الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الجيوش المسلمة بذلك عناصر قوتها الحقيقية، فكيف يتم لها الظفر بعد ذلك على عدوها؟!
(3) أهداف محاولات التسلط المادي المرتبط بالدوافع العدوانية
سجل تاريخ الإنسان القديم والحديث أنواعاً من التسلط المادي المرتبط بالدوافع والغرائز الفردية لذوي سلطان الأرض، أو الدوافع والغرائز الجماعية لأمم وشعوب، وكان منها أمثلة مفرطة في الهمجية، وأمثلة دون ذلك، وكان منها أمثلة مقنعة بأثواب نفاق مزورة، تدعي الرقي والتهذيب، وهذه أكثرها مكراً وأبعدها غوراً وأطولها مدة استقرار في البلد المغلوب على أمره.
وأهداف هذه الأنواع من التسلط لا تعدو أن تكون أهدافاً توسوس بها مطامع النفوس وشهواتها وغرائزها ونزواتها وأهوائها وأحقادها.
وقد تتحكم هذه الوساوس بإرادة صاحب سلطان قوي أو تتحكم بإرادة بطانته المسيرة لأمره، فيلتفت صاحب السلطان يمنة ويسرة، فيجد قوة كبيرة من حوله رهن إشارته وطوع أمره، ويرى أنها قادرة على تحقيق مطامعه في التسلط، فيسخرها في ذلك.
وقد تتوسع حلقة هذه الوساوس فتكون في أمة بأسرها ضد أمة أخرى، أو في شعب ضد شعب آخر، أو في قبيلة ضد قبيلة، وحيثما ترى هذه الحلقة الموسعة أن لديها من القوة ما يمكنها من التسلط على ما تطمع به، تتحرك في محاولة التسلط، وتسخر قواها المادية في سبيل تحقيق مطامعها الأنانية.
وقد تتوسع حلقة هذه الوساوس توسعاً ثانياً فتكون في مجموعة أمم أو شعوب تشعر فيما بينها بجامعة ما تجمعها، ضد مجموعة أخرى من الناس، تتسع حيناً وتضيق حيناً آخر بحسب مقتضيات الظروف المواتية للقيام بأعمال التسلط.
ولا تعدو أنواع التسلط الذي يراد منه تحقيق الأهداف التي توسوس بها
دوافع النفوس الأنانية، أن تكون أنواع تسلط همجي مدنس بالقذارات الفكرية والنفسية والتطبيقية، مهما تفاوتت الصور التطبيقية فيما بينها، في القدرة على إخفاء همجيتها أو عدم القدرة على ذلك.
إنها على اختلاف صورها مظاهر للرغبة النفسية بالعدوان على حقوق الآخرين، ولكن بعض هذه المظاهر ذكي ماكر متمدن، وبعضها بدائي همجي جاهل، وفي باطن كلٍ من المظهرين تقبع نفسية ذئب مجرم نهم إلى الافتراس، إلا أن الخطة التنفيذية في القسم الأول خطة ثعلب والحركة حركة إنسان، أما القسم الثاني فخطته وحركاته وحشية بشعة في صورة جسدٍ إنساني، وبين المرتبتين الذكية المتمدنة والبدائية الهمجية مراتب متعددة، تختلف فيما بينها بحسب قربها أو بعدها عن مظاهر التمدن أو مظاهر الهمجية.
ونضرب مثلاً للعدوان الذكي الماكر المتمدن بالطبيب المجرم الذي طمع بالمال الوفير، فاتفق مع زوجة الرجل الثري على قتله في صورة طبية خفية، لا تنتبه إليها يد العدالة، مقابل عداءٍ مغر تدفعه إليه، إذ هيأ لها فرصة وراثة زوجها الثري، والتخلص منه لتتزوج بآخر تهواه. وأما مثل العدوان الهمجي فيكون بأن تتفق هذه الزوجة مع نفر من متوحشي الغابات على قتل زوجها بالصورة التي اعتادها في صيد الوحوش والحشرات، وهذه الصورة بعيدة طبعاً عن كل مظهر من مظاهر القتل المتمدن.
فالباعث في كلٍ من الصورتين واحد والغاية واحدة ونسبة العدوان والظلم في كل منهما واحدة أيضاً والجريمة في كلٍ منهما هي الجريمة نفسها إلا أن الصورة الأولى قد كانت صورة ذكية ماكرة متمدنة أما الصورة الثانية فقد كانت صورة بدائية همجية متوحشة تنفر منها طبائع المتمدنين.
واختلاف الصورة في فلسفة الجريمة لا يؤدي إلى الحكم بأن إحداهما أخف من الأخرى في نسبة الجريمة، نظراً إلى أن البواعث النفسية، والغاية التي هي الحصول على المال الحرام، والطريق إلى ذلك وهو العدوان بالقتل كلها واحدة، ولم يختلف بين الصورتين إلا شكل القتل فقط، إذ تم أحد الشكلين بالوسيلة التي استطاع أن يتوصل إليها الطبيب المثقف بالثقافة المتمدنة الراقية،
بينما تم الشكل الآخر بالوسيلة التي وقفت عندها معارف الهمجي المتوحش، البعيد عن المعارف المدنية وأساليبها.
وهكذا تكون أنواع التسلط المادي الذي تدفع إليه أهواء النفوس وأحقادها ومطامعها وغرائزها وشهواتها، ونشاهد من أمثلتها في العالم الحديث تحركات جيوش أجنحة المكر الثلاثة، وشر ما في هذا التسلط أن يوجه ضد حملة رسالة الخير والهداية للإنسانية جمعاء، وأن يعلن عداءه للإسلام، حيثما نبتت له غرسة، أو ظهرت له دعوة.
وباستطاعتنا أن نكشف الغطاء عن طائفة من البواعث النفسية الأنانية، التي تدفع مجرمي التسلط المادي المدنس بالمطامع والشهوات والأهواء والغرائز والنزوات والأحقاد السود، إلى العدوان على غيرهم من الأمم والشعوب.
فلدى البحث النظري والبحث التاريخي يتبين لنا عدد من هذه البواعث، ونذكر منها البواعث التالية:
1-
الباعث الأول: الرغبة بإشباع الشهوة إلى الحكم والسلطان، وحب الاستيلاء على كل شيء، وهذه نزعة ربوبية تتحكم ببعض النفوس البشرية.
2-
الباعث الثاني: الرغبة بابتزاز الأموال، والاستيلاء على مصادر الثروات إما حباً بالمال وافتتاناً به واستزادةً منه، وإما لتسخيره في تنمية القوة أو تحقيق مطالب الأنفس وشهواتها.
3-
الباعث الثالث: الرغبة باحتلال أرض ذات مناخ أجود أو طبيعة أجمل من أرض الطامع بالتسلط، طلباً للمتعة، أو حباً بالتفاخر والتكاثر بين الناس. أو الرغبة باحتلال أرضٍ ذات مركز له أهمية تجارية أو سياسية أو عسكرية أو دينية في العالم.
4-
الباعث الرابع: الرغبة بتسخير الشعب المطموع به في الأعمال المدنية الزراعية أو الصناعية أو العمرانية أو غيرها، أو تسخيره في الأعمال العسكرية وذلك بتجنيد مقاتليه لقتال أعداء قوة التسلط، واستخدامهم
في الأغراض التي تقوم بها جيوش هذه القوة.
5-
الباعث الخامس: الرغبة بالتوسع في الأرض للاستيطان أو الاستغلال، ولا تتحقق هذه الرغبة إلا بمزاحمة السكان الأصليين، أو بطردهم من أرضهم، أو بإبادتهم وإفنائهم.
6-
الباعث السادس: التنفيس عن كراهة موروثة وأحقاد قديمة، والرغبة بالانتقام من أمة من الأمم، أو دين من الأديان، أو مذهب من المذاهب الفكرية والاجتماعية، التي كان لها نفوذ ما عليهم أو على أسلافهم في حقبة من الزمن ويكون هذا التنفيس ضد العقائد والمذاهب بمحاولات هدم العقائد والمذاهب الصالحة، ونشر الأفكار الفاسدة الضارة، وإحلالها محلها.
7-
الباعث السابع: الرغبة بإرضاء نوازع الحسد الذي يأكل قلوب طائفة من مجرمي التسلط، ولا تتحقق هذه الرغبة إلا بسلب كل أسباب النعمة التي يتمتع بها المحسودون، وذلك عن طريق استخدام القوة وبسط السلطان، أو عن طريق المداهمة بالغارات العدوانية وإتلاف أسباب النعمة التي أثارت داء الحسد في نفوس الباغين.
8-
الباعث الثامن: خوف صاحب السلطان على سلطانه من القوة التي يتمتع بها قادته وضباطه وجنوده، فيحاول أن يتخلص منهم بتوجيه طاقاتهم الحربية لقتال شعوب غير خاضعة لسلطانه، ويغريهم باستباحة أموالهم ونسائهم وذراريهم إذا ظفروا بهم وغرضه من ذلك شغلهم أو صرفهم عن التفكير بإزاحته واحتلال مركزه وتدبير المؤامرات ضده.
