الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصْل الخامس شُبهَاتٌ حَوْلَ العُقوبَات في الإسْلَام
شُبهَاتٌ حَوْلَ العقوبات في الإِسلام
ينتقد أعداء الإسلام ما في نظام الإسلام من عقوبات شديدة قاسية، كحدّ السرقة، الذي يقضي بقطع اليد، وحدّ الزنى الذي يقضي بالجلد أو بالرجم، وحدّ قطع الطريق، الذي يسمح للحاكم المسلم بأن يقطع الأيدي والأرجل من خلاف، وغير ذلك من حدود زاجرة.
ويكفي لدفع هذه الشبهة الضعيفة أن تقدّم دراسة تحليلية للعوامل الدافعة للجرائم، ونظرات تعليلية للحل الذي لجأ إليه الإسلام في نظامه، وسنكتشف من خلال ذلك روعة نظام الإسلام في هذا المجال، كما هو رائع في كل مجال.
ولا نريد أن نتبجح بدعوى خيالية، بل نريد أن نضع الخصم أمام بحوث تحليلية، وتطبيقات واقعية، ثم نقول له: هذه سبيلنا، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر.
ولن يجد الباحث المنصف أية ثغرة يمكن أن ينتقد منها بحق نظام الإسلام، بينما يجد الباحثون المنصفون في كل الأنظمة الأخرى التي تطبقها أمم الأرض في هذا المضمار مئات الثغرات ونقاط الضعف، التي هي محل للاعتراض والنقد بحق.
أ- عوامل الجريمة:
تعود أهم عوامل الجريمة في المجتمعات الإنسانية إلى العوامل الرئيسة التالية:
أولاً: العوامل النفسية المنحرفة التي تحرض الفرد على ارتكاب الجريمة، وتتنوع هذه العوامل بحسب نوع الجريمة.
فمن الناس مصابون نفسياً بكراهية الناس أو صنف منهم، لأسباب شتى، وقد تبلغ بهم الكراهة مبلغاً من الظمأ النفسي لا يرويه إلا النظر إلى الدماء المهراقة من الذين يكرههم، وقد لا تنفع في هذا الفريق الشاذ من الناس وسائل الإصلاح المختلفة، وذلك لتمكن عقدة الكراهية في نفوسهم، وهؤلاء على ندرتهم في الناس لا بد من علاجهم أو تطهير المجتمع منهم.
ومن الناس مصابون نفسياً بشذوذ جنسي، لا يبرد حرارته ولا يشبع نهمته إلا ارتكاب الجرائم المنافية للطبائع السوية، التي يشترك فيها الناس جميعاً، وقد يحرضهم على هذا الشذوذ على الاعتداء على عفاف الصغار والصغيرات، وعدم الاكتفاء بالزواج المشروع، وقد يصل بهم إلى مرحلة شنيعة من الوقاحة والقباحة والاستهانة بالآداب العامة، يجاهرون مع هما بفحشهم ولا يتوارون فيه، تبجحاً بالمخالفة والشذوذ، أو استهانة بالدين وعملاً على نشر الفاحشة وإباحتها، فيمارسون الفاحشة غير مبالين ممارسة مكشوفة أما جمع من ذوي العدالة يبلغ عددهم أربعة شهود فما فوق.
ومن الناس مصابون نفسياً بعقدة جمع المال والاستكثار منه بالسطو على أموال الناس، وقطع الطريق، وترويع الآمنين أو بحيل الاختلاس وسلب الأموال بغير حق، دون أن يشعر بهم من يجنون عليه ويسلبون ماله.
ووجود هؤلاء وأمثالهم في مجتمع ما سبب في اختلال الأمن، وعموم الفوضى، وانتشار جرائم القتل التي تسببها الأهواء الشخصية والمطامع المادية، وسبب في بث الآلام الكثيرة، وغرس حب الانتقام، حتى ينتهي الأمر بالمجتمع إلى أن يكون معظم أفراده ما بين ظالم قتال، أو لص محتال، أو ضعيف مهضوم الحق مسلوب الحرية.
