الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
غير محلهما الصحيحين. لقد صبغنا الله بالإيمان صبغته، فالحمد لله رب العالمين.
كلمة في السياق:
لقد رأينا أن هذه الفقرة رد على الداعين لغير ملة إبراهيم، وهذا الرد يأتي على مرحلتين: المرحلة الأولى هي ما مر معنا، ثم بعد ذلك تأتي المرحلة الثانية: وهي الآيات الأخيرة في الفقرة فصار التسلسل: وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا
…
قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ .... قُولُوا آمَنَّا .... صِبْغَةَ اللَّهِ ....
هذه المرحلة الأولى في الرد، والمرحلة الثانية تبدأ بقوله تعالى:
قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللَّهِ
…
فهذا وما بعده من الفقرة تتمة الجواب على قولهم الذي بدأت به الفقرة فلنر تفسير تتمة الفقرة:
قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللَّهِ أي أتجادلوننا وتناظروننا في شأن الله وهدايته واصطفائه من شاء، كاصطفائه النبي صلى الله عليه وسلم من العرب دونكم، وتقولون لو أنزل الله على أحد لأنزل علينا، وترون أنكم أحق بالنبوة منا وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ أي نشترك جميعا في أننا عباده، وهو ربنا، وهو يصيب برحمته وكرامته من يشاء من عباده وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ يعني أن العمل علامة ودليل، أنتم لكم أعمال ولنا أعمال، ومن تأمل أعمالنا وأعمالكم عرف المستقيم على أمر الله من المنحرف وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ هذه هي العلامة الثانية على أننا أهل الهداية لا أنتم والمعنى: ونحن له موحدون، نخصه بالإيمان وأنتم به مشركون، والمخلص أحرى بالكرامة وأولى بالهداية، فنحن المهتدون لا أنتم، قال البيضاوي: «روي أن أهل الكتاب قالوا: الأنبياء كلهم منا فلو كنت نبيا لكنت منا، فنزلت: قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ لا اختصاص له بقوم دون قوم، يصيب برحمته من يشاء من عباده وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ فلا يبعد أن يكرمنا بأعمالنا، كأنه ألزمهم (أي الحجة) على كل مذهب ينتحونه إفحاما وتبكيتا، فإن كرامة النبوة إما تفضل من الله على من يشاء- والكل فيه سواء- وإما إفاضة حق على المستعدين لها بالمواظبة على الطاعة والتحلي بالإخلاص، فكما أن لكم أعمالا ربما يعتبرها الله في إعطائها، فلنا أيضا أعمال وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ أي:
موحدون نخلص بالإيمان والطاعة دونكم». وقد رد الألوسي اتجاه البيضاوي هذا،
معتبرا أن القول الأقوى، هو في كون اليهود والنصارى ادعوا أن الدين الحق اليهودية والنصرانية، وبنوا دخول الجنة والاهتداء عليهما، فجاء الرد عليهم من خلال الحديث عن ربوبيته، وصلاح أعمالنا وفساد أعمالهم، وإخلاصنا في العمل له» ومما يمكن أن يقال: إن الله علمنا إلزامهم الحجة من خلال الإخلاص وحده في الآية، وذلك أنهم مشركون، وأنهم يعملون رياء وسمعة، وخضوعا لضغوط اجتماعية وغيرها، فالله رب الجميع، ولكل عمله، ولكنا مخلصون وأنتم غير مخلصين، فلا تدعوا أن الله لكم ومعكم وأنتم كذلك، وتكون المحاجة بيننا وبينهم في أن الله معنا أو معهم، لنا أو لهم، ومن تأمل لغة اليهود والنصارى حتى الآن، أدرك أن لغتهم الحديثة، هي لغتهم القديمة، في دعوى أن الله لهم ومعهم، مع أن إيمانهم بالربوبية مخدوش، وأعمالهم منقوضة، وإخلاصهم معدوم؛ لأن الإخلاص عمل لله وبالله، وفيما شرع الله، وأنى لهم ذلك كله، ثم تأتي الآية اللاحقة فتستكمل الحجة:
أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى أي: أتحاجوننا في الله
…
فأنتم مغلوبون في زعمكم أنكم المهتدون، أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ ......... كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى حتى تنحصر الهداية فيكم فأنتم كاذبون لأن هؤلاء كانوا قبل اليهودية والنصرانية، والله شهد بأن دينهم الإسلام، هذا إذا اعتبرنا أن (أم) في هذه الآية معادلة للهمزة الموجودة في الآية السابقة عليها، وهو اتجاه للمفسرين، وعلى هذا الاتجاه يكون الاستفهام في الآية السابقة وهذه الآية إنكاريا. قال الألوسي:«والمراد بالاستفهام إنكارهما معا بمعنى: كل من الأمرين منكر ينبغي ألا يكون إقامة الحجة وتدوير البرهان على حقية ما أنتم عليه- والحال ما ذكر- والتشبث بذيل التقليد والافتراء على الأنبياء عليهم السلام» .