9-
بواعث متفرقة: وتوجد بواعث أخرى متفرقة، لا قيمة لها بذاتها عند الناس، إلا أن بعض ظروف الاحتكاك والتنافس المصحوب برعونات فكرية ونفسية جاهلية، قد تولدت مضاعفات غضبيّة وحميّات وعصبيات تؤدي إلى العدوان فالتسلط. وقد تتذرع بعض هذه البواعث بذرائع التفوق العرقي أو الحق الإلهي، كمطامع هتلر وموسوليني، وكمطامع اليهود الذين
يخططون لحكم العالم، زاعمين أنهم شعب الله المختار.
10-
اجتماع عدة بواعث للعدوان: فقد تجتمع عدة بواعث للقيام بعدوان أمة على أمة وظاهرٌ أن أي باعث من هذه البواعث لا يعتبر مشرفاً في مستوى المجد الإنساني، والقيم الأخلاقية الكريمة، لأي متحرك به، ولذلك نلاحظ أن معظم الذين يتحركون بواحد أو أكثر منها لقتال الأمم والشعوب عدواناً وظلماً - بغية التسلط عليها، للانتقام منها، أو للظفر بما لديها من نعم وخيرات مادية أو معنوية - لا يُعربون عن بواعثهم الحقيقية، وإنما يجعلون فوقها أقنعة مزوّرة، ويسوقون دونها المبررات الكثيرة الكاذبة، لتغطية الأهداف الحقيقية لتحركاتهم، وقد يفتعلون مثيرات الغضب لتأتي تحركاتهم العدوانية في لباس المؤدب، أو في لباس المنتقم.
ومن المبررات التي اصطنعتها الدوائر الاستعمارية لصور الاستيلاء الذي فرضته على أمم وشعوب كثيرة خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، مزاعمُ التمدين والتحضير والتعليم والمساعدات الصحية والاجتماعية، والحقيقة أن معظم هذه المزاعم لم تكن إلا ستائر فقط، والغرض منها خداع الرأي العام العالمي، وتخدير الشعوب التي ستدفع ضريبة استكانتها وذلّها، من أموالها ورجالها ودمائها وذراريها ومبادئها وعقائدها وأخلاقها.
وقد كانت هذه المبررات ضرورية لها، وذلك لإحكام خطتها في الاستيلاء والتسلط، ولولا ذلك لظلت الشعوب في حالة صراع مستمر لقوى الاحتلال الأجنبي لأرضها، الأمر الذي يجعل قوى الاحتلال في حالة قلق دائم، واضطراب مستمر، ثم لا يمكنها ذلك من تحقيق رغباتها، لأن رغباتها المادية أو المعنوية لا يمكن تحقيقها إلا في جوٍ من الاستقرار والطمأنينة، يضاف إلى ذلك الأعباء المتتابعة التي ستثقل كاهلها من جراء حركات التحرير الوطني، واضطرار السلطة المستولية لإخماد نيرانها المتأججة.
وهكذا تظل صور التسلط المادي المدنس بالمطامع والشهوات والغرائز والأحقاد والنزوات بين باعث عدواني يحرضها، وغلالة مزورة خادعة تسترها
أو لا تسترها، وجرائم عدوانية وحشية ترافقها، وقد اكتوى العالم الإسلامي وما زال يكتوي بنيران قوى التسلط عليه، المباشر أو غير المباشر،من المعسكرين الغربي والشرقي، ضمن البواعث الشخصية الأنانية التي سبق ذكرها بشكل مجمل، وفيما يلي شرح هذه البواعث:
1-
الرغبة بإشباع الشهوة إلى الحكم والسلطان:
وقد تكون الشهوة إلى الحكم والسلطان غريزة في معظم النفوس الإنسانية، ومن الثابت أنها لدى بعض القياديين نامية جداً وموجهة لمعظم أعمالهم، وهذه الغريزة من أقوى الغرائز ذات الأثر التاريخي العام، بما فيها من جموح وطموح لا يحققان وجودهما إلا بإخضاع الآخرين، والتغلب عليهم في ميادين الصراع والسبق والتنافس، إلا أن لها ما يكبح جماحها، ويقيدها بقيود خلقية كريمة، كما أن لها صوارف تصرفها وتحولها إلى ميادين تنافس لا مزاحمة فيها، لأنها تتسع لكل متسابق كريم طالب للمجد.
لكنها حينما تترك دون قيد يقيدها أو صارف يصرفها فإنها ربما تغدو أخطر باعث مدمر للكون، مهلك للحرث والنسل، موصل إلى ادعاء الربوبية، إذا تهيأت لها الأسباب المساعدة على ذلك.
وأعظم القيود التي تكبح جماحها قيود الإيمان بالله، ومخافة عقابه وانتقامه، ورجاء فضله وإنعامه، أما الصوارف التي تصرفها فيأتي في مقدمتها توقع مسؤوليتها الكبرى، التي تُلقى على صاحب السلطان، وملاحظة أعبائها الجسام التي ينوء بحملها أفذاذ الرجال، والزهدُ بما في السلطان من منافع ذاتية دنيوية، أو جاهٍ عريض، أمام عظم المسؤولية، وثقل الأعباء، وبذلك فقد تضطر الأمة إلى أن تدفع الصالحين للحكم إلى سدته دفعاً، دون أن يكونوا شرهين له، جامحين إليه، يقاتلون الناس جميعاً - لو استطاعوا - من أجل اعتلاء سدته.
ولهذه الصوارف الدينية قوة على نقل ما في النفوس من طمع بمظاهر الحكم والسلطان، إلى الطمع بالتزود من المعارف والتسابق فيها، أو الطمع
بابتغاء مرضاة الله عن طريق التنافس في فعل الخير، أو الطمع بالجهاد في سبيل الله لهداية الجاهلين وإرشاد الضالين، والنكاية بأعداء الحق والخير والهدى، الجاحدين المعاندين، الذين يكيدون دين الله كيداً شديداً، ويصدون الناس عنه، ويقاتلون المؤمنين به، ويريدون إطفاء نور الله بأفواههم.
وهكذا تستطيع الصوارف الدينية إجراء التحويلات النفسية لشهوات الحكم النانية، وبهذه التحويلات تجعل طاقات العمل المختلفة تتوجه لتحقيق سعادة الناس، بعد أن ك انت موجهة توجيهاً أنانياً ينجم عنه شرور كثيرة، وعدوان وظلم، وآلام جسيمة للمجتمع البشري.
ولن تتمّ هذه التربية التحويلية بصورة فضلى إلا في ظل تربية دينية صحيحة ولا نجد لها صورة صحيحة مثلى إلا في الإسلام، الذي يعمل على التخفيف منها حتى آخر حدّ يمكن أن تصل إليه مجموعة بشرية.
وكم جرّ باعث الشهوة إلى الحكم والرغبة بالسطان على الناس عبر التاريخ الطويل من ويلات ونكبات جسام، في حروب طاحنة، أزهقت فيها أرواح، وأريقت فيها دماء، وأتلفت فيها خيرات، وبددت قوى وطاقات، ودرست مدن وحضارات، ودهّمت مساجد وبيع وصلوات، لا سيما حينما يضطرب جنون العظمة في رأس زعيم يتوقد في نفسه لهيب الشره بأن يكون له سلطان على كل شيء، ثم يستطيع أن يجد بطانة تؤازره، وقوة تناصره، مع كفر بالله يطلق لأهوائه العنان ويجعلها ملك قيادة الشيطان.
ومع هذه المطامع التي ليس لها أساس إنساني كريم تستجيب له النفوس البشرية أو ترضى به، لا بد أن تقف الأمم والشعوب من صاحبها موقف الدفاع عن حقوقها التي يراد لها أن تكون غنائم باردة، وأسلاباً سهلة المنال، في أيدي مجرمي الحروب، كما لا بد أ، تقف في وجهها مطامع مناظرة عند جموحين آخرين يتوقد في نفوسهم أيضاً لهيب الشره إلى السلطان والحكم، ومن هذا أو ذاك يكون الصراع الدموي العنيف، الذي تنشأ عنه مضاعفات كثيرة، إذ يتولد منه الحقد والكراهية والرغبة بالانتقام، وفساد الطبائع الإنسانية، كما يتولد منه التفاخر بالبطولات، وشدة الارتباط بالعنصريات والعصبيات والحميّات
الجاهلية، وهكذا إلى آخر حشد الرذائل الخلقية والاجتماعية، التي تخلفها الحروب المدنسة بالمطامع الأنانية غير المقدسة.
وقد عرف التاريخ القديم والحديث أمثلة كثيرة من الحروب، التي تثيرها من الشهوة إلى الحكم والسلطان بواعث ضاربة ضارية في نفوس بعض الناس، ممن ليس لهم من الدين ومخافة رب العالمين ما يضبط شراسة نفوسهم، ويملك جماحها العنيد، وليس لديهم مشاعر إنسانية عامة يحسون بها آلام شركائهم في الإنسانية.
