الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(6) أخطر وسائل المستشرقين الفكرية
التشكيك - إلقاء الشبهات - المغالطات - تزيين الأفكار البديلة - افتراء الأكاذيب - دس السموم الفكرية بخفاء وتدرج.
ترجع الوسائل الفكرية الرئيسية التي استخدمها المستشرقون لهدم الإسلام وتجزئة المسلمين وتشويه تاريخ الأمة الإسلامية، وتشويه حاضرها، وخداع أجيال هذه الأمة بنبذ الإسلام واتباع مناهج وأساليب الحضارة المادية المعاصرة إلى الأصول التالية:
1-
التشكيك في مصادر الدين الإسلامي وصحة نبوة الرسول.
2-
إلقاء الشبهات حول أحكام الإسلام التشريعية ومصادرها.
3-
المغالطات.
4-
تزيين الأفكار البديلة.
5-
افتراء الأكاذيب واختراع التعليلات والتفسيرات الباطلات.
6-
التلطف في دس السموم الفكرية بصورة خفية ومتدرجة، حتى يبتلعها المغزوّون وهم لا يشعرون، وقد يأخذونها وهم فرحون بحلاوة ما يرافقها.
ونلاحظ في مكتوباتهم حول الإسلام والمسلمين ما يلي:
الأول: التشكيك في صحة رسالة النبي محمد، فجمهور المستشرقين ينكرون أن يكون محمد نبياً أوحى الله إليه، وأنزل عليه كتاباً من لدنه، ويتخبطون في تفسير مظاهر الوحي التي كان يراها أصحابه، لا سيما عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، فمن المستشرقين من يرجع ذلك إلى "صرع" كان ينتاب النبي حيناً بعد حين، ومنهم من يرجعه إلى تخيلات كانت تملأ ذهن النبي،ومنهم من يفسرها بمرض نفسي، إلى غير ذلك.
مع أنهم لا ينكرون ظاهرة الوحي في الواقع الإنساني، لأنهم يعترفون بأنبياء التوراة، فهم إما يهود أو نصارى، وكل تفسير سلكوه لظاهرة الوحي عند
محمد يمكن أن تفسر به ظاهرة الوحي عند أنبيائهم الذين يعترفون هم بنبواتهم، إلا أن تعنتاً مبعثه التعصب الديني هو الذي جعلهم يفرقون بين أمرين متساويين تماماً، فيعترفون بأحدهما ويجحدون الآخر عصبية عمياء.
الثاني: ويتبع التشكيك في رسالة محمد إنكارهم كون القرآن كتاباً منزلاً عليه من عند الله عز وجل، وحين يفحمهم ما ورد في القرآن من حقائق تاريخية عن الأمم الماضية، مما يستحيل صدوره عن أمي مثل محمد يزعمون ما زعمه المشركون الجاهليون في عهد الرسول، فيقولون: إن محمداً استمد هذه المعلومات من أناس كانوا يخبرونه بها، ويجعلون القرآن مأخوذاً من كتب أهل الكتاب، ويتخبطون في ذلك تخبطاً عجيباً. وحين يفحمهم ما جاء في القرآن من حقائق علمية لم تعرف ولم تكتشف إلا في هذا العصر، يرجعون ذلك إلى ذكاء محمد وعبقريته الخاصة، فيقعون في تخبط أشد غرابة من سابقه.
الثالث: وإذ أنكروا رسالة محمد وزعموا أن القرآن ليس بكلام الله، لزمهم أن يعلنوا أن الإسلام ليس ديناً منزلاً من عند الله، وإنما هو ملفق من الديانتين اليهودية والنصرانية، وهم في هذا يخبطون خبط عشواء، إذ لا يملكون أي مستند يؤيده البحث العلمي السليم. جلُّ ما يملكونه ادعاءات تستند إلى وجود نقاط التقاء بين الإسلام والديانتين السابقتين، الأمر الذي يرجع في حقيقته إلى وحدة الرسالات الربانية في أصولها الصحيحة.
ويلاحظ أن المستشرقين اليهود - أمثال "جولدتسيهر" و"شاخت" - هم أشد حرصاً على ادعاء استمداد الإسلام من اليهودية وتأثيرها فيه.