وقد استخدم الإسلام في علاج هؤلاء الشاذين المصابين بهذه العقد وأمثالها عدة وسائل:
الوسيلة الأولى: التربية الإيمانية الإسلامية على إدراك الحق والشعور به وبواجبه، وعلى تذوق الكمال وحبه، واستحسان الخير والفضيلة وحبهما، واستقباح الشر والرذيلة وكراهيتهما، والرغبة بالتنافس في السبق إلى الكمالات المختلفة الفكرية والخلقية والسلوكية.
الوسيلة الثانية: الترغيب بما عند الله من أجر عظيم للملتزمين بأحكام الإسلام وتعاليمه، الداعية إلى إقامة الحق والعدل، والتزام الخير، والبعد عن كل ظلم وشر، ابتغاء رضوان الله وثوابه.
الوسيلة الثالثة: الترهيب مما أعتد الله يوم القيامة للظالمين المعتدين، المخالفين لأوامر الله ونواهيه، من عذاب أليم في دار العذاب.
الوسيلة الرابعة: العقوبة القاسية الشديدة، فحينما لا تنفع وسائل التربية والترغيب والترهيب، تقضي ضرورة سلامة المجتمع الإنساني بإنزال العقوبة القاسية الشديدة، لأن الذين لم تنفع فيهم هذه الوسائل قد نمت لديهم دوافع الجريمة إلى الحد الأقصى، فكانوا خطراً على المجتمع.
ومما لا ريب فيه أنه لن يتفق لهذا الفريق الشاذ من الناس أن يمارسوا جرائمهم في وقت واحد، ولذلك يكون إنزال العقوبة الشديدة القاسية المشاهدة أمام ملأ من الناس في أول مرتكب منهم للجريمة عملاً رادعاً، يكف معظم الذين تحدثهم نفوسهم بارتكاب جرائم مماثلة عن اقتحام حدودها.
وربما لا يقتضي الأمر تنفيذ هذه العقوبة الشديدة القاسية إلا مرة واحدة أو مرات قليلة جداً، خلال كل حقبة من الزمان، وبذلك يقطع دابر الجريمة، أو يخفف نسبة حدوثها إلى أدنى الحدود، وعندئذ يصفو المجتمع من المكدرات، ويعم الأمن والاستقرار، وهما أعظم نعمتين ترفل بهما مجموعة بشرية.
ثانياً: عوامل البيئات الاجتماعية المنحرفة، التي تنمي في الأفراد الرغبة بارتكاب الجريمة، وتغذيتهم بعدم الاعتراف بمنافاتها للحق والواجب، أو للأخلاق الكريمة وسائر الفضائل، وذلك بسبب إهمال هذه المجتمعات واجبات التربية العامة على احترام الحق والواجب، والتقيد بالأخلاق الكريمة وسائر
الفضائل، وازدراء الظلم والعدوان، والنفور من الرذائل والانحراف في السلوك.
ففي كثير من البيئات الاجتماعية يلاحظ المتتبعون مجموعة من العوامل التي تساعد على ارتكاب الجرائم المختلفة.
منها استهانة هذه المجتمعات بالفضائل، وفساد مفاهميها نحوها، وعدم اكترائها بواجبات التربية على مكارم الأخلاق، وإهمالها الشبان والمراهقين، وتركهم يرتعون في الملذات الجسدية المحرمة التي تتطلب منهم أموالاً كثيرة لا يستطيعون حيازتها إلا بتجاوز حدود الحق والعدل والفضيلة.
ومنها انحلال نظام الأسرة، أو ضعف روابطها إلى الحد الذي يشعر فيه كل فرد من أفرادها أنه ذو استقلال ذاتي تام، في فكره وتصرفاته ومعالجة شؤونه الخاصة أو العامة، فهو لا يسمح بأن يرشده من أسرته من سبقوه في تجربة الحياة، أو يشرفوا عليه، أو يقوموا على تربيته وتأديبه، وضبط سلوكه عن الانحراف والشذوذ، فينطلق عندئذ في متاهات رعوناته الخاصة، وتدفع مراجل شهواته المتأججة مركبة حياته إلى المهالك، ثم يجد نفسه في منحدرات طرق حياته المنهارة مسوقاً إلى الجريمة، يساعده عليها نظراؤه من قرناء السوء، إذ تسود بينهم مفاهيم بعيدة كل البعد عن المفاهيم الإنسانية الكريمة.