وقد ظهرت هذه الأمثلة في مختلف الأمم البدائية والمتحضرة، وكذلك ظهرت في الأمم التي أدركت مدنيات القرن العشرين.
فنجد أمثلة منها في تاريخ الفرس، وأمثلة أخرى في تاريخ الروم، وأمثلة في تاريخ اليونان، وأمثلة في تاريخ الأحباش، وكانت الأمثلة التي ظهرت قديما ًفي هذه الأمم أمثلة كبرى ذات نطاق واسع.
وفي تاريخ العرب قبل الإسلام نجد أمثلة كثيرة منها، ولكنها جزئية ومحدودة ونجد مثل ذلك في تاريخ الشعوب البدائية.
وكانت الأمثلة منها قليلة ومحدودة في تاريخ المسلمين بفضل التربية الإسلامية، والروادع الدينية، ولم تظهر هذه الأمثلة إلا من منحرفين خارجين على التعاليم الإسلامية والوصايا الربانية.
أما أعداء الإسلام والمسلمين فقد سجل التاريخ عليهم أمثلة كثيرة منها، وتذهلنا الأمثلة التي قدّمتها الشعوب المغولية، والشعوب التترية، وفي الصليبية أمثلة دون ذلك.
فإذا وصلنا إلى تاريخ شعوب أوربا الحديثة جابهتنا الأمثلة الصارخة التي أعلنت عنها حروب كونية كبرى.
وهذه الأمثلة لا بد أن تتكرر وتظهر في كل مجموعة بشرية لم تعم فيها يد الإصلاح الديني عملاً فعالاً مثمراً، وشر ما في الأمر أن تحمل هذه المطامع
الشخصية الأنانية مدمرة بها أمجاد الإنسانية الخيرة، التي يحملها دعاة الخير ورسل الهدى.
وقد حمل نفر غير قليل من أصحاب المطامع الشخصية بالحكم والسلطان، في تاريخ الإنسانية الطويل العداوة ضد دعاة الحق من الأنبياء والمرسلين ، وضد الإسلام خاتمة الرسالات الربانية، واستخدموا ما استطاعوا أن يجمعوه من قوة وكيد في حرب الأمم والشعوب المؤمنة المسلمة لربها، بغية إضعاف قوتها، وصرفها عن رسالتها الربانية، التي تحمل الخير والرفاه والسعادة لكل الأمم والشعوب.
2-
الرغبة بابتزاز الأموال والاستيلاء على مصادر الثروات
وقد تكون الرغبة بابتزاز الأموال، والاستيلاء على مصادر الثروات، حبّاً بالمال، وافتتاناً به، أو بغية تسخيره في تنمية القوة، أو تحقيق مطالب الأنفس وشهواتها، من أبرز البواعث النفسية التي تدفع مجرمي التسلط المادي المدنس بالمطامع الأنانية والشهوات والغرائز والنزوات والأحقاد، إلى العدوان على غيرهم من الأمم والشعوب.
ومن المعلوم بالتجربة أن النظريات الحقوقية تغدو غير ذات أثر فعال في النفوس، حينما تشعر أن لديها من القوة ما يمكنها من تحقيق مطامعها، متجاوزة كل مبدأ من مبادئ الحق والعدل، وتشعر مع ذلك بانعدام الرقابة عليها من قبل سلطة إنسانية تحاسبها وتجازيها، ثم لا تؤمن برقابة ربانية عليمة حكيمة قديرة عادلة، ستسألها وستحاسبها وستجازيها بالعدل على أعمالها.
ولما كان المال على اختلاف أشكاله وصوره إحدى القوى الخطيرة التي يتوسل بها إلى تحقيق مطالب الأنفس وشهواتها، كان له في نفوس الناس جميعاً مكانة عظيمة موصولة بالدوافع الأولية التي بني عليها وجود الإنسان في هذه الحياة، وموصولة أيضاً بالدوافع الثانوية وغيرها من الدوافع التي تحقق للإنسان متعة ولذة، أو تفاخراً وتكاثراً، أو لهواً ولعباً، أو غير ذلك من زينة الحياة الدنيا.
قال الله تعالى في سورة (آل عمران/3 مصحف/89 نزول) :
{
زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} .
وفي كلام الرسول قوله صلوات الله عليه: "لو أوتي ابن آدم وادياً من ذهب لابتغى إليه ثانياً، ولو أوتي ثانياً لابتغى إليه ثالثاً، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب".
ولما كان علم الإنسان ضمن قدراته التي يستطيع بذلها لا يحقق له جميع مطامعه في تحصيل المال الوفير، الثراء الكثير، كانت نفسه باستمرار ممتدة للاستيلاء على أموال الآخرين التي جنوها بكدهم وسعيهم، إلا أن يردعهم رادع من دين، أو من خوف رب العالمين.
ولكن الآخرين حريصون أيضاً على ما لديه من أموال، فلم يكن أمام الناس بين يدي معركة الطمع والدفاع عن الحق إلا طريقان:
طريق الحق والعدل الذي تحمل لواء الدعوة إليه وصيانته شريعة الله الثابتة، ومعها وسيلتا الترغيب والترهيب العاجلتين والآجلتين.
وطريق العدوان والظلم الذي تميل إليه معظم النفوس، ما دامت في أيديها القوة الكافية لانتزاع حقوق الآخرين، والاستحواذ عليها إرضاءً لمطامع النفوس وشهواتها وأهوائها.
أما طريق الحق والعدل فمن العسير أن يلتزم الناس به إلا في حالتين: إحداهما: ضعف قوتهم عن العدوان على غيرهم، وعند ذلك ينادون بمبدأ الحق والعدل صيانة لأنفسهم وحفظاً لحقوقهم. وثانيتهما: سموّهم إلى مراتب الإيمان بالله، وشعورهم بأن الله القادر القاهر يراقبهم على أعمالهم، صغيرها وكبيرها، وسيحاسبهم ويجازيهم، ويقيم فيهم عدله بحسب أعمالهم، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، ولا يضيع عمل عامل منهم، ولو كان مثقال ذرّة. وليس وراء هاتين الحالتين إلا تكلفات تعاني منها المجتمعات الإنسانية عناءً كبيراً، ثم تفلت
من أيديها جميعا الضوابط حينما يظفر المجرمون بالقوة الكافية.
وأما طريق العدوان والظلم فإنه في نظر كثير من الناس المجرمين، الذين لا يراقبون الله، ولا يرجون ثوابه، ولا يخشون عقابه، أيسر طريق لبلوغ الثروات الكبرى، وحينما تتجلى هذه الانحرافات في أفراد أو في عصابات تتولد جرائم محلية محدودة، يؤدبها ويحد منها الرأي العام المتواضع على خلافها، أما حينما تتجلى هذه الانحرافات في نفوس من بأيديهم مصائر شعوب، وقوى دول كبيرة، أو تتجلى في نفوس أمة بأسرها، تجمعها رابطة ما من الروابط الإنسانية، فإن مشلكة العدوان تغدو حينئذٍ مشكلة دولية، أومشكلة عالمية، إذ تبرز في أشكال غزوات سلب ونهب، أو حروب سلب ونهب كبرى، تزهق فيها أرواح بريئة، وتدمر فيها حضارات، وتتلف فيها خيرات.
وقد عرف تاريخ الإنسان القديم والحديث أمثلة كثيرة من أمثلة الغزوات والحروب الصغرى والكبرى، التي تحركها المطامع المادية والرغبة بابتزاز أموال الآخرين، وسلبها بغير حق، والاستيلاء على مصادر ثرواتهم.
ومن أمثلة ذلك حروبٌ كثيرة توقدت نيرانها بين الناس، في تاريخ الإنسان القديم والحديث، كالحروب التي كانت تحركها المطامع الرومانية والفارسية والحبشية، وكالغزوات التي كانت تمارسها قبائل العرب أيام الجاهلية، وقبائل معظم الشعوب المتخلفة حضارياً، وقراصنة البحار وغيرهم، ومن أمثلة ذلك أيضاً الحروب التي أوقد نارها المغول والتتار، والدول الصليبية، ثم الحروب العنيفة التي أوقدت نيرانها الدول الاستعمارية.
وقد تعرضت بلاد المسلمين وأموالهم لصور كثيرة من الغزو الذي كان الدافع له ابتزاز أموالهم، والاستيلاء على مصادر ثرواتهم.
3-
الرغبة باحتلال أرض ذات امتيازات طبيعية مفضلة
وقد تكون الرغبة باحتلال أرض ذات مناخ أجود أو طبيعة أجمل من أرض الطامعين، أو ذات مركز ذي أهمية تجارية أو عسكرية، من البواعث النفسية الأنانية التي تدفع مجرمي التسلط المادي المدنس بالمطامع والشهوات
والأهواء، إلى العدوان على غيرهم من الأمم والشعوب.
