الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أو تؤخر. وحيث لا تطغى هذه الدقة المطلقة في الصياغة القانونية على جمال التعبير وطلاوته. وحيث يربط التشريع بالوجدان الديني ربطا لطيف المدخل عميق الإيحاء قوي التأثير، دون الإخلال بترابط النص من ناحية الدلالة القانونية. وحيث يلحظ كل المؤثرات المحتملة في موقف طرفي التعاقد وموقف الشهود والكتاب، فينفي هذه المؤثرات كلها ويحتاط لكل احتمال من احتمالاتها. وحيث لا ينتقل من نقطة إلى نقطة إلا وقد استوفى النقطة التشريعية بحيث لا يعود إليها إلا حيث يقع ارتباط بينهما وبين نقطة جديدة يقتضي الإشارة إلى الرابطة بينهما
…
إن الإعجاز في صياغة آيات التشريع هنا لهو الإعجاز في صياغة الإيحاء والتوجيه.
بل هو أوضح وأقوى. لأن الغرض دقيق يحرفه لفظ واحد، ولا ينوب فيه لفظ عن لفظ. ولولا الإعجاز ما حقق الدقة التشريعية المطلقة والجمال الفني المطلق على هذا النحو الفريد.
ذلك كله فوق سبق التشريع الإسلامي بهذه المبادئ للتشريع المدني والتجاري بحوالي عشرة قرون، كما يعترف الفقهاء المحدثون؟ .. اه
لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ خلقا وملكا .. وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ. أي: وإن تظهروا ما في أنفسكم، أو تسروه، يحاسبكم به الله فيكافئكم ويجازيكم. قال النسفي: (ولا تدخل الوساوس وحديث النفس فيما يخفيه الإنسان. لأن ذلك مما ليس في وسعه الخلو منه. ولكن ما اعتقده، وعزم عليه.
والحاصل أن عزم الكفر كفر، وخطرة الذنوب من غير عزم معفوة. وعزم الذنوب إذا ندم عليه، ورجع عنه، واستغفر منه مغفور. فأما إذا هم بسيئة، وهو ثابت على ذلك، إلا أنه منع عنه بمانع ليس باختياره، فإنه لا يعاقب على ذلك عقوبة فعله. فبالعزم على الزنا- مثلا- لا يعاقب عقوبة الزنا فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ: من المغفرة، والتعذيب، وغير ذلك.
فوائد:
1 -
في الحديث الصحيح الذي رواه الإمام أحمد، وغيره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «أنه ذكر رجلا من بني إسرائيل سأل بعض بني إسرائيل أن يسلفه ألف دينار. فقال ائتني بشهداء، أشهدهم. قال: كفى بالله شهيدا. قال: ائتني بكفيل. قال: كفى بالله كفيلا. قال: صدقت، فدفعها إلى أجل مسمى. فخرج الرجل في البحر، فقضى
حاجته ثم التمس مركبا يقدم عليه للأجل الذي أجله. فلم يجد مركبا. فأخذ خشبة، فنقرها، وأدخل فيها ألف دينار، وصحيفة معها إلى صاحبها. ثم زجج موضعها، ثم أتى بها البحر، ثم قال: اللهم إنك قد علمت أني استسلفت فلانا ألف دينار، فسألنى كفيلا. فقلت: كفى بالله كفيلا. وسألني شهيدا، فقلت: كفى بالله شهيدا.
فرضي بذلك، وإني قد جهدت أن أجد مركبا أبعث إليه بالذي أعطاني، فلم أجد مركبا. وإني استودعتكها. فرمى بها في البحر حتى ولجت فيه، ثم انصرف وهو في ذلك يطلب مركبا إلى بلده. فخرج الرجل الذي كان أسلفه ينظر لعل مركبا تجيئه بماله. فإذا بالخشبة التي فيها المال، فأخذها لأهله حطبا. فلما كسرها، وجد المال، والصحيفة. ثم قدم الرجل الذي كان تسلف منه، فأتاه بألف دينار. وقال: والله ما زلت جاهدا في طلب مركب لآتيك بمالك، فما وجدت مركبا قبل الذي أتيت فيه.
قال: هل كنت بعثت إلي بشيء؟. قال: ألم أخبرك أني لم أجد مركبا قبل هذا الذي جئت به. قال: فإن الله قد أدى عنك الذي بعثت. به في الخشبة. فانصرف بألفك راشدا»
2 -
قال ابن كثير: جاء في الحديث: «إن من الصدقة أن تعين صانعا، أو تصنع لأخرق» . وفي الحديث الآخر: «من كتم علما يعلمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار» .
3 -
وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يا معشر النساء، تصدقن وأكثرن الاستغفار. فإني رأيتكن أكثر أهل النار» . فقالت امرأة منهن جزلة: وما لنا يا رسول الله أكثر أهل النار؟. قال: «تكثرن اللعن، وتكفرن العشير. ما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب لذي لب منكن» . قالت: يا رسول الله: ما نقصان العقل والدين قال: «أما نقصان عقلها فشهادة امرأتين تعدل شهادة رجل. فهذا نقصان العقل. وتمكث الليالي ولا تصلي، وتفطر في رمضان. فهذا نقصان الدين» .
4 -
ورد في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم قال صلى الله عليه وسلم: «ألا أخبركم بخير الشهداء؟. الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها» .
فما الجمع بينه، وبين الحديث الآخر الصحيح: «ألا أخبركم بشر الشهداء؟.
الذين يشهدون قبل أن يستشهدوا». وكذا قوله صلى الله عليه وسلم: «ثم يأتي قوم تسبق أيمانهم، شهادتهم. وتسبق شهادتهم أيمانهم» . وكذا قوله: «ثم يأتي قوم يشهدون، ولا
يستشهدون».
