الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
جولة من السورة، ذكرت ثلاثة أركان، وبناء. وفي جولة أخرى ذكر ركنان، وبناء. ليتضح الإسلام كله شيئا فشيئا، ولتتضح التقوى شيئا فشيئا بطريق مدهش متشابك لا يشبه طرق البشر في الشرح والعرض؛ وبطريق مرب، لا يشبه طرق البشر في التربية. وذلك أن هذا الإسلام مشروح في الكتاب والسنة، وهو واسع كبير لم يترك شاردة ولا واردة إلا وقد بين حكم الله فيها. وما يطالب به كل مسلم من هذا الإسلام يختلف باختلاف استعداده ومسئولياته. والذي يطالب به كل مسلم هو أن يكون تقيا باطنا وظاهرا، حقيقة وسلوكا.
وإذا كان من أهداف القرآن البيان، فمن أهدافه إيصال المؤمن إلى التقوى. وهذه الطريقة التي رأيناها في سورة البقرة تجمع بين البيان والعرض. وبين التربية التي تخلص من الشوائب. فإذا جاءت الآية فإنها تأتي بعد أن يكون ما قبلها مهد لها نفسيا وعقليا.
ويأتي ما بعدها يغذيها ويقويها. إن أرض نفسك تفلحها آية، وتبذر بها آية، وتسقيها آية. فإذا كانت أرض نفسك صالحة، ظهر الثمر.
إن هذا القرآن عجيب، مدهش، لا يشبهه شئ من كتب البشر. ومع ذلك يكفر به كثيرون مما يدل على أن العلة في الإنسان.
ومن مظاهر ارتباط هذه الفقرة بالسياق العام، ما نلاحظ من أن الجولة الأولى من السياق ابتدأت بالأركان الثلاثة التي تلازم الإنسان كالإيمان، والصلاة، والإنفاق، ثم جاء الصوم وهو طريق سنوي لتحقيق التقوى، ثم جاء الحج، وهو ركن العمر، ولا شك أنه طريق من طرق التقوى. فكما أن في الصوم يعتاد الإنسان على التقوى من حيث إن بالصوم يكف الإنسان في فترة معينة عن أعتى شهواته. وبالتالي يعتاد على ضبطها. فكذلك بالحج يعتاد على الاستسلام لله في كل أمر. ويعتاد على تعظيم الله.
وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (سورة الحج:) وبالصلاة اليومية، وبالإنفاق اليومي والسنوي، وبالصوم السنوي، والنافلة، وبالحج العمري، وبالاتباع الكامل لكتاب الله، وبالعبادة، وبالجهد الفردي، وبعمل الدولة المسلمة تقوم التقوى في المجتمع الإسلامي على مستوى الفرد، وعلى مستوى المجتمع، وعلى مستوى الدولة.
المعنى الحرفي لآيات الفقرة:
وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ: أي وأدوهما تامين شرائطهما، وفرائضهما لوجه
الله تعالى بلا توان، ولا نقصان. هذا الاتجاه الأول فى تفسير هذا النص. الاتجاه الثاني:
أي: إذا شرعتم في الحج أو العمرة فأتموهما. فهو دليل على أن من شرع فيهما ألزمه إتمامهما
قال ابن كثير: ولهذا اتفق العلماء على أن الشروع فى الحج والعمرة ملزم، سواء قيل بوجوب العمرة أو باستحبابها كما هما قولان للعلماء. وفسر علي رضي الله عنه الإتمام فقال:«أن تحرم من دويرة أهلك» . وفسره سفيان الثوري: «أن تحرم (أي تنوي) من أهلك لا تريد إلا الحج والعمرة. وتهل من الميقات (أي تلبي وتنشئ الإحرام) ليس أن تخرج (أي ابتداء) لتجارة، ولا لحاجة. حتى إذا كنت قريبا من مكة قلت لو حججت، أو اعتمرت وذلك يجزئ، ولكن الإتمام أن تخرج له ولا تخرج لغيره ومرجع هذا القول إلى القول الأول. أي الإتمام بمعنى: الأداء الكامل. ويدخل في ذلك أن تكون النفقة حلالا.
ويقتضي المقام أن نعرف الحج والعمرة.
الحج لغة: القصد إلى معظم. وشرعا: زيارة مكان مخصوص، في زمن مخصوص، بفعل مخصوص. وهو فرض في العمر مرة على من استطاع الزاد والراحلة، فائضة عن حاجات أهله.
أما العمرة ففيها خلاف: هل هي واجبة، أو مستحبة. وهي إحرام وطواف وسعي بين الصفا والمروة، ثم تحلل.
فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ: قال النسفي: يقال أحصر فلان إذا منعه أمر من خوف، أو مرض، أو عجز، وحصر إذا حبسه عدو عن المضي.
وعند الحنفية، الإحصار يثبت بكل منع، من عدو، أو مرض، أو غيرهما.
