الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصْل الرابع شُبهَاتٌ حَوْلَ الزَّكَاةِ في الإسْلَام
شُبهَاتٌ حَوْلَ الزكاة في الإِسلام
لم يكن الناس قبل الإسلام يخضعون لتكليفٍ مالي إلزامي محدد النسبة لصالح الكفالة الاجتماعية يُلزم به الواجدون، ويُعفى منه المقلون، وتُسدُّ منه حاجات الفقراء والمساكين، تتولى الدولة جبايته وتوزيعه على أصحاب الحقوق فيه بالحق والعدل، وتعاقب الفرد الممتنع عن أدائه بالجزاءات المالية وغيرها، وتقاتل الجماعات المتفقة المتواطئة على منعه قتالاً شرعياً حتى يؤدوه حق أدائه.
هذا النظام هو نظام الزكاة، أو نظام الصدقة الواجبة في الإسلام.
ويحاول الأعداء الغزاة من شرقيين وغربيين وأجراؤهم توجيه الطعن لهذا النظام الرائع، على زعم منه أنه نوع من الإحسان الذي يرافقه إهانة لكرامة الإنسان المحتاج، ومنّة عليه، ويزعمون أنهم يريدون أن لا يجعلوا الإنسان في مقام الذلة والمهانة أمام إنسانٍ آخر يقدم له صدقة ماله.
والشبهة التي يستندون إليها هي أن الزكاة المفروضة يد مِنّة يقدمها الأغنياء للفقراء.
وردّ هذه الشبهة بسيط جداً، إذ أن الحقيقة التي بني عليها هذا النظام من أنظمة الإسلام على خلاف ما يموِّهون به، ويلقون فيه الشبهة، وتحليل ذلك فيما يلي:
لقد سمّى الإسلام هذا النظام، وسماه صدقة، ومعنى الزكاة التطهير والنماء، فإذا طهّر ذو المال ماله فأخرج منه الحقوق المخصصة فيه لغيره لم
يكن في فعله ذلك منَّة يمتنّ بها على أحدٍ من الناس، ونظير ذلك ما لو صلى أو صام أو حجّ أو فعل أي عمل من أعمال البر لنفسه لم يكن في أدائه لهذه العباداة منَّة منه على أحد، والفرق أن هذه العبادات أعمال لا تتعلق بالمال بشكل مباشر، أما عبادة الزكاة فتتعلق بالمال بشكل مباشر. والمعنى الثاني للزكاة - وهو النماء - فيه دلالة على الثواب المعجل أو المؤجل، الذي يثيب الله به الذين يؤدون ما فرض عليهم في أموالهم، فينمي لهم أموالهم في الدنيا ويحفظها لهم، وينمي لهم ثواب ما بذلوه في سبيله، لينالوه يوم القيامة أجراً عظيماً.
فليس في أي معنى من هذين المعنيين للزكاة أية إشارة إلى ما يشعر بمنّة الغني على الفقير أو تفضله عليه.
وأما لفظ الصدقة وهو الاسم الثاني لهذا النظام فمعناه في لسان اللغة وفي لسان الشرع إنما هو عمل من أعمال الخير.
وكل عمل من أعمال الخير صالح لأن يبتغى به وجه الله تعالى، سواء أكان ذا نفع لعامله، أو كان ذا نفع لغيره من خلق الله.
وحين نتأمل في معنى الصدقة لا نجد فيه إشعاراً بمنة فاعل الصدقة على أحد، ولذلك نجد باب الصدقات في الإسلام أوسع بكثير من أن يكون منحصراً في بذل المال، ويشهد لذلك قول الرسول في الحديث الصحيح:"كلّ سلامى من الناس عليه صدقة، وأمر بمعروف صدقة، ونهي عن منكر صدقة، وإماطة الأذى عن الطريق صدقة، وتعين الرجل في دابته فتحمله عليها أو تحمل له عليها صدقة".
ونظائر ذلك كثير في النصوص الإسلامية. فإذا كانت الصدقة في الإسلام تحمل هذا المعنى فمن أين تصيّد موردو الشبهات معنى منة الغني على الفقير؟.
ثم إذا نظرنا إلى مسمى الزكاة في مفاهيم القرآن والسنة، فإنا نجد أنه
حق إلزامي في أموال الأغنياء، تتولى الدولة الإسلامية أخذه طوعاً أو كرهاً، وتتولى هي إقامة التكافل الاجتماعي عن طريقه، بالوسيلة التي تراها أنفع وأجدى.
فمن ذلك ما جاء في قول الله تعالى في سورة (المعارج/70 مصحف/79 نزول) :
{وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ * للسَّآئِلِ وَالْمَحْرُومِ}
وما جاء في قوله تعالى بالنسبة إلى زكاة الزروع والثمار في سورة (الأنعام/6 مصحف/55 نزول) :
{كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ}
وما جاء في قوله تعالى في سورة (الروم/30 مصحف/84 نزول) :
فأي تكريم في الدنيا لذوي الحاجات أكثر من إثبات الحق لهم في أموال الواجدين؟
وأما كون الدولة المسلمة هي التي تتولى أخذ الصدقات وتوزيعها، فظاهر من قول الله تعالى يخاطب رسوله في سورة (التوبة/9 مصحف/113 نزول) :
{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا}
وقد جرى على ذلك عمل الرسول وعمل الخلفاء الراشدين من بعده، ثم من تبعهم بإحسان، إذ كانت الدولة الإسلامية هي التي تتولى جمع الصدقات وتوزيعها على المستحقين، وكان يسمى موظف جباية الزكاة (مصدّقاً) .