الجواب: أن الأول في الشهادة الحق. وأن هذه في شهادة الزور.
5 -
رأينا أن الجمهور حملوا الأمر بالإشهاد على البيع الناجز على الندب. ومما يشهد لذلك الحديث الذي رواه الإمام أحمد، وأبو داود، والنسائي «أن النبي صلى الله عليه وسلم ابتاع فرسا من أعرابي، فاستتبعه النبي صلى الله عليه وسلم ليقضيه ثمن فرسه. فأسرع النبي صلى الله عليه وسلم، وأبطأ الأعرابي، فطفق رجال يعترضون الأعرابي، فيساومونه بالفرس، ولا يشعرون أن النبي صلى الله عليه وسلم ابتاعه حتى زاد بعضهم الأعرابي في السوم على ثمن الفرس الذي ابتاعه النبي صلى الله عليه وسلم: فنادى الأعرابي النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن كنت مبتاعا هذا الفرس فابتعه، وإلا بعته. فقام النبي صلى الله عليه وسلم حين سمع نداء الأعرابي، قال: «أو ليس قد ابتعته منك» . قال الأعرابي: لا والله ما بعتك. قال النبي صلى الله عليه وسلم: «بل قد ابتعته منك» . فطفق الناس يلوذون بالنبي صلى الله عليه وسلم، والأعرابي وهما يتراجعان. فطفق الأعرابي يقول هلم شهيدا يشهد أني بعتك. فمن جاء من المسلمين قال للأعرابي: ويلك إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن ليقول إلا حقا، حتى جاء خزيمة. فاستمع لمراجعة النبي صلى الله عليه وسلم، ومراجعة الأعرابي يقول: هلم شهيدا يشهد أني قد بايعتك. قال خزيمة: أنا أشهد أنك قد بايعته. فأقبل النبي صلى الله عليه وسلم على خزيمة، فقال:«بم تشهد؟» . فقال: بتصديقك يا رسول الله. فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شهادة خزيمة، بشهادة رجلين».
6 -
في قوله تعالى: وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ.
اتجاهان للمفسرين: الاتجاه الأول: أنها منسوخة بقوله تعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ. والقول الثاني: أنها غير منسوخة. وإنما قوله تعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها بيان لما يكون عليه الحساب. وهو مما يدخل تحت الوسع، ويدخل تحت الكسب.
والمهم أن نعرف أن المؤاخذة في العزم ثابتة. وأما الخطرة دون العزم، فالجمهور على أنها معفو عنها. فإذا اتضح هذا، فمسألة النسخ وعدمه، إنما هي مسألة اصطلاحية، تدور حول التخصيص، هل هو نسخ، أو بيان،. مع الملاحظة أن القاعدة الكلية هي أن النسخ يكون في الأحكام، لا في الأخبار. وقد أخذ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذه الآية أمر شديد، حتى فرج الله عنهم بأن أنزل الآيتين بعدها.
ومما ورد في ذلك. ما رواه الإمام أحمد، وغيره عن أبي هريرة قال: لما نزلت على
رسول الله صلى الله عليه وسلم: لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ
…
اشتد ذلك على أصحاب رسول الله: فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم جثوا على الركب، وقالوا يا رسول الله:
كلفنا من الأعمال ما نطيق: الصلاة، والصيام، والجهاد، والصدقة. وقد أنزلت عليك هذه الآية، ولا نطيقها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم؛ سمعنا وعصينا؟. بل قولوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير» . فلما أقر بها القوم، وذلت بها ألسنتهم، أنزل الله في أثرها: آمَنَ الرَّسُولُ
…
إلى آخر الآيتين. فلما فعلوا ذلك نسخها الله.
وكما قلنا سابقا، إن كلمة النسخ هنا كلمة اصطلاحية. تفيد البيان المقيد، لا أكثر.
ولذلك نجد روايات عن ابن عباس تفيد النسخ، وروايات تفيد عدم النسخ. لأن الأمر كما ذكرنا. وممن روي عنه عدم النسخ: مجاهد، والضحاك، والحسن البصري.
واختاره ابن جرير. واحتج على أنه لا يلزم من المحاسبة، المعاقبة. وأنه تعالى قد يحاسب؛ ويغفر. وقد يحاسب؛ ويعاقب: بالحديث الصحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يدنو المؤمن من ربه عز وجل حتى يضع عليه كنفه، فيقرره بذنوبه. فيقول له: هل تعرف كذا؟. فيقول: رب أعرف، أعرف. حتى إذا بلغ ما شاء الله أن يبلغ، قال: فإني قد سترتها عليك في الدنيا. وإني أغفرها لك اليوم قال: فيعطى صحيفة حسناته، أو كتابه بيمينه. وأما الكفار، والمنافقون، فينادى بهم على رءوس الأشهاد: هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (سورة هود).
7 -
من الأحاديث التي تدل على أن الله لا يحاسب على ما دون العزم ما رواه أصحاب الكتب الستة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله تجاوز لي عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تكلم أو تعمل» . وهذا في الخطرة الآثمة إذا رفضها القلب. أما إذا قبلها القلب، وعزم على فعلها، فالجمهور على أنه يأثم بذلك. ولكنه إن تركها لله، فإن الله يأجره على ذلك. روى مسلم عن ابن عباس، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه تعالى قال: «إن الله كتب الحسنات، والسيئات. ثم بين ذلك.
فمن هم بحسنة، فلم يعملها، كتبها الله عنده حسنة كاملة. وإن هم بها فعملها، كتبها الله عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة. وإن هم بسيئة، فلم يعملها، كتبها الله عنده حسنة. وإن هم بها فعملها، كتبها الله عنده سيئة واحدة».