ومنها تفكك الروابط الاجتماعية الأخرى التي تمثلها المؤسسات الاجتماعية التعليمية والتربوية والرياضية والأدبية، ومؤسسات الإحسان والتعاون والتعاطف الجماعي، وفي مقدمتها المؤسسات الدينية، التي تضطلع بمهمات التربية الروحية، والتدريب على الأخلاق الكريمة الفاضلة بصفة عملية، مع كشف ما فيها من معانٍ نبيلة سامية، حتى يكون لها في داخل النفس غراس فكري، وغراس روحي، يتزايد نمواً مع الزمن بالتدريب العملي، ويتغلغل في كيان الإنسان، ويتمكن فيه تمكناً يجعله بمثابة الطبائع الفطرية، التي ولدت معه منذ استهل صارخاً يستقبل الحياة على الأرض.
ونستطيع أن نقول: إن من شأن هذه البيئات الاجتماعية الفاسدة أن تكون مباءات ملائمة لتخريج المجرمين في الأرض، ومثلها في ذلك كمثل
مباءات الجراثيم الضارة التي تنمو فيها الحشرات المهلكة ويأوي إليها كل فاسد مفسد.
وكثيراً ما يعمل الغزاة على إيجاد بيئات اجتماعية فاسدة، لتخريج المجرمين الذين يعملون على هدم أمتهم بكل قوتهم.
وأمثال هذه البيئات الاجتماعية تحتاج إلى إصلاح جذري، يبدأ من أول طريق إصلاح الأمم والشعوب.
وإن أي نظام يعالج جانب الجريمة فقط، دون قطع الطريق على العوامل الممدة، لا يعطي الثمرة المطلوبة، لأن تكاثر الوباء لا بد أن يستمر ما دامت عوامل توالده ونموه موجودة عاملة، مهما كانت نسبة المكافحة ومهما كانت قوتها.
ولذلك نلاحظ أن نظام الإسلام قد بدأ بإصلاح الفرد، وإصلاح المجتمع، قبل معالجة الجرائم التي يمكن أن تحدث فيه من قبل الذين تتحرك فيهم دوافع الجريمة. وهذا الحل الجذري لا نجده على الصورة المثلى إلا في يد نظام الإسلام ومعالجته العملية.
ثالثاً: الضرورات الملحة التي تهون على بعض السويين ارتكاب الجريمة، التي يرون أنها قد تدفع عنهم ضروراتهم، وتهيئ لهم حاجاتهم.
ولكن المجتمع الإسلامي الذي يطبق أفراده أحكام الإسلام، لا يدع ضرورة من الضرورات تدفع بفردٍ من أفراده إلى ارتكاب الجريمة، لأنه مجتمع متعاون متكافل، كل فرد فيه حارس يقظ، يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويساعد على فعل الخير وقمع الشر.
رابعاً: ضعف جهاز الحكم، وإهماله، وعدم مراقبته الشديدة لما يقع في المجتمع من جرائم، وتردده في البت بالإدانة العادلة، وسيره في القضاء بنفسٍ طويل، وصبر غير جميل، ينسى معه الشعور بهول الجريمة التي تستدعي البت الحازم الحاسم.
والأصل في الحكم الإسلامي أن يكون على خلاف ذلك، لأنه يعمل بهدي من كتاب الله وسنة رسوله.
خامساً: لين القوانين وعدم أخذها بمبدأ العقوبات الزاجرة التي أخذ بها نظام الإسلام، الأمر الذي يشجع المجرمين على ارتكاب جرائمهم.
ومعلوم أن الشريعة الإسلامية بريئة من هذا العامل، وأن الحكم الذي يطبق أحكامها يفرض هيبته العامة، التي تردع كل من تحدثه نفسه بارتكاب الجريمة.
هذه عوامل رئيسة خمسة يتسبب عنها تفشي وقوع الجرائم في المجتمعات الإنسانية، وبمقدار نمو هذه العوامل تزداد نسبة الجرائم.
