الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَالْفَجْرِ، لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ، وَالشَّمْسِ وَضُحاها، وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى، وَالضُّحى. ثم سورة مبدوءة باستفهام أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ.
فهل هناك تعليل شامل لهذه الظاهرة
إننا الآن نقول باختصار: (وسنرى الدليل على ذلك شيئا فشيئا):
إن فواتح السور هي بعض المفاتيح التي تتعرف بها على الرابطة بين أقسام القرآن، وبين مجموعات هذه الأقسام، وبين تسلسل السور ضمن القسم الأول أو المجموعة الواحدة، فهي من مفاتيح الوحدة القرآنية المعجزة، ولو أننا أردنا أن ندلل على هذا الموضوع هاهنا لتعثر القارئ ولطال البحث وتعقد، ولذلك فإننا سنعرض لأدلة هذا الموضوع شيئا فشيئا، فإنه موضوع يصعب التدليل عليه إلا من خلال السير الشامل والوقوف عند كل سورة وبدايتها، والتدليل آت بإذن الله تعالى.
فصل في الحروف التي بدأت بها بعض السور:
هذه الحروف التي بدأت بها بعض سور القرآن مثل (الم) * أو (المص) أو (الر) * أو (أَحْرَصَ) * وقف عندها بعض المفسرين كثيرا، وبعضهم لم يقف واكتفى بأن يذكر بعد الواحدة منها: الله أعلم بمراده. والذين وقفوا عندها إما واحد أراد أن يعطيها تفسيرا فاعتبر كل حرف هو جزء لكلمة تدل عليها، ثم حاول أن يجد الكلمة التي يدل عليها الحرف، وإما واحد اعتبرها رموزا على أزمنة، وحاول من خلال ما اعتاده العرب أن يعطوا كل حرف رقمه الحسابي وأن يستخرج نبوءات زمنية، وإما واحد اكتفى بأن يسجل ملاحظة حول هذه الأحرف، ومن أهم الملاحظات التي سجلت خلال العصور أنه حيث وردت هذه الأحرف في سورة فإن السورة لها صلة في الحديث عن القرآن.
ومن ثم اعتبروا أن ذكر هذه الأحرف فيه إشارة إلى الإعجاز، وفيه مظهر من مظاهر التحدي، وقد عبر سيد قطب- رحمه الله في ظلاله عن هذا المعنى تعبيرا طيبا.
يقول الأستاذ سيد قطب- رحمه الله في ظلاله عند الكلام عن (الم) في سورة البقرة: «ومثل هذه الأحرف يجيء في مقدمة بعض السور القرآنية وقد وردت في
تفسيرها وجوه كثيرة نختار منها وجها: أنها إشارة للتنبيه إلى أن هذا الكتاب مؤلف من جنس هذه الأحرف وهي في متناول المخاطبين به من العرب، ولكنه مع هذا هو ذلك الكتاب المعجز الذي لا يملكون أن يصوغوا من تلك الحروف مثله. الكتاب الذي يتحداهم مرة ومرة ومرة أن يأتوا بمثله، أو بعشر سور مثله، أو بسورة من مثله، فلا يملكون لهذا التحدي جوابا.
والشأن في هذا الإعجاز: هو الشأن في خلق الله جميعا، وهو مثل صنع الله في كل شئ وصنع الناس. إن هذه التربة الأرضية مؤلفة من ذرات معلومة الصفات، فإذا أخذ الناس هذه الذرات فقصارى ما يصوغونه منها لبنة، أو آجرة، أو آنية، أو أسطوانة، أو هيكل، أو جهاز كائنا في دقته ما يكون، ولكن الله المبدع يجعل من تلك الذرات حياة؛ حياة نابضة خافقة تنطوي على ذلك السر الإلهي المعجز، سر الحياة. السر الذي لا يستطيعه بشر ولا يعرف سره بشر، وهكذا القرآن حروف وكلمات يصوغ منها البشر كلاما وأوزانا ويجعل منها الله قرآنا وفرقانا. والفرق بين صنع البشر وصنع الله من هذه الحروف والكلمات هو الفرق ما بين الجسد الخامد والروح النابض، هو الفرق ما بين صورة الحياة وحقيقة الحياة».
أقول وصدق الله العظيم وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا
(سورة الشورى) هذه الملاحظة التي سجلها صاحب الطلال ببيانه المشرق سجلها علماء المسلمين قديما، إلا أنه في عصرنا- فيما أعلم- سجلت ملاحظة أخرى إضافية حول هذه الأحرف وهي ما ذكرناه في الفصل السابق من أن فواتح السور- ومنها الأحرف- هي مفتاح من مفاتيح الوحدة القرآنية، وهذا الموضوع سيتضح لنا شيئا فشيئا في هذا التفسير. ولنكتف هنا بتسجيل هاتين الملاحظتين حول الأحرف التي افتتحت بها بعض السور، ولنا عودة على ما قيل في هذه الأحرف في أول سورة يونس حيث أول القسم الثاني من أقسام القرآن.
