الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(1) ربانية أو عدوانية
تنحصر أهداف امتداد بعض الأمم أو الشعوب إلى بعضٍ مؤدياً ذلك إلى بسط سلطان إحداها على الأخرى في هدفين رئيسين:
الهدف الأول:
ما تحدده الشرائع الربانية من إعلاء لكلمة الله، وإقامة للحق والعدل، وحكم بما أنزل الله، ووسيلته الجهاد المقدس.
الهدف الثاني:
ما توسوس به مطامع النفوس وشهواتها وغرائزها وأهواؤها ونزواتها، وألوان عدوانها، ووسيلته الحروب العدوانية المختلفة، المادية والمعنوية، الحارة والباردة.
(2) الجهاد المقدس
أ- أهدافه:
إن الجهاد المقدس يهدف إلى غاية نبيلة مثالية، هي العمل على نشر عقيدة دينية ربانية بين الناس، آمنت بها أمة، ودعاها إيمانها بها إلى أن تسعى في نشرها وتعميمها على الناس، حباً للخير، وغيرة على بني الإنسان، وطاعة لله، وهي أيضاً تمكين المؤمنين بها من إقامة الحق والعدل بين الناس والحكم بينهم بما
أنزل الله والسعي في جلب الخير لهم، على حب ورحمة وإخاء.
هذه هي غاية الجهاد المقدس في أصول تعاليم الأديان الربانية كلها، وليست غايته الأساسية طلباً لثراء المؤمنين، أو رغبة بانتصارهم أو غلبتهم، أو سعياً وراء السلطان والعلو في الأرض، إلا أن تكون هذه الأمور وسيلة للغاية الأساسية.
وبناء على هذه الغاية الأساسية للجهاد المقدس يغدو المستجيبون الجدد لدعوته مثل المجاهدين الفاتحين، دون أي فروق بين حامل العقيدة الأول وحامل العقيدة الجديد، إلا الفروق التي تقتضيها طبيعة الأمور لدى كل أمة، وهي الفروق التي تعتمد على التفاوت في مقدار الثقة، والكفاءات الذاتية أو العلمية أو المكتسبة بالخبرات والمهارات العملية، ويدل على إقرار اعتبار ذلك قول الله تعالى في سورة (الأنفال/8 مصحف/88 نزول) :
فهذا يشعر باعتبار فروق العمل لدى قياس نسب التفاوت بين الأفراد، ويدل عليه بوضوح أيضاً قول الله في سورة (النساء/4 مصحف/92 نزول) :
ويدل عليه أيضاً قول الله تعالى في سورة (الزمر/39 مصحف/59 نزول) :
{قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ}
وقوله تعالى في سورة (الزخرف/43 مصحف/63 نزول) :
{وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً} .
ويدل عليه قول الرسول: "المؤمن القوي خيرٌ وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير".
أما عند الله تعالى فالتفاوت في التكريم يستند إلى مقدار التفاوت في تقوى الله لا غير، وهو المقياس الذي يقاس به الجزاء الرباني يوم القيامة، ويدل عليه قول الله تعالى في سورة (الحجرات/49 مصحف/106 نزول) :
{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} .
فأفضلية التكريم عند الله متناسبة طرداً مع أفضلية نسبة التقوى، ويلزم من ذلك عقلاً أن تتنازل الأفضلية بمقدار تنازل درجات التقوى.
والغاية المثالية العظيمة التي هي هدف الجهاد المقدس لا يخدشها ما يلزم عنه من أمور مادية ترافق حركته، دون أن تكون مقصودة في الأصل لرسالته.
فقد يفضي الجهاد إلى تحقيق بعض المغانم المادية، وقد يفضي إلى ضرورة بسط سلطان المجاهدين الفاتحين، لإقامة الحق والعدل والدعوة إلى الخير، وفعل الخير وتأمين حرِّيَّة انتشار دين الله، نظراً إلى طبيعة الأحوال الإنسانية التي تقتضيها ظروف الجهاد والفتح من جهة، وظروف عناد أعداء دين الله وصراعهم للحق وكيدهم له من الجهة المضادة، مع إلحاح الدواعي المثالية التي توجب إضعافهم كبحاً لجماح الشر والفتنة.
ومع ذلك فإن رسالة الجهاد المقدس تظل في جميع الأحوال رسالة مثالية، لا تهدف في أساسها إلى إرضاء شهوة الحكم عند أمة ضد أخرى، أو كسب مغانم لها، أو تسليط شعب على شعب.
