الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التفسير:
يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ إسرائيل هو: يعقوب عليه السلام وذلك لقب له، وذكر النعمة القيام بشكرها، وطاعة الله مانحها، والنعمة التي أمروا بذكرها هي: ما أنعم الله به على آبائهم من الإنجاء من فرعون وتفجير الحجر وإرسال الرسل، وإنزال الكتب وغير ذلك مما سنراه. وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ الوفاء بالعهد أداؤه تاما، وعهد الله عليهم هو: ما أخذه عليهم مما قص الله علينا في القرآن، والذي في جملته أن يتابعوا رسله وأن ينصروهم، ومحمد صلى الله عليه وسلم من الرسل، وقد بشرت به التوراة فعليهم أن يؤمنوا ويتابعوا وينصروا، فإن فعلوا أعطاهم الله عز وجل ما وعدهم به من تكفير السيئات ودخول الجنات. وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ أي فاخشون ولا تخشوا أحدا سواي أن أنزل بكم ما أنزلت بمن قبلكم من آبائكم من النقمات، ولعذاب الآخرة أكبر ..
وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ. يعني به القرآن الذي أنزل علي محمد صلى الله عليه وسلم مشتملا على الحق من الله تعالى مصدقا لما بين يديه من التوراة والإنجيل في أصليهما السماويين قبل التحريف والتبديل. وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ قال ابن عباس: (أي)«ولا تكونوا أول كافر به وعندكم من العلم ما ليس عند غيركم» ، وهذا تعريض: بأنه كان يجب أن يكونوا أول من يؤمن به لمعرفتهم به وبصفته، والضمير في (به) يعود إلى القرآن وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا أي لا تعتاضوا عن الإيمان بآياتي وتصديق رسولي بالدنيا وشهواتها فإنها قليلة فانية، فالثمن
القليل هو الدنيا بحذافيرها، فإنها قليلة بجنب رضوان الله، ومن الدنيا الرئاسة والمال والجاه. وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ أي فخافون الخوف الذي يوصلكم إلى فعل الأمر، وترك النهي. قال طلق بن حبيب:«التقوى أن تعمل بطاعة الله رجاء رحمة الله على نور من الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله تخاف عقاب الله» .
وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ لبس الحق بالباطل:
خلطه، وكتمان الحق: عدم إظهاره، نهاهم عن الشيئين معا: ألا يلبسوا الحق بالباطل فيموهوه به، وألا يكتموا الحق في حال علمهم أنهم لابسون وكاتمون، لأن ذلك أقبح إذ ربما عذر مرتكب القبيح إذا كان جاهلا قال قتادة:(أي)«لا تلبسوا اليهودية والنصرانية بالإسلام وأنتم تعلمون أن دين الله هو الإسلام» . وقال ابن عباس: «لا تكتموا ما عندكم من المعرفة برسولي وبما جاء به وأنتم تجدونه مكتوبا عندكم فيما تعلمون من الكتب التي بأيديكم» أقول: وكلام قتادة وابن عباس مما يدخل في النهي، والنهي أعم.
وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ أمرهم أن يصلوا صلاة المسلمين، وأن يدفعوا زكاة أموالهم كما يفعل المسلمون، وأن تكون صلاتهم مع المسلمين ليكونوا معهم ومنهم. وقد استدل كثير من العلماء بقوله تعالى وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ على وجوب صلاة الجماعة.
أمرهم فيما مر أن يذكروا نعمته، وأن يوفوا بعهده، وأن يرهبوه، وأن يكونوا أول المؤمنين بالإسلام، وألا يعتاضوا عن الإسلام بالدنيا، وأن يتقوا الله، وألا يخلطوا الحق بالباطل، وألا يكتموا الحق مع علمهم به، وأن يقيموا الصلاة وأن يؤتوا الزكاة، وأن يصلوا مع المسلمين في جماعاتهم، فإن فعلوا هذا كانوا أبرارا على الحقيقة وهم يزعمون أنهم دعاة إلى البر وليس البر إلا هذا، فالبر إيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله، والبر صلاة وزكاة ووفاء بالعهد
…
كما سنرى في آية البر، ومن ثم فإن الله عز وجل بعد هذه الأوامر والنواهي خاطبهم موبخا ومعجبا من حالهم:
أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ يأمرون الناس بطاعة الله وتقواه والالتزام بكتابه وهداه والوفاء بعهوده، وهذا القرآن هو
كتابه ومحمد رسوله صلى الله عليه وسلم فلو كانوا صادقين في الدعوة إلى الله لآمنوا بما أنزل وبمن أنزل عليه والتزموا. ولكنهم كاذبون في دعواهم ودعوتهم ولذلك فإنهم بعيدون عن البر لأن الصادق في الدعوة يوجه الدعوة إلى نفسه أولا، وهؤلاء يوجهون الدعوة إلى
غيرهم وينسون أنفسهم مع أنهم يتلون الكتاب الذي: هو التوراة هنا، وهي تأمرهم بالبر الحقيقي وتعظهم. فصار معنى الآية: كيف يليق بكم يا معشر أهل الكتاب- وأنتم تأمرون الناس بالبر وهو جماع الخير- أن تنسوا أنفسكم فلا تأتمرون بما تأمرون به الناس، وأنتم مع ذلك تتلون الكتاب، وتعرفون ما فيه على من قصر في أوامر الله. أفلا تفطنون لقبح ما أقدمتم عليه حتى يصدكم استقباحه عن ارتكابه؟ أفلا تفطنون إلى ما أنتم صانعون بأنفسكم فتنتبهوا من رقدتكم وتبصروا من عمايتكم؟ ألا عقول لكم توصلكم إلى هذا؟!!
