الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وتفسيرهم لسلوك المسلمين أفراداً وجماعات بأنه مدفوع بأغراض شخصية، ونوازع نفسية دنيوية، وليس أثراً لدافع ابتغاء مرضاة الله وثواب الآخرة.
(8) الجامعات الغربية وأثر المستشرقين فيها على المسلمين
رافق جهود المستشرقين فتنة المسلمين بالحضارة المادية الغربية، ووقعهم فريسة خطط التحويل عن طريق برامج التعليم ومناهجه وأساليبه ومضامينه في كل العلوم بما فيها العلوم الإنسانية والعلوم الدينية والعربية وفتنة المسلمين بالشهادات التي تمنحها الجامعات الغربية، لا سيما شهادات الماجستير والدكتوراه، يضاف إلى ذلك غزو آخر ماكر، جعل الجامعات في بلاد المسلمين تحصر المراتب العلمية فيها بحملة هذه الشهادات العليا، وتؤثر وتقدم حامليها من الجامعات الغربية على حامليها من الجامعات الإسلامية، ووضعت بهذا الغزو الماكر شروط خاصة وشكليات معينة للتدريس في هذه الجامعات، وهذه الشروط والشكليات تحجب عن التدريس فيها الذين لا يحملون الشهادات العليا، مهما كانوا على درجة كبيرة من العلم، وتدفع إلى احتلال مراكز التعليم ونيل الألقاب الكبيرة حملة هذه الشهادات، وإن كانوا فارغين من العلم، ومحرومين من الإخلاص لدينهم وأمتهم، وإن كانوا أدوات لتنفيذ خطط الأعداء داخل بلادهم.
مع أن الشهادات العليا الجارية على أصولها دون غش ولا تزوير، إنما هي أول الطريق الذي يهيئ للدارس الجاد وسائل متابعة المعرفة، فإما أن يبدأ الدارس -بعمله الذاتي- تكوين نفسه بالبحث الجاد الدؤوب، وإما أن يجعل الشهادة غاية ينتهي عندها، ويقف عند حدودها.
وقد أعلن هذه الحقيقة البروفيسور "ارنولدون" إذ يقول كما جاء في كتاب: Revol Against Reason Prof. مطبوعة لندن عام 1948 ص192:
"إن عصرنا هو عصر عقدة الشهادات، فالماجستير والدكتوراه أصبحت غاية في حد ذاتها لشبابنا، ولكن كل ينسى هذه الحقيقة: وهي أن الماجستير والدكتوراه ما هي إلا حروف الأبجدية الأولى لبداية المعرفة، والمعرفة لا يمكن تخزينها في زجاجة الماجستير أو الدكتوراه. إن هذه لنظرة مزيفة،جامعاتنا هي فقط مؤسسات علمية لإعداد الطلبة ليتعرفوا على كيفية التحصيل العلمي والمعرفة" اهـ.
وقد أدرك المبشرون والمستشرقون عقدة الشهادات في البلاد الإسلامية، فوجهوا توصيتهم للجامعات الغربية، بشراء من يستطيعون شراءه من أبناء المسلمين بالشهادات، فقد جاء ما يلي في كتاب المشكلة الشرقية Eastern Problem London. 1957-P.149:
" لا شك أن المبشرين فيما يتعلق بتخريب وتشويه عقيدة المسلمين قد فشلوا تماماً، ولكن هذه الغاية يمكن الوصول إليها من خلال الجامعات الغربية، فيجب أن تختار طلبة من ذوي الطبائع الضعيفة والشخصية الممزقة والسلوك المنحل من الشرق ولا سيما من البلاد الإسلامية، وتمنحهم المنح الدراسية، حتى تبيع لهم الشهادات بأي سعر، ليكونوا المبشرين المجهولين لنا، لتأسيس السلوك الاجتماعي والسياسي الذي نصبوا إليه في البلاد الإسلامية. إن اعتقادي لقوي بأن الجامعات الغربية يجب أن تستغل استغلالاً تاماً جنون الشرقيين للدرجات العلمية والشهادات. واستعمال أمثال هؤلاء الطلبة كمبشرين ووعاظ ومدرسين لأهدافنا ومآربنا باسم تهذيب المسلمين والإسلام".
