الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
1 - المعاني العامة لمقدمة السورة
قسمت المقدمة الناس إلى أصناف ثلاثة: متقين وكافرين ومنافقين، ويفهم من ذلك: أن هذا هو التقسيم المعتبر شرعا، والذي تترتب عليه آثاره في المواقف والمواقع، ومن المقدمة نعرف أن التقوى قضية محددة مفصلة، والكفر قضية محددة واضحة المعالم ومفصلة، والنفاق قضية محددة ومفصلة وله علاماته، ومقدمة سورة البقرة ذكرت الصفات الرئيسية لأهل الإيمان، من إيمان بالغيب، وصلاة، وإنفاق، واهتداء بكتاب الله في الشأن كله، وذكرت المظهر الأجلى للكفر في كون الكافر لا يؤثر فيه الإنذار من أهله، وذكرت حقيقة النفاق في أن أهله يكذبون في ادعائهم الإيمان بالله واليوم الآخر، وأن علة ذلك هي الخداع وأن سبب ذلك مرض القلب، ثم ذكرت نماذج ثلاثة من مواقفهم، نتعرف عليهم من خلالها، ثم ضربت لهم مثلين، مثلا للمنافق الخالص، ومثلا للمنافق الذي لا زال في قلبه بقية من إيمان.
2 - المعنى الحرفي للمقدمة
الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ، في هذا النص أربع جمل:
الم جملة برأسها، وذلِكَ الْكِتابُ جملة ثانية، ولا رَيْبَ فِيهِ جملة ثالثة وهُدىً لِلْمُتَّقِينَ جملة رابعة، وجيء بها هكذا متناسقة بلا حرف عطف لمجيئها متآخية آخذا بعضها بعنق بعض، فالثانية متحدة بالأولى معتنقة لها وهلم جرا إلى الثالثة والرابعة. ونبه ب الم على أنه الكلام المتحدى به، ثم أشير إليه بأنه الكتاب
المنعوت بغاية الكمال من خلال استعمال لفظ الإشارة ذلِكَ فكان تقريرا لجهة التحدي، ثم نفى عنه أن يتشبث به طرف من الريب فكان شهادة وتسجيلا بكماله لأنه لا
كمال أكمل كالحق واليقين، ولا نقص أنقص كالباطل والشبهة. ثم أخبر عنه بأنه هدى للمتقين، فقرر بذلك كونه يقينا لا يحوم الشك حوله، وحقا لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ف ذلِكَ الْكِتابُ معناه: هذا الكتاب الكامل لأن كلمة ذلِكَ فيها إشارة إلى بعده عن أن يكون على اقتراب في المستوى من غيره ولا رَيْبَ فِيهِ معناه لا شك فيه، وإنما نفى الريب على سبيل الاستغراق وقد ارتاب فيه كثير، لأن المنفي كونه متعلقا للريب ومظنة له، لأنه من وضوح الدلالة وسطوع البرهان بحيث لا ينبغي أن يرتاب فيه أحد، لا أن أحدا لا يرتاب، والهدى: هو الدلالة الموصلة إلى البغية، والمتقي: هو من يقي نفسه تعاطي ما يستحق به العقوبة من فعل أو ترك، وإنما خص المتقون بالاهتداء لأنهم وحدهم المهتدون بكتاب الله.
الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ وصف المتقون بالإيمان والصلاة والصدقة، فالإيمان أساس لكل شئ من الحسنات والخيرات، والصلاة والصدقة معيار العبادات البدنية والمالية، فكان من شأنهما استتباع سائر العبادات، ولذلك اختصر الكلام بأن استغني عن عد الطاعات بذكر ما هو كالعنوان لها، والإيمان هو التصديق، والغيب هو المغيب عنهم مما أتاهم به النبي صلى الله عليه وسلم من كل ما غاب عنهم، سواء في ذلك أمر البعث والنشور والحساب والخلق إلى غير ذلك، وإقامة الصلاة:
أداؤها حسا ومعنى وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ أي ومما أعطيناهم يتصدقون
ثم أكمل الله وصف المتقين بقوله: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ أي بالقرآن وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ، أي سائر الكتب المنزلة على النبيين، وهذه وإن كانت داخلة في قضية الإيمان بالغيب من وجه لكن لها مظهرا محسوسا من جهة أخرى، ولأن للآخرة معنى استقباليا زائدا على كونها من الغيب، فقد خصت بالذكر وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ الإيقان هو رسوخ العلم بانتفاء الشك والشبهة عنه.
وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ: أي الظافرون بما طلبوا، الناجون مما هربوا، فالفلاح إدراك البغية والمفلح الفائز بالبغية وفي ذكر الحرف عَلى في قوله تعالى: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ ما يدل على تمكنهم من الهدى، واستقرارهم عليه وتمسكهم به بحيث شبهت حالهم بحال من اعتلى الشئ وركبه، ودخل في قوله تعالى: يُقِيمُونَ الصَّلاةَ إقامة فروضها وإتمام ركوعها وسجودها وتلاوتها وخشوعها والإقبال عليها فيها، والمحافظة على مواقيتها
وإسباغ الطهور فيها، والتشهد والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فيها، كما دخل في ذلك فرضها ونفلها ودخل في قوله تعالى: وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ النفقات الواجبة والزكاة المفروضة وأنواع الصدقات.
في هذه الآيات قضيتان: أساس وبناء، الأساس هو: الإيمان والصلاة والإنفاق والبناء هو: اتباع الكتاب، ومجموع ذلك هو التقوى، وقد غفل الكثيرون عن هذا فعطل بعضهم كتاب الله وهم يظنون أنهم متقون، وعطلوا الصلاة والإنفاق وأخلوا بالإيمان وهم يظنون أنهم متقون، وليفهم على ضوء ذلك كله حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم المتفق عليه «بني الإسلام على خمس
…
» فهناك أساس فوقه بناء، والأساس وإن كان جزءا من البناء لكنه ركنه، والبناء هو الأركان وما فوقها وذلك هو الإسلام.
ثم وبعد أن ذكر الله أولياءه بصفاتهم المقربة إليه، وبين أن الكتاب هدى لهم قفى على أثره بذكر أضدادهم وهم العتاة المردة الذين لا ينفع فيهم الهدى، إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ. الكفر: ستر الحق بالجحود، والإنذار: التخويف من عقاب الله بالزجر عن المعاصي، والحكمة في الإنذار مع العلم بالإصرار: إقامة الحجة، وليكون الإرسال عاما وليثاب الرسول
خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ والختم هو: التغطية، والختم والطبع واحد، والغشاوة: الغطاء، والأسماع داخلة في حكم الختم لا في حكم التغشية. وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ العذاب هو: النكال والعظيم يقابل الحقير، والمراد بالذين كفروا هنا:
أناس علم الله أنهم لا يؤمنون فهؤلاء يستوي عليهم الإنذار وعدمه. قال الشيخ أبو منصور الماتريدي: «الكافر لما لم يسمع قول الحق، ولم ينظر في نفسه وغيره من المخلوقات ليرى آثار الحدوث، فيعلم أنه لا بد له من صانع جعل كأن على بصره غشاوة» .
وبعد أن قدم الله عز وجل وصف المؤمنين في صدر السورة بأربع آيات، ثم عرف حال الكافرين بآيتين، ذكر حال المنافقين الذين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر، ولما كان أمرهم يشتبه على كثير من الناس، أطنب في ذكرهم بصفات متعددة هنا، كما أنزل سورة براءة وسورة المنافقين فيهم، وذكرهم في سورة النور وغيرها من السور تعريفا لأحوالهم لتجتنب، ويجتنب من تلبس بها أيضا، لئلا يغتر بظاهر أمرهم المؤمنون،
فيقع بذلك فساد عريض من عدم الاحتراز منهم، ومن اعتقاد إيمانهم وهم كفار في نفس الأمر، وهذا من المحذورات الكبار أن يظن بأهل الفجور خير. ولما كنا لا نعرف المنافق إلا من سيماه وفلتات لسانه كما قال تعالى: وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ (سورة محمد) فقد بين الله لنا هنا حقيقة المنافق، وأعطانا نماذج من كلامه وتصرفاته، ثم ضرب لنا الأمثلة عليه لتتضح الحال تماما، لأن النفاق أخطر شئ على الأمة، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام «أخوف ما أخاف على أمتي منافق عليم اللسان
…
» وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ: ادعى المنافقون إحاطتهم بجانبي الإيمان أوله وآخره، وهذا لأن حاصل المسائل الاعتقادية يرجع إلى المبدأ، وهي العلم بالخالق وصفاته وأسمائه وأفعاله ومسائل المعاد وهي: العلم بالنشور والبعث من القبور والصراط والميزان وسائر أحوال الآخرة. وفي تكرار الباء إشارة إلى أنهم ادعوا كل واحد من الإيمانين على صفة الصحة والاستحكام، وقد نفي الله عز وجل إيمانهم على أبلغ وجه، إذ أخرج ذواتهم من أن تكون من المؤمنين، فقال:
وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ. ولليوم الآخر تعريفان:
الأول: هو الوقت الذي لا حد له، وهو الأبد الدائم الذي لا ينقطع، وإنما سمي بالآخرة لتأخره عن الأوقات المنقضية.
