيخ ولي الدين الملوي: «وقد وهم من قال: لا يطلب للآي الكريمة مناسبة لأنها على حسب الوقائع المفرقة، وفصل الخطاب: أنها على حسب الوقائع تنزيلا، وعلى حسب الحكمة ترتيبا وتأصيلا، فالمصحف على وفق ما في اللوح المحفوظ مرتبة سوره كلها وآياته بالتوقيف، كما أنزل جملة إلى بيت العزة، ومن المعجز البين أسلوبه ونظمه الباهر، والذي ينبغي في كل آية أن يبحث أول كل شئ عن كونها مكملة لما
قبلها أو مستقلة، ثم المستقلة ما وجه مناسبتها لما قبلها؟ ففي ذلك علم جم وهكذا في السور يطلب وجه اتصالها بما قبلها وما سيقت له .. اه.»
هذان النقلان نقلهما صاحب (مناهل العرفان) في الصفحة 73 - 74 من كتابه في طبعته الثانية
من هذين النقلين ندرك أن علماءنا قد دندنوا حول ضرورة البحث عن الصلة والمناسبة بين الآيات في السورة الواحدة. بل كان البقاعي الذي يطبع تفسيره الآن ولم أطلع عليه، يلوم علماء بغداد لإهمالهم الكلام في هذا الشأن. وكما دندنوا حول المناسبة بين الآيات في السورة الواحدة، بحثوا عن الصلة والمناسبة بين سور القرآن عامة. وهذه قضايا بمجموعها نادرا ما تجد تفسيرا قد خلا عن طرف منها، ونادرا ما تجد مفسرا إلا وقد عرج عليها ما بين مكثر ومقل. ويبدو أن بعض الصحابة قد عرج عليها فقد ذكر ابن كثير:«قال الأعمش عن أبي وائل: استخلف علي عبد الله بن عباس على الموسم فخطب الناس فقرأ في خطبته سورة البقرة وفي رواية سورة النور، ففسرها تفسيرا لو سمعته الروم والترك والديلم لأسلموا» ، ترى ما هو هذا التفسير الذي فسره ابن عباس حتى لو سمعه هؤلاء لأسلموا إلا أن يكون من جملته ذكر معان دقيقة زائدة على ما يفهم الرجل العادي من مجرد النظرة البادهة لسورة البقرة، ولا شك أن هذا احتمال ولكنه احتمال له حظه من النظر.
ولكن لئن عرج بعض المفسرين على هذا الموضوع، فإن أحدا منهم لم يستوعب القرآن كله بذكر الربط والمناسبة بين الآيات في السورة الواحدة وبين سور القرآن بعضها مع بعض على ضوء نظرية شاملة، وقد بذل حتى الآن الجهد الأكبر في الربط بين الآيات في السورة الواحدة، ولكن النقطة الثانية لم يبذل فيها جهد إلا ضمن حدود ضيقة وكلا الجهدين فاتته إلى حد كبير بعض أسرار الوحدة الشاملة. ولقد حاولت في هذا التفسير أن أسد هذه الثغرة مع اعتقادي أن أسرار الوحدة القرآنية لا يحاط بها، ولكن وإذ أصبح الكلام عن هذا الموضوع مطلبا خاصا وعاما حتى جعلها بعض المستشرقين مدخلا يلج من خلاله إلى تشكيك المسلمين أو اتهام القرآن أو اتهام علماء المسلمين بالقصور، إذ أصبح الأمر كذلك فقد أصبحت على يقين من أن هذا الموضوع لا بد من تغطيته، وسيرى قارئ هذا التفسير أنني بفضل الله غطيت هذا الموضوع تغطية تامة، وسيرى قارئ هذا التفسير صحة سيرنا في هذه التغطية كلما قرأ صفحة جديدة من صفحات هذا التفسير.