تحت كل هذه المؤثرات المتعددة اندفع فريق من أبناء المسلمين إلى الجامعات الغربية، لنيل شهادة الماجستير والدكتوراة في مختلف العلوم، بما في ذلك العلوم الدينية والعلوم العربية، والعلوم الإنسانية والاجتماعية، التي أولاها المستشرقون عناية خاصة، لجعلها شبكة مقنعة لاصطياد أبناء المسلمين، وبنائهم بناء جديداً، يجعلهم خدام أغراض الاستشراق وأغراض التبشير والاستعمار، في أفكارهم ومفاهيمهم وفي أعماله وتنظيماتهم، داخل بلاد المسلمين من حيث يشعرون أو من حيث لا يشعرون، ويمنحونهم الشهادات العليا، والألقاب العلمية الكبيرة، لأقل بحث يكتبونه في غير العلوم البحتة،
ويربطون من يربطون منهم بوسائلهم الكثيرة، الموصولة بأجهزتهم المستورة، ويعودون إلى بلادهم وقد امتلأت نفوسهم غروراً، يضاف إلى ذلك ما تعرضوا إليه من تحول في السلوك، ضمن البيئات الغربية التي أقاموا فيها خلال فترة التحصيل ، وافتتان بمظاهر الحضارة المادية التي شاهدوها.
وسقطت معظم الجامعات المنشأة في بلاد المسلمين تحت الأيدي الخفية للاستشراق والتبشير والدوائر الاستعمارية، وغدت خططها ومناهجها وتوجيهاتها تخضع بطريق غير مباشر لما تفرضه وتمليه هذه الأيدي الخفية، وغدت الكنيسة الغربية تفخر بأن العلوم الإسلامية والعلوم العربية تدرس على طريقتها التي تخدم أغراضها في بلاد المسلمين، وبأن المشرفين على تدريس هذه العلوم من تلامذة أبنائها.
وأي انتكاس أقبح من هذا الانتكاس، أن يتعلم المسلمون دينهم ولغاتهم وفق طرائق أعدائهم وأعداء دينهم، ووفق دسائسهم وتشويهاتهم وتحويراتهم وأكاذيبهم وافتراءاتهم.
هل يقبل اليهود والنصارى أن يتعلموا أصول ديانتهم وفروعها على أيدي علماء المسلمين وأن يأخذوا منهم الشهادات لذلك؟.
فما بال المسلمين يسقطون من هذا الانتكاس الشائن؟ إن الاستعمار المادي المباشر أهون من هذا اللون من ألوان الاستعمار، الذي وصل إلى القاعدة الكبرى التي تقوم عليها الأمة الإسلامية، وهي قاعدة دينها وعلومها المتصلة بهذا الدين.
وتأثر كثيرون من الذين درسوا في الجامعات الغربية من أبناء المسلمين بدراسات المستشرقين، وانخدعوا بأساليبهم، وأخذوا يرددون شبهاتهم ويروجون لها بين المسلمين ويعتبرونها حقائق علمية مسلماً بها، وأخذوا يعلمونها طلابهم من المسلمين، ويكتبون فيها المؤلفات العديدة، وتعمل الدوائر الاستعمارية على ترويج هذه الكتب، ودعم مؤلفيها، ودفعهم بأيد خفية إلى أعلى مراكز الإدارة والتوجيه داخل بلادهم، للاستفادة منهم في خدمة أغراض التبشير والاستعمار، وفي تهديم الإسلام وتشويه تاريخ المسلمين.
وغدا كثير من الكتاب في العلوم الإسلامية، وفي التاريخ الإسلامي، وفي اللغة العربية، لا يرجع إلا إلى ما كتبه المستشرقون، ويعتبرون ذلك أفضل المصادر التي يرجعون إليها، أما المصادر الإسلامية فلا يكلفون نفوسهم عناء الرجوع إليها، ولا البحث فيها، ثقة عمياء بما كتبه المستشرقون، أو خدمة مأجورة لما توجههم له الدوائر الاستعمارية، وأجهزة الاستشراق، وجمعيات التبشير.
ومن غريب الأباطيل التي يروجها المستشرقون ما حدثنيه الأستاذ الدكتور (وصفي أبو مغلي) عن صديقه وأستاذه الدكتور (بحر محمد بحر) وهو سوداني ويعمل مدرساً في جامعة عين شمس في مصر، أنه حينما كان يدرس في انجلترا، قال أحد المدرسين وهو يتحدث عن الحضارة الإسلامية: كان إله محمد الناقة التي كان يركبها، والدليل على ذلك أنه حينما هادر إلى المدينة ودعاه أهلها للنزول عندهم قال لهم: دعوا الناقة حيث تبرك، فاستدل من ذلك على أنه كان يعبد الناقة ويتلقى منها الوحي.