فمن المعلوم أن لكل إقليم خصائص اختصته العناية الربانية بها، فالإقليم الرخي الطري الناعم المثمر قد لا تكون فيه كنوز الذهب والفضة وسائر المعادن الثمينة، والإقليم المثمر قد لا تكون فيه كنوز الذهب والفضة وسائر المعادن الثمينة، والإقليم الذي تكثر فيه الكنوز قد لا يكون رخياً طرياً ناعماً مثمراً، وبعض الأقاليم محظوظ بأنه محطة اتصال بين عالمين متباعدين أرضا ً، مترابطين في المصالح التجارية أو السياسية أو غيرهما، فيحتل بينهما مركز الوسيط والطريق الذي يضطر إليه كلٌّ منهما.
وهذه الخصائص والهبات الربانية من شأنها أن تثير مطامع الطامعين، وحسد الحاسدين، فتجلب إلى أهلها موجات الغزاة، وتجعلهم عرضة لعدوان المعتدين ومحاولات تسلط الغاصبين، الذين ليس لديهم من الدين أو مخافة عدل رب العالمين ما يردعهم عن الاعتداء على حقوق غيرهم، فيحملون أسلحة التسلط المدنس بالمطامع الأنانية، ويباشرون أعمال الغزو غير المقدس ضد أصحاب الأرض الشرعيين، ولا غرو أن يقف هؤلاء موقف الدفاع الشريف عن أرضهم وبلدهم، وبذلك يقع الصدام الدموي المسلح، وتسفك الدماء، ويكثر الفساد في الأرض. والباعث المؤدي إلى حدوث هذه الويلات الجسام منحصر في المطامع النفسية الدنيئة التي ليس لها سند إلا الأنانية المجرمة، وحب الأثرة، والرغبة بالعدوان.
4-
الرغبة بتسخير الشعوب
ومن البواعث النفسية التي تحرض مجرمي الحروب على التسلط، الرغبة بتسخير الشعوب في الأعمال الاستثمارة وغيرها، كالأعمال الزراعية أو الصناعية أو العمرانية أو أعمال الخدمات، وأشدها الأعمال الحربية، إذ يجندون الشعوب المغلوبة ويدفعون بها إىل معارك حربية ضد شعوب أخرى.
وهذا لون من ألوان استعباد الإنسان للإنسان بغية تسخيره في الأعمال، وقد سجل تاريخ الإنسان القديم والحديث أمثلة كثيرة من هذا الاستبعاد. لقد كانت الشعوب الغالبة تستعبد الشعوب المغلوبة استعباداً تاماً أو جزئياً،
فتسخرها فيما تشاء من أعمال، ثم جاء الاستعمار بصوره المختلفة فكان لوناً متمدناً من ألوان الاستعباد.
وإذا كان التاريخ القديم يحدثنا عن الشعوب المغلوبة المستعبدة التي بنت بكدها وذلها ودمها وآلامها للغالبين آثاراً خالدة، ظلت مائة آلاف السنين تشهد بمقدار التسلط الذي بلغوه، إننا قد شهدنا في التاريخ الحديث جيوشاً جرارة من إفريقية والهند مستعبدة مسخرة لتوطيد دعائم دول استعمارية، تسلطت على شعوبها، وبنت أمجادها بكد وذلك هذه الشعوب، وبطاقات أفرادها، وبخيرات أرضها.
وقدم إنسان المدنية الحديثة أمثلة من الاستعباد مناظرة لما كان يقدمه إنسان القرون الأولى دون فروق جوهرية كبيرة، إلا الفروق التي تقتضيها وسائل العصر، فكل منها قائم على استغلال الإنسان وغذلاله لأخيه الإنسان دون حق مشروع، أو هدف مثالي، ولدى البحث نجد أنه لا دافع لهذا العدوان إلا النانية الشخصية أو الجماعية، والمطامع النفسية الظالمة، والنزوات القائمة في نفوس أفراد متسلطين، أو شعوب أخذتها العزة بالإثم، فنمت فيها أنانيات ومطامع ونزوات مشتركة، فتواطأت على إروائها باضطهاد شعوب أخرى وإذلالها واستعبادها.
بينما لا نجد في رسالة الجهاد المقدس أي أثر لإقرار صور الإذلال والاستغلال والاستعباد، أما نظام الرقيق فقد كان لوناً من ألوان المعاملة بالمثل، إذ كان نظاماً سائداً في مختلف أمم الأرض، وحينما جاء الإسلام أخذ في إصلاح هذا النظام داخل المجتمعات الإسلامية، إذ لم يكن يستطيع أن يملي إرادته على الشعوب التي كانت تعلن عداءها للإسلام والمسلمين، أما إصلاحه تمهيداً للتخلص منه فقد كان بالحرص على تحرير الرقيق، وإيجاب الرفق في معاملته، واعتباره بمثابة عضو من أعضاء الأسرة الإسلامية، التي وكل إليها أمر الرقابة عليه خشية مؤامراته، فهو يأكل مما تأ: له منه، ويلبس مما تلبس منه، ولا يكلف من العمل إلا في حدود طاقته، حتى إذا ظهرت عليه أمارات صلاح حاله، واطمأنت النفوس إليه أطلقت حريته، ورفعت الرقابة عنه، وأعطي بذلك
مباشرة جنسية المواطن الشريف، وأخذ يتمتع بكل الخيرات التي يتمتع بها جميع المسلمين، من خيرات اقتصادية وأدبية واجتماعية وغيرها، أما المجالات العلمية فإنه لا يحرم منها بحال من الأحوال، حتى في أشد أحوال الأسر، لأن رسالة الإسلام في أساسها تعليم وهداية.
وهكذا يظهر الفرق دائماً بين البواعث النفسية الأنانية غير المقدسة، وبين أهداف رسالة الجهاد المقدس. ولعل هذا النظام الذي يقوم على أساس جعل الأسير عضواً من أعضاء أسرة إسلامية داخل المجتمع المسلم يخالط شؤون الحياة كلها، إلا أنه موضوع تحت الرقابة، أكرم لإنسانية الأسير وأرحم، وأفضل لترقيته ثقافياً واجتماعياً، من الأنظمة المتبعة الآن بالنسبة إلى الأسرى، فهي أنظمة شبيهة بالاستعباد الجماعي، إذ فيها إذلال جماعي، وحجز لكل الحريات في السجون، وتسخير في بعض الأعمال، وتقتير في وسائل العيش، مع تعذيب وإهانة.
5-
الرغبة بالتوسع في الأرض للاستيطان أو الاستغلال
ومن البواعث النفسية التي تدفع مجرمي التسلط المادي المدنس بالشهوات والمطامع الأنانية، إلى العدوان على غيرهم من الأمم والشعوب، الرغبة بالتوسع في الأرض، بغية الاستيطان فيها أو استغلالها.
وحين لا تتحقق هذه الرغبة لهم برضا أصحاب الأرض الشرعيين فإنهم لا يجدون سبيلاً إلى ذلك إلا سلوك سبيل الجريمة والظلم والعدوان، إما بمزاحمة أصحابها، ومقاسمتهم أرضهم ومعيشتهم ومصادر رزقهم، وإما بسلبها منهم سلباً كلياً، وطردهم والعمل على إبادتهم وإفنائهم بشتى وسائل الإفناء الوحشي أو المتمدن.
وما نشاهده من ذلك في الناس على متسوى الأفراد أو العصابات، نشاهد نظيره على مستوى الأمم والشعوب والدول الكبرى.
ففي الأمثلة المصغرة نشاهد جرائم التوسع في الأرض بالظلم والعدوان، عن طريق السرقة أو الاحتيال، أو عن طريق استخدام القوة المباشرة أو غيره
المباشرة، كتسخير قوة الحكم، والضرب بسيف السلطان أو عن طرق أخرى، والوسائل الشيطانية في ذلك كثيرة.
هذا جار سكن يحركه الطمع للاستيلاء على قطعة أرض من دار جاره ظلماً وعدواناً، ليوسع بها داره، ويزيدها حسناً وجمالاً، ويجازف بارتكاب جريمة الاستيلاء لبغير حق على ملك جاره، وربما تكون حاجة جاره لها وهو صاحب الحق تمثل ضرورة من ضرورات سكنه وسكن أسرته، بينما لا تزيد حاجة المتسلط على أنها لون من ألوان استكمال مظاهر الرفاهية والزينة له ولأسرته.
وهذا جار في أرض زراعية يحركه الطمع أيضاً للاستيلاء على قطعة أرض من مزرعة جاره، ليوسع بها مزرعته، ويجمل بها أرضه، فيجازف بارتكاب جريمة الاعتداء على حق غيره، وربما كانت حاجة جاره لهذه القطعة - وهو صاحب الحق - تمثل ضرورة أساسية من ضرورات عيشه لأنها الوسيلة الوحيدة لعمله الذي يجني منه رزقه ورزق أسرته.
وهنا تقف تعاليم الإسلام حارساً أميناً على حقوق الناس،ففي الحديث الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم عن سعيد بن زيد، أن رسول الله قال:"من أخذ شبراً من أرض ظلماً فإنه يطوقه يوم القيامة من سبع أرضين".