أما المستشرقون المسيحيون فيجرون وراءهم في هذه الدعوى، إذ ليس في المسيحية تشريع يستطيعون أن يزعموا تأثر الإسلام به، وأخذه منه، وإنما في المسيحية مبادئ أخلاقية وبعض تعديلات تشريعية، زعموا أنها أثرت في الإسلام، ودخلت عليه منها، وقد يعممون من غير أي أصل يستندون عليه.
ولم يكن التشابه في الأديان السابقة سبباً في نظرهم في إنكار المتأخر منها، ثم ليس المفروض في الديانات الربانية أن تتعارض أو تتناقض في أصلوها أو مبادئها أو تشريعاتها، بل المفروض فيها ما دام مصدرها واحداً أن تتلاقى
وتتفق، ويدعم بعضها بعضها، وأن يكون المتأخر منهما متمماً للسابق، وهذه هي حقيقة الدين الرباني، الذي أرسل الله لتبليغه للناس رسلاً تترى، وختمهم بمحمد بن عبد الله.
الرابع: التشكيك في صحة الحديث النبوي الذي اعتمده علماء المسلمين المحققون، ويتذرع هؤلاء المستشرقون بما دخل على الحديث النبوي من وضع ودس، متجاهلين تلك الجهود التي بذلها علماء المسلمين لتنقية الحديث الصحيح، مستندين إلى قواعد بالغة الدقة في التثبت والتحري، مما لم يعهد عندهم في ديانتهم عشر معشاره في التأكد من صحة الكتب المقدسة عندهم.
والذي حملهم على الشطط في دعواهم هذه ما رأوه في الحديث النبوي الذي اعتمده علماء المسلمين من ثروة فكرية وتشريعية مدهشة، وهم لا يؤمنون بنبوة الرسول محمد، فادعوا أن هذا لا يعقل أن يصدر كله عن رجل واحد أمي، إنما هو عمل المسلمين خلال القرون الثلاثة الأولى، فالعقدة النفسية عندهم هي عدم تصديقهم بنبوة محمد، ومن هذه العقدة تنبعث تخبطاتهم وأوهامهم.
الخامس: التشكيك في قيمة الفقه الإسلامي الذاتية، ذلك التشريع العظيم الذي لم يجتمع مثله لجميع الأمم في جميع العصور. لقد سُقط في أيديهم حين اطلاعه على عظمته وهم لا يؤمنون بنبوة محمد، فلم يجدوا بداً من الزعم بأن هذا الفقه مستمد من القانون الروماني، أي: أنه مستمد من الغربيين، وقد بين علماء المسلمين الباحثون تهافت هذه الدعوى وفيما قرره مؤتمر الفقه المقارن المنعقد بلاهاي من أن الفقه الإسلامي فقه مستقل بذاته وليس مستمداً من أي فقه آخر، ما يفحم المتعنتين منهم، ويقنع المنصفين الذين لا يبغون غير الحق سبيلاً.
السادس: التشكيك في قدرة اللغة العربية على مسايرة التطور العلمي، لتظل الأمة العربية المسلمة عالة على مصطلحات الغربيين، وبذلك تشعر هذه الأمة بفضل الغربيين وسلطانهم الأدبي.
والتشكيك في غنى الأدب العربي، وإظهاره على أنه مجدب فقير، بغية أن تتجه الأمة العربية إلى آداب الغربيين، وهذا هو الاستعمار الأدبي الذي يبغونه مع الاستعمار العسكري الذي يباشرونه.
السابع: تشكيك المسلمين في قيمة تراثهم الحضاري، إذ يدعون أن الحضارة الإسلامية منقولة عن حضارة الرومان،وأن المسلمين لم يكونوا إلا نقلة لفلسفة تلك الحضارة وآثارها، ولم يكن لهم إبداع فكري ولا ابتكار حضاري، وحين يتحدثون بشيء من الحضارة الإسلامية وحسناتها، فإنما يذكرونها على مضض ومع انتقاص كبير.
الثامن: إضعاف ثقة المسلمين بتراثهم، وبث روح الشك في كل ما بين أيديهم من قيم وعقيدة ومثل عليا، ليسهل على الاستعمار المباشر وغير المباشر تشديد وطأته عليهم، ونشر ثقافته الحضارية فيما بينهم، فيكونوا عبيداً لها،يجرهم حبها إلى حبهم أو إلى إضعاف روح المقاومة في نفوسهم.