ومتى تحول الجهاد عن غايته الربانية إلى الغايات الإنسانية الأخرى، المتصلة بالمطامع المادية أو الغرائز النفسية، أمسى شكلاً من أشكال محاولات سيطرة بعض الشعوب على بعض. ولقد عرف التاريخ منها في بحر الزمن أمواجاً كثيرة مقبلة أو مدبرة، تبعاً لرياح المطامع والشهوات الإنسانية، مع الشعور بالقوة القادرة على التغلب والاستيلاء.
وحينما ينحرف الجهاد عن غايته التي حددها الله في رسالاته، يكلُ الله
القائمين به إلى أنفسهم، وإلى إمكاناتهم الإنسانية البحتة، ويحجب عنهم العون والمدد والتأييد، ويقذف في قلوبهم الرعب، ويطرحهم مع حشد الأمواج البشرية التي تتلاطم في حدود إمكاناتها المادية الخالية من القوى المعنوية المؤثرة الغلابة. وكذلك حينما يستثمر المجاهدون الفتح والنصر لغير الغاية التي قام الجهاد المقدس من أجلها، فإن الله يكل الفاتحين إلى أنفسهم، ويرفع عنهم يد التثبيت والمعونة، فتموج بهم الأرض التي فتحوها، وترتج بهم العروش التي اعتلوها، وتأتيهم إنذارات الانهيار، ليصلحوا نياتهم وأعمالهم، فإذا استمروا في الانحراف عن الطريق الذي حدده الله لهم، آذنهم بنقمته، وأنزل بهم عذابه، فدالت دولتهم، وانهارت قوتهم، وظفر بهم عدوّهم.
ب- الدعوة إلى الجهاد المقدس في التوراة والإنجيل والقرآن:
ولقد ظهرت الدعوة إلى الجهاد المقدس في الأديان الربانية الثلاثة، التي جاء بها موسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام، وكان ظهورها فيها بشكل بارز قوي، يدل على ذلك قول الله تعالى في سورة (التوبة/9 مصحف/113 نزول) :
أما موسى عليه السلام فقد طلب من بني إسرائيل أن يباشروا هذا الجهاد المقدس ليحقق الله لهم الفتح فرفضوا طلبه، وقالو له كما أخبرنا الله في سورة (المائدة/5 مصحف/112 نزول) :
{
قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَداً مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} .
فقضى الله عليهم أن يتيهوا في الأرض أربعين سنة، وتوفي موسى
وهارون عليهما السلام دون أن يباشر بنو إسرائيل الجهاد، ثم باشروه في عهد طالوت بشكل إقليمي محدود، ولما فتح الله عليهم وأظفرهم بالملك، وتمتعوا بخيراته، وانتهت موجة الملك النبوي بانتهاء عهدي داود وسليمان، استكانوا وفسدوا، وتحولت غاية الجهاد في نفوسهم من رسالة ربانية إلى غايات مادية وقومية عنصرية بحتة، وأخلدوا إلى الأرض فضرب الله قلوب بعضهم ببعض.
وأما عيسى عليه السلام فقد دعا قومه إلى الجهاد، وباشر منه المراحل الأولى، وهي الدعوة اللسانية، ولكن لم تمر عليه فترة من الزمان كافية تمكنه من أن ينتقل من طور جهاد الدعوة إلى طور جهاد النضال والكفاح المسلح، إذ رفعه الله إليه بعد ثلاث سنوات فقط من بدء دعوته.
وأما الذين اضطلعوا بأعباء الجهاد المقدس وأعمال الفتح بشكل واسع في التاريخ وعلى ما يجب، فقد حدثنا القرآن منهم عن ذي القرنين، وحدثنا منهم عن جهاد الرسول محمد وعن جهاد الذين معه ممن آمن به وصحبه، وحدثنا التاريخ عن جهاد المسلمين وفتوحاتهم بعد الرسول صلوات الله عليه.