هذه التغطية لهذا الموضوع كما أنها تلبي مطلبا من مطالب عصرنا، فإنها تروي ظمأ طلاب المعرفة والباحثين عن دقائق أسرار هذا القرآن، كما أنها تضع لبنة في صرح الحديث عن إعجاز القرآن ومعجزاته، كما أنها تجيب على تساؤلات كثيرة من جملتها موضوع فواتح السور، سواء منها المصدرة بالأحرف الهجائية أو المصدرة بما سوى ذلك، ومن خلالها يزداد ترجيح بعض الجوانب التي وقع فيها خلاف كقضية: إن ترتيب سور القرآن توقيفي وليس اجتهاديا. فمع أن جماهير الأمة ذهبت إلى هذا، فإن هذا التفسير سيبرهن على هذا الموضوع بشكل عملي، كما أنه بإبرازنا الوحدة القرآنية، بإبراز الصلة بين سور القرآن والصلة بين الآيات في السورة الواحدة، سنأخذ الجواب على السؤال: لماذا لم تكن المعاني ذات المضمون الواحد موجودة بجانب بعضها؟
وسنجد لذلك حكما كثيرة، وسيرى القارئ لهذا التفسير أن هذا الترتيب ما بين سور القرآن على هذه الشاكلة التي رتبها الله عز وجل في كتابه، شئ به وحده تقوم الحجة على كل من يتصور أن هذا القرآن يمكن أن يكون بشري المصدر. وذلك من جانب ترتيبه فقط، فكيف بما سوى ذلك من عشرات الظواهر التي فى كل واحدة منها الدليل من خلال عشرات الأمثلة، على أن هذا القرآن يستحيل أن يكون بشري المصدر. ثم إنه بعملنا هذا نكون قد زدنا بعض حجج الكاتبين عن القرآن وضوحا. فمثلا ذكر صاحب (مناهل العرفان) في باب حكم نزول القرآن منجما هذه الحكمة التي هي الحكمة الرابعة في عرضه فقال:
وبيان ذلك أن القرآن الكريم تقرؤه من أوله إلى آخره فإذا هو محكم السرد، دقيق السبك، متين الأسلوب قوي الاتصال آخذ بعضه برقاب بعض في سوره وآياته وجمله، يجري دم الإعجاز فيه كله من ألفه إلى يائه كأنه سبيكة واحدة، وعقد فريد يأخذ بالأبصار، نظمت حروفه وكلماته ونسقت جمله وآياته وجاء آخره مساوقا لأوله وبدا أوله مواتيا لآخره. وهنا نتساءل: كيف اتسق للقرآن هذا التأليف المعجز؟
وكيف استقام هذا التناسق المدهش على حين أنه لم يتنزل جملة واحدة، بل تنزل آحادا مفرقة تفرق الوقائع والحوادث في أكثر من عشرين عاما؟
الجواب: أننا نلمح هنا سرا جديدا من أسرار الإعجاز .. ونقرأ دليلا ساطعا على مصدر القرآن وأنه كلام الواحد الديان وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ
اخْتِلافاً كَثِيراً .. وإلا فحدثني بربك كيف تستطيع أنت أم كيف يستطيع الخلق جميعا أن يأتوا بكتاب محكم الاتصال والترابط، متين النسج والسرد، متآلف البدايات والنهايات، مع خضوعه في التأليف لعوامل خارجة عن مقدور البشر، وهي وقائع الزمن وأحداثه، التي يجئ كل جزء من أجزاء هذا الكتاب تبعا لها ومتحدثا عنها سببا بعد سبب، وداعية إثر داعية، مع اختلاف ما بين هذه الدواعي، وتغاير ما بين تلك الأسباب، ومع تراخي زمان هذا التأليف وتطاول آماد هذه النجوم إلى أكثر من
عشرين عاما!!!.
لا ريب أن هذا الانفصال الزماني وذاك الاختلاف الملحوظ بين هاتيك الدواعي، يستلزمان في مجرى العادة التفكك والانحلال، ولا يدعان مجالا للارتباط والاتصال بين نجوم هذا الكلام. أما القرآن الكريم فقد خرق العادة في هذه الناحية أيضا: نزل مفرقا منجما، ولكنه تم مترابطا محكما، وتفرقت نجومه تفرق الأسباب، ولكن اجتمع نظمه اجتماع شمل الأحباب، ولم يتكامل نزوله إلا بعد أكثر من عشرين عاما ولكن تكامل انسجامه بداية وختاما.
أليس ذلك برهانا ساطعا على أنه كلام خالق القوى والقدر، ومالك الأسباب والمسببات ومدبر الخلق والكائنات، وقيوم الأرض والسموات، العليم بما كان وما سيكون الخبير بالزمان وما يحدث فيه من شئون.
لاحظ فوق ما أسلفنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا نزلت عليه آية أو آيات قال:
(ضعوها في مكان كذا من سورة كذا) وهو بشر لا يدري- طبعا- ما ستجئ به الأيام ولا يعلم ما سيكون في مستقبل الزمان، ولا يدرك ما سيحدث من الدواعي والأحداث، فضلا عما سينزل من الله فيها. وهكذا يمضي العمر الطويل والرسول صلى الله عليه وسلم على هذا العهد، يأتيه الوحي بالقرآن نجما بعد نجم، وإذا القرآن كله بعد هذا العمر الطويل يكمل ويتم وينتظم ويتآخى ويأتلف ويلتئم، ولا يؤخذ عليه أدنى تخاذل ولا تفاوت بل يعجز الخلق طرا بما فيه من انسجام ووحدة وترابط كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ. وإنه ليستبين لك سر هذا الإعجاز، إذا ما علمت أن محاولة مثل هذا الاتساق والانسجام لا يمكن أن يأتي على مثل هذا النمط الذي نزل به القرآن ولا على قريب من هذا النمط لا في كلام الرسول صلى الله عليه وسلم ولا كلام غيره من البلغاء، خذ مثلا حديث النبي صلى الله عليه وسلم وهو ما هو في روعته وبلاغته وطهره وسموه: لقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم في مناسبات مختلفة لدواع متباينة في أزمان متطاولة، فهل في مكنتك
ومكنة البشر معك أن ينظموا مثله أو يزيدوا عليه أو يتصرفوا فيه؟ ذلك ما لن يكون ولا يمكن أن يكون
…
إذن فالقرآن الكريم ينطق نزوله منجما بأنه كلام الله وحده. وتلك حكمة جليلة الشأن تدل الخلق على الحق في مصدر القرآن قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (سورة الفرقان) اه.