وليس المراد ذمهم على أمرهم بالبر مع تركهم له، بل على تركهم له، فإن الأمر بالمعروف واجب على العالم، ولكن الواجب الأولى بالعالم أن يفعله مع من أمرهم به، ولا يتخلف عنهم فكل من الأمر بالمعروف وفعله واجب لا يسقط أحدهما بترك الآخر، فالصحيح أن العالم يأمر بالمعروف وإن لم يفعله، وينهى عن المنكر وإن ارتكبه مع إثمه بالتفريط وقصوره ونقصانه، فالآية إذن تلوم على الجانب الثاني ولا تنكر فعل الأول، ومن ثم قال سعيد بن جبير:«لو كان المرء لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر حتى لا يكون فيه شئ ما أمر أحد بمعروف، ولا نهى عن منكر» قال مالك:
(وصدق من ذا الذي ليس فيه شئ؟) لكنه والحالة هذه مذموم على ترك الطاعة وفعله المعصية لعلمه بها ومخالفته على بصيرة، فإنه ليس من يعلم كمن لا يعلم، ولهذا جاءت الأحاديث والآثار في الوعيد على ذلك:
أخرج الإمام أحمد والبخاري ومسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق به أقتابه فيدور بها في النار كما يدور الحمار برحاه فيطيف به أهل النار، فيقولون يا فلان ما أصابك؟ ألم تكن تأمرنا بالمعروف، وتنهانا عن المنكر؟
فيقول: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه وأنهاكم عن المنكر وآتيه» هذه رواية أحمد.
وأخرج الإمام أحمد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله يعافي الأميين يوم القيامة ما لا يعافي العلماء» . وقد ورد في بعض الآثار: فإنه يغفر للجاهل سبعين مرة حتى يغفر للعالم مرة واحدة ليس من يعلم كمن لا يعلم.
وأخرج الإمام أحمد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «مررت ليلة أسري بي على قوم تقرض شفاههم بمقاريض من نار قال: قلت من هؤلاء؟ قالوا خطباء أمتك من أهل الدنيا ممن كانوا يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم وهم يتلون الكتاب، أفلا يعقلون؟» .
وبعد أن امرهم الله عز وجل ونهاهم ووبخهم دلهم على شئ إن يفعلوه سهل عليهم تنفيذ كل ما سبق قال تعالى:
وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ.
وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ على حوائجكم إلى الله، وعلى البلايا والنوائب، وعلى القيام بأمر الله كله، وعلى ما يترتب من القيام بالأوامر السابقة من وفاء بالعهود والجهر بالحق والأمر بالبر والالتزام به، وعلى إقامة ذلك أصلا استعينوا على ذلك كله بالجمع بين الصبر والصلاة. وفسر الصبر هنا بالصوم لقوله عليه السلام «الصوم نصف الصبر» . ولتسمية شهر رمضان بشهر الصبر. وفسر الصبر بالاسترجاع لقول الله تعالى وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ.
وفسرت الصلاة في الآية بالدعاء الذي هو المعنى اللغوي للصلاة، وفسرت بالصلاة المعروفة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة. وَإِنَّها أي الصلاة على القول الراجح أو الاستعانة لَكَبِيرَةٌ أي ثقيلة شاقة. إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ الخشوع هو: الإخبات لله والتطامن، أو هو الخوف والتواضع والخضوع الذي هو اللين والانقياد وقد عرفنا الله عز وجل من هو الخاشع بقوله:
الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ. والظن هنا: اليقين، ولقاء الله: فسر بلقاء جزائه، وفسر برؤيته ومعاينته بلا كيف، وفسر الرجوع: بالعود إليه في الآخرة، وفسر بعود الأمور كلها إلى مشيئته وحكمه. فالخاشع: هو من أيقن بلقاء الجزاء في الآخرة فهذا يعمل على حسب ذلك، وأما من لم يوقن بالجزاء، ولم يرج الثواب فإن التكليف عليه شاق، والصلاة التي هي أولى العبادات تكون عليه مشقة خالصة.
قال ابن كثير: «والظاهر أن الآية وإن كانت خطابا في سياق إنذار بني إسرائيل فإنهم لم يقصدوا بها على سبيل التخصيص وإنما هي عامة لهم ولغيرهم» أقول: إنه ما من آية في القرآن إلا وهي موجهة للمؤمنين بشكل من الأشكال لأنهم هم المستفيدون وحدهم من كتاب الله. وعلى هذا فما مر وما يمر لا بد أن نعرف فيه هذه القاعدة كي نأخذ حظنا من كل آية، فإذ يقص الله علينا شيئا حدث لبني إسرائيل فلكي نأخذ منه العبرة فنتجنب أو نستبشر أو نتعظ أو نعمل أو نتوقع أو نتعلم، وهكذا الشأن في كل آية.