لقد أخبرنا القرآن عن ذي القرنين، فقال الله تعالى في سورة (الكهف/18 مصحف/69 نزول) :
{
وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا * إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآَتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا * فَأَتْبَعَ سَبَبًا * حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا * قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا * وَأَمَّا مَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا * ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا * حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا * كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا * ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا * حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا * قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا * قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا * آَتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا
حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آَتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا * فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا * قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا}
فمن خلال هذا النص القرآني يتبين لنا أن ذا القرنين قد قاد جيوش الجهاد المقدس، وقام بأعمال الفتح الديني على نطاق واسع جداً، فقد مكن الله له في الأرض، وآتاه أسباب التمكين والقوة بحسب عصره، فاستعمل هذه الأسباب في نشر دين الله في الأرض، وامتدت فتوحاته حتى بلغ أقصى المعمور من جهة مغرب الشمس، وأدرك القسم الذي يعظم الليل فيه، وتغرب الشمس فيه سريعاً وهي في عين حمئه ووجد هنالك أقواماً فدعاهم إلى الله فعذب من كفر منهم، وأحسن إلى من آمن، ثم توجه شطر مشرق الشمس، حتى بلغ أقصى المعمور من جهة المشرق، وأدرك القسم الذي يعظم فيه النهار، فدعاهم إلى الله، فعذب من كفر منهم، وأحسن إلى من آمن، ثم توجه إلى أمكنة آهلة بالسكان من الشرق، حتى بلغ بين السدين، وأقام حاجزاً بين بعض سكان تلك البلاد وبين قبائل يأجوج ومأجوج الشريرة، ودعا إلى الله ونشر دينه.
وأخبرنا القرآن أيضاً عن الجهاد المقدس الذي قام به محمد رسول الله صلوات الله عليه والمسلمون في غزواته، وكان به ظهور الإسلام، وذلك في سور كثيرة ومواطن متعددة.
وحدثنا التاريخ عن الجهاد المقدس والفتح المبين الذي قام به المسلمون بعد الرسول محمد في عصورهم الزاهرة الأولى، فأثمر ذلك لهم فتحاً مبيناً، وامتد الإسلام به شرقاً وغرباً، وتحققت للمسلمين بالجهاد المقدس معجزة الفتح التاريخية، إذ التزموا بحدود غايته المثلى، وظل أمر المسلمين كذلك حتى تسرب
إلى نفوسهم مرض الانحراف عن الهدف المثالي الحق، ودخل إلى قلوبهم داء الوهن، والطمع بالدنيا، وحب الشهوات، والتثاقل عن الجهاد في سبيل الله، والإخلاد إلى الأرض، فوكلهم الله إلى نفوسهم، وسلط عليهم عدوَّهم.
ولن يستطيع المسلمون أن يرفعوا عن صدورهم ضغط أعدائهم، وأعداء دينهم الكثيرون، ما لم يراجعوا دينهم، ويلتزموا بما يوجبه عليهم، ويجاهدوا في سبيل الله حق جهاده، أما الحروب التي خمل فيها المنتسبون إلى الإسلام شعارات وطنية أو قومية أو غير ذلك مما لا يقره الإسلام، فلم تجن لهم إلا الخيبة والهزائم، لأن الله عز وجل لم يمدهم فيها بعونه وتأييده، وتركهم فيها لوسائلهم، وهي وسائل أضعف من وسائل أعدائهم.
جـ- وسائل الجهاد المقدس:
نظرة إجمالية عامة إلى وسائل الجهاد المقدس تكشف أنها ذات نسق مثالي رائع. فهي تبدأ أولاً بمجاهدة النفس، ثم تثني بمجاهدة الآخرين، ومجاهدة الآخرين تبدأ بوسائل الدعوة المختلفة التي تتدرج من الأخف إلى الخفيف، فإلى الشديد فالأشد، وتراعي في كل ذلك أحوالهم النفسية والاجتماعية، ومكاناتهم ومنازلهم في أقوامهم، وتنتهي هذه الوسائل في آخر الأمر بالقيام بأعمال القتال، وفق الدواعي الذي تقتضيه، من دفاع، أو كسر أسوار تحجب عن الشعوب نفوذ أنوار الحق والهداية إليها.
وابتغاء مرضاة الله، وإعلاء كلمته في الأرض، وإقامة الحق والعدل بين الناس، والحكم بما أنزل الله، هي الغايات المثلى من الجهاد المقدس في قلوب المؤمنين الصادقين.