ويشهد لهم الحديث الذي رواه الإمام أحمد، وأصحاب السنن عنه صلى الله عليه وسلم:«من كسر أو وجع، أو عرج فقد حل، وعليه حجة أخرى» . وعند الشافعي: الإحصار بالعدو وحده. وهذان الاتجاهان في تفسير الإحصار عليهما مدار الاختلاف بين العلماء، قال النسفي: وظاهر النص يدل على أن الإحصار يتحقق في العمرة أيضا. لأنه ذكر عقبهما. فإذا أحصر الإنسان بعد تلبسه بالإحرام، فماذا يفعل؟. قال تعالى: فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ. أي فما تيسر من الهدي. والهدي. جمع هدية. وهدية البيت، بعير، أو بقرة، أو شاة من المعز والضأن. فصار المعنى العام: فإن منعتم من المضي إلى
البيت وأنتم محرمون بحج أو عمرة، فعليكم إذا أردتم التحلل أن تهدوا إلى البيت ما تيسر من بعير أو بقرة أو شاة. والمناسبة بين ذكر الإحصار وما قبله واضحة. فبعد أن أمر بإتمام الحج والعمرة ذكر ما يمكن أن يعرض دون هذا الإتمام. وما هو الحل لو حدث هذا العارض. وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ. هل هذا الخطاب مرتبط بما قبله مباشرة فيكون خطابا للمحصرين، أو هو معطوف على وَأَتِمُّوا فيكون خطابا للحجاج والمعتمرين؟ فإن كان الخطاب للمحصرين، وهو الذي رجحه ابن جرير، وهو مذهب الحنفية، كان المعنى: لا تحلوا من إحرامكم بحلق الرأس حتى تعلموا أن الهدي الذي بعثتموه إلى الحرم قد بلغ محله، أي: مكانه الذي يجب نحره فيه، وهو الحرم. إذ عند الحنفية لا يذبح دم الإحصار إلا في الحرم. وعلى الاتجاه الثاني يكون المعنى: ولا يجوز لكم أن تحلقوا رءوسكم بعد إحرامكم حتى تنحروا هديكم يوم النحر. وذلك يكون بعد الإفاضة من عرفات ثم مزدلفة. وبعد رمي جمرة العقبة في يوم النحر. والمحصر على من فهم النص هذا الفهم كالشافعية ينحر حيث أحصر. ولكن لا إحصار عندهم إلا من عدو. واستدلوا لمذهبهم بنحر رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية خارج الحرم. والقضية خلافية. والربط بين هذا النص والذي قبله على الاتجاه الأول قد رأيناه. وأما على الاتجاه الثاني، فإن السياق يكون قد اتجه بعد الأمر بالإتمام إلى التفصيل في الأحكام.
وقد فهمنا من النص السابق أن التحلل من الإحرام إنما يكون بالحلق. وهذا يعني أنه لا حلق أثناء الإحرام. فإذا وجدت الضرورة فما العمل؟. قال تعالى:
فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ أي: فمن كان منكم به مرض يحوجه إلى الحلق، أو به أذى من رأسه كالقمل، والجراحة التى تحوج إلى الحلق، فعليه إذا حلق فدية. هذه الفدية إما صيام ثلاثة أيام، أو إطعام ستة مساكين، لكل مسكين نصف صاع من بر أي: ما يعدل كيلوين حنطة، أو يذبح شاة. وهو المراد بالنسك. ومذهب الأئمة الأربعة وعامة العلماء أنه يخير في هذا المقام، إن شاء صام، وإن شاء تصدق، وإن شاء ذبح شاة وتصدق بها على الفقراء. أي ذلك فعل أجزأه. وإذا كان النص في معرض بيان الرخصة، فقد جاء بالأسهل فالأسهل. أخرج الإمام أحمد عن كعب بن عجرة قال: أتى علي النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أو قد تحت قدر. والقمل يتناثر على وجهي، أو قال حاجبي فقال:«يؤذيك هوام رأسك» ؟ قلت: نعم. قال: «فاحلقه وصم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين، أو
انسك نسيكة». قال أيوب:- أحد رواة الحديث- لا أدري بأيتهن بدأ. وبعض الروايات الصحيحة تعين البداءة بالنسيكة، ثم بالإطعام، ثم بالصوم. ولذلك قال ابن كثير: ولما أمر النبي صلى الله عليه وسلم كعب بن عجرة بذلك، أرشده إلى الأفضل فقال:«انسك شاة، أو أطعم ستة مساكين، أو صم ثلاثة أيام» . فكل حسن في مقامه. وهذه الذبيحة لا يشترط لها مكان معين. ولكن يجب التصدق بها للفقراء.
أمرتنا الآية التي ندرسها، أولا بإتمام الحج والعمرة. وبينت لنا ماذا نفعل في حالة الإحصار. ثم بينت لنا كيف أن التحلل من الإحرام إنما يكون بالحلق. فلا حلق مع الإحرام. فإذا وجدت ضرورة للحلق، فقد بينت الحكم.
