الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحجة الثالثة: صعوبة اللغة العربية، وهذه الحجة معارضة بالنظير، فالعاميات التي يدعون إلى ضبطها ستكون أكثر صعوبة من الفصحى المضبوطة بالقواعد، بسبب الشذوذات الكثيرة الموجودة في هذه العاميات، يضاف إلى ذلك أن الأمة الواحدة ستحتاج إلى تعلم نحو عشر لغات عامية على الأقل، حينما يتطاول العهد عليها وتزداد الفوارق في العاميات المختلفة الشائعة في أقاليمها، أو سيحدث الانفصام التام الذي هو شر من تحمل بعض الصعوبة في تعلم العربية الفصحى.
على أن شيوع الفصحى سيخفف كثيراً من صعوبتها، إذ يجعلها مثل لغة التخاطب العادي، أو داخلة في كثير من عناصره، وقد وقع بعض هذا فعلاً.
(6) دغدغة العواطف القومية القديمة للتحويل عن العربية الفصحى
استغل الغزاة من أعداء الإسلام والمسلمين، دغدغة العواطف القومية القديمة لتحويل الشعوب الإسلامية عن اللغة العربية الفصحى، وكان لدغدغة هذه العواطف وجوه كثيرة المكر، يحملها الأجراء، وينخدع بها كثير من
أصحاب الرعونات، الذين يندفعون بالانفعالات المؤقتة، التي يصطنع الشياطين لها الظروف والأجواء والبيئات النفسية والفكرية والاجتماعية المناسبة.
فإذا ظهر مدغدغو العواطف القومية بين ذوي الأعراق الهندية مثلاً أثاروا فيهم القومية الهندية، وأظهروا حماستهم للحضارة الهندية القديمة ولآدابها وعلومها ولغتها السنسكريتية الأولى، ونبشوا المقابر المهجورة منذ قرون، واستخرجوا منها العظام الباليات، وربطوا في أفكار الهنود التأخر عن ركب الحضارة الحديثة بصلتهم بالإسلام، وبنفوذ اللغة الأردية التي وحدت شعوب هذه البلاد إثر الفتح الإسلامي تحت راية واحدة، والتي كتبت بها علومهم وآدابهم التي تصلهم بالإسلام والمسلمين، في حين أنهم لا يثيرون مثل ذلك في بلاد وثنية بحتة، مختلفة عن ركب الحضارات تخلفاً فاحشاً يقدر بعشرات القرون، مع أنها ما زالت محافظة على قومياتها ولغاتها القديمة.
وإذا ظهروا مثلاً في شمال إفريقية أثاروا بين سكانها القومية البربرية، وتظاهروا بالحماسة للهجاتها، وأسرعوا يضعون مختلف الكتب التي تضمن دراسة اللهجات البربرية وقواعدها، لإحلالها محل العربية الفصحى، بينما يكتب هؤلاء المستشرقون التقارير السرية إلى حكوماتهم الاستعمارية، يقولون فيها كما جاء في تقرير بعضهم:
"من الواجب صرف الجهد إلى التقليل من أهمية اللغة العربية، لتحويل الناس عنها، بإحياء اللهجات المحلية، واللغات العامية في شمال إفريقية، حتى لا يفهم المسلمون قرآنهم، وحتى يمكن التغلب على عواطفهم".
وإذا ظهروا مثلاً في تركيا أثاروا بين الأتراك عواطف القومية التركية الطورانية، وصوروا لهم أن المدنية والحضارة التركية من أقدم الحضارات، فهي تتصل بالمدنيات والحضارات البابلية والآشورية القديمة، ولا صلة لها بالحضارة الإسلامية، وحاولوا خدعهم بهذه الأقوال، ثم صوروا لهم أن طريق مجهم رهن بقطع الصلة بينهم وبين الشعوب الإسلامية، لا سيما الشعوب العربية، ورهن بالسير في الركب الأوربي الحديث، وبهدم جميع الأبنية الإسلامية القائمة بينهم، وصوروا لهم أن خطوات الإصلاح يجب أن تبدأ من هذا المنطلق.
وقد استجاب حزب تركيا الفتاة، وجمعية الاتحاد والترقي لهذه الدسائس، وقادهما المأجورون، والأعداء المقنعون، والرعاع المستغفلون، في المسيرة التي رسمها الغزاة من أعداء الإسلام، فأثاروا عوامل التفرقة بينهم وبين سائر المسلمين، وبذلك تقطعت حبال قوية من روابط الوحدة الإسلامية، وانهارت قوة المسلمين الكبرى، وأعلن انقلاب "كمال أتاتورك" الخطة العلمانية، وألغى الخلافة الإسلامية، وحرم على الشعب التركي النطق باللغة العربية، حتى في عباداته الدينية، وألغى الكتابة بالرسم العربي، وجعل مكانه الكتابة بالحروف اللاتينية، وجنى الأعداء الغزاة ثمرة دسيستهم، واستطاعوا بذلك أن يفصلوا مسلمي الترك عن مسلمي العرب حقبة من الزمن، سار فيها كل من العرب والترك، ضمن خطوط السير التي رسمها لهم من قبل شياطين الدسائس والمؤامرات على الإسلام والمسلمين.