أما جاهد النفس فيكون بمقاومة جهلها وانحرافاتها الفكرية والاعتقادية بالعلم والمعرفة الحقة، وبمقاومة شهواتها الجامحة وأخلاقها الجانحة بوسائل التربية الفضلى والسلوك الأقوم. كمقاومة الطمع فيها بالقناعة، وتحويل أطماعها إلى ما عند الله من أجر عظيم لأهل طاعته. وكمقاومة الحسد فيها بالرضى عن قسمة الله، والاعتقاد بأن العطاء والمنع بيده، وأنه هو الذي يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر، وأن كلاً من عطائه ومنعه لا بد أن يكون لحكمة يعلمها، وقد
يكون كل منهما خيراً للإنسان متى رافقه طاعة الله ورضوانه. وكمقاومة الشهوات الملحلة بالصبر، وإطماع النفس بما عند الله من أجر، وتغذيتها بما أحل الله والكف عما حرم. وكمقاومة الجبن والشح فيها وبوسائل الإقناع والترغيب التي تغذيها بأن الآجال والأرزاق محتومة، وتفتح أمامها أبواب الأمل والرجاء بما أعد الله لباذلي أرواحهم وأموالهم في سبيله من أجر عظيم وثواب جزيل، وباستثارة كوامن الإيمان في القلب، حتى تندفع النفس إلى مرضاة الله مشحونة العاطفة بقوة الإيمان، ومهدية السبيل بنور الإيمان. وهكذا، وقد كان الصدر الأول من المسلمين يسمون جهاد النفس الجهاد الأكبر، فإذا قفلوا من معركة من معارك القتال مع عدوهم قالوا: رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر، أي: إلى مجاهدة نفوسهم.
وأما جهاد الآخرين فله وسائل شتى، يرتقي المجاهد فيها على سلم متعدد الدرجات، وليس كل مخالف عدوّاً ما لم يمارس عداوته بشكل عملي، والمخالفون في نظر حملة لواء الجهاد المقدس جاهلون ومرضى، والرسالة الخيرة التي يحملها العلماء الأصحاء إنما هي تعليم الجاهلين، وتطبيب المرضى، ومساعدتهم، والرفق بهم، والأخذ بأيديهم في طرق الصحة والسلامة الفكرية والقلبية والنفسية.
لذلك تعين على هؤلاء المجاهدين أن يبدأوا من أول درجة من درجات سلّم الجهاد، وهي درجة الدعوة إلى الله على بصيرة، ضمن الأساليب الحكيمة. ووسائل الدعوة هي كل ما أن يوصل فكرة الحق وتطبيقاته إلى عقول المعارضين ونفوسهم وأعمالهم.
أ- فتكون بالدعوة الحكيمة باللسان، ويقتدي المجاهد في ذلك بجهاد الدعوة الذي قام به الرسول صلوات الله عليه، وقامت به النخبة ال ممتازة من أصحابه وتابعيهم بإحسان، وتتضمن الدعوة الحكيمة باللسان، الإقناع بالحديث الخاص، والإقناع بالخطابة العامة، والمجادلة بالتي هي أحسن، ويدل على ذلك قول الله تعالى في سورة (النحل/16 مصحف/70 نزول) :
ويمكن أن يكون المراد من الحكمة وسائل الإقناع بالعلم والحجج المنطقية البرهانية، وأن يكون المراد من الموعظة الحسنة وسائل التأثير الخطابي بالترغيب والترهيب، أما الجدال فهو صراع الأدلة والحجج وفق أصول المناظرة السليمة من المماراة والمغالطات.
ب- وتكون أيضاً بالدعوة عن طريق الكتابة والنشر، في نثر الكلام أو شعره، بتأليف المؤلفات، وكتابة المقالات، ونظم القصائد والدواوين، وإعداد البيانات، وتوزيع المطبوعات، والعمل على نشر الجيد النافع منها، إلى غير ذلك من كل مكتوب نافع يدخل إلى النفوس عن طريق الإقناع الفكري، أو لتأثير الوجداني.
جـ- وتكون أيضاً بالدعوة العاملة الصامتة، عن طريق الأسوة الحسنة، وذلك بأن يكون الداعي في نفسه قدوة حسنة محببة، يؤثر بلسان حاله العلمي التطبيقي، فيقتدي به الآخرون اعتقاداً وسلوكاً، قولاً وعملاً.
د- وتكون أيضاً بالتربية والتعليم، والبدء بهذه الوسيلة ينبغي أن يكون منذ المراحل الأولى للطفولة، لأنها حينئذٍ تكون أنفذ إلى أعماق النفس وأكثر تأثيراً وأبقى مع الزمن.
هـ- وتكون أيضاً ببذل عرض الحياة الدنيا من مالٍ أو متاع، أو ببذل الخدمات والمعونات، لتأليف القلوب على الخير، وجلبها إلى تقبل الهداية، فللمعونات والصلات المادية والمعنوية آثارها في السيطرة على القلوب واستمالة النفوس، وإزاحة العقبات منها، وما أكثر ما كان رسول الله يبذل من ذلك لتأليف القلوب، إضافة إلى كون حب العطاء خلقاً أصيلاً فيه صلوات الله عليه.