إن هذه الحكمة التي ذكرها المؤلف تتضح أبعادها بشكل أقوى وأكثر بيانا عند ما يقرأ الإنسان تفسيرنا هذا، ليجد من عجائب الصلة بين الآيات والسور ما لا يمكن أن يخطر ببال بشر، بحيث يجد أنواعا من الوحدة الشاملة التي تضم معاني القرآن وآياته وسوره بما يحير الألباب ويدهش الأبصار والبصائر. ولا يستعجلن القارئ علينا وهو يرى هذا الكلام قبل أن يقرأ هذا التفسير. فإن وجد الأمر كما ذكرنا فليدع لنا بحسن الخاتمة وبالمغفرة. وإذا لم يجد ما نقلناه هنا فإني أسامحه في كل ما يقول.
ولقد سئلت أكثر من مرة من بعض من عرضت عليه وجهة نظري في فهمي للصلة بين الآيات والسور عن فائدة هذا الموضوع، وكنت أجيبه بمثل ما ذكرته فيما مضى من هذه المقدمة، في أن الإجابة على هذا الموضوع تخدم رد شبهة أن هذا القرآن لا يجمع آياته في السورة الواحدة جامع ولا يجمع بين سوره رابط، وذلك لا يليق في كلام البشر فكيف بكلام رب العالمين، إنها لشبهة فظيعة جدا أن يحاول محاول إشعار المسلم بأن كتاب الله ينزل عن كتب البشر في هذا الشأن. ولقد استطعت بتوفيق الله أن أبرهن على أن كمال القرآن في وحدة آياته في السورة الواحدة، وكماله في الواحدة الجامعة التي تجمع ما بين سوره وآياته على طريقة لم يعرف لها العالم مثيلا ولا يمكن أن تخطر على قلب بشر. لقد استطعت خلال هذا أن أرد السهم إلى كبد راميه من أعداء الله في هذه النقطة بالذات.
على أن الإجابة على هذا الموضوع كما قلنا تخدم قضايا أخرى: منها قضية تأكيد إعجاز القرآن، ومنها قضية دحض شبهة أن هناك افتراقا بين القرآن المكي والمدني، ومنها أنها تخدم في معرفة بعض أسرار القرآن، ومنها أنها تخدم قضية الفهم للكثير من المعاني التي يدل عليها السياق.
إن هذه النقطة التي هي في بعض جوانبها تميز هذا التفسير عن غيره لا تخدم فقط فيما ذكرناه، بل تخدم في رؤية كثير من المعاني، ومحل هذه المعاني في البرهان
على كثير من القضايا. كما أنها ترينا أن هذا القرآن من خلال سياق الآية في السورة ومن خلال سياق الآيات بالنسبة لمجموع القرآن ومن خلال صلات السور بعضها ببعض، ومن خلال نواح أخرى، يعطينا معاني لا نهاية لها ولا يمكن الإحاطة بها وهو موضوع سنراه كثيرا في هذا التفسير.
وكأثر من آثار هذه النظرة الشاملة التي على ضوئها فهمت الوحدة القرآنية تكشفت لي إحدى الحكم في كون بعض السور مفتتحة ببعض الحروف، فكانت ملاحظة جديدة تضاف إلى ملاحظات كثيرة، سجلها علماء المسلمين خلال العصور حول أسرار هذه الأحرف.