ومن العجيب أن يحرف الأعداء الغزاة وأجراؤهم والسائرون في كتائبهم مفاهيم الأنظمة الإسلامية الرائعة، التي تضمن للناس السعادة والرفاهية لو طبقت على وجهها الصحيح، ليوجهوا لها ما يشتهون من مطاعن ومغامز.
ويقولون: إن دفع زكاة الأموال إلى الفقراء على شكل معونات يورثهم داء الكسل والبطالة. والاتكال على أموال الصدقات، ويعلمهم التسول التطلع باستمرار إلى ما في أيدي الناس، وبمثل هذا الكلام يؤثّرون على فريق ممن يلقون إليهم السمع من أبناء المسلمين، مع أنه يتضمن شبهة ناشئة عن مفاهمي خاطئة لأصل نظام الزكاة في الإسلام.
إن الباحث المتأمل في هذا النظام الرائع يلاحظ أن صندوق المال الخاص بالزكاة والذي تشرف عليه الدولة الإسلامية إشرافاً كاملاً، جباية ومصرفاً، ضمن الأسس التي قررتها الشريعة الإسلامية، ليس من المتحتم فيه أن يكون صرفه على المستحقين ذا وجه واحد، هو دفع الأموال العينية النقدية لهم، فللدولة الإسلامية أن ترده على المستحقين بأية وسيلة تراها أنفع وأجدى وأكرم لنفوسهم، وأبعد عن تعليمهم الكسل والبطالة، وأقرب لاستثمار جهد كل قادر على العمل من المستحقين.
فإذا كانت المشكلة الكبرى للفقر ناشئة عن البطالة وعدم توافر العمل للقادرين عليه، كان من حق الدولة الإسلامية أن تؤسس من أموال صندوق الزكاة مشاريع عمل تعود أرباحها لهذا الصندوق، وتمتص القادرين على العمل من الفقراء والمساكين بحسب اختلاف مستوياتهم وكفاءاتهم، كمؤسسات صناعية أو زراعية أو تجارية أو غيرها.
ولتهيئة العمل للقادرين عليه صور شتى تتطور بحسب تطور العصور، منها مساعدة صاحب مهارة صناعية، حتى يفتتح لنفسه مركز عمل يكتسب منه رزقه ورزق أسرته، ومنها مساعدة صاحب قدرة على البيع والشراء، حتى يؤسس لنفسه متجراً يحسن إدارته والاكتساب عن طريقه، ومنها مساعدة
صاحب قدرة على الزراعة، حتى يؤسس لنفسه مزرعة يحسن العمل فيها واستثمارها والاكتساب عن طريقها، إلى غير ذلك.
وأما العاجزون عن العمل من الفقراء والمساكين كالمرضى والشيوخ الكبار وغير المكلفين بالعمل كالأطفال والنساء اللواتي ليس لهن من يعيلهن فللدولة أن تدفع لهم من صندوق الزكاة مرتبات شهرية تستمر ما داموا في أحوالهم التي يستحقون بها الإنفاق عليهم، ولها أن تزوج من يحتاج إلى الزواج منهم وأن تشتري أو تبني لهم مساكن، وأن تدفع عنهم ديونهم إلى غير ذلك.
وللدولة أن تنشئ لهم من صندوق الزكاة مدارس ومستشفيات وملاجئ مجانية، ولها أن تنشئ لهم مساكن توزعها عليهم حسب حاجاتهم، ومطاعم ومحلات كسوة تقدم لهم الطعام والكساء حسب حاجاتهم التي تقدرها اللجان المشرفة على ذلك.
ومن الوسائل أيضاً تأسيس جمعيات خيرية في كل حي وكل قرية، تتولى القيام بمهمات البحث عن الفقراء والمساكين العاجزين عن العمل وكفالتهم، على أن تخصص لكل منها ميزانية من صندوق الزكاة بحسب عدد المحتاجين التابعين لها، ويضاف إلى ذلك ما تتلقاه هذه الجمعيات من صدقات ومساعدات إضافية خارجة عن حصة الزكاة.
إلى غير ذلك من صور كثيرة قابلة للتطوير والتحسين بحسب تطور وسائل العصر ونظمه الإدارية والاجتماعية، مع المحافظة على الأسس التي أقام الإسلام عليها هذا النظام الرائع، ومع المحافظة على الأهداف التي قصد إليها منه، وفي كل هذه الصور وأشباهها يتم الأخذ من الأغنياء والرد على الفقراء، كما جاء في النصوص الإسلامية، والأخذ من الأغنياء يكون بمعرفة الدولة الإسلامية وإشرافها، والرد على الفقراء يكون بمعرفتها وبإشرافها، وبحسب الوسائل الكريمة النافعة التي تراها.
وبذلك تسقط شبهات المضللين، ويظل نظام الزكاة رائعاً في كل زمن، ومناسباً لكل عصر، ولكن على المسلمين أن يطبقوه وأن يحسنوا تطبيقه.
* * *