الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأزهر يومئذ الدكتور الشيخ عبد الحليم محمود بما جاء في هذا المشروع أعلن استنكاره، ووجه التحذير منه.
وكشف الدكتور "عمر فروخ" في تقريره عما دار في المؤتمر خيوط المكيدة المدبرة ضدَّ اللغة العربية والإسلام، إذ قال في تقريره:
"وفي أثناء الجلسات الرسمية للمؤتمر، وفي الفترات المتعددة بين الجلسات، جرت بحوث واقتراحات وملاحظات، جعلتني أوجس خيفة شديدة من المشروع.... إن كل ما دار في مؤتمر برمّانا كان يولد فيَّ شعوراً بأن الغاية الأولى والأخيرة من المؤتمر الاهتمام بالعامية.... لقد حضر هذا المؤتمر عدد قليل من اللبنانيين، ونفر من العرب غير اللبنانيين، (وكثرة) من الأجانب، لفت نظري أن جلَّهم من الرهبان اليسوعيين....".
(5) ردود على مزاعم خصوم الفصحى
من جيد الردود المنطقية التي ظهرت إبان دعوة "ولكوكس" وأنصاره إلى العامية وهجر العربية الفصحى، رد للأستاذ "إبراهيم مصطفى" إذ بيَّن فيه أن العربية الفصحى تحتل - بحسب صفاتها الذاتية واستناداً إلى المقارنات الموضوعية بينها وبين سائر اللغات - أرقى درجة من درجات الكمال التي تحتلها اللغات المنتشرة في العالم.
لقد أشار إلى ما قام به علماء اللغات من تقسيم اللغات على تباينها إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: لغات أحادية المقطع، وهي خالية من حروف المعاني، وعدد كلماتها أقل من غيرها بكثير، ولا تتغير صيغتها، ولا تدل على النوع أو الكيفية أو العدد أو الزمن أو النسب بين الأشياء، ولكن كل ذلك يفهم من
تكييف الصوت بهذه المقاطع في الكلام المنطوق، أما في الكلام المكتوب فيمكن فهمه من مكان الكلمة في الجملة، ومن أمثلة هذا القسم اللغة الصينية، وعدد كلماتها قليل جداً، إلا أن هذه الكلمات تنطق على وجوه صوتية مختلفة للدلالة على المراد، ويتطلب التمييز بينها مهارة خاصة في السمع، وقد يعبَّر في هذا القسم من اللغات عن المعنى الواحد بعدد من الكلمات، كأن يعبَّر عن معنى الأسرة مثلاً بما يلي:(زوج - زوجة - أولاد) .
القسم الثاني: لغات مزجية، وهي لغات تعتمد على ضمِّ الكلمات بعضها إلى بعض للدلالة فيها على النسب الزمانية والمكانية وغيرها، مع محافظة كل كلمة منها على صيغتها وشكلها ومعناها، فالمعنى الذي يمكن تأديته بكلمة واحدة يحتاج للدلالة عليه في هذا القسم من اللغات إلى سطر طويل، مؤلف من عدة كلمات مرصوصة، ومن أمثلة هذا القسم اللغة اليابانية.
القسم الثالث: لغاتٌ اشتقاقية، وهي لغات تكون الدلالة فيها على مختلف النسب المتعلقة بالزمان أو المكان أو العدد أو الكيفية أو النوع أو غيرها، بتغيير صور كلماتها عن طريق التصريف والاشتقاق، مع المحافظة على المادة الأصلية للكلمة، وللغات هذا القسم حروف معانٍ تربط الألفاظ والتراكيب بعضها ببعض، ومن أمثلة هذا القسم اللغة العربية الفصحى، واللغات الأوربية، ولكن اللغة العربية تحتل المرتبة الأولى بينها، لأنها تمثل حالة راقية من حالات التقدم الحضاري في الميدان اللغوي.
إن القسم الأول من هذه اللغات إنما يمثل طوراً بدائياً من أطوار الحضارة اللغوية، ولا يفي بالتعبير عن كل حاجات الأمم المتقدمة حضارياً، ويتبعه القسم الثاني فيمثل طوراً أرقى نسبياً من الطور الأول، وهو مع ذلك لا يفي كل الوفاء بالتعبير عن كل حاجات الأمم المتقدمة حضارياً، وأما القسم الثالث فهو القسم الذي يمثل أرقى تطورٍ لغوي يفي بالتعبير عن جميع المعاني التي تحتوي عليها الحضارات الراقية.