هل يحتاج مثل هذا التضليل إلى تعليق أكثر من إطلاق ضحكات سخرية وتعجب؟!.
شهادة صدق
عرض الأستاذ الدكتور مصطفى السباعي رحمه الله لقاءاته المباشرة لعدد من المستشرقين في جولة طاف فيها على أكثر جامعات أوربا عام (1956 م) ، وما جرى بينه وبينهم من أسئلة ومناقشات، واستخلص من هذه الجولة النتائج التالية:
أولاً: أن المستشرقين - في جمهورهم- لا يخلو أحدهم من أن يكون قسيساً أو استعمارياً أو يهودياً، وقد يشذ عن ذلك أفراد.
ثانياً: أن الاستشراق في الدول الغربية غير الاستعمارية _ كالدول السكندنافية _ أضعف منه عند الدول الاستعمارية.
ثالثاً: أن المستشرين المعاصرين في الدول غير الاستعمارية يتخلون عن "جولدتسيهر" وأمثاله المفضوحين في تعصبهم.
رابعاً: أن الاستشراق بصورة عامة ينبعث من الكنيسة، وفي الدول الاستعمارية يسير مع الكنيسة ووزارة الخارجية جنباً إلى جنب، ويلقى منهما كل تأييد.
خامساً أن الدول الاستعمارية كبريطانيا وفرنسا ما تزال حريصة على توجيه الاستشراق وجهته التقليدية، من كونه أداة هدم للإسلام وتشويه لسمعة المسلمين.
ففي فرنسا لا يزال "بلاشير" و"ماسينيون" وهما شيخا المستشرقين الفرنسيين في وقتنا الحاضر يعملان في وزارة الخارجية الفرنسية، كخبيرين في شؤون العرب والمسلمين.
وفي إنكلترا رأينا أن الاستشراق له مكان محترم في جامعات لندن وأكسفورد وكمبردج وأدنبرة وجلاسكو وغيرها، ويشرف عليه يهود وإنكليز استعماريون ومبشرون، وهم يحرصون على أن تظل مؤلفات "جولدتسيهر" و"مرجليوث" ثم "شاخت" من بعدهما، هي المراجع الأصلية لطلاب الاستشراق من الغربيين، وللراغبين في حمل شهادة الدكتوراة عندهم من العرب والمسلمين، وهم لا يوافقون على رسالة لطلب الدكتوراه يكون موضوعها إنصاف الإسلام، وكشف دسائس أولئك المستشرقين.
وأثبت في غضون مقاله أسماء أخطر المستشرقين المعاصرين وأهم في رسالة صادرة عن دار البيان في الكويت عام (1387هـ) .
أما لقاءاته للمستشرقين فقد ذكر فيها عليه رحمة الله ما يلي، تحت عنوان:(مع المستشرقين وجهاً لوجه في أوروبا) :
"لقد كنت كتبت عن المستشرقين كلمة موجزة في كتابي "السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي" قبل أن أزور أكثر جامعات أوربا عام (1956م) وأختلط
بهم وأتحدث إليهم وأناقشهم. فلما تم لي ذلك ازددت إيماناً بما كتبته عنهم، واقتناعاً بخطرهم على تراثنا الإسلامي كله سواء كان تشريعياً أم حضارياً، لما يملأ نفوسهم من تعصب ضد الإسلام والعرب والمسلمين.
كان أول من اجتمعت بهم هو البروفسور "أندرسون" رئيس قسم قوانين الأحوال الشخصية المعمول بها في العالم الإسلامي - في معهد الدراسات الشرقية في جامعة لندن - وهو متخرج من كلية اللاهوت في جامعة "كمبردج"، وكان من أركان حرب الجيش البريطاني في مصر خلال الحرب العالمية الثانية ـ كما حدثنا هو بذلك عن نفسه ـ، تعلم اللغة العربية من دروس اللغة العربية التي كان يلقيها بعض علماء الأزهر في الجامعة الأميركية في القاهرة، ساعة واحدة في كل أسبوع لمدة سنة واحدة. كما تعلم العامية المصرية من اختلاطه بالشعب المصري حين توليه عمله العسكري الآنف الذكر، وتخصص في دراسة الإسلام من المحاضرات العامة التي كان يلقيها المرحوم "أحمد أمين" والدكتور "طه حسين" والمرحوم الشيخ "أحمد إبراهيم". ثم انتقل من الخدمة العسكرية بعد الحرب إلى رئاسة قسم قوانين الأحوال الشخصية في جامعة (لندن) كما ذكرنا.