وفي الأمثلة المكبرة التي يرتكبها مجرمو التسلط من الأمم والشعوب، نشاهد جرائم التوسع في الأرض، بطرق شتى، منها ألوان الغزو المادي المسلح، الذي يمتلك الغزاة فيه بلاداً لشعوب وأمم أخرى بمقاتلة أهلها وقهرهم، وطردهم أو إبادتهم.
ومن أمثلة ذلك في القرن العشرين للميلاد مطالب ألمانية هتلرية، التي نشأ عنها ما سمي بالحرب الكونية الثانية. ومن أفحش الأمثلة وأكثرها تصويراً للجريمة الإنسانية ما يمارسه اليهود في فلسطين ضد سكان الأرض الأصليين، وأصحاب الحق الشرعي فيها، وليس التذرع بأن اليهود قد سبقت لهم سكنى هذه الأرض منذ نيف وألف سنة، لذلك فلهم الحق بأن يستردوها ويطردوا أهلها منها أو يعملوا على إفنائهم، إلا كحجة الضيف الذي استقبله صاحب
الدار بالترحاب والإكرام، ثم زاد في إكرامه فأطال مدة إقامته، إلا أن أولاد هذا الضيف استطاعوا في يوم ما أن يستغلوا مرض صاحب الدار، ويعلنوا أمام الجيران أنهم أصحاب الدار ومالكوها، ثم شفى الله المريض وشهد ما وصل إليه أولاد ضيفه من فساد ولؤم وعدوان، فاستعان عليهم بذوي القوة فطردهم من بيته، فتفرق هؤلاء الأولاد في الأرض، ولكنهم ما زالوا يحنون إلى دار الضيافة، وبعد عشرات القرون من السنين، رجع الأحفاد يطالبون بدار الضيافة، ويزعمون أمام الناس أنهم أصحابها، وأنهم كانوا قد طردوا منها، وما على الناس إلا أن يملكوهم إياها، ويطردوا منها أبناء الذين كانوا قد استضافوهم في دارهم.
هذا هو منطق اليهود في هذا العصر، ومنطق الدول الكبرى التي تؤديهم وتمدهم؛ وما يدرينا فلعل اليهود سيطالبون بتملك جميع بلاد الدنيا، لأنهم سكنوها ضيوفاً فترات طويلة من الزمن.
أما وجود اليهود في فلسطين فإن الحقيقة التاريخية التي يعترفون بها تثبت أنه قد كان بمثابة وجود الضيف في المثل السابق، فإبراهيم عليه السلام قد كان من سكان ما بين النهرين، فجاء مهاجراً إلى أرض الكنعانيين، وقد استضافه الكنعانيون وأحسنوا وفادته، وكان له أسرة قليلة العدد ضمن سكان كثيرين، ولم تلبث هذه الأسرة أن هاجرت إلى مصر، ثم عادت بعد قرون ومعها رسالة الجهاد المقدس، إلا أن الفساد قد أسرع إليها، فسلب الله عنها النعمة، واستمر أصحاب البلاد الأصليين في أرضهم، ولما جاءت المسيحية دخل قسم منهم فيها، ثم لما جاء الإسلام أسرعوا إليه فصاروا مسلمين.
فهل لهذه الدعوى التي يصنعها اليهود، ويؤيدهم فيها أمثالهم في الإثم والجرم، أقدام تقف عليها في مواجهة منطق الحق الذي يملكه الفلسطينيون؟
6-
الرغبة بالانتقام تنفسياً عن الكراهية والأحقاد الموروثة
ومن البواعث النفسية الأنانية التي تدفع مجرمي التسلط المادي المدنس بالأهواء والشهوات، والأحقاد والنزوات، إلى العدوان على غيرهم من
الأمم والشعوب، الرغبة الانتقام تنفيساً عن كراهية موروثة وأحقاد قديمة.
وحينما يكون الانتقام الجاهلي موجهاً ضد مجموعة من الناس، يتوجه أيضاً ضد كل ما يختص بهم من دين، أو نظام اجتماعي، أو تاريخ، أو أرض، أو أي مجد حضاري أو مدني، مهما كانت هذه الأمور جديرة بالاحترام والتقدير، أو حقيقة بأن تتبع أو يستفاد منها للتقدم وإسعاد الناس ورفاههم ونشر الخير بينهم.
ويظل الإنسان في انفعالاته الانتقامية المستندة إلى الكراهية الموروثة جاهلياً، بعيداً عن المنطق الحضاري، ما لم تهذب عواطفه وتضبط نفسه وانفعالاته مجموعة العقائد والمفاهيم والنظم الدينية الربانية الحقة، القائمة على أسس عامة بعيدة عن كل تعصب أناني أو قومي أو عرقي.
ويظهر أثر التكوين البدائي لطبائع النفوس في كثير من شعوب الأرض المتمدنة، ما دامت بعيدة عن التربية الدينية الربانية الصحيحة، أو المفاهيم الاجتماعية التي تدعو إليها، وكلما قربت هذه الشعوب في حضاراتها من إدراك هذه المفاهيم، وتمثلها في السلوك، تضاءلت في نفوسها الطبائع الجاهلية.
ومن خصائص التربية الدينية الربانية الصحيحة، التي تمثلها التعاليم الإسلامية أصدق تمثيل، الأسس الاجتماعية التالية:
الأساس الأول: "لا تزر وازرة وزر أخرى" فلا تتحمل الجماعة ذنوب أفراد منها، ما لم تكن متواطئة معهم عليها، أو راضية بها، ولا يتحمل الأبناء والأحفاد ذنوب الآباء والأجداد، ما لم يتابعوا ممارستها، أو تصبح فيهم أموراً تقليدية محببة غير مستنكرة.
وهذه الأساس من شأنه أن يقطع دابر كل كراهية متوارثة بين الأمم والشعوب.
الأساس الثاني: الأخوة الإنسانية التي لا تعترف بالفوارق العرقية أو اللونية أو اللغوية أو السكنية أو الطبقية، وهذه الأخوة ذات مستويين:
أما المستوى الأول: فهو المستوى العام الذي يشمل الناس جميعاً، ويتمثل بحب المسلم الخير والسعادة لكل بني الإنسان، وفي هذا المستوى يقول
الرسول: "كلكم لآدم وآدم من تراب"
ويقول الله تعالى في سورة (الحجرات/49 مصحف/106 نزول) :
وأما المستوى الثاني: فهو المستوى الخاص، ويتمثل بحب الخير والسعادة مع التأييد والمناصرة والمودة للملتزمين بالحق، الداعين إليه، السالكين صراط الخير والهدى، صراط الله المستقيم.
وذلك لأنه قد اقتضت طبيعة نشر الحق والخير في المجتمع الإنساني، وطبيعة العمل على مقاومة الباطل والشر أين وجد ومن أية جهة صدر، مناصرة دعاة الحق والخير الملتزمين بهما، وكبح جماح دعاة الباطل والشر العاملين بها.
ولما كانت المناصرة أثراً من آثار الإرادة الإنسانية، التي تتأثر بالميل العاطفي، كان من مقتضى النصرة أن تكون مصحوبة بالحب في الله، وكان من مقتضى المكافحة أن تكون مصحوبة بالبغض في الله.
وقانون الحب والبغض في هذا الأساس مستند إلى مبدأين، يضم أحدهما الحق والخير، ويضم الثاني الباطل والشر، وضابط المبدأ الأول منهما ما أمر الله به عباده ودعاهم إلى العمل به وابتاعه، وضابط المبدأ الثاني منهما ما نهى الله عنه عباده ودعاهم إلى تركه واجتناب سبيله. وقد بين الدين الإسلامي للناس أوامر الله ونواهيه.
من أجل ذلك كانت ثمرة هذا القانون تتجلى في الحب في الله والبغض في الله، دون أن تتدخل في كل من الحب والبغض أية عوامل شخصية أو أهواء نفسية.
ومن شأن هذا الأساس أن يطلق دوائر الجماعات الإنسانية، ويأخذ بأيدي الناس إلى الوحدة العالمية، التي تعتمد على وحدة الفكر ووحدة الهدف في الحياة ويرافقهما وحدات أخرى ذات ارتباط بالنظم العامة، والتكوين السياسي للجماعات الإنسانية.
الأساس الثالث: إلغاء الأنانيات على اختلافها أمام مبادئ الإصلاح والخير، ومكتشفات العلم ومنجزاته.
ويقتضي هذا الأساس، أن يتقبل الذين تأثروا بالتربية ألإسلامية المثلى كل مبادئ الإصلاح والخير، وأن يمتصوا بسرعة كل مكتشفات العلم ومنجزاته، ولو حملها إليهم أقل الناس مكانة اجتماعية بين الأمم، وقاعدتهم في هذا ما جاء في الحديث عن أبي هريرة قال: قال رسول الله: "الكلمة الحكمة ضالة الحكيم، فحيث وجدها فهو أحق بها".
