الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
في القاعدة الكلية التي تختم بها قصة آدم: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ* وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ فبعد أن قرر الله عز وجل في المقدمة ما قرر، تأتي قصة آدم فكأنها تقول: إن اتباع هداي هو شرطي عليكم من الابتداء، ومن ثم فقصة آدم تعمق قضية الاهتداء بكتاب الله، وتحذر من قضية المخالفة والكفر، وهي في الوقت نفسه تعمق معنى الصراط المستقيم والسير فيه، ومعنى تنكب صراط المغضوب عليهم والضالين الذي ورد في آخر فقرة من الفاتحة.
- رأينا أنه قد جاء بعد مقدمة سورة البقرة مقطع: في بدايته أمر ونهي. الأمر: هو قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ.
والنهي هو قوله تعالى: فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ.
وفي قصة آدم نجد أمرا ونهيا.
الأمر هو اسْجُدُوا لِآدَمَ.
والنهي هو وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ.
وقد حدثت مخالفة للأمر والنهي فكان العقاب، فقصة آدم جاءت لتعمق ضرورة الالتزام بطاعة الأمر واجتناب النهي.
وفي هذا القدر من ذكر الصلة بين قصة آدم وما سبقها من سورة البقرة كفاية وللكلام تتمة فلننتقل إلى ذكر التفسير:
2 - التفسير:
وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً (إذ) بإجماع المفسرين متعلقة بفعل أمر تقديره (اذكر) فإن يأمرنا الله عز وجل بعد ما مر من مقدمة السورة والمقطع الأول بتذكر هذه القصة، فذلك دليل على ارتباط هذه القصة بما قبلها، وورودها ضمن سياق متسلسل يخدم المعاني التي سبقتها كما رأينا، وكما سنرى. والمراد بالخليفة في الآية: آدم وذريته ولم يقل خلائف أو خلفاء لأنه أريد بالخليفة آدم واستغنى بذكره عن ذكر بنيه كما تستغني بذكر أبي القبيلة في قولك مضر وهاشم، وهل هو خليفة عن الله؟ أو خليفة عن الجن؟ أو خليفة عن خلق آخرين؟ أقوال للمفسرين أقواها الأول وليس هناك نص قطعي في الموضوع، والخليفة في اللغة: من خلف فلان فلانا في
أمر إذا قام فيه مقامه بعده. عن ابن مسعود: أن الله قال للملائكة: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالوا: ربنا وما يكون ذاك الخليفة؟ قال: يكون له ذرية يفسدون في الأرض ويتحاسدون ويقتل بعضهم بعضا. قال ابن جرير: فكان تأويل الآية على هذا:
إني جاعل في الأرض خليفة مني يخلفني في الحكم بالعدل بين خلقي، وإن ذلك الخليفة هو آدم ومن قام مقامه في طاعة الله والحكم بالعدل بين خلقه. وأما الإفساد وسفك الدماء بغير حقها فمن غير خلفائه. قالُوا أي الملائكة أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ، وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ. أخبرهم بذلك ليسألوا هذا السؤال فيجابون بما أجيبوا به فيعرفوا حكمته في استخلاف الإنسان قبل كونه، وإنما هو سؤال استعلام واستكشاف عن الحكمة في ذلك يقولون: يا ربنا ما الحكمة في خلق هؤلاء مع أن منهم من يفسد في الأرض ويسفك الدماء؟ فإن كان المراد عبادتك فنحن نسبح بحمدك ونقدس لك ولا يصدر منا شئ من ذلك وهلا وقع الاقتصار علينا؟ قال الله تعالى مجيبا لهم عن هذا السؤال إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ: أي إني أعلم من المصلحة الراجحة في خلق هذا الصنف على المفاسد التي ذكرتموها ما لا تعلمون أنتم، فإني سأجعل فيهم الأنبياء وأرسل فيهم الرسل، ويوجد منهم الصديقون والشهداء والصالحون والعباد والزهاد والأولياء والأبرار والمقربون والعلماء والعاملون والخاشعون والمحبون له تبارك وتعالى المتبعون رسله صلوات الله وسلامه عليهم. وإنما عرفوا أن الخليفة الجديد سيفسد في الأرض ويسفك الدماء إما بإخبار من الله تعالى، أو من جهة اللوح، أو قاسوا ما سيكون على شئ معروف لديهم من قبل، ومعنى: نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ أي ننزهك ونبرئك من كل نقص وعيب متلبسين بالشكر لك، ومعنى: نُقَدِّسُ لَكَ أي ننسبك إلى ما هو من صفاتك من الطهارة من الأدناس.
وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ، فَقالَ: أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ، قالُوا: سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ علم آدم أسماء المسميات كلها، فأراه الأجناس التي خلقها وعلمه أن هذا اسمه فرس، وهذا بعير، وهذا سحاب، وهذه مجرة، وهذه شمس، وهذا نجم، حتى القصعة والمغرفة، ثم عرض المسميات على الملائكة وطالبهم أن يخبروه عن أسمائها إن كانوا صادقين في ما اتجهوا إليه أنه يستخلف مفسدين سفاكين للدماء، وفيه رد عليهم، وبيان أن فيمن يستخلفه من الفوائد العلمية التي هي أصول الفوائد كلها ما يستأهلون لأجله
أن يستخلفوا، فما كان جوابهم إلا أن قدسوه ونزهوه أن يحيط أحد بشيء من علمه إلا بما شاء، وأن يعلموا شيئا إلا ما علمهم فهو العليم بكل شئ، الحكيم في خلقه، وأمره، وفي تعليمه، وعطائه ما يشاء ومنعه ما يشاء، له الحكمة في ذلك والعدل التام ..
قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ أمر آدم أن يخبرهم بأسماء الأشياء كلها، فلما ظهر فضل آدم عليه السلام في سرده ما علمه الله تعالى من أسماء الأشياء، ذكرهم بأنه جل جلاله يعلم الغيب الظاهر والخفي ويعلم ما يظهرونه في ألسنتهم وما كانوا يخفونه في أنفسهم، وما أظهروه هو قولهم: أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها .. والذي كانوا يكتمونه هو ما كان منطويا عليه إبليس من الخلاف على الله في أوامره والتكبر عن طاعته ومن المعتاد تعميم الخطاب وإرادة البعض. هذا الذي رجحه ابن جرير.
وبعد أن أرى الله عز وجل الملائكة مزية آدم، أمرهم بالسجود له وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ هذه كرامة عظيمة من الله عز وجل لآدم امتن بها على ذريته حيث أخبر أنه تعالى أمر الملائكة بالسجود لآدم، والجمهور: على أن المأمور به وضع الوجه على الأرض. وكان السجود تحية لآدم عليه السلام في الصحيح، إذ لو كان لله تعالى لما امتنع عنه إبليس، وكان سجود التحية جائزا فيما مضى، ثم نسخ بشريعتنا، وإبليس من الجن بالنص وهو قول الحسن وقتادة، ولأنه خلق من نار والملائكة خلقوا من النور، ولأنه أبى وعصى واستكبر، والملائكة لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ولا يستكبرون عن عبادته، ولأن الله عز وجل قال: أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي ولا نسل للملائكة، ودخل إبليس في خطابهم لأنه وإن لم يكن من عنصرهم إلا أنه قد تشبه بهم وتوسم بأفعالهم، قال الحسن: ما كان إبليس من الملائكة طرفة عين قط وإنه لأصل الجن، كما أن آدم أصل الإنس، وقال شهر بن حوشب: كان إبليس من الجن الذين طردتهم الملائكة، فأسره بعض الملائكة فذهب به إلى السماء، رواه ابن جرير، وعن سعد بن مسعود قال: كانت الملائكة تقاتل الجن فسبي إبليس وكان صغيرا فكان مع الملائكة يتعبد معها، فلما أمروا بالسجود لآدم سجدوا، فأبى إبليس فلذلك قال تعالى إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ (سورة الكهف)، وللمفسرين اتجاهات أخرى في هذا المقام ولا طائل في ذلك، وقد حسد عدو الله إبليس آدم عليه السلام على ما أعطاه الله
من الكرامة وقال: أنا ناري وهذا طيني، فامتنع عن السجود كبرا، فكان بدء الذنوب الكبر، فاقتضى ذلك طرده وإبعاده عن جنات الرحمة وحضرة القدس، ومعنى قوله
تعالى: وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ أي: وصار من الكافرين بإبائه واستكباره ورده الأمر.
وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ، وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ يقول الله تعالى إخبارا عما أكرم به آدم بعد أن أمر الملائكة بالسجود له فسجدوا إلا إبليس أنه أباح له الجنة يسكن منها حيث يشاء ويأكل منها ما شاء رغدا أي هنيئا واسعا طيبا والجنة هي نفسها دار الثواب وقالت المعتزلة:
كانت بستانا في الأرض لأن الجنة لا تكليف فيها ولا خروج عنها والجواب: إنما لا يخرج منها من دخلها جزاء وقد دخل النبي صلى الله عليه وسلم إليها ليلة المعراج ثم خرج منها، وأهل الجنة يكلفون المعرفة والتوحيد قال ابن جرير:«نهي آدم وزوجته عن أكل شجرة بعينها من أشجار الجنة دون سائر أشجارها فأكلا منها ولا علم عندنا أي شجرة كانت على التعيين لأن الله لم يضع لعباده دليلا على ذلك في القرآن ولا من السنة الصحيحة، وقد قيل كانت شجرة البر، وقيل كانت شجرة العنب، وقيل كانت شجرة التين، وجائز أن تكون واحدة منها، وذلك علم إذا علم لم ينفع العالم به علمه، وإن جهله جاهل لم يضره جهله به» اهـ. وقد بين الله عز وجل لآدم وزوجته أنهما إذا قاربا الشجرة كانا من الظالمين، لأنه لا ظلم للنفس أعظم من معصية الله، ولا ضرر عليها أعظم من ذنبها، فأي ظلم أكبر من أن تتجاوز ما حد الله لك بعد كل ما أعطاك بلا مقابل منك؟
فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها أي عن الشجرة أي فحملهما الشيطان على الزلة بسببها، أي فأصدر الشيطان زلتهما عنها، أو عن الجنة بمعنى أذهبهما عنها وأبعدهما. وزلة آدم بالخطإ في التأويل بحمل النهي على التنزيه دون التحريم. وهذا دليل على أنه يجوز إطلاق اسم الزلة على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. وقال بعضهم: لا يطلق اسم الزلة على أفعالهم كما لا تطلق المعصية، وإنما يقال فعلوا الفاضل وتركوا الأفضل فعاتبهم ربهم وله عتابهم، أما نحن فقد أدبنا الله بأن نتأدب معهم، وذهب بعضهم أن ما فعله آدم كان قبل النبوة، وبالتالي فلا خدش لموضوع العصمة فيما فعله آدم عليه السلام.
فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ أي من النعيم والكرامة أو من الجنة إن كان الضمير للشجرة في (عنها).
والسؤال: كيف توصل إلى إزلالهما بعد ما قيل له: فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ سورة (ص) والجواب: إنه منع من دخولها على جهة التكرمة كدخول الملائكة لا عن دخولها على جهة الوسوسة ابتلاء لآدم وحواء، وبعضهم ذهب إلى أن الوسوسة مستطاعة له على البعد، والرواية الإسرائيلية تذكر الحية كواسطة في الدخول وسنرى قيمة الروايات الإسرائيلية فيما بعد.
وَقُلْنَا: اهْبِطُوا الهبوط النزول والخطاب على رأي بعضهم لآدم وحواء وإبليس وبعضهم قال: الخطاب لآدم وحواء لأن إبليس أمر بالهبوط من قبل، والمراد هما وذريتهما لأنهما لما كانا أصل الإنس ومتشعبهم جعلا كأنهما الإنس كلهم بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ على الوجه الأول فالمراد به عداوة إبليس للإنسان وعلى الوجه الثاني فالمراد به ما عليه الناس من التباغي والتعادي وتضليل بعضهم لبعض وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ المستقر إما موضع الاستقرار أو هو الاستقرار نفسه وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ المتاع: التمتع، والحين: إما يوم القيامة أو الموت
فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ أي استقبلها بالأخذ والقبول والعمل بها، أي إن الله عز وجل ألهمه إياها والكلمات هن: رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ، (سورة الأعراف) فَتابَ عَلَيْهِ. أي فرجع عليه بالرحمة والقبول واكتفى بذكر توبة آدم لأن حواء كانت تبعا له. إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ.
التواب: الكثير القبول للتوبة، والرحيم: الكثير الرحمة.
قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً. أي مجتمعين، وكرر الأمر بالهبوط للتأكيد، أو لما نيط به من زيادة قوله تعالى فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً إذ هي القاعدة الكلية التي سيكون عليها مدار فعل الله جل جلاله بهم فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً الهدى هنا هو: الرسول أو الكتاب أو الوحي، أو هو: الكتاب أو الوحي بواسطة رسوله فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ الاتباع يكون بالقبول له والإيمان به والعمل. فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ أي فيما يستقبلونه من أمر الآخرة. وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ على ما فاتهم من أمر الدنيا
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا. أي: جحدوا الهدى وكذبوا أهله مع مجيئهم بالآيات أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ. أي: أهلها ومستحقوها هُمْ فِيها خالِدُونَ. أي: مخلدون فيها لا محيد لهم عنها ولا محيص.