وبالجملة: فعلى الداعي المجاهد أن يتدرج في وسائل الدعوة، وأن ينزل الناس منازلهم، وأن يقتدي بأساليب الدعوة التي قام بها أنبياء الله ورسله.
د- استخدام وسائل العنف في الجهاد المقدس:
إذا لم تجد لدى القيام برسالة الجهاد المقدس الوسائل الهينة اللينة البيانية والتربوية والترغيبية المختلفة، دعت الضرورة إلى اللجوء إلى وسائل أخرى تترقى فيها أساليب العنف شيئاً فشيئاً، مع ضبط النفس وعدم اتباع الهوى، والرغبة بالانتصار لله فقط، دون تدخل عوامل نفسية أخرى.
فمن هذه الوسائل استخدام القوة، ويكون ذلك بتسخير قوة السلطان المعنوية ثم المادية لهداية الناس إلى الخير، وإلزام المنتسبين إلى الإسلام أو الخاضعين له بتطبيق أحكامه، ولاستخدام قوة السلطان وجوه تطبيقية كثيرة جداً:
منها إصدار القرارات والتنظيمات، وتوجيه الأوامر المكتوبة، وترتيب الجزاءات المعنوية والمادية، واعتبار الالتزامات الدينية جزءاً من الكفاءات التي تدخل في شروط التوظيف والترقيات، واعتبار عدم الالتزام بها إخلالاً بالوجبات المسلكية التي تستدعي الإنذار ثم المعاقبة، ومنها تنفيذ الأحكام الشرعية على الجناة والمجرمين، إلى غير ذلك من وسائل كثيرة.
وقد يغدو فريق من مخالفي الإسلام أعداءٌ متربصين أو محاربين، لذلك يجد حملة الجهاد المقدس أنفسهم أمام أمرٍ لازب، إنهم دعاة هداة، ولكن فرض عليهم المخالفون المعادون أن يتخذوهم أعداءً. لذلك كان لا بد لحملة لواء الجهاد المقدس من اتخاذ وسائل الدفاع الكافية، والمبادهة في بعض الأحيان قبل المباغتة، مع التزام شروط رسالتهم الربانية التي يضطلعون بمهماتها، ويكون ذلك بأمرين:
الأمر الأول: إعداد المستطاع من القوة، والاجتهاد في إعدادها حتى تربو على قوة العدو، من مالٍ وسلاحٍ ورجالٍ وخبراتٍ وغير ذلك. قال الله تعالى في سورة (الأنفال/8 مصحف/88 نزول) :
الأمر الثاني: القتال لإعلاء كلمة الله، وتكون هذه الوسيلة في آخر الأمر، حينما لا تجدي كل الوسائل الأخرى من دونه، وحينما يصبح حملة لواء الجهاد المقدس تحت الخطر الهاجم من قبل عدوّهم.
وإذا ألجأت الضرورة إلى سلوك سبيل القتال فإن القتال يستدعي الجود بالنفس، والجود بالنفس أقصى غاية الجود.
ولذلك كان لمن يجود بنفسه في هذا السبيل حظ الشهادة في سبيل الله، وكان للمقاتل في هذ السبيل من الضمان الإلهي أن يدخله الله الجنة، وأن ينال ما لا يوصف من أجره عنده.
ولكن للقتال في سبيل الله ركناً أساسياً لا بد منه، وهو أن يكون في سبيل الله، ويعني هذا الركن العام في دلالته ما يشمل تحديد الباعث له على الخروج إلى القتال، والمطلب الذي يسعى إلى تحقيقه في الدنيا، والغاية القصوى التي يرجوها عند الله.
وذلك لأن الضمان الذي ضمنه الله للمجاهدين، إنما هو لمن خرج مجاهداً في سبيله لا يخرجه أي دافع دنيوي، وإنما يخرجه أمور ثلاثة:
أولها: باعث أسمى في نفسه يحركه إلى الخروج مجاهداً، ألا وهو باعث الإيمان بالله، والتصديق برسله. أما من خرج للقتال في سبيل ضلالات شيطانية إلحادية، أو في سبيل وثنيات مادية، فإنه يعرض نفسه إلى تهلكتين، تهلكة الموت أو القرح في الدنيا، وتهلكة العذاب الأليم في الآخرة.