لا أريد أن أذكر أمثلة عن تعصبه ضد الإسلام وقد حدثني كثيراً ذلك المرحوم الدكتور (حمود غرابة) مدير المركز الثقافي الإسلامي في لندن حينذاك.
ولكني أكتفي بأن أذكر ما حدثني به البروفسور "أندرسون" نفسه، من أنه أسقط أحد المتخرجين من الأزهر، الذين أرادوا نوال شهادة الدكتوراه في التشريع الإسلامي من جامعة لندن، لسبب واحد هو أنه قدم أطروحته عن حقوق المرأة في الإسلام، وقد برهن فيها على أن الإسلام أعطى المرأة حقوقها الكاملة، فعجبت من ذلك، وسألت هذا المستشرق: وكيف أسقطته ومنعته من نوال الدكتوراه لهذا السبب، وأنتم تدعون حرية الفكر في جامعاتكم؟ قال:
لأنه كان يقول: الإسلام يمنح المرأة كذا، والإسلام قرر للمرأة كذا، فهل هو ناطق رسمي باسم الإسلام؟ هل هو أبو حنيفة أو الشافعي حتى يقول هذا
الكلام ويتكلم باسم الإسلام؟ إن آراءه في حقوق المرأة لم ينص عليها فقهاء الإسلام الأقدمون، فهذا رجل مغرور بنفسه حين ادعى أنه يفهم الإسلام أكثر مما فهمه أبو حنيفة والشافعي.
وزرت جامعة أدنبرة "اسكتلندة"، فكان المستشرق الذي يرأس الدراسات الإسلامية فيها قسيساً بلباس مدني، وقد وضع لقبه الديني مع اسمه على باب بيته.
وفي جامعة "جلاسكو"(استكلندة أيضاً) كان رئيس الدراسات العربية فيها قسيسا عاش رئيساً للإرسالية التبشيرية في القدس قرابة عشرين سنة، حتى أصبح يتكلم العربية كأهلها. وقد حدثني بذلك عن نفسه في الزيارة، وكنت قد اجتمعت به قبل ذلك في المؤتمر الإسلامي المسيحي الذي انعقد في "بحمدون"(لبنان) عام (1954م) .
وفي جامعة أكسفورد وجدنا رئيس قسم الدراسات الإسلامية والعربية فيها يهودياً يتكلم العربية ببطء وصعوبة، وكان أيضاً يعمل في دائرة الاستخبارات البريطانية في ليبيا خلال الحرب العالمية الثانية، وهناك تعلم العربية العامية، ثم عاد إلى بلاده انكلترا ليرأس هذا القسم في جامعة اكسفورد. ومن العجيب أني رأيت في منهاج دراساته التي يلقيها على طلاب الاستشراق: تفسير آيات من القرآن الكريم من الكشاف للزمخشري - وهو لا يحسن فهم عبارة بسيطة في جريدة عادية - ودراسة أحاديث من البخاري ومسلم، وأبواب من الفقه في أمهات كتب الحنفية والحنابلة، وسألته عن مراجع هذه الدراسات: فأخبرني أنها من كتب المستشرقين أمثال: جولدتسيهر؛ ومرجليوث، وشاخت، وحسبك بهؤلاء عنواناً على الدراسات المدخولة المدسوسة الموجهة ضد الإسلام والمسلمين.
أما في جامعة كمبردج فكانت رئاسة قسم الدراسات العربية والإسلامية فيها للمستشرق المعروف "آربري" واختصاصه في اللغة العربية فحسب. وقد قال لي - خلال أحاديثي معه _: بأننا نحن المستشرقين نقع في أخطاء كثيرة في
بحوثنا عن الإسلام، ومن الواجب أن لا نخوض في هذا الميدان، لأنكم _ أنتم المسلمين العرب - أقدر منا على الخوض في هذه الأبحاث، وربما قال هذه مجاملة أو اعتقاداً منه بصحته.
وفي مانشستر (انكلترا) اجتمعت بالبروفسور "روبسون" وكان يقابل سنن أبي داود على نسخة مخطوطة، وله كتابات في تاريخ الحديث، يتفق فيها غالباً مع آراء المستشرقين المتحاملين، وقد حرصت على أن أبين له أن الدراسات الاستشراقية السابقة فيها تحامل وبعد عن الحقيقة، وتعرضت لآراء جولدتسيهر، وأثبت له أخطاءه التاريخية والعلمية، فكان مما أجاب به عنه:"لا شك أن المستشرقين في هذا العصر أكثر اطلاعاً على المصادر الإسلامية من جولدتسيهر نظراً لما طبع ونشر وعرف من مؤلفات إسلامية كانت غير معلومة في عصر جولدتسيهر".