التاسع: إضعاف روح الإخاء الإسلامي بين المسلمين في مختلف أقطارهم، وذلك عن طريق إحياء القوميات القديمة، وإثارة النعرات بين شعوبهم، وإقامة الحواجز المصطنعة بين بلدانهم وأقاليمهم، وإقامة العقبات الكثيرة دون تقاربهم، ووحدة كلمتهم، ووحدة صفهم، والعمل على تعميق تجزئتهم في دويلات صغرى متعادية متناحرة.
وفيما يلي أمثلة من افتراءاتهم:
المثال الأول: يحاول فريق من المستشرقين إقناع العالم الغربي، والذين يتأثرون بهم من الشعوب الأخرى، ومن الجهلة من أبناء المسلمين، بأن الإسلام شكل جديد للوثنية، وأن محمداً نصب تمثاله الذهبي في الكعبة المحرمة بعد ما أخرج منها التماثيل والأصنام القديمة وكسرها.
هذه فرية ظاهرة جداً، لا يقبلها من الغربيين أنفسهم، من اطلع على القدر اليسير من الأصول الإسلامية المنقولة بأمانة.
المثال الثاني: فريتهم المفضوحة التي زعموا فيها أن محمداً أخذ
القرآن عن بحيرا الراهب في بصرى الشام، حين سافر مع عمه أبي طالب إلى الشام وهو غلام، وقد سبق شرح هذه الفرية.
المثال الثالث: زعمهم أن الفقه الإسلامي مستمد من القانون الروماني، مع أن أي ناظر في مصادر التشريع الإسلامي يكتشف بأدنى تأمل أن الفقه الإسلامي مستنبط من القرآن والسنة، وأن أدلة مسائله أحكامه مبينة في كتب الفقه الإسلامي، فلا وجود لأية أمارة ظاهرة أو خفية تسمح بإثارة هذه الشبهة، فضلاً عن أن تتحول إلى قضية تطرح في ميدان البحث العلمي.
المثال الرابع: الترويج للرواية التاريخية الساقطة التي تزعم أن القائد الأموي لجيش يزيد بن معاوية بعد أن أخضع المدينة المنورة، وقتل من أهلها من قتل، أباحها لجنوده ثلاثاً عملاً بوصية يزيد الذي أمره بذلك.
المثال الخامس: تفسير الفتح الإسلامي بأنه لم يكن لنشر دين الله، ولإعلاء كلمته، وإنما كان هدفه الحصول على وسائل العيش الثرة،في بلاد الشام والعراق وفارس ومصر، والتخلص من ظروف العيش السيئ داخل الجزيرة العربية.
المثال السادس: فرية بعضهم أن محمداً نقل معظم أصول الدين الإسلامي وفروعه من اليهودية والنصرانية، أو من الأمم الأخرى الهندية والفارسية، وصاغها بطريقته الخاصة صياغة عربية.
هذه أمثلة مفضوحة مكشوفة، زيفها واضح، والافتراء فيها بين، ولكن توجد مئات القضايا الجزئية التي أدخلها المستشرقون في بياناتهم لمفاهيم الإسلام وتعاليمه، ومنها ما قد يخفى على بعض أهل العلم والخبرة لأن التحريف فيها يسير قد يظنه الخبير خطأً في الاجتهاد، أو قصوراً في الفهم. وهم يسلكون في الأفكار المحرفة أسلوب التدرج، إذ قد يبدأ التحريف بمقدار درجة واحدة من درجات الدائرة الهندسية، حتى إذا استقرت فكرة هذا التحريف انتقلوا إلى درجة وراءها، وهكذا تسلسلاً، حتى يكون بين المحرف والأصل مسافة كبيرة جداً.
وعلى الباحث أن يحذر الدسائس حذراً شديداً، وأن يكون على بصيرة دائمة، وارتباط وثيق بنصوص الإسلام الكبرى ومصادره الأولى، وما كان عليه سلف الأمة الصالح، وأن يغلب جانب الشك في كل ما يقوله المستشرقون وتلامذتهم من أفكار ومفاهيم وأخبار وروايات عن الإسلام وتاريخ الأمة الإسلامية، وحاضر العالم الإسلامي، وإن كان الكلام مغلفاً بالثناء والإطراء والتمجيد.
فقد علمتنا الملاحظة والتجربة الطويلة أن كيد هؤلاء عظيم، قد يدخل على أكثر أهل العلم يقظة وحذراً.