ثانيها: مطلب يسعى إلى تحقيقه في الدنيا إذ يقذفه بنفسه إلى معترك الموت بإذن الله وطاعته فيقتل أو يقتل، ألا وهو نشر دين الله وإعلاء كلمته، وقد أوضح هذا الأمر الحديث الذي رواه أبو موسى الأشعري رضي الله عنه، (أنَّ النبي سئل فقيل له: يا رسول الله، الرجل يقاتل للمغنم والرجل يقاتل ليذكر والرجل يقاتل ليرى مكانه والرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل غضباً فمن في سبيل الله؟ فقال رسول الله:"من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله") .
ثالثها: غاية قصوى يرجوها عند الله، ألا وهي نيل رضوانه، وبلوغ جنته، والظفر بما أعد الله من أجر عظيم للمجاهدين المقاتلين في سبيله وأما الظفر في الدنيا فهو أمرٌ إن قضاه الله فتلك حُسنى عاجلة أكرم الله بها المؤمنين المجاهدين في سبيله، وإن لم يقضه الله فقد حقق المؤمنون غايتهم القصوى، وهي نيل رضوان الله وجنته، والأجر العظيم الذي أعده، ولذلك خاطب الله المؤمنين بقوله تعالى في سورة (النساء/4 مصحف/92 نزول) :
وهكذا تنحصر دوافع الجهاد المقدس: بالباعث الأسمى وهو الإيمان بالله والتصديق برسله، وبالمطلب العاجل وهو العمل على نشر دين الله وإعلاء كلمته، وبالغاية القصوى وهي ابتغاء رضوان الله ونيل ثوابه الذي أعده للمحسنين، وهذه الدوافع هي على النقيض من دوافع العدوان الذي يقوم به أعداء دين الله.
هـ- الشروط التي يجب توافرها أثناء القتال في جهاد مقدس:
حينما تلجئ الضرورة حملة رسالة الجهاد المقدّس أن يقفوا موقف القتال في مواجهة من ناصبوهم العداوة، وكادوهم وكادوا دينهم، فإن للقتال شروطاً تلزمهم بها رسالة الجهاد نفسُها.
فبعد تحديد الغاية من القتال، وإعداد العدّة له، والتصميم على مباشرته - ابتغاء نشر الدين، ودفعاً لعدوان المعتدين - يجب على المقاتلين في سبيل الله أن يتقيدوا بالمنهج التطبيقي الذي شرعه الله في القتال، وأن يلتزموا جميع الشروط التي أمر الله بها فيه، وأن ينتهوا عما نهى الله عنه.
ونستطيع أن نجمل الشروط التي يجب توافرها اقتباساً من الآيات القرآنية في القتال، وذلك فيما يلي:
الشرط الأول: وحدة الغاية، وذلك بأن تكون غاية المقاتلين واحدة، وهي ابتغاء مرضاة الله، بالعمل لنشر دينه وإعلاء كلمته، والحكم بما أنزل
لعباده، ودليل هذا الشرط من القرآن قول الله تعالى في سورة (التوبة/9 مصحف/113 نزول) :
وقوله تعالى في سورة (الأنفال/8 مصحف/88 نزول) :
الشرط الثاني: وحدة صف المقاتلين وتماسك جماعتهم، وذلك لأن تفرق صفوف المقاتلين دون خطة موحدة جامعة مبدد للقوى، موهن للعزائم، ممكن للعدو من أن يظفر بكل قسم على حدة، ودليل هذا الشرط من القرآن قول الله تعالى في سورة (الصف/61 مصحف/109 نزول) :
{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} .
الشرط الثالث: الاعتماد على الله في تحقيق النصر، وعدم الاغترار بالنفس، وهذا الشرط مهم جداً لإحراز النصر، لأن الاعتماد على الله مع ملاحظة أوامره بوجوب بذل قصارى الجهد لنيل تأييده ونصره من شأنه أن يضاعف القوة، ويزيد من إمكانات القتال، عند حملة رسالة الجهاد.
أما الاغترار بالنفس فإنه يفضي إلى الاستهانة بقوة العدو، ومع الاستهانة يحصل التهاون والتباطؤ والتواكل، وهذه من أبرز عوامل الخذلان ومسبباته. ودليل هذا الشرط من القرآن قول الله تعالى في سورة (الأنفال/8 مصحف/88 نزول) :
{وما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم} .