لقد أقمت على هذا الاتجاه الذي اتجهته في موضوع الوحدة القرآنية من الحجج الكثير، بحيث لا يرتاب عالم منصف بعد الاطلاع عليها بأن اتجاهي في ذلك كان صحيحا. ولكني تعمدت ألا أذكر حججي كلها في مكان واحد بل وزعتها في الكتاب كله عند ما تأتي مناسبتها، ولولا ذلك لاقتضى إبراز كل الحجج مجلدا كاملا من مجلدات هذا التفسير، ثم هي في هذه الحالة لا تستوعب كما لو جاءت في مناسبتها. وهذا جوابي على من يقول: إنه كان بالإمكان أن أكتفي بإبراز هذه القضية من خلال كتاب مستقل بدلا من كتابة تفسير كامل. إنه لم يكن بالإمكان أن أعرض لهذا الموضوع منفصلا عن تفسير آيات القرآن على اعتبار أن هذا الاتجاه له صلة بفهم القرآن كله، فلو أنني ذكرته منفصلا لكان عملي ناقصا؛ ولذلك جعلت هذا الموضوع جزءا من تفسير، فلكي تتجلى الوحدة القرآنية بشكل واضح لا بد أن يكون النص القرآني مفسرا وواضحا، ثم إن الهدف من إصدار هذه السلسلة متعدد أصلا كما رأينا.
إني أتمنى لإخواني المسلمين ألا يتسرعوا في الحكم على هذا الاتجاه الذي اتجهته إلا بعد أن يقرءوا التفسير كله وأظن أن أشدهم إنكارا علي سيكون أكثرهم حماسا لما
ذهبت إليه.
ولا أدعي العصمة، ولكن فضل الله كبير، وعلى كل الأحوال فهذا موضوع لم يعد بالإمكان السكوت عن الإجابة عليه وهذا اجتهادي فيه، وأرجو أن أكون مصيبا في هذا الاجتهاد، وأتمنى لكل من عنده رأي آخر أن يناقشني فيه ولكن بعد أن يقرأ هذا التفسير كله.
ولئن كانت هذه هي المزية الرئيسية لهذا التفسير فإن له مميزات أخرى ذكرنا بعضها من قبل:
فمن مميزاته أنه حاول أن يستفيد من المراجع التي توفرت لدينا حاليا من كتب دينية قديمة وأن ينقل عنها مباشرة مع العزو إليها مضافا إلى ذلك قضية نقد ما ينبغي نقده، ومضافا إلى ذلك تبيان نقاط الضعف فيها.
ومن مميزاته أنه حاول التبسيط والتقريب ولكن مع الاحتفاظ إلى حد كبير بعبارات المفسرين أو بدقة طرائقهم في الأداء، وهو موضوع لا يدرك صعوبته إلا من عاناه، إذ إن كثيرا من العبارات لم تستقر على ما هي عليه إلا بعد عمليات تنقيح أجريت عليها خلال العصور، وكل من حاول التقريب أو التبسيط أو الانطلاق في التعبير وقع في محاذير ينتقده عليها العلماء، ومن ثم فقد حاولت في هذا التفسير أن أتقيد بعبارات العلماء ومصطلحاتهم. وفي الحالات التي وجدت أنه لا بد من التبسيط والتقريب فيها فقد حاولت ما استطعت أن أبسط مع الاحتفاظ بمقاصد العلماء نفسها وملاحظة احترازاتهم وهم يتخيرون اللفظ المناسب والمعنى المناسب.
ومن مميزاته أنه ليس فيه حشو وليس فيه إلا ما له علاقة بصلب التفسير وقد استبعدت منه كل قضية لم أعتبرها علمية.
ومن مميزاته أنه حاول الاستفادة بقدر المستطاع من مزية العصر الكبرى:
التخصص وما ترتب عليه من علوم ودقائق وحقائق في كل جانب من جوانب الحياة والكون والإنسان. إنه في عصرنا إذ توفرت لنا معان وتيسرت لنا علوم وأصبح بإمكاننا من خلالها أن نلحظ كثيرا من المعجزات القرآنية وأن نلحظ كثيرا من أسرار هذا القرآن فقد أصبح مما لا يحسن لمشتغل بالتفسير ألا يعطي هذا الموضوع حقه مع كونه مرهقا جدا، فقد تحتاج أن تقرأ مئات الصفحات للوصول إلى كلمة، أو لالتقاط حجة، ولقد حاولت أن أبذل جهدا في هذا السبيل، وأرجو أن يتضح ذلك للقارئ شيئا فشيئا، وكأثر من آثار هذه المزية والتي قبلها فقد حررت هذا التفسير من تأثير ثقافات خاطئة على فهم القرآن، مما نجده عند كثير من المفسرين وحاولت ألا أقع في مثل أخطائهم، بحيث أحمل النصوص القرآنية على فرضيات أو نظريات لم تثبت.
ومن مميزات هذا التفسير أنه حاول ربط المسلم بقرآنه وحاول تبصير المسلم بواقعه، وإذا كان للمسلم الحق في عصرنا معارك متعددة وعلى جبهات متعددة، وإذا كان المسلم لا بد أن يخوض معاركه على أساس القرآن من خلال توضيح الفارق بين ما يجري في هذا العالم وما بين أحكام القرآن، وإذا كان لا يحسن بكتاب معاصر للتفسير