(7)
موازين البحث عن المستشرقين
نظرة عامة:
يعتمد جمهور المستشرقين في تحرير أبحاثهم عن الشريعة الإسلامية على ميزان غريب بالغ الغرابة في ميدان البحث العلمي، فمن المعروف أن العالم المخلص يتجرد عن كل هوى وميل شخصي فيما يريد البحث عنه، ويتابع النصوص المراجع الموثوق بها، فما أدت إليه بعد المقارنة والتمحيص كان هو النتيجة الحتمية التي ينبغي له اعتمادها والأخذ بها.
إلا أن أغلب المستشرقين يضعون في أذهانهم فكرة معينة يريدون تصيد الأدلة لإثباتها، وحين يبحثون عن هذه الأدلة لا تهمهم صحتها بمقدار ما يهمهم الاستفادة منها لدعم آرائهم الشخصية، وكثيراً ما يستنبطون الأمر الكلي من حادثة جزئية، ومن هنا يقعون في مفارقات عجيبة، لولا الهوى والغرض المريض لربأوا بأنفسهم عنها، وكثيراً ما يعتمدون على الوهم المجرد لتفسير الأمور، ويقيسون المسلم الذي يؤمن بالله ويخشاه على الذين لا تردعهم
دين ولا خلق قويم، ويعتبرون أن كل سلوك المسلمين أفراداً وجماعات، لا بد أن يفسر بالأغراض الشخصية والنوازع النفسية الدنيوية، وأن أي دافع ديني أخروي يبتغي به وجه الله لا وجود له عندهم، إلى غير ذلك من موازين ساقطة في نظر أي باحث علمي يخلص للحقيقة ويحترم منطقه وعقله.
وفيما يلي طائفة من الأمثلة التي تكشف هذه الموازين عند المستشرقين، حينما يكتبون في الإسلام وتاريخ المسلمين.
1-
في محاولة المستشرق "جولدتسيهر" لإثبات زعمه بأن الحديث في مجموعه من صنع القرون الثلاثة الأولى للهجرة، وليس من قول الرسول، ادعى أن أحكام الشريعة لم تكن معروفة لجمهور المسلمين في الصدر الأول من الإسلام، وأن الجهل بها وبتاريخ الرسول كان لاصقاً بكبار الأئمة، وقد حشد لذلك بعض الروايات الساقطة المتهافتة، من ذلك ما نقله عن كتاب "حياة الحيوان" للدميري، من أن أبا حنيفة رحمه الله لم يكن يعرف هل كانت معركة بدر قبل أحد أم كانت أحد قبلها!!.
وما لا شك فيه أن أقل الناس اطلاعاً على التاريخ يرد مثل هذه الرواية، فأبو حنيفة وهو من أشهر أئمة الإسلام الذين تحدثوا عن أحكام الحرب في الإسلام حديثاً مستفيضاً، وذلك في فقهه الذي أثر عنه، وفي كتب تلامذته الذين نشروا علمه كأبي يوسف ومحمد، من غير المتصور بحال من الأحوال أن يكون جاهلاً بوقائع سيرة الرسول ومغازيه،وهي التي استمد منها فقهه في أحكام الحرب، ويكفي ذكر كتابين في فقهه في هذا الموضوع يعتبران من أهم الكتب المؤلفة في التشريع الدولي في الإسلام.
أولهما - كتاب الرد على سير الأوزاعي لأبي يوسف رحمه الله.
ثانيهما - كتاب السير الكبير لمحمد بن الحسن رحمه الله، وقد شرحه السرخسي وهو من أقدم وأهم مراجع الفقه الإسلامي في العلاقات الدولية، وقد طبع هذا الكتاب تحت إشراف جامعة الدول العربية، برغبة من جمعية محمد بن الحسن الشيباني للحقوق الدولية.
وفي هذين الكتابين يتضح إلمام تلامذة الإمام - وهم حاملو علمه - بتاريخ المعارك الإسلامية في عهد الرسول وعهد خلفائه الراشدين.