ثم أجرى مقارنة بين العربية الفصحى وسائر اللغات الاشتقاقية، فأثبت أن العربية امتازات بخصائص تجعلها من أليق اللغات وأكثرها تلبية لحاجات
العلوم، فمن خصائصها الأمور التالية:
أولاً: سعتها، أي: كثرة عدد مفرداتها، فبينما نجد عدد كلمات اللغة الفرنسية نحواً من خمسة وعشرين ألفاً، وعدد كلمات اللغة الإنكليزية نحواً من مئة ألف، ومعظم هذا العدد اصطلاحات علمية وصناعية، وبسبب غنى العربية وسعتها نجد فيها للمعاني الشديد التقارب كلمات خاصة بكل معنى منها، مهما كانت درجة التفاوت، وبذلك لا يكون محلٌّ للالتباس أو الإبهام اللذين هما آفة العلم والأدب.
ثانياً: توغلها في ميدان الاشتقاق، متابعة للمعاني المترابطة ببعضها، فللمادة الواحدة مصدر للدلالة على المعنى مجرداً عن الزمن، وأفعال بعضها يدل على المعنى مقترناً حدوثه بالزمن الماضي، وبعضها يدل على المعنى مقترناً حدوثه بالزمن الحاضر أو المستقبل، وبعضها يدل على المعنى مقترناً بالأمر بفعله، وللمادة أيضاً صيغة تدل على الشخص الذي فعل ذلك المعنى أو قام به، وتسمى اسم الفاعل، وصيغة أخرى تدل على المفعول به، وثالثة تدل على زمانه، ورابعة تدل على مكانه، وخامسة تدل على النسبة، وسادسة على التفضيل، وسابعة على التعجب، وثامنة على التصغير، وهكذا.
وليس في أية لغة من لغات العالم هذا الانطلاق اللغوي المترابط في ميدان الاشتقاق اللفظي، المناظر والمناسب لترابط المعاني فكرياً.
ثالثاً: معظم مشتقاتها تقبل التصريف إلا فيما ندر منها، وهذا يجعلها في طوع أهلها أكثر من غيرها، ويجعلها أيضاً أكثر تلبية حاجة المتكلمين.
وبهذا نستطيع أن نجعل اللغات العالمية مرتبة من الأدنى إلى الأعلى على الوجه التالية:
1-
اللغات أحادية المقاطع، وهي في المرتبة الدنيا.
2-
اللغات المزجية، وهي في المرتبة الثانية.
3-
اللغات الأوربية، وهي في المرتبة الثالثة.
4-
العربية الفصحى، وهي أرقى اللغات وأمثلها بالعلم.
وعلى هذا التحليل العلمي المتين كان ردّ "إبراهيم مصطفى" على خصوم العربية الفصحى، إذن فالذين يحاولون أن يحلو العامية محلها يريدون أن ينحطوا بالأمة العربية في ميدان الحضارة اللغوية، إضافة إلى أغراضهم الأخرى الرامية إلى فصل المسلمين عن مصادر الإسلام، وتجزئة الأمة العربية.
أما الحجج الواهية التي يلوكها خصوم العربية الفصحى في محاولتهم إحلال العاميات محلها فلا تستطيع أن تقف في وجه حقيقة اللغة العربية إلا موقف اللص الجبان، الذي يحاول أن يسرق الإنسان من نفسه، ويجعله يتنازل طائعاً عن جزء من كيانه، وعنصر من عناصر قوته. إن حججهم لا تعدو أن تكون مخادعة كلامية لا أساس لها من الحقيقة.