فقلت له: أرجو أن تكون أبحاثكم - المستشرقين - في هذا العصر أقرب إلى الحق والإنصاف من جولدتسيهر، ومرجليوث، وأمثالها.
فقال: أرجو ذلك.
سوفي جامعة "ليدن" بهولندا اجتمعت بالمستشرق الألماني اليهودي "شاخت" وهو الذي يحمل في عصرنا هذا رسالة "جولدتسيهر" في الدس على الإسلام، والكيد له، وتشويه حقائقه، وباحثته طويلاً في أخطاء "جولدتسيهر" وتعمده تحريف النصوص التي ينقلها عن كتبنا، فأنكر ذلك أول الأمر، فضربت له مثلاً واحداً مما كتبه جولدتسيهر - وكنا نجلس في مكتبته الخاصة _فقال: معك الحق، إن جولدتسيهر أخطأ هنا. قلت له: هل هو مجرد خطأ؟ فاحتد وقال: لماذا تسيؤون الظن به؟ فانتقلت إلى بحث تحليله لموقف الزهري من عبد الملك ابن مروان، وذكرت له من الحقائق التاريخية ما ينفي ما زعمه جولدتسيهر وبعد مناقشة في هذا الموضوع قال: وهذا خطأ أيضاً من جولدتسيهر، ألا يخطئ العلماء؟ قلت له: إن جولد تسيهر هو مؤسس المدرسة الاستشراقية التي تبني حكمها في التشريع الإسلامي على وقائع التاريخ نفسه، فلماذا لم يستعمل مبدأه هنا حين تكلم عن الزهري؟ وكيف جاز له أن يحكم على الزهري بأنه
وضع حديث فضل المسجد الأقصى إرضاءً لعبد الملك ضد ابن الزبير، مع أن الزهري لم يلق عبد الملك إلا بعد سنوات من مقتل ابن الزبير؟ وهنا اصفر وجه "شاخت" وأخذ يفرك يدا بيد، وبدا عليه الغيظ والاضطراب، فأنهيت الحديث معه بأن قلت له: لقد كان مثل هذه "الأخطاء" كما تسميها أنت، تشتهر في القرن الماضي، وينتاقلها مستشرق منكم عن آخر على أنها حقائق علمية، قبل أن نقرأ -نحن المسلمين- تلك المؤلفات إلا بعد موت مؤلفيها، أما الآن فأرجو أن تسمعوا منا ملاحظاتنا على "أخطائكم" لتصححوها في حياتكم قبل أن تتقرر كحقائق علمية.
ومن الملاحظ أن هذا المستشرق كان يدرس في جامعة القاهرة - فؤاد سابقا - وله مؤلف في تاريخ التشريع الإسلامي كله دس وتحريف، على أسلوب شيخه جولدتسيهر.
وفي جامعة "أبسلا" في السويد التقيت بالشيخ المستشرق "نيبرج" وهو الذي كان قد أشرف على تصحيح كتاب "الانتصار لابن الخياط" - على ما أظن - وطبعته قديما "لجنة التأليف والترجمة في القاهرة"، وجرى بيني وبينه حديث طويل كان أكثره حول أبحاث المستشرقين ومؤلفاتهم عن الإسلام وتاريخه، وجعلت "جولدتسيهر" محور الحديث عن المستشرقين، وذكرت له أمثلة من أخطائه وتحريفه للحقائق، فكان مما قاله بعد ذلك: إن جولدتسيهر كان في القرن الماضي ذا شهرة علمية، ومرجعا للمستشرقين، أما في هذا العصر - بعد انتشار الكتب المطبوعة في بلادكم عن العلوم الإسلامية - فلم يعد جولدتسيهر مرجعا كما كان في القرن الماضي.. لقد مضى عهد جولتسيهر في رأينا.
وقد أتيح لي خلال تلك الرحلة أن أواصل زيارة الجامعات عدا ما ذكرته منها في عواصم كل من: (بلجيكا) و (الدانيمرك) و (النرويج) و (فنلندا) و (ألمانيا) و (سويسرا) و (فرنسا) ، واجتمعت بمن كان موجودا فيها حينئذ من المستشرقين".