وكلمتهم المأثورة في ذلك "خذ الحكمة من أي وعاءٍ خرجت".
ومع تمثل هذه الأسس الراقية تنعدم معظم عوامل الكراهية والبغضاء والحقد، التي لها في معظم الأمم والشعوب رواسب موروثة، مع أنها غير ذات أساس منطقي مقبول، لدى التقويم الفكري السليم.
وكم تعرضت الإنسانية لآلام كثيرة، وحروب بشعة حقيرة، وألوان شتى من العدوان والظلم التي لا دافع لها إلا مخزونات كره وحقد تغلغلت في النفوس، تكاثرت عن طريق التوالد الذاتي البحت، وورثها الأبناء والأحفاد عن الآباء والأجداد، وحينما نرجع إلى أصولها الأولى نجد أنها ناتجة عن رعونة وطيش، وأنانية وأثرة، أملتها عادات وتقاليد جاهلية، تحمل الجماعة وزر مذنب منها، ولا تفهم معنى الأخوة الإنسانية ولا تشعر به، ولا تعترف بأي إصلاح أو خير أو علم، ما لم يكن صادراً عنها أو منسوباً إليها.
وقد صادفت حركة الإصلاح ونشر الخير والعلم على أيدي المسلمين موجة عنيفة مضادة من الكره والحقد والبغضاء وعند بعض الذين رفضوا الإسلام، وقد اختزن طاقة هذه الموجة فئات من الناس، فورثوها لأولادهم وأحفادهم. أما الذين استجابوا لدعوة هذه الحركة فقد اندمجوا بسرعة في صفوف المؤمنين المصلحين، فقبلوا الإسلام، ورضوا به ديناً ونظام حياة، فسعدوا به، ولم يجدوا في نفوسهم أي حرج، وهؤلاء هم النسبة الغالبة من
الشعوب التي دخلت إليها حركة الإصلاح. وأما الذين لم يستجيبوا فلم يقترف المسلمون تجاههم ذنوباً تستحق أن يقابلوا عليها بالكره والحقد والبغضاء، لكن الجاهليات الأنانية جعلتهم لا يعترفون بالأخوة الإنسانية، ولا يتقبلون مبادئ الإصلاح والخير التي جاءهم بها دعاة من غيرهم، فكرهوا وأبغضوا وحقدوا، وورثوا ذلك لأبنائهم وأحفادهم، واتبعوا المفاهيم الجاهلية، التي لا تتجاوز حدود الدوائر الأنانية الضيقة والعصبيات المقيتة.
وكم تعرض المسلمون في قرون الضعف والتجزئة لعداء شديد، وكيد مديد، من وارثي كراهية وحقد وبغضاء.
7-
الرغبة بإرضاء نوازع الحسد
ومن البواعث النفسية الأنانية التي تدفع مجرمي التسلط المادي المدنس بالانحرافات الخلقية، إلى العدوان على غيرهم من الأمم والشعوب، داء الحسد الذي يأكل قلوب طائفة من الناس.
ومعلوم أ، هاذ الداء القبيح، متى استحكم في قلوب الحاسدين، لا تتحقق رغباته إلا بإزالة كلّ أسباب الن عمة التي يتمتع بها المحسودون.
ثم لا يقف داء الحسد عند حدود الأماني، ولكنه ينتقل إلى مباشرة الأسباب المادية لتحقيق رغباته الحقيرة، وذلك عند شعور الحاسد بأن لديه من القوة المادية ما يستطيع أ، يزيح به من الوجود مثيرات حسده، مهما كان نوعها، إما بسلب أسباب النعمة من صاحبها وإضافتها إلى نعمه، وإما بحجبها عنه، وإما بإتلافها وإزالتها من الوجود.
إلا أن المؤمنين بالله حق الإيمان، الراضين بقسمته وعدله، إذا مسهم طائف من شياطين الحسد تفجرت في قلوبهم ينابيع ذكر الله، وامتدت أمام بصائرهم آفاق المعرفة، وتدفقت عليهم فيوض العلم، فأدركوا سر الابتلاء في هذه الحياة الدنيا، وأبصروا حكمة الله، فاطمأنت بها قلوبهم، وعظمت بها قناعتهم، ثم جاءهم من الله شفاءٌ لما في الصدور.
ويمكن أن نضع لهذا الداء وآثاره قانوناً نفسياً يستند إلى عناصر ثلاثة:
العنصر الأول: وجود هذا الداء في النفس بالمقدار الذي يؤثر تأثيراً على ما في سلوك الإنسان وانفعالاته.
العنصر الثاني: فقد الشعور بمراقبة الله، والتبصر بحكمته، والخوف من نقمته.
العنصر الثالث: شعور الحاسد بأن لديه من القوة ما يمكنه من سلب أسباب النعمة عمن يحسده، أو حجبها عنه، أو إتلافها إتلافاً كلياً.
فإذا اجتمع العنصران الأول والثاني ولم يتوافر للحاسد العنصر الثالث - وهو شعوره بالقوة على تحقيق رغبات داء الحسد - تولدت عنهما أماني سلب النعمة أو حجبها أو إتلافها.
وإذا اجتمعت الع ناصر الثلاثة تولد عنها جميعاً كل المحاولات العملية الإجرامية التي تستهدف مباشرة تحقيق الأماني.
وتتفاوت النتائج بنسبة تفاوت وجود هذه العناصر، فإذا كانت نسبة داء الحسد مثلاً بمعدل (70) درجة مئوية من النسبة العظمى التي بلغها إبليس في حسده لآدم، وتضاءل معها الشعور بمراقبة الله والخوف من جزائه ونقمته، حتى بلغ دون العشرة في المئة. وبلغ معهما الشعور بالقوة على تحقيق الأماني دون التعرض لعقاب مادي معدل (70) درجة مئوية مثلاً، فإن قوة فاعلية الأماني ستكون قوة كبرى، والاندفاع إلى الجريمة سيكون أمراً محققاً في تقدير مدى سلوك الإنسان سبل الشر والأذى.
أما إذا كانت النسب ضئيلة، أو كانت نسبة الشعور بمراقبة الله والتبصر بحكمته والخوف من نقمته عالية، فإن آثار الحسد في السلوك ستكون آثاراً ضئيلة خفيفة.
ومن هذا نلاحظ أن وجود عنصر داء الحسد مع الشعور بالقوة على تحقيق أماني الحاسد يلغيهما أو يكبحهما الشعورُ بمراقبة الله، والتبصر بحكمته، والخوف من نقمته، بل من شأن هذا الدواء المدهش أن يطارد جرثومة الداء من أساسها.
ولدى النظر في تاريخ الإنسان القديم والحديث نلاحظ كم كان لهذا الداء الخبيث من آثارٍ إنسانية مخزية، وأعمال في الكون مفسدة مدمرة، وكم دفع مجرمي التسلط المادي إلى إشعال نيران حروب كثيرة وكبيرة، نجم عنها آلام جسيمة، وأمراض اجتماعية وجسدية ونفسية خطيرة، ونجم عنها أيضاً دمارٌ لمظاهر تقدم الإنسان وحضارته، وفساد عريض وشر مستطير.
ولما اصطفى الله محمداً بالنبوة، وأننزل عليه القرآن، واختصه بأن يكون خاتم المرسلين، وحمل من آمن به من العرب لواء الدعوة إلى رسالته العظيمة، خاتمة رسالات السماء، وأقبلت عليهم رياح النصر والتأييد من كل جهة، أثار ذلك حسد بعض أتباع الديانات السابقة، وأوقد في قلوبهم نيرانه، فكان منهم معتدلون لم يتجاوزوا حدود الأماني، وكان منهم مجرمون أخذوا يهتبلون كل فرصة للنكاية بالمسلمين، وقطع كل طريق من طرق الدعوة دونهم، وللنكاية بالإسلام الذي كان سر مجدهم ونصرهم وخذلان عدوهم.
واحتل اليهود الصف الأول بين طوائف الحاسدين، فأخذوا ينكرون الحق الذي جاء به محمد صلوات الله عليه، ويتآمرون عليه وعلى رسالته في حياته، ثم أخذوا يكيدون للمسلمين وللإسلام كيداً عظيماً، على مقدار القوة التي يشعرون بأنها تمكنهم من فعل شيء يسيرُ في طريق تحقيق أمانيهم العدوانية الظالمة الآثمة، إلى أن مرّ نهر الزمن في صحراء القرن العشرين، وبدت على الشعوب الإسلامية مظاهر الضعف، تسارع اليهود من كل حدب وصوب إلى إرضاء نوازع الحسد الذي يأكل قلوبهم من قرون، وإلى تلبية مطامع أخرى في نفوسهم، وإلى سلب المسلمين جوهرة عظيمة عزيزة عليهم دينياً وتاريخياً، وانتزاع الرئتين من الجسد، بوسائل إجرامية، وآزرهم على ذلك آخرون في الأرض، أكثر منهم قوة على تحقيق أمانيهم، وأقل منهم حسداً، ولكن اشتركوا جميعاً في جريمة التسلط على ما ليس لهم به حق، بالغضب والقتل والسلب والتشريد ومحاولات الإفناء مع محاربة الدين الذي كان سبب نعمة المسلمين العظمى، منذ ظهور الإسلام في القرن الأول الهجري، الموافق للقرن السابع من ميلاد المسيح عليه الصلاة والسلام.