وما مثل خصوم العربية الفصحى إلا كمثل جاسوس قوم معادين محاربين، اندسَّ بين صفوف قوم آمنين مسالمين، وكان لهؤلاء القوم المسالمين ميراث عظيم من قوة الحرب وآلاته، ولكن القليل منهم الذين يحسنون استعمال هذه الآلات العظيمة التي لا يملك العدو نظيرها، فلبس هذا الجاسوس الثعلب المندس فيه ثياب الناصحين، وجعل يطوف بين صفوفهم ويقول: إن هذه الآلات الحربية المخزونة عندكم معقدة وصعبة الاستعمال، والقليل منكم هم الذين يحسنون استعمالها، وإنكم إذا تركتكم هذه الآلات الصعبة جانباً، واستعملتم الأسلحة التي يُحسن استعمالها كل فرد فيكم، وهي العصي والسكاكين والحجارة، فإنكم ستتقدمون وتضاهون أعداءكم في قوتهم، لأن كل فرد منكم سيساهم في عمل من أعمال الدفاع على قدر استطاعته، وسينبغ بذلك فيكم أفذاذ قوة وأبطال شجاعة، وبهذه الطريقة ستتهيأ للجميع فرصة الاشتراك في إحراز التقدم، وإني ناصح لكم.
ثم أخذ هذا العدو المندس يكرر هذا الكلام، ويعيده مرة تلو المرة، ويقلبه على عدة وجوه.
فهل يقبل كلامه هذا أحدٌ من العقلاء المخلصين لأمتهم؟
هيهات.... ولكن سيقول الجميع إننا سندرب القادرين والقادرات من رجال أمتنا ونسائهم على استعمال هذه الآلات الحربية الضخمة التي يحويها ميراثنا العظيم، ولأن نؤخر المعركة مع عدونا مدّة من الزمن بالمطاولة والمراوغة، حتى نحسن استعمال ما لدينا من آلات حربية معقدة، خير لنا من أن نعرض أنفسنا لمواجهة التهلكة، إذ نخوض معارك القرن العشرين بأسلحة القرون الأولى من حجارة وعصيٍّ وسكاكين.
وما أظنني قد بالغت في ضرب هذا المثل، لإبانة وجه المكر الذي تنطوي عليه الدعوة التي أخذت تحاول أن تخدع الأمة العربية الإسلامية، لتهجر العربية الفصحى، لدى كتابة العلوم والآداب، ولِتُحِّل محلها العاميات المختلفة فيما بينها اختلافاً كبيراً، ولتستبدل الرسم اللاتيني برسمها.
وقد انكشف لنا تماماً أن هدف العدو من ذلك أن يقطع الصلة بين الأمة العربية الإسلامية وبين تاريخها ودينها وعلومها، ويقيم الحواجز اللغوية الغليظة بين أبناء الأقاليم والأقطار العربية، كما أقام بينهم من قبل الحواجز السياسية المصطنعة، وغاية ما لدى ثعلب النصيحة من حجج ما يلي:
الحجة الأولى: أن كثيراً من سكان الأقطار العربية لا يحسنون الكتابة والقراءة بالعربية الفصحى.
وقد غدت هذه الحجة بعد أقل من نصف قرن حجة ساقطة، إذ أخذت العربية المنضبطة وفق قواعد الفصحى تنتشر بين الأجيال العربية الحديثة، انتشاراً مواكباً لانتشار العلم بينها، حتى أصبح العامي الذي لا يحسن العربية الفصحى يمج بالذوق استماع النص الملحون، من الخطيب أو المحاضر أو مذيع الراديو، ويحسُّ بأن فيه خللاً وإن كان لا يعرف وجه ذلك الخلل.
الحجة الثانية: أن الاكتشافات العلمية والمخترعات الحديثة كثيرة، وليس في العربية الفصحى كلمات تدل عليها.
ويبدو أن هذه الحجة في منتهى الضعف أيضاً، وردها يكون من وجهين:
أولهما: أن لغات العالم كلها بما فيها العاميات الشائعة في الأقطار العربية، ليس فيها كلمات تدل على ما يحدث من مكتشفات علمية ومخترعات حديثة، وهي تلجأ إلى إدخال مصطلحات حديثة على لغاتها لتدل عليها.
وثانيهما: أن العربية الفصحى فاتحة بابها لضم أية مصطلحات جديدة لمعان علمية مبتكرة، وأسماء لمخترعات حديثة، مثلما اتسعت في عصور التدوين لألوف من المصطلحات النحوية والصرفية والبلاغية والفقهية والفلسفية والطبية والكيميائية والفيزيائية وغيرها.... وكل هذه المصطلحات لم تكن معروفة قبل العصور الإسلامية، والمجامع العربية مسؤولة عن توحيد المصطلحات الحديثة، واختيار الألفاظ العربية المناسبة للمستحدثات من المعاني الفكرية، والأشياء المادية، ومسؤولة عن تعميمها على الأقطار العربية.