والآن ينتقل السياق إلى موضوع جديد. وذلك أنه في الأحوال العادية، المسلم مخير بين أن يحج مفردا بالحج، أو يقرن الحج بعمرة. فيعتمر أولا، ثم يبقى محرما. فيقوم بأعمال الحج ثم يتحلل من الجميع، أو أن يعتمر أولا ثم يتحلل من عمرته. ثم يحرم من الحرم بحج. هذه أشكال ثلاثة للحج. فجاء السياق بنص له علاقة بهذا الموضوع. قال تعالى: فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ: ولكي نفهم النص لا بد من لفت النظر إلى مسألة. وهي أنه في زمن النبوة لم يكن يفرق بين حج القران، وحج التمتع. بل يطلق اسم التمتع والقران كل منهما على الآخر. لأن المعنى اللغوي يسعهما. ولكنه بعد ذلك أخذ كل من الاسمين معناه الاصطلاحي. فصار للقران
مضمون غير مضمون التمتع. فالتمتع: أن يتحلل الإنسان بين عمرته وحجه. فيتمتع أياما بين عمرته وحجه بإحلاله. والقران: ألا يتمتع بين عمرته وحجه، بل يجمع بينهما. ولكن هذا التفريق بهذه الدقة لم يكن موجودا زمن النبوة. ولذلك فإن قوله تعالى: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ. يشمل في هذه الحالة القران والتمتع بالاصطلاح المعروف حاليا. فإذا اتضح هذا صار بالإمكان أن نفهم كلام ابن كثير في شرح الآية:
أي: فإذا تمكنتم من أداء المناسك. فمن كان منكم متمتعا بالعمرة إلى الحج وهو يشمل من أحرم بهما أو أحرم بالعمرة أولا. فلما فرغ منها أحرم بالحج
…
فليذبح ما قدر عليه من الهدي، وأقله شاة. وقد ذكر ابن كثير الدليل على أنه لم يكن يفرق بين القران والتمتع في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال:(فإن من الرواة من يقول: تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم. وآخر يقول: قرن. ولا خلاف أنه ساق هديا). أي كان قارنا. وقد كان
عمر ينهى عن التمتع. وتعليل ابن كثير لذلك هو: لم يكن عمر رضي الله عنه ينهى عنها، محرما لها. إنما كان ينهى عنها ليكثر قصد الناس للبيت حاجين معتمرين كما قد صرح به رضي الله عنه. في الصحيحين عن عمران بن حصين قال: لما نزلت آية المتعة في كتاب الله، وفعلناها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم لم ينزل قرآن يحرمها، ولم ينه عنها حتى مات.
قال رجل برأيه ما شاء. قال البخاري: يقال إنه عمر. والقران عند الحنفية أفضل.
لأنه أشق. والتمتع عند الحنابلة أفضل للحض عليه من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال المالكية:
إن الإفراد أفضل. والإجماع منعقد على جواز كل من التمتع أو القرآن، أو الإفراد.
وهل دم التمتع، أو القران، دم شكر، أو جزاء؟. وإذا كان هذا أو هذا، فماذا يترتب على ذلك من جواز ذبحه قبل يوم النحر، أو فيه؟. ومن حل أكل صاحبه منه أولا؟. الجواب: الحنفية يقولون: إن هدي المتعة نسك، يؤكل منه. ويذبح يوم النحر والشافعية قالوا: يذبح قبل يوم النحر. ولا يجوز الأكل منه. وسمي الجمع بين العمرة والحج في أشهره- سواء فصل بين ذلك بإحلال أو لا- تمتعا لانتفاع المسلم بالتقرب بالعمرة إلى الله قبل انتفاعه بالتقرب بالحج. وخص الفقهاء اسم التمتع بمن أحل من إحرامه بعد العمرة بسبب ما ينتفع به الحاج من استباحة ما كان محرما عليه إلى أن يحرم بالحج.
فهمنا من النص أن التمتع أو القارن عليه أن يذبح. فإذا لم يجد فماذا يفعل؟. قال تعالى: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ أي: فمن لم يجد الهدي، فعليه صيام ثلاثة أيام في وقت الحج وهو أشهره ما بين إحرام العمرة ويوم النحر، وسبعة إذا فرغ من أفعال الحج. فصار مجموع الصيام البديل عن الهدي عشرة كاملة وذكره كامِلَةٌ بعد عشرة، إما إشارة إلى وقوعها بدلا كاملا عن الهدي في الثواب، أو لرفع أي إيهام يمكن أن يتصور في أنها أقل من عشرة. أو هي للتأكيد. وفي وقت الأيام الثلاثة خلاف كثير. فبعضهم جوز صيامها من أول شوال إذا كان الإنسان متلبسا بالعمرة. ومنهم من جوز صيامها بعد يوم النحر في ثلاثة أيام التشريق. والمفتى به عند علماء الشافعية والحنفية أنه إذا لم يصم الثلاثة أيام حتى يوم النحر، فإنه لا يجزئه إلا الهدي. ولا شك أن صيام الثلاثة أيام قبل التلبس بإحرام العمرة مردود. بقي إذن الوقت المحدد لصيام الثلاثة أيام ما بين التلبس بإحرام العمرة إلى يوم النحر. قال ابن عباس: «إذا لم يجد هديا فعليه صيام ثلاثة أيام في الحج قبل يوم عرفة.
فإذا كان يوم عرفة الثالث فقد تم صومه. وسبعة إذا رجع إلى أهله».