و"جولدتسيهر" لا يخفى عليه أمر هذين الكتابين، وكان بإمكانه لو أراد الحق أن يعرف ما إذا كان أبو حنيفة جاهلاً بالسيرة أو عالماً بها، من غير أن يلجأ إلى رواية "الدميري" في كتابه "الحيوان" وهو ليس مؤرخاً، وكتابه ليس كتاب فقه ولا تاريخ، وإنما يحشر فيه كل ما يرى إيراده من حكايات ونوادر تتصل بموضوع كتابه،من غير بحث عن صحتها. ولا يخفى ما كان من أبي حنيفة ومعاصريه ومقلديهم من بعدهم من خصومة في المنهج الاجتهادي الذي اعتمده، وقد كانت هذه الخصومة مادة دسمة لرواة الأخبار ومؤلفي كتب الحكايات والنوادر، لنسبة حوادث وحكايات، منها ما يرفع من شأن أبي حنيفة، ومنها ما يضع من سمعته، وأكثرها ملفق مختلق، موضوع للمسامرة والتندر من قبل محبيه أو كارهيه على السواء، الأمر الذي يجعلها عديمة القيمة العلمية في نظر العلماء والباحثين.
فـ"جولدتسيهر" أعرض عن كل ما دون من تاريخ أبي حنيفة تدويناً علمياً ثابتاً، واعتمد رواية مكذوبة ليدعم بها ما تخليه من أن السنة النبوية من صنع المسلمين في القرون الثلاثة الأولى.
2-
أعرض المستشرق "جولدتسيهر" عما أجمعت عليه كتب الجرح والتعديل وكتب التاريخ، من صدق الإمام محمد بن مسلم بن شهاب الزهري رحمه الله (50-124هـ) ، وورعه وأمانته ودينه، وزعم أن الزهري لم يكن كذلك، بل كان يضع الحديث للأمويين، وهو الذي وضع حديث:(لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد إلخ..) لعبد الملك بن مروان، وكل حجته أن هذا الحديث من رواية الزهري، وأن الزهري كان معاصراً لعبد الملك ابن مروان!!.
3-
يحاول المستشرقون أن يؤكدوا تعالي العرب الفاتحين عن المسلمين الأعاجم، وانتقاصهم من مكانتهم، وغرض المستشرقين من هذا إفساد قلوب
المسلمين من غير العرب على المسلمين من العرب، لإقامة الحواجز القومية بينهم.
يقول المستشرق "بروكلمان" في كتابه "تاريخ الشعوب الإسلامية":
"وإذا كان العرب يؤلفون طبقة الحاكمين فقد كان الأعاجم من الجهة الثانية هم الرعية، أي: القطيع. وجمعها رعايا كما يدعوهم، وهو تشبيه سامٍ قديم كان مألوفاً حتى عند الآشوريين".
لقد تجاهل "بروكلمان" جميع الوثائق التاريخية التي تؤكد عدالة الفاتحين المسلمين، ومعاملتهم أفراد الشعب على السواء، من غير تفرقة بين عربي وغيره، وتعلق بلفظ "الرعية" تعلقاً لغوياً، واستنتج منها أن المسلمين نظروا إلى الأعاجم نظر القطيع من الغنم، ولو رجعنا إلى مادة "رعى" في قواميس اللغة وجدناها تقول كما يلي:"الراعي: الوالي. والرعية: العامة. ورعى الأمير رعيته رعاية. وكل من ولي أمر قوم فهو راعيهم، وهم رعيته، فعيلة بمعنى مفعول. وقد استرعاه إياهم استحفظه. واسترعيته الشيء فرعاه".
فالراعي في اللغة يطلق على رئيس القوم وولي أمرهم، كما يطلق على راعي الغنم، والرعية تطلق في اللغة على القوم، ومن معاني الرعاية الحفظ والإحسان.
فإطلاق لفظ الرعية على القوم وضع لغوي، ولم يجعل المسلمون إطلاق هذه الكلمة خاصاً بالأعاجم، بل إطلاقها شامل كل قوم عرباً كانوا أو عجماً، تبعاً للوضع اللغوي، والأحاديث في ذلك كثيرة معروفة، منها قول الرسول في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري وغيره: "ألا كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته، فالإمام الذي على الناس راع وهو مسؤول عن رعيته، والرجل راعٍ على أهل بيته وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة راعية على أهل بيت زوجها وولده وهي مسؤولة عنهم، وعبد
الرجل راع على مال سيده وهو مسوؤل عنه، ألا فكلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته".