وهذا ما جعل المستشرق الألماني "كامغماير" يقرر في شماتة فيقول:
"إن تركيا منذ حين لم تعد بلداً إسلامياً، فالدين لا يدرّس في مدارسها، وليس مسموحاً بتدريس اللغتين العربية والفارسية في المدارس....
وإن قراءة القرآن العربي وكتب الشريعة الإسلامية قد أصبحت الآن مستحيلة بعد استبدال الحروف اللاتينية بالحروف العربية....".
ولكننا نقول لصاحب هذا التقرير ولكل أجنحة المكر بالإسلام والمسلمين: إنه لن يطول - بعون الله - أثر مكيدتهم، فستبرز - بإذن الله - النهضات المباركة المضادة لأعمالهم، ولن يستطيعوا أن يطفئوا نور الله، والبشائر الإسلامية في تركيا قد ظهرت، ولا بد أن تتفجر عيونها - إن شاء الله - من ثنايا الصخر الذي سدَّ به الأعداء الغزاة ينابيع الحق والهداية.
ثم إذا ظهر الأعداء الغزاة بين الشعوب العربية بشكل عام أثاروا بينهم القومية العربية، وتصيدوا لهم أخطاء الشعوب الإسلامية الأخرى ضدهم، وهي الأخطاء التي عملت جنود الغزاة على إيجادها أو تنميتها عند أولئك، كما عملوا على إيجاد نظيرها عند العرب ضد الشعوب الإسلامية غير العربية.
وحينما يثير الغزاة في العرب عواطف القومية العربية، يرجعون بهم إلى العصور الجاهلية المتخلفة عن كل ركب حضاري ومدني، متجاوزين بذلك جميع العصور الإسلامية الذهبية، التي قاد فيها العرب المسلمون الفتح الديني والحضاري، منذ ظهور الإسلام، الذي صنع فيهم ذلك الانقلاب الحضاري التاريخي، فبدد ظلمات الجاهلية بنور العلم والمعرفة والأخلاق والحضارات الإنسانية الراقية.
ولكن الغزاة إذ يتظاهرون بالدعوة إلى القومية العربية، لتقف صفاً واحداً في مواجهة القوميات الإسلامية الأخرى، يظلون في حالة تخوف من وحدة الشعوب العربية، حتى مع الرجع الجاهلي، لأنهم يخشون أن تظل هذه الشعوب على صلة بمصادر الدين الإسلامي، وتاريخ المسلمين وعلومهم، فكان لا مندوحة لهم من سلوك خط السير الآخر، بعد أن رأوا أنهم قد فصلوا المسلمين من العرب عن سائر الشعوب الإسلامية، تحت ستار القوميات، وذلك بأن يتابعوا التجزئة، فيجزئوا الشعوب العربية إلى قوميات أصغر وأقل تجميعاً عددياً من القومية العربية، بإثارة قوميات تاريخية قديمة لدى سكان الأقاليم العربية، وبالتنقيب عن العظام النخرة في مقابر القرون الأولى.
فإذا ظهروا في مصر دغدغوا في المصريين العواطف الفرعونية، وأحيوا بينهم تاريخ رمسيس، وبناة الأهرامات، وأمجاد القرون الأولى السابقة للإسلام، وزعموا لهم أن العامية المصرية ذات جذور قديمة لا صلة لها بالعربية الفصحى، وأن تقدمهم الحضاري الآن متوقف على إحياء كل ما له صلة بالآثار الفرعونية، من علوم وآداب وفنون، ونصحوهم بأن يهجروا العربية الفصحى، وبثوا بينهم من يحمل هذه الدسائس، وأرادوا أن يحمل حزب مصر الفتاة مثل المهمة التي حملها من قبل حزب تركيا الفتاة وجمعية الاتحاد والترقي، إلا أن معظم جهودهم قد كانت تبوء بالفشل عن تحقيق كامل الغاية المرسومة، ولا تعطيهم كامل الثمرات التي يرجونها، بفضل قادة الدفاع الذين تصدوا لفضح مؤامرات الغزاة، على اختلاف العوامل المحرضة لهم على ذلك، فكان منهم عوامل دينية، واحتل أصحابها صف الدفاع الأول، وكان منها عوامل عربية، واحتل أصحابها صف الدفاع الثاني