8-
خوف صاحب السلطان على سلطانه من عناصر قوته البشرية
ومن البواعث النفسية الأنانية غير المقدسة، التي تدفع مجرمي التسلط المادي إلى العدوان على غيرهم من الأمم والشعوب، خوفُ صاحب السلطان على سلطانه من القوة العسكرية والسياسية التي يتمتع بها قواده وضباطه وجنوده، فيحاول أن يتخلص منهم بتوجيه طاقاتهم القتالية لقتال شعوب غير خاضعة لسلطانه.
ويبدو أن هذا الباعث يلازم معظم ذوي السلطان، الذين لا يرون فيه معنى المسؤولية الكبرى الملقاة على عاتقهم، والتي ينوء بحملها أفذاذ الرجال على مدى تاريخ الإنسان، وإنما يرون فيه مغانم وأمجاداً لهم ولمن يصتل بهم فقط، وربما يلازم طائفة من المخلصين الذين يدركون عظم مسؤوليته، إذا كانوا في مجتمع كثير الشر، يحتاج تقويمه إلى حشد كبير من القوى والخطط الذكية، واليقظة التامة، أما إذا كانوا في مجتمع قليل الشر، يقدر في ذوي السلطان العدل والاستقامة، ويشكر لهم قيامهم بالمسؤولية الكبرى، فإنهم قلما يلمس قلوبهم الخوف لى أنفسهم أو سلطانهم. ومن الأمثلة التاريخية لهذا القسم الخليفتان أو بكر الصديق وعمر بن الخطاب، إذ كانا في المجتمع الإسلامي في عهديهما مثل سائر الناس في طمأنينة قلوبهما، وذلك لتوافر شرطين أساسيين:
أحدهما: فيمن بيده السلطان، وهو العدل والاستقامة، والشعور بالمسؤولية، والزهد القلبي بكل مظاهر الحكم.
وثانيهما: في المجتمع،وهو كثرة ذوي الاستقامة فيه، الذين يرون السلطان على صورة يزهد بها الحريصون على دينهم، الخائفون من ربهم، ما لم يلجئهم الواجب إلى الاضطلاع به، وهم يمجدون من يضطلع به منه من الأكفاء الأفذاذ، ذوي العدل والاستقامة.
على أنه رغم وجود هذا الباعث في نفس صاحب السلطان، فإنه لا يتخذ خطة لتثبيت حكمه بالعدوان والظلم والفساد في الأرض، متى كان لديه نصيب كافٍ من الإيمان بالله وحسن مراقبته والخوف من عقابه.
أما الذين قست قلوبهم وتعاظمت نفوسهم وسيطر عليهم الغرور
وحرموا من نعمة الطمأنينة التي هي ثمرة من ثمرات الإيمان بالله، وأثر من آثار مراقبته وخشيته. فأولئك هم الذين تعمل أفكارهم في ابتكار الحيل وتخطيط الخطط الشيطانية لتثبيت دعائم ما في أيديهم من سلطان، لأنهم لا يملكون من صفات الحاكم العادل المالك لقلوب رعيته رصيداً يدعم سلطانهم ضد بعض الطامعين الذين يمثلون قوتهم في عدم سلطانهم تجاه نقمة رعيتهم عليهم.
وحينما يشعر هؤلاء بأن قوتهم التي تثبت حكمهم ضد الرغبة الحقيقية لرعيتهم. وقد أصبحت مربض خطر على سلطانهم لوجود عناصر فيها أخذت تشعر بمقدرتها على انتزاع الحكم والاستئثار به لأنفسها عن طريق القوة العسكرية أو السياسية التي في أيديها فإن موجة من القلق والاضطراب تستولي عليهم. وعندئذٍ يقلبون وجوه الرأي للتخلص من هذه الأزمة المثيرة للقلق والاضطراب، إذ تتنازعهم فيها عوامل نفسية مختلفة، أهمها العوامل التالية:
العامل الأول: الحرص الشديد على ما في أيديهم من سلطان، لأنهم يرون فيه مغانم كثيرة لأنفسهم ولذويهم، ولا يشعرون فيه بالمسؤولية العظمى الملقاة على عاتقهم، لأنهم فقدوا معاني الإيمان بالله ومراقبته والخوف من نقمته.
العامل الثاني: الطمع بالاستزادة من مغانم الحكم.
العامل الثالث: الخوف الشديد من القوى الطامعة بانتزاع ما في أيديهم من سلطان.
وحينما يقلبون وجوه الرأي للتخلص من الأزمة النفسية التي أثارت قلقهم واضطرابهم يعثرون على حيل شيطانية وخطط إجرامية مختلفة منها ما يلي:
أ- حيلة إيقاع الخلاف بين عناصر القوة السياسية أو العسكرية التي يخشاها أصحاب السلطان لأنهم يتصورون أنه متى وقع الخلاف بينها مع تعادل قوتها تفرقت كلمتها وتكونت فيها زعامات متناقضة. ومع تناقضها تجد أطراف النزاع فيها بقاء صاحب السلطان هو الحل الذي يحميها من الصدام المتكافئ.
ب- خطة التخلص من عناصر القوة التي يخشونها ولو بوسيلة جريمة من جرائم القتل المباشر أو غير المباشر. وهذه الخطة الإجرامية قد لا تظفرهم بما يريدون. وربما كانت سبباً في إضعاف قوتهم أمام أعدائهم أو أعداء شعوبهم وبلادهم.
ج- خطة التخلص منهم بإبعادهم عن مركز السلطان إبعاداً مادياً أو معنوياً.
د- خطة شغلهم بإثارة فتن وإقامة حروب آثمة ظالمة وإطلاق أيديهم في البلاد التي يغزونها إرضاءً لغرورهم ومطامعهم وإبعاداً لهم عن جو الاستقرار الذي قد يفكرون فيه بانتزاع السلطان، وإذا كانت هذه الفكرة دائرة في رؤوسهم فإن هذا الإبعاد يساعد على تأجيل التفكير بمحاولات تنفيذها. وهنا تقع ظروف جرائم العدوان على الشعوب الآمنة التي لا جرم لها. كما أنه ليس للذين يريدون غزوها هدف مثالي كريم؛ وإنما أراد حكام هؤلاء الغزاة التخلص من القوى التي تحت أيديهم؛ والتي يخشون منها على سلطانهم.
وكم تعرضت شعوب كثيرة في التاريخ القديم والحديث إلى غزو مجرمين من هذا النوع، ونالتهم منهم مصائب وآلام كثيرة، دون هدف مثالي كريم. وكم قوضت بهم حضارات وظلمت بهم مبادئ إنسانية عظيمة وهدمت بهم أركان ديانات سماوية صحيحة فيها الخير والسعادة للناس ، واضطهد معتنقوها اضطهاداً شنيعاً.
9-
بواعث متفرقة أخرى
ومن البواعث النفسية الجاهلية التي تدفع مجرمي التسلط المادي غير المقدس، إلى العدوان على غيرهم من الأمم والشعوب مجموعة رعونات فكرية ونفسية طائشة تدل على مبلغ السذاجة الفكرية والنفسية والبدائية الاجتماعية المتخلفة تخلفاً حضارياً شائناً مهما كانت تتمتع بالمظاهر المدنية الفخمة لأن المظاهر المدنية ليست هي التي تصنع الحضارات الراقية، وإنما تصنعها المبادئ الفكرية السليمة والتعاليم الخلقية العظيمة.
وقد سجل تاريخ الإنسان طائفة من الحروب بين القبائل والشعوب والأمم أدت إلى تسلط بعضها على بعض، واستعباد بعضها لبعض عدواناً وظلماً دون أن يكون الباعث لها غير رعونات وحماقات غضبية جاهلية، ناشئة عن افنعالات نفسية ساذجة، أثارتها أسباب جزئية تافهة، لا تحرك الألوف منها شعباً راقياً متحضراً أثرت فيه التربية الدينية الإلهية بمثلها تربيةً مباشرة. كالأمم المتمسكة برسالاتها الربانية، أو تربية غير مباشرة كالأمم التي احتكت بأتباع الرسالات الربانية. فأخذت عنها فضائل أخلاقية عن طريق السراية والعدوى الطيبة والاقتناع بالمفاهيم التي دعوا إليها.
ومن أمثلة الحروب الانفعالية الطائشة أيام العرب في الجاهلية، وهي أيام حروبهم التي كانت معظم أسبابها أموراً تافهة جداً، وقد ذكر المؤرخون أنها بلغت نحواً من (1700) يوم، ورغم أن هذه الحروب لم يكن من نتائجها التسلط المادي السياسي العام فذلك لأن حياة العرب المائجة في الصحراء لا تسمح بذلك. أما التسلط الذي كان يسمح به شكل حياتهم فقد كان يحصل كالاستيلاء على الأموال وكاسترقاق العبيد والإماء عن طريق السلب والنهب والعدوان والظلم.