قال الحافظ ابن حجر في كتابه "فتح الباري 13/96" لدى شرحه هذا الحديث: "والراعي: هو الحافظ المؤتمن صلاح ما اؤتمن على حفظه، فهو مطلوب بالعدل فيه والقيام بمصالحه".
وقد جاء أيضاً إطلاق الرعية على المسلمين في الحديث الذي رواه البخاري وغيره: "ما من والٍ يلي رعية من المسلمين، فيموت وهو غاشٌّ لهم إلا حرم الله عليه الجنة".
فكيف أغمض "بروكلمان" عينيه عن هذا كله، واستجاز لعلمه أن يدعي بأن المسلمين نظروا إلى الأعاجم نظرة القطيع، وأنهم أطلقوا عليهم وحدهم لفظ الرعية؟
أليس هذا خيانة علمية، وتضليلاً مكشوفاً؟.
أين ادِّعاؤه هذا من النصوص الكثيرة التي ألغت الفوارق القومية والعرقية واللونية، وجعلت المسلمين جميعاً سواسية في الحقوق العامة؟.
إن الهوى الجانح والغرض المريض يعميان البصائر عن رؤية الحق، ويصمان الآذان عن سماعه.
4-
زعم المستشرق "مايور" كما نقله عنه "مرجليوث" أن أهل البدو كانوا كثيري الاهتمام بتعلم البلاغة وطلاقة اللسان، أن النبي مارس هذا الفن حتى نبغ فيه.
وهذا يعطينا صورة عن موازين البحث الفاسدة عند هؤلاء، حينما يبحثون المسائل المتعلقة بالإسلام.
إن المسألة هنا عند "مايور" تقوم على استنتاج وهمي من أمرٍ لم يقع، فلا العرب كانوا يتعلمون البلاغة، ولا كانت لها مدارس وتلامذة يضعون قواعدها، ولا النبي عرف عنه قبل النبوة فعل ذلك، وليس
بين أيدينا نص واحد يثبته، بل إن المؤكد أن الرسول لم ينقل عنه أثر من نثر أو شعر قبل النبوة، وقبل أن يتنزل عليه القرآن الكريم.
5-
يفرط المستشرقون في اختراع العلل والأسباب والحوادث التي يدرسونها اختراعاً ليس له سند إلا التخيل والتحكم، ويزيد في فساد أسلوبهم هذا أنهم يتخليون أحداث الشرق والعرب والمسلمين وعاداتهم وأخلاقهم، بأوهامهم وخيالاتهم الغريبة البعيدة عن واقع حال الشرق والعرب والمسلمين، ولا يريدون أن يعترفوا بأن لكل بيئة مقاييسها وأذواقها وعاداتها.
وقد أحسن المستشرق الفرنسي المسلم "ناصر الدين دينيه" في حديثه عن أسلوب المستشرقين وموازينهم في الحكم على الأشياء، مما جعلهم يتناقضون فيما بينهم تناقضاً واضحاً في الحكم على شيء واحد، كل ذلك لأنهم حاولوا أن يحللوا السيرة المحمدية وتاريخ ظهور الإسلام بحسب العقلية الأوروبية، فضلوا بذلك ضلالاً بعيداً، لأن هذا غير هذا، ولأن المنطق الأوروبي لا يمكن أن يأتي بنتائج صحيحة في تاريخ الأنبياء الشرقيين.
قم قال: إن هؤلاء المستشرقين الذين حاولوا نقد سيرة النبي بهذا الأسلوب الأوروبي البحث، لبثوا ثلاثة أرباع قرن يدققون ويمحصون بزعمهم، حتى يهدموا ما اتفق عليه الجمهور من المسلمين من سيرة نبيهم، وكان ينبغي لهم بعد هذه التدقيقات الطويلة العريضة العميقة أن يتمكنوا من هدم الآراء المقررة والروايات المشهورة من السيرة النبوية،فهل تسنى لهم شيء من ذلك؟
الجواب: أنهم لم يتمكنوا من إثبات أقل شيء جديد، بل إذا أمعنا النظر في الآراء الجديدة التي أتى بها هؤلاء المستشرقون، من فرنسيين وإنكليز وألمان وبلجيكيين وهولنديين وغيرهم لا نجد إلا خلطاً وخبطاً، وإنك لترى كل واحدٍ منهم يقرر ما نقضه غيره من هؤلاء المدققين بزعمهم، أو ينقض ما قرره.