وقوله تعالى في سورة (التوبة/9 مصحف/113 نزول) :
الشرط الرابع: شدة البأس في القتال، وذلك لأن شدة البأس تجعل قلوب الأعداء فريسة الخوف، ومتى وجد الخوف سبيله إلى القلوب انهارت قوى الهجوم، ثم تنهار من ورائها قوى المقاومة ويفضل المقاتل حينئذ الفرار أو الاستسلام، ودليل هذا الشرط من القرآن قول الله تعالى في سورة (الأنفال/8 مصحف/88 نزول) :
{فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} .
فقوله تعالى: "فشرد بهم من خلفهم" يدل على الإلزام بإيقاع البأس الشديد في العدو المقاتل حتى تنخلع قلوب الذين من خلفهم ذعراً، فيشردوا ويفروا من وجوه المقاتلين من المسلمين، طلباً للسلامة، وإيثاراً للعافية، ومخافة أن يقع بهم مثل هذا البلاء العظيم.
الشرط الخامس: الثبات والمصابرة وعدم تولية الأدبار، مع الاعتصام بالإكثار من ذكر الله تعالى، وذلك لأ، من طبيعة الثبات والمصابرة أن تفل حد العدو المقاتل، وتسقيه كؤوس اليأس من الظفر، وبذلك تنهار قوته، ويساعد على الثبات والمصابرة الاشتغال بذكر الله والأمل بمدده المادي والمعنوي، ويدل على هذا الشرط من القرآن قول الله تعالى في سورة (الأنفال/8 مصحف/88 نزول) :
وقوله تعالى في سورة (الأنفال) أيضاً:
الشرط السادس: طاعة القيادة، وعدمُ التنازع في الأمر، ذلك لأن فقد الطاعة يجعل القيادة غير قادرة على استعمال القوى في مواجهة العدو، فتجمد القوى أو تتصارع فيما بينها، أو تستعمل في غير صالح المعركة، وذلك من
أسباب الفشل الكبرى، كما أن التنازع في الأمر باختلاف وجهات النظر في القتال يؤدي إلى هذه النتائج نفسها التي تسبب الفشل، وليس من شأن حملة رسالة الجهاد المقدس العصيان والتنازع، ودليل هذا الشرط من القرآن قول الله تعالى في سورة (الأنفال) أيضاً:
{
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} .
وقوله تعالى في سورة (آل عمران/3 مصحف/89 نزول) :
وبتحقيق هذه الشروط في القتال مع شرط إعداد المستطاع من القوة الكافية السابق له، ومع تحديد الهدف منه كما أمر الله، يستطيع حملة رسالة الجهاد المقدس أن يظفروا دائماً بالنصر على أعداء الإسلام.
و الروح المعنوية العالية لدى حملة رسالة الجهاد المقدس:
حينما تلجئ الضرورة حملة رسالة الجهاد المقدس أن يقفوا موقف المقاتلين في مواجهة أعدائهم وأعداء دينهم فإن الروح المعنوية سترتفع في قلوبهم ارتفاعاً عالياً جداً.
وذلك لأنهم يتلمسون في أنفسهم أن الباعث لهم على القتال أنبل غاية تقصد، ويجدون أنفسهم مندفعين إلى التقيد بشروط القتال التي حددها الله لهم، وأمرهم بالتزامها، ويشعرون بأن شوقاً يقذف بهم إلى الظفر بما وعدهم الله، إما النصر وإما الشهادة وجنّة الخلد.
وما من جيش استجمع كل ذلك إلا نزع الجبن من قلوب أفراده، فلم يخشوا الموت، وأقبلوا على القتال وهم شديدو البأس، ثابتو الأقدام، وعندئذ يجد هذا الجيش معونة الله المعنوية والمادية مصاحبه له مهما كر أو فر في مساجلات القتال.
ومن المستبعد جداً أن يصاب في وقت من أوقاته بالضعف أو التخاذل والوهن، ما دام مستجمعاً لما سبق بيانه، وذلك لأنه على يقين بأن وعد الله بالنصر للصادقين معه، والمخلصين له، لا بد محقق، فهو شديد الثقة بذلك، كيف لا وهو فيما يقوم به إنما يقاتل عدو الله وعدو دينه، وعدو رسالة الخير التي أمر الله بها عباده، وهو يعتقد أنه يقاتل بإذن الله وأمره، مؤيداً بعون الله وقهره، موعوداً بأجر الله ونصره.