ولكن حين يطبق الناس نظام الإسلام، يستطيعون أن يتفادوا النسبة العظمى من هذه العوامل الباعثة على وقوع الجرائم، وأن يخفضوا نسبة وقوعها إلى أقل حد ممكن، وذلك لأن تطبيق نظام الإسلام، يرتقي بالمجتمع الإنساني إلى مستوى مثالي رائع، تستطيع الارتقاء إليه جماعات بشرية، وقد أثبت الواقع هذه الحقيقة في تاريخ الأمة الإسلامية، ولما طبقت المملكة العربية السعودية أحكام العقوبات الإسلامية انخفضت فيها نسبة الجرائم إلى أدنى المستويات الممكنة في الواقع البشري.
ب- الحل الإسلامي:
قبل أن يقيم الإسلام نظام الحدود العقوبات الزاجرة الرادعة، أحاط المجتمع المسلم بأسوار أربعة بعضها من وراء بعض، ومن شأن هذه الأسوار أن تبعد أفراد المجتمع المسلم عن السقوط في الجريمة، إلا من بلغ منهم مبلغ الشذوذ.
السور الأول: سور الأنظمة الاجتماعية والفردية التي تهيئ لكل فرد مطالبه النفسية والجسدية الضرورية، وتدفع عنه الضرورات التي تلح في داخله، وفق تكوينه الذي فطره الله عليه.
فأقام الإسلام نظام العدالة الاجتماعية، وحض على الزواج وأمر بتيسير وسائله وأسبابه، وهيأ لجميع أفراد المجتمع فرص التنافس الشريف بحسب الكفاءات في مجالات السبق الدنيوي دون ظلم ولا عدوان.
السور الثاني: سور تربية المسلمين نظرياً وعملياً على مكارم الأخلاق، وفضائل السلوك، وعلى احترام الحق والواجب، وتريبتهم على تذوق هذه المكارم والفضائل واستحسانها وحبها، والنفور من أضداداها وكراهيتها كراهية شديدة.
السور الثالث: سور المخاوف والإنذارات بعقابات الله في الدار الآخرة، لمن خالف أنظمته وشرائعه التي أنزلها لعباده وأمرهم بتطبيقها.
السور الرابع: سور العبادة الحقة لله تعلى، المصحوبة بمراقبته التي تسمو بروح المسلم سمواً يبعدها عن المؤثرات المادية، التي تدفع الفرد إلى الانحراف عن صراط الله لعباده.
وفي داخل هذه الأسوار الأربعة يترعرع المجتمع الإسلامي في بحبوحة السعادة والأمن والطمأنينة، والبعد عن كل العوامل التي يمكن أن تحرض الإنسان على ارتكاب الجريمة.
ومما لا يرب فيه أنه يندر وقوع الجرائم التي يعذر مرتكبوها، داخل مجتمع مسلم توافرت فيه الاحتياطات التربوية الإسلامية التي تتغلغل في أعماق النفوس بتأثيراتها الفكرية والوجدانية والروحية، والتي تكوّن العادات المستحكمة في السلوك بذلك، وبقوة التأثير الاجتماعي المدفوع بواجب الرقابة الاجتماعية والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. يضاف إلى ذلك امتصاص الطاقات النفسية والجسدية التي من شأنها التحريض على ارتكاب الجريمة، وذلك بتهيئة كل الشروط التي تساعد على تلبية مطالب الإنسان وحاجاته الضرورية الجسدية والنفسية والروحية.
ولكن - رغم كل ذلك - لا بد أن تند من بعض الأفراد جرائم يدفع إليها الانحراف والشذوذ، فالأنظمة النظرية والتطبيقية - مهما اتخذت من احتياطات - لا توقف وقوع الجريمة إيقافاً كاملاً، ولكنها تخفف من وقوعها إلى أدنى النسب.
وقد تدارك الإسلام أنواع الانحراف والشذوذ الدافعة إلى الجريمة، بالعقوبات الزاجرة الرادعة ذات المظهر الخشن.
وهذه العقوبات يقيمها سلطان المسلمين بالعدل والقسطاس المستقيم،
مع التسوية التامة بين ذوي الشرف وذوي الضعة، وبذلك يعيش المجتمع المسلم في ظل الأمن الدائم والاستقرار والطمأنينة، وينقطع دابر الجريمة والتفكير بها.