الثاني: هو الوقت المعهود من النشور إلى أن يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار.
يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا الخداع: إظهار غير ما في النفس على نية الغش وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ النفس: ذات الشئ وحقيقته، ثم قيل للقلب والروح نفس لأن النفس بهما، وقيل للدم نفس لأن قوام النفس بالدم، وقيل للماء نفس لفرط حاجة النفس إليه، والمراد بالأنفس هاهنا ذواتهم، والمعنى أنهم بمخادعتهم الله والمؤمنين لا يخدعون في الحقيقة إلا أنفسهم لعود أضرار ذلك عليهم، فالخداع لاحق بهم لا يعدوهم إلى غيرهم ولكنهم لا يشعرون أن حاصل خداعهم يرجع إليهم، والشعور: علم الشئ علما حسيا، ومشاعر الإنسان في الأصل حواسه لأنها آلات الشعور. والمعنى أن لحوق ضرر الخداع بهم كالمحسوس، وهم للتمادي في غفلتهم كالذي لا حس له.
فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ: المرض هنا هو الشك والنفاق، لأن الشك تردد بين الأمرين والمنافق متردد، كما أن المريض متردد بين الحياة والموت ولأن
المرض ضد الصحة، والفساد يقابل الصحة فصار المرض اسما لكل فساد، والشك، والنفاق فساد في القلب فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً: أي فزادهم الله رجسا وشرا إلى شرهم عقوبة لهم. وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ: أي بكذبهم في قولهم آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ خداعا للمؤمنين. والكذب هو الإخبار عن الشئ على خلاف ما هو به. وبهذه الآيات الثلاث عرفنا حقيقة النفاق وأسبابه ثم بعد أن بين الله لنا ذلك، ذكر لنا ثلاثة نماذج من أقوالهم ومواقفهم لنعرفهم بها:
1 -
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ، قالُوا: إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ، أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ الفساد: خروج الشئ عن حال استقامته وكونه منتفعا به، وضده الصلاح وهو: الحصول على الحال المستقيمة النافعة والمراد بالفساد في الآية الكريمة- والله أعلم- الكفر والعمل بالمعصية، فهؤلاء المنافقون يعملون بالكفر والمعصية ويدعون إليهما، ويزعمون أن ما يفعلون وما يدعون إليه إصلاح وهو عين الفساد، ولكن من جهلهم لا يشعرون أنه فساد و (إنما) في اللغة العربية تفيد: قصر الحكم على شئ أو قصر الشئ على حكم، وقد استعملوها في تعبيرهم. إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ فذلك يدل على أنهم يتصورون أن صفة المصلحين خلصت لهم وتمحضت من غير شائبة تقدح فيها من وجه من وجوه الفساد، ولم يظهر أهل هذه الآية في عصر كما ظهروا في عصرنا- في القرن الخامس عشر الهجري- إذ تجد الدعاة إلى الكفر والمعصية والعاملين بهما ممن لهم أسماء إسلامية، ويتظاهرون بأنهم مسلمون، ويخلعون على أنفسهم ودعواتهم الكافرة أسماء براقة تعطيهم صفة المصلحين، كالتقدمية والتقدميين، والحرية والأحرار، وقد روي من غير طريق ذكره ابن كثير عن سلمان الفارسي، في قوله تعالى: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ: ما جاء هؤلاء. لم يجئ أهل هذه الآية بعد .. أقول: قد جاءوا في عصرنا ورأيناهم ونسأل الله أن يطهر الأرض منهم. قال ابن جرير: يحتمل أن سلمان رضي الله عنه أراد بهذا أن الذين يأتون بهذه الصفة أعظم فسادا من الذين كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لا أنه عنى أنه لم يمض ممن تلك صفته أحد.