من أجل كل ذلك ترتفع قوة المقاتلين في سبيل الله بنسبة ما في قلوبهم من إيمان وصبر، وصدق مع الله، حتى يكون الواحد كفؤاً للعشرة من العدو في الحد الأعلى، وكفؤاً لاثنين من العدو في الحد الأدنى.
ويدلّ على ذلك قول الله تعالى في سورة (الأنفال/8 مصحف/88 نزول) :
وكذلك تكون قوة المؤمنين الصابرين بخلاف الذين يخرجون بطراً ورئاء الناس ويقاتلون حميةً وعصبية، أو يقاتلون للفخر والعلو في الأرض بغير الحق أو يقاتلون ليثني عليهم بين الناس بالشجاعة أو بغية الوصول إلى مال أو الحصول على شهوات ولذات أو الوصول إلى مجد دنيوي لا يهدف إلى غاية من غايات الجهاد المقدس، أو يقاتلون في سبيل فرد أو جماعة من الناس أو غير ذلك من أمور لا تعادل غايتها بذل الروح في سبيلها، فإن هؤلاء إن يخرجوا إلى القتال فما أسرع ما يدب الذعر إلى قلوبهم، ويصيبهم الخوف والهلع، ثم إنهم في أغلب أحوالهم متى وجدوا لأنفسهم منفذاً للفرار من المعركة أخذوا سبيلهم إليه، إلا أن يغلب على ظنهم أ، هم بقوتهم المادية منتصرون، وأن عدوهم ضعيف أو جبان، أو أن يقوم في أنفسهم أنهم قد أمسوا ملزمين بالقتال وإلا قتلوا وأبيدوا. ومن أجل ذلك نلاحظ أن الجيوش
التي لا تحمل رسالة جهاد مقدس تعاني أكبر ما تعاني مما يمسى عند العسكريين بفقد الروح المعنوية، وتحاول قياداتها رفع هذه القوة بوسائل مختلفة دعائية ونفسية ومادية، ومن الوسائل المادية ما يتم به سلب الشعور العاقل عند الجندي المقاتل، عن طريق المسكرات، ولكن كل وسائلهم لا تحقق بعض النتائج التي يحققها الإيمان.
أما الجيوش التي تحمل رسالة الجهاد المقدس بصدق فإنها قلما تصاب بفقد الروح المعنوية، ولو لم يتحقق لها الظفر المادي على العدو، لأن كل مقاتل فيها يعتقد أنه قد ظفر بما يقاتل من أجله، وهو بلوغ رضوان الله، واستحقاق الأجر عنده، وأنه يقاتل لغاية هو يرجوها ويطلبها، ولم يفرض عليه القتال لمصلحة غيره من الناس.
أما النصر المادي فيعتقد أنه بيد الله يؤتيه من يشاء لحكمة يعلمها، وحكمة الله غير متهمة في قلوب المؤمنين.
وقد لاحظ أعداء الإسلام هذه العقيدة القوية الراسخة التي تجعل جيوش حملة رسالة الجهاد المقدس كأنها الجبال الراسيات قوة وثباتاً، وامتحنوها بشكل عملي خلال قرون، فوقفوا أمامها وقد مستهم صدمة عنيفة من الذعر والدهش والحيرة، ثم لم يجدوا سبيلاً لتفتي هذه القوة الهائلة إلا بأن يأتوا إلى جيوش رسالة الجهاد المقدس فيفرغوها من سر قوتها الحقيقية، ويضعوا مكانها قوة خلبية باردة، ثم يوجهوا عليها ضرباتهم القاصمة، ورأوا أنه لن يتم لهم الظفر عليها إلا بذلك، وكذلك فعلوا فوجهوا جهودهم لإزالة قوة الإيمان بالله وتهديم البواعث على الجهاد المقدس، وأتبعوا ذلك بإلغاء شروط القتال في سبيل الله، ووضعوا مكان كل ذلك قوى صورية تعطي صوتاً عظيماً مدوياً، ولكنها لا تحدث إلا أثراً يسيراً، وقد لا تحدث أي أثر إلا أثراً ضد حاملها، ووضعوا مكان الشروط الربانية شروطاً أخرى، فأحلوا محل الاعتماد على الله الاعتماد على إمدادات الدول الطامعة ذات المصالح الشخصية، والاغترار بالنفس، وأحلوا محل ذكر الله عبارات قومية وعنصرية، وأغانٍ مشحونة بتبجحات حقيرة وحميات جاهلية وبردوا حرارة الاندفاع الحقيقي إلى القتال، ففقدت