ومن الجميل في هذه العقوبات القاسية أن الوضع العام للمجتمع الإسلامي المثالي لا يحتاج إلى تطبيقها إلا في أحوال نادرة جداً، وعلى مجرمين حقيقيين لم تدرأ شبهة ما عنهم إقامة الحدود، ولست أنكر أنه قد يدخل بين هؤلاء من تقتضي أحواله الخ اصة تخفيف العقوبة عنه، دون أن يتبينها لاقضاء الإسلامي بشكل منضبط، إلا أن سلامة المجتمع كله توجب التضحية ببعض الأفراد، لا سيما الذين ثبتت عليهم الجريمة ولم يستطع الحكم العادل أن يرفع عنهم العقوبة.
ولنا أمام هذه الفلسفة الإسلامية العظيمة أن نهاجم الأنظمة الوضعية في عقوباتها التي لا زجر فيها ولا ردع، بأنها أنظمة تساعد على انتشار الجرائم، وتنمية أعداد المجرمين في الأرض، وأنها حين تشفق على يد سارق واحد أن تقطع، تساعد على مقتل عدد كبير من الأبرياء، ليحقق مجرمو السرقة أهدافهم، وحين تشفق على قاتل واحد فلا تنفذ فيه عقوبة القصاص، تساعد على سقوط عدد من القتلى الأبرياء، وهكذا إلى سائر الجرائم.
وحين تركت معظم الشعوب الإسلامية تطبيق نظام العقوبات الإسلامية الرادعة،واتبعت النظم الأوربية، انتشرت فيها الجرائم، واندلعت فيها نار الفوضى، وكثرت فيها الآلام الاجتماعية، وفقدت سعادة الطمأنينة والاستقرار والأمن على أموالها وأرواحها.
جـ- مخففات الجريمة في نظام الإسلام:
أدخل الإسلام لدى تقويمه للجرائم التي يرتكبها المجرمون أمرين:
الأول: اعتبار الأحوال العامة التي ترافق ارتكاب الجريمة.
الثاني: اعتبار الأحوال الخاصة لمرتكب الجريمة، الشاملة للأحوال العقلية والنفسية والجسدية.
فمن مراعاته للأحوال العامة في جرائم القتل مراعاته أحوال الفتن العامة التي يكون القتال فيها بين فريقين من المسلمين، إذ جعل للقتل فيها أحكاماً خاصة.
ولما كانت دوافع القتل في مثل هذه الفتن دوافع جماعية وليست دوافع فردية بحتة، نظراً لاختلاطها بشبه كثيرة، لم تكن مشروعية القصاص فيها مثل مشروعية القصاص في الأحوال الفردية، التي يحدث القتل فيها ضمن أوضاع آمنة مستقرة.
وقد جاء التشريع الإسلامي فيها بأمر جمهور المسلمين بالسعي في الإصلاح بين الفريقين المتقاتلين، فإن أصر أحد الفريقين على البغي وجب عليهم قتال الفريق الباغي، حتى يعود إلى أمر الله، ويوافق على الإصلاح، وفي ذلك يقول الله تعالى في سورة (الحجرات/49 مصحف/106 نزول) :
{
وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}
ومن مراعاته للأحوال العامة في جريمة السرقة، مراعاته أحوال السرقة في عام من أعوام المجاعة والجوائح العامة، التي تقوى معها شبهة الضرورة الملحة، وعند ذلك يدرأ حد قطع اليد بشبهة الضرورة الملحة، التي تؤيدها الأحوال العامة السائدة.
ومن مراعاته للأحوال الخاصة في تقويم الجريمة مراعاته حالة الملكات العقلية، فإذا كانت منعدمة لم يحكم بالمسؤولية الجرمية، ومراعاته حالة إرادة القتل، فإذا لم يتوافر في حادثة القتل وجود إرادة القتل على سبيل العدوان، كان ذلك مانعاً من تنفيذ حد القصاص، وكان سبباً مخففاً للجريمة، ومراعاته حالة الدفاع عن النفس، وحالة الإكراه، إلى غير ذلك من صور.