2 -
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ السفه: سخافة العقل وخفة الحلم. والناس في الآية هم الكاملون في الإنسانية وهم المؤمنون، لأنهم هم الناس على الحقيقة ومن عداهم كالبهائم.
نصحهم أهل الإيمان النصيحة الأولى كما رأينا بتقبيح ما كانوا عليه؛ لبعده عن الصواب وجره للفساد، فردوا عليهم كما رأينا، ونصحوهم النصيحة الثانية كما في هذه الآية بأن بصروهم بالطريق الأسد من اتباع ذوي الأحلام، فكان جوابهم أن سفهوهم للتمادي في جهلهم، وفيه تسلية للعالم مما يلقى من الجهلة.
ولم يظهر أهل هذه الآية كذلك في عصر كما ظهروا في عصرنا، إذ ترى المنافقين يحتقرون أهل الإيمان من علماء وربانيين ودعاة وعباد ويعتبرونهم ضعاف العقول، ويصفونهم بالرجعية والجمود وضيق الأفق وأمثال ذلك، فهم أبعد الناس عن احترامهم، فضلا عن متابعتهم والاقتداء بهم فيما هم فيه من خير، وقد تولى الله سبحانه الجواب الذي يفضح حقيقة أمرهم فقال: أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ، فأكد وحصر السفاهة فيهم، وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ يعني: ومن تمام جهلهم أنهم لا يعلمون أن ما هم فيه ضلال وجهل وسفه، وذلك أردى وأبلغ في العمي والبعد عن الهدى، وإنما وصفهم في الآية الأولى بأنهم لا يشعرون، وفي الآية الثانية بأنهم لا يعلمون، لأنه ذكر في الآية الثانية السفه وهو الجهل فكان ذكر العلم هو الأحسن طباقا له، ولأن الإيمان يحتاج إلى نظر واستدلال ليكتسب الناظر المعرفة، فناسب ذلك ذكر العلم، أما الفساد في الأرض فأمر مبني على العادات فهو كالمحسوس فناسب هناك أن يذكر عدم الشعور.
3 -
وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا: إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ.
يزيدنا الله بيانا في توضيح حال المنافقين من خلال أقوالهم، ومواقفهم، فذكر لنا أن هؤلاء المنافقين إذا لقوا المؤمنين قالُوا آمَنَّا وأظهروا لهم الإيمان والموالاة والمصافاة تغريرا منهم للمؤمنين ونفاقا ومصانعة وتقية، وإذا خلوا إلى سادتهم وكبرائهم ورؤسائهم وأصحابهم من الكافرين والمشركين والمنافقين قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ أي إنا على مثل ما أنتم عليه إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ أي: إنما نحن نسخر بالقوم ونستهزئ منهم ونلعب بهم، ولم يظهر أهل هذه الآية في عصر كما ظهروا في عصرنا، إذ كثرت المؤسسات الكافرة من محافل ماسونية وأحزاب ضالة، أو مؤسسات خائنة، أو جمعيات فاجرة، أو تكتلات على أسس فاسدة. وتجد كثيرا من أبناء المسلمين يتظاهرون مع أهل الإيمان بالإيمان ولكنهم مع زعمائهم في هذه المؤسسات وأمثالها على غاية من المتابعة والولاء. وليس أبلغ من كلام الله في وصف حالهم ومقالهم
للمؤمنين ولزعمائهم،
ولكن الله أكبر، والله محيط بهم وبأعمالهم، وهو يتولى أمر المؤمنين، ويدافع عنهم، ويعاقب هؤلاء وينتقم منهم.
اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ، فهذا تطمين للمؤمنين وتهديد للمنافقين والمعنى أنه تعالى مجازيهم جزاء الاستهزاء ومعاقبهم عقوبة الخداع. قال ابن كثير نقلا عن ابن جرير:«لأن المكر والخداع والسخرية على وجه اللعب والعبث منتف عن الله عز وجل بالإجماع، وأما على وجه الانتقام والمقابلة بالعدل والمجازاة فلا يمتنع ذلك» . فيملي لهم تعالى ويزيدهم من نعمه على وجه الإملاء والترك لهم في عتوهم وتمردهم؛ ليستمروا في طغيانهم يترددون؛ فتقوم عليهم الحجة باستحقاقهم عقوبة الدنيا والآخرة. والطغيان: مجاوزة الحد والإمداد: الإملاء، والعمه: هو الضلال والضياع، وقال بعضهم العمى في العين والعمه في القلب.
ثم بين الله عز وجل واقع هؤلاء المنافقين الذين بدأ الكلام عنهم بقوله وَمِنَ النَّاسِ فقال: أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ بين الله عز وجل في هذه الآية: أن المنافقين عدلوا عن الهدى إلى الضلال، واعتاضوا عن الهدى بالضلالة، أي بذلوا الهدى الذي هو الإيمان ثمنا للضلالة التي هي الكفر، سواء في ذلك من كان منهم حصل له الإيمان ثم رجع إلى الكفر، أو من كان منهم استحب الضلالة على الهدى، دون أن يكون الإيمان قد أصاب قلوبهم من قبل مع تظاهر الجميع بالإيمان؛ فما ربحت صفقتهم في هذه البيعة، وما كانوا راشدين في صنيعهم ذلك. قال قتادة:«قد والله رأيتموهم خرجوا من الهدى إلى الضلالة ومن الجماعة إلى الفرقة ومن الأمن إلى الخوف ومن السنة إلى البدعة» ، فليحصلوا ما حصلوا من أمر الدنيا فإنهم الخاسرون.
وبعد هذا البيان عن حقيقة المنافقين وبعد أن أعطانا الله عز وجل نماذج من أقوالهم ومواقفهم نعرفهم بها، يضرب الله لنا مثلين نعرف بهما حال المنافقين معرفة تامة:
المثل الأول: لنوع من المنافقين وصلوا إلى النفاق الخالص بعد أن كانوا مؤمنين.
والمثل الثاني: لنوع من المنافقين لا زالوا مترددين، الأولون لم يعد فيهم أمل للرجوع إلى الإيمان، أما الآخرون فلم يقنطوا، وبعض المفسرين اعتبر المثلين لنوع واحد، وهذا خطأ، لأن أهل المثل الأول قال الله عنهم ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ، وقال صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ بينما قال عن الآخرين كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ، وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ، وابن كثير وضح
ذلك، لذلك قال عن المثل الثاني: هذا مثل آخر ضربه الله تعالى لضرب آخر من المنافقين وهم: قوم يظهر لهم الحق تارة، ويشكون تارة أخرى، فقلوبهم في حال شكهم وكفرهم وترددهم كصيب ..