ومفاهيم الحضارة الراقية التي جاء بها الإسلام، جعلتنا اليوم نعجب كثيراً لسبب الحروب التي استمرت في الجاهلية بين قبيلتين من قبائل العرب، هما عبس وذبيان، مدة أربعين سنة. وهي الحروب المشتهرة باسم حروب داحس والغبراء، إذ كان سببها على ما يذكر الإخباريون، أن "قيس بن زهير" زعيم قبيلة عبس، و"حمل بن بدر" زعيم قبيلة ذبيان، تراهنا على أن يتسابقا على فرسيهما المسميين:"داحس" و"الغبراء" فاحتال زعيم قبيلة ذبيان بحيلة تساعد فرسه على السبق، فثار قيس زعيم قبيلة عبس، وتفاقم الأمر وحميت العصبيات في النفوس، واهتاج الغضب في كل من القبيلتين، فقامت الحرب بينهما، وتكررت أيامها خلال أربعين سنة.
وهذه الحروب الآثمة الظالمة لم تعدُ أسبابها الأولى أنها نزوة من نزوات الغضب، ثارت ضمن حادثة تسابق بين زعيمين، وهي من الأسباب التي لا تستحق الذكر لتفاهتها.
وربما ثارت حروب طاحنة بين قبيلتين أو بين شعبين، انتصاراً لكرامة رجل أو امرأة، تعرّض أحدهما للإهانة من قبيل شخصٍ من غير قبيلته أ، غير شعبه. وربما ثارت حروبٌ ثأراً لمقتل إنسان، فذهب ضحيتها ألوف القتلى، وسقط فيها ألوف الجرحى. وربما قامت حروب دفع إليها التفاخر بين الأنداد بالشجاعة والقوة وكثرة الأنصار، أو طلب مجد وهمي لا تسنده حقيقة فكرية تقبلها العقول السليمة. وربما قامت حروب دفع إليها شتيمة ظهرت على لسان أحمق طائش. إلى غير ذلك من أسباب تافهة مناظرة لهذه التوافه.
بينما نجد الإسلام ينظر إلى أهم هذه الأسباب وهو القتل بأمثل نظرات الحكمة والعدل، فيقرر مبدأ القصاص من القاتل عمداً وعدواناً، فرداً كان أو جماعة، إلا أن يعفو أولياء القتيل رضاً بالدية، كما ينهى بحزم بالغ عن الإسراف في القتل، وقد ألغى الإسلام بذلك تقاليد الحماقات والرعونات الجاهلية، التي كانت تقتل برجل من قبيلتها أي رجل من القبيلة الأخرى، وقد تأخذ على نفسها أن تقتل بقتيلها عشرات من قبيلة القاتل، وهنا تضرب الحمية في رؤوس الآخرين، فيقابلون بالمثل، ويسرف كل منهما في القتل.
أما الإسلام فإنه يقرر ما يلي:
أولاً: ما تضمنه قول الله تعالى في سورة (البقرة/2 مصحف/87 نزول) :
{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} .
وبذلك حدد الإسلام مبدأ القصاص، حرصاً على حياة الناس ونبه إلى أن الالتزام بهذا الحكم الرباني من شأنه أن يحافظ على حياة الأفراد والجماعات، لأن من يريد أن يقتل عمداً وعدواناً متى علم أنه سيقتل قصاصاً ارتدع عن القتل وأدرك أنه يقدم على عملية انتحار، وليس كلّ مجرمي القتل يحلو لهم أن ينتحروا. أما حينما يخطر على بالهم أنهم سيعاقبون بالسجن فقط، أو سيقتل غيرهم من أفراد قبيلتهم مكانهم فإن الرادع لهم عن القتل لا بد أن يضعف في نفوسهم.
ثانياً: ما تضمنه قول الله تعالى في سورة (الإسراء/17 مصحف/50 نزول) :
وهذا يحد من دوافع الغضب التي تثور في نفوس أولياء المقتول ويثبت لهم أنهم منصورون بحكم الله إذ جعل لهم سلطاناً أن يطالبوا الدولة الإسلامية بالقصاص من القاتل مهما كان شأنه، ثم يردعهم عن أن يسرفوا في القتل، وذلك بأن لا يتجاوزوا حدود الله، فيقتلوا غير القاتل، أو يقتلوا معه أحداً من عشيرته رغبة بالانتقام الشديد على عادات الجاهلية. لأن هذا من شأنه أن يثير الحميات والعصبيات؛ ويزيد من احتمالات تدافع أمواج الانتقام بين القبائل والشعوب؛ ويمكن العداوات والجماعية ويشق عصا الجماعة الواحدة ويحدث الفرقة بينها فيطمع بها عدوها.
10-
اجتماع عدة بواعث نفسية
وقد تجتمع عدة بواعث نفسية غير كريمة من البواعث التي سبق بيانها، فتدفع مجرمي التسلط المادي المدنس إلى العدوان على غيرهم من الأمم والشعوب.
وعندئذ تتولد طاقات عنيفة من طاقات الشر الفعالة المتحركة في اتجاه الظلم والعدوان والتصميم على التسلط الآثم المقرون بالغايات النفسية البحتة البعيدة عن كل هدف مثالي كريم، يعمل لصالح تقدم الإنسانية ورفع مستواها الحضاري الصحيح.
وقد نجد معظم هذه البواعث مجتمعة في جيش الغزو ذي الأجنحة الثلاثة (المستعمرين والمبشرين والمستشرقين) المتجه بقواه المادية والفكرية من كل الجهات ضد الإسلام عقيدة ونظاماً، وضد المسلمين أفراداً وجماعات معاصرين وغابرين، وضد الأرض التي لهم فيها حق وسلطان، ومساكن ومزارع وطرقات برية وبحرية ومصادر ثروات ومناجم خيرات.
فبينما نرى الجناح السياسي والعسكري للدول ذات المطامع الاستعمارية غربية كانت أو شرقية يتجه نحو التسلط على الأرض والمال والأنفس، وسائر
القوى البشرية والطاقات الإنسانية في البلاد الإسلامية نرى جناحاً آخر سائراً في موكب الغزو أو متقدماً عليه حاملاً شعاراته التي تحمل في بطائنها ألغام هدم الإسلام، وتفتيت وحدة المسلمين وإضعاف قوتهم ويبذل ما لديه من حيلة ومكر وكيد لمساعدة الجناح السياسي والعسكري. ثم نرى جناحاً ثالثاً سائراً في موكب الغزو أو متقدماً عليه أيضاً يحمل حقائبه العلمية والثقافية والفنية وفيها مخططات هدم العقائد والنظم والأخلاق الإسلامية عن طريق بث النظريات الفلسفية والمادية والقانونية والنفسية المتضاربة تحت ستار العلمانية. وفيها أيضاً مخططات تهدف إلى تفتي وحدة المسلمين وإضعاف قوتهم. ويبذل ما لديه من حيل تلبس أثواب العلمانية المزورة لمساعدة الجناحين السابقين.
وقد تتوجه طائفة من قوى الأجنحة الثلاثة شطر أهداف واحدة ظاهراً وباطناً بينما يتفرد كل منها بتسديد أسلحته الخاصة به إلى الأهداف التي تمثل نوع الاختصاص الموكول إليه.
فبينما تكون المهمة المباشرة لقوى الجناح السياسي والعسكري الظفر بالتسلط المادي تكون المهمة المباشرة لجناح المبشرين التبشير بعقائدها الدينية المناهضة للإسلام والمكذبة له ونشر الأكاذيب المنفرة من الإسلام والمسلمين والمشوهة لتاريخهم. وتكون المهمة المباشرة لجناح المستشرقين العبث بأفكار الشعوب المسلمة عن طريق الفلسفات التي لا سند لها من الحق والنظريات التي لم تشهد البراهين العلمية بصحتها والأكاذيب الملصقة بالعلم زوراً وبهتاناً مع تظاهر هذا الجناح بالعلمانية والتحرر من الدين وعدم الاعتراف بأية تعاليم تتصل به. والحال أن أكثر عناصره من المنتظمين في سلك التبشير. إلا أن خطة العمل الماكرة ألزمتهم بأن يتظاهروا بالعلمانية والتحرر من الدين لتكون كلمتهم أكثر قبولاً في نفوس ضحاياهم من أبناء المسلمين.
وقوى الأجنحة الثلاثة على اختلاف مستوياتها ومهماتها واختصاصاتها وتباين وجهات نظرها بحسب الظاهر في صور لقائها وصور افتراقها تسير متآزرة متعاونة، تؤدي وظائف يتمم بعضها بعضاً، ضمن آلة واحدة تخفى على الكثيرين روابطها. وربما تكون القيادة المتحركة لها في الحقيقة