فصل في القلوب في المصطلح الشرعي: ورد في مقدمة سورة البقرة قوله تعالى عن الكافرين: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وورد قوله تعالى عن المنافقين: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وترد كلمة القلب في الكتاب والسنة كثيرا، وكثيرون من الناس يغلطون في شأنها. وباختصار نقول: إن هناك قلبا محسوسا لكل الناس يشترك فيه الإنسان مع كثير من المخلوقات هو القلب الدموي، هذا القلب الذي له وظيفة المضخة الدموية هو مركز لقلب آخر هو مركز الأحاسيس الوجدانية، من حب وبغض وحقد وسماحة وخوف وأمن، وهذه القضايا كذلك محسوسة لكل الناس، إذ كل الناس يحسون بشيء من هذه المعاني في قلوبهم. هذا القلب الثاني هو محل الإيمان الذوقي، وهو محل الكفر والنفاق كذلك، وهاهنا نجد أمورا محسة عند بعض الناس وغير محسة عند آخرين، فأهل الإيمان- مثلا يحسون بمعان كثيرة في قلوبهم، هذه المعاني لا يحس بها الكافرون لأن هذا الجانب في قلوبهم ميت، هذا القلب المرتبط بالقلب الدموي ليس هو عين القلب الدموي، بدليل أن الذين أجريت لهم عمليات استئصال لقلوبهم، وأعطوا قلبا آخر، لم تتغير أحاسيسهم، وفي التفريق بين القلب الدموي والقلب الآخر يقول صاحب حاشية الجمل على تفسير الجلالين:«وحيث أطلق القلب في لسان الشرع فليس المراد به الجسم الصنوبري الشكل فإنه للبهائم وللأموات، بل المراد به معنى آخر يسمى بالقلب أيضا، وهو جسم لطيف قائم بالقلب اللحماني قيام العرض بمحله أو قيام الحرارة بالفحم، وهذا القلب هو الذي يحصل منه الإدراك وترتسم فيه العلوم والمعارف» . هذا القلب في المصطلح الشرعي يمرض ويصح ويموت ويعمى ويصم.
ومن ثم رأينا في الكلام عن الكافرين في الفقرة كيف أن الله عز وجل قال خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وقال عن المنافقين فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ووصفهم بقوله: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ.
هذا القلب في المصطلح الشرعي مقره الصدر لا كما توهم بعضهم، من أن مقره الدماغ، قال تعالى فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (الحج: 46) فحدد مكانها في الصدور. وقد فصلنا في كتابنا (تربيتنا الروحية) في هذه المعاني فليراجع.
وبمناسبة قوله تعالى: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وقوله تعالى فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ننقل هذه النقول:
قال مجاهد: «الران أيسر من الطبع، والطبع أيسر من الأقفال، والأقفال أشد من ذلك كله» .
وقال مجاهد: «ثبتت الذنوب على القلب، فحفت به من كل جوانبه حتى تلتقي عليه فالتقاؤها عليه الطبع، والطبع: الختم» :
وفي الحديث الصحيح عن حذيفة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: تعرض الفتن على القلوب كعرض الحصير عودا عودا، فأي قلب أشربها نكتت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء، حتى تصير القلوب على قلبين قلب أبيض مثل الصفا فلا تضره فتنة ما دامت السموات والأرض، والآخر أسود مربادا كالكوز مجخيا لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا».
وأخرج الترمذي وغيره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: «إن المؤمن إذا أذنب ذنبا نكت في قلبه نكتة سوداء، فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه. وإن زاد زادت حتى تعلو قلبه، فذلك الران الذي قال الله تعالى كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (المطففين: 14) قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
قال ابن جرير: فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الذنوب إذا تتابعت على القلوب أغلقتها، وإذا أغلقتها أتاها حينئذ الختم من قبل الله تعالى والطبع، فلا يكون للإيمان إليها مسلك، ولا للكفر عنها مخلص، فذلك هو الختم والطبع الذي ذكر في قوله تعالى: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ نظير الختم والطبع على ما تدركه الأبصار من الأوعية والظروف التي لا يوصل إلى ما فيها إلا بفض ذلك عنها ثم حلها، فكذلك لا يصل الإيمان إلى قلوب من وصف الله أنه ختم على قلوبهم وعلى سمعهم إلا بعد فض خاتمه وحل رباطه» اه.
فإذا علم الإنسان هذا وفهم قوله تعالى فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وما أشبه ذلك من الآيات، أدرك أنه تعالى إنما ختم على قلوبهم وحال بينهم وبين الهدى جزاء وفاقا على تماديهم في الباطل وتركهم الحق.