المثل الأول: قال تعالى: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ المثل هو القول السائر، ثم استعير للحال أو الصفة أو القصة إذا كان لها شأن وفيها غرابة. ويضرب المثل زيادة في الكشف، وتتميما للبيان، وتقدير هذا المثل: إن الله سبحانه شبههم في اشترائهم الضلالة بالهدى، وصيرورتهم بعد البصيرة إلى العمى: بمن استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله وانتفع بها وأبصر بها ما عن يمينه وشماله فبينا هو كذلك إذ أطفئت ناره وصار في ظلام شديد لا يبصر ولا يهتدي، وهو مع هذا أصم لا يسمع، أبكم لا ينطق، أعمى لو كان ضياء لما أبصر، فلهذا لا يرجع إلى ما كان عليه قبل ذلك. فكذلك هؤلاء المنافقون في استبدالهم الضلالة عوضا عن الهدى واستحبابهم الغي على الرشد، وفي هذا المثل دلالة على أنهم آمنوا ثم كفروا قال الرازي:«والتشبيه هنا في غاية الصحة لأنهم بإيمانهم اكتسبوا أولا نورا، ثم بنفاقهم ثانيا أبطلوا ذلك فوقعوا في حيرة عظيمة، فإنه لا حيرة أعظم من حيرة الدين» فصار المعنى:
ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ أي ذهب عنهم بما ينفعهم وهو النور، نور الإسلام الذي يرون به الأشياء كلها على حقائقها. وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ وهو ما هم فيه من الشك والكفر والنفاق. لا يُبْصِرُونَ أي لا يهتدون إلى سبيل خير، ولا يعرفونها وهم مع ذلك صُمٌّ لا يسمعون خيرا، بُكْمٌ لا يتكلمون بما ينفعهم، عُمْيٌ عن رؤية الحق، فبصيرتهم عمياء وهم في ضلالة. فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ أي فلذلك لا يرجعون إلى ما كانوا عليه من الهداية التي باعوها بالضلالة، وهذا المثل نجده منطبقا على كثير من أبناء المسلمين في عصرنا ممن مرت عليهم فترات استغرقوا فيها بالعبادة والإسلام، ثم انتظموا في سلك أهل الكفر والضلال، ساخرين من حالهم الأول، مزدادين كل يوم كفرا على كفر، وقد دل المثل على أن الإنسان الذي لا يرى الأشياء بنور الإيمان منافق، ومن لم تكن منطلقاته في الحكم على الأشياء منطلقات إسلامية، فإنه: منافق لا يرى الأشياء بنور الله على ما هي عليه في الحقيقة، ثم ضرب الله مثلا آخر لنوع آخر من النفاق:
المثل الثاني: أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا، وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
قال ابن كثير: «هذا مثل آخر ضربه الله تعالى لضرب آخر من المنافقين، وهم قوم يظهر لهم الحق تارة ويشكون تارة أخرى» .
شبه دين الإسلام في المثل بالصيب أي: بالمطر لأن القلوب تحيا به، حياة الأرض بالمطر، والشبهات والشكوك في قلب هذا الضرب من المنافقين شبهها بالظلمات، والوعيد الموجود في دين الله سواء كان الوعيد بالفضيحة أو بالعذاب الأخروي أو بانتصار المؤمنين بالرعد، وبقايا الفطرة في قلوب هؤلاء بالبرق، وما يصيبهم من الأفزاع والبلايا بالصواعق.
الصيب: المطر، والرعد: هو الصوت الذي يسمع من السحب لاصطكاك أجرامه، والبرق: هو الذي يلمع من السحاب. وظلمات المطر: ظلمة تكاثفه بتتابع القطر، وظلمة
إظلال غمامه مع ظلمة الليل، والإسلام والقرآن في المثل هو المطر وحده، وأما الظلمات ففي القلب والنفس ظلمات الشبهات والشكوك والشهوات.
وذكر في المثل الأصابع- ولم تذكر الأنامل مع أن رءوس الأصابع هي التي تجعل في الآذان: اتساعا كقوله تعالى: فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما (سورة النور) والمراد إلى الرسغ، ولأن في ذكر الأصابع من الإشعار بمخالفتهم ما ليس في ذكر الأنامل، وإنما لم يذكر الأصبع الخاص الذي تسد به الأذن لأن السبابة من السب، فكان اجتنابها أولى بآداب القرآن. ولم يذكر المسبحة لأنها مستحدثة غير مشهورة، والصاعقة: قصفة رعد تنقض، والخطف: الأخذ بسرعة، وإحاطة الله بالكافرين تعني: أنهم لا يفوتونه كما لا يفوت المحاط به المحيط. وكل ما علاك فهو سماء، وتطلق السماء على السحاب أو على المطر لنزوله من السحاب فصار المعنى:
مثل المنافقين كمثل أصحاب مطر نزل من السماء في حال ظلمات، وهي الشكوك والشبهات، ورعد وهو ما يزعج القلوب من الخوف، وبرق وهو ما يلمع في قلوب ذلك الضرب من المنافقين في بعض الأحيان من نور الإيمان، فهم يسدون آذانهم فلا يرغبون أن يسمعوا التهديد والوعيد وأخبار أيام الله، ولكن ذلك لا يجديهم فإن سد