وفائدة هذا الأسلوب- مع أن العلم حاصل بثبوت أحد الأمرين، الإشارة إلى أن أحدهما كاف في الذم، فكيف إذا اجتمعا، كما تقول لمن أخطأ تدبيرا ومقالا:«أتدبيرك أم تقريرك» . وعلى القول بأن (أم) منقطعة أي بمعنى الهمزة وبل، يكون التقدير:
«بل أتقولون إن إبراهيم وإسماعيل
…
» فيكون المعنى أنكم تحاجون في الله من خلال دعواكم أنكم على الهداية، فأنتم في هذه الدعوى تزعمون أن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط عليهم الصلاة والسلام، كانوا هودا أو نصارى؛ لأنكم تعتقدون هدايتهم، فذلك زعم منكم أن هؤلاء كانوا على اليهودية أو النصرانية، وذلك زعم باطل وسنرى في سورة (آل عمران) التي هي تغطية لمعان في
سورة البقرة كيف يأتي قوله تعالى ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا .. وبهذا استكملت الحجة على اليهود والنصارى، في زعمهم أن الهداية عندهم و (أم) على القول الراجح معادلة للهمزة في (أتحاجوننا)، يعني: أي الأمرين تأتون؟ المحاجة في الله، أم ادعاء اليهودية والنصرانية على الأنبياء المذكورين، فإذا حاججتمونا في الله تبين أننا المهتدون، وإذا ادعيتم أن الهداية محصورة في اليهودية والنصرانية فهذا كذب، فهل كان هؤلاء المذكورون على يهودية أو نصرانية؟ ولا يهودية إلا من بعد موسى، ولا نصرانية إلا من بعد عيسى، فالهداية إذن هداية الله التي يخص بها من شاء، الأمر أمره والوحي وحيه، ثم قال: قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ بل الله أعلم بمن اهتدى، وأعلم بمن يهدي، وأعلم بخبر أنبيائه المذكورين، وقد أخبر أنهم لم يكونوا هودا ولا نصارى.
قال الألوسي: أي لستم أعلم بحال إبراهيم عليه السلام في باب الدين، بل الله تعالى أعلم بذلك، وقد أخبر سبحانه بنفي اليهودية والنصرانية عنه، واحتج على انتفائهما عنه بقوله وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ وهؤلاء المعطوفون عليه أتباعه في الدين وفاقا، فحالهم حاله فلم تدعون له ولهم ما نفى الله تعالى؟ فما ذلك إلا جهل غال ولجاج محض، ثم قال تعالى وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ أي: لا أحد أظلم ممن كتم شهادة ثابتة عنده، واصلة من الله إليه، وهي شهادته تعالى لإبراهيم بالحنيفية، أو شهادتهم التي عليهم أن يؤدوها في حق محمد صلى الله عليه وسلم الذي بشرت به التوراة والإنجيل، وعلى كل فالآية فيها تعريض بهم؛ إذ إنهم يعرفون أن محمدا رسول الله، بشرت به التوراة والإنجيل، وكان عليهم أن يشهدوا له ويتابعوه فلم يفعلوا فليس أشد في الظلم من هذا، أن يكتم الشهادة الشهود.
عرفوه وأنكروه وظلما
…
كتمته الشهادة الشهداء.
وهم يعرفون أن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق
…
كانوا على الإسلام لله، وهم يكتمون هذا، ويدعون أن هؤلاء كانوا يهودا أو نصارى، فلا أظلم منهم، حملهم الله الشهادة
فكتموها، أو شهد الله في كتبهم على أشياء فأنكروا شهادة الله؛ فمن أظلم منهم؟ لا أحد وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ من تكذيب الرسل، وكتمان الشهادة، والدعوة إلى الباطل، وادعاء الهداية، وصرف الناس عن الدين الحق، هذا تهديد ووعيد لأهل الكتاب، أي: إن الله تعالى لا يترك أمركم سدى، بل هو محصل لأعمالكم، محيط بجميع ما تأتون وتذرون، فيعاقبكم بذلك أشد عقاب. وبنفس الخاتمة التي ختمت بها الفقرة السابقة تختم هذه الفقرة.
تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