ومن مراعاته للأحوال الخاصة في جريمة الزنى أن يكون مرتكبه غير متزوج، سواء في ذلك الذكر والأنثى، إذ تحمل الدوافع إليه من المخففات ما لا
تحمل الدوافع إليه حينما يكون الإنسان محصناً بالزواج الذي يستطيع أن يلبي عن طريقه دوافعه الجنسية القاهرة، مهما كان الزوج بعيداً عن شروط الملاءمة النفسية المطلوبة لكل من الزوجين أو لأحدهما. ومراعاته حالة فقدان المسؤولية العقلية، أو فقدان المسؤولية الإرادية، فمتى ارتفعت المسؤولية العقلية ارتفعت معها أحكام الحدود، ومتى ارتفعت المسؤولية الإرادية قامت الشبهة التي تدرأ الحد. وترتفع مسؤولية إرادة الزنى في صور كثيرة: منها الإكراه، ومنها اعتقاد الإباحة في بعض الحالات، كظن المعاشر بأن التي يعاشرها زوجته، أو له حق في معاشرتها بتأويل له فيه شبهة مقبولة في نظر الشارع.
ومن فقدان المسؤولية الإرادية في السرقة أن يأخذ الإنسان شيئاً من مكان يقع في وهم الناس أن الأخذ منه يكون من باب اللقطة لا من باب السرقة، أو أن يأخذ من مال وهو يظن أنه مباح له.
أما حينما تتحقق الجريمة دون أن يرافقها حالة من حالات التخفيف القائمة على أية شبهة من الشبهات، فإن الإسلام يقرر تنفيذ العقوبة وإقامة الحد الزاجر الرادع، مع التشهير به في مشهد عام من المسلمين، ليكون ذلك عبرة لمن يعتبر.
د- نظرة في الحدود الإسلامية:
نظرة سريعة إلى أحكام العقوبات على الجرائم في نظام الإسلام، تكشف لنا مبلغ البت الحازم الحاسم الذي تحتويه عليه هذه الأحكام، وما تحمله من ردع وزجر لكل من تحدثه نفسه بارتكاب الجريمة، فهي تساعد على إنهاء مشكلة الجريمة بسرعة، دون أن تستتبع ذيولاً لا طائل من ورائها، وتلقي الرعب في قلوب سائر المستعدّين لأن يكونوا مجرمين.
بينما تزيد الأنظمة الأخرى من تعقيد المشكلات الاجتماعية، التي توسع من دوائر احتمالات حدوث الجرائم المتنوعة في المجتمعات الإنسانية، أو تشجع على حدوثها.
1-
ففي جريمة العدوان على الأنفس بالقتل أو بما دون عمداً وعدواناً بغير حق
يأذن به نظام الإسلام، يعطي الإسلام قاعدة القصاص، ويقيم الدليل على الغاية منها.
أما القاعدة فمعلنة بقول الله تعالى في سورة (البقرة/2 مصحف/87 نزول) :
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى}
وفي قوله تعالى في سورة (المائدة/5 مصحف/112 نزول) مؤيداً كان أنزله من قبل في التوراة على بني إسرائيل:
{
وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}
وأما الدليل على الغاية من القصاص ففي قوله تعالى في سورة (البقرة/2 مصحف/87 نزول) :
{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ}
أي: إن إقامة شريعة القصاص من شأنها أن تحفظ حياة الناس من أن تكون عرضة لعدوان المجرمين الذين لا قيمة عندهم لأنفس الناس.
2-
وفي جرائم قطع الطريق والإفساد في الأرض: أعطى الله الدولة الإسلامية سلطان التأديب بعقوبات القتل أو الصلب أو قطع الأيدي والأرجل من خلاف، أو النفي من البلاد، وذلك بحسب حال الجرائم التي يرتكبها المفسدون من قطاع الطرق، قال الله تعالى في سورة (المائدة/5 مصحف/112 نزول) :
3-
وفي جريمة السرقة التي لا شبهة فيها، إذا حدثت على الوجوه التي بينتها السنة وفصّلتها، وتمت فيها الشروط التي يلزم الشارع معها بإقامة الحدّ:
يقرّر الإسلام قطع يد الجاني ذكراً كان أو أنثى، قال الله تعالى في سورة (المائدة/5 المصحف/112 نزول) :
{
وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}
4-
وفي جريمة الزنى البيّن، الثابت بشهادة أربعة شهود تتوافر فيهم شروط العدالة؛ مع الخلو من التهمة، أو الثابت بالإقرار على النفس دون إلزام أو إكراه، إذا ارتكبه غير المتزوج ذكراً كان أو أنثى: يقرر الإسلام فيه عقوبة مئة جلدة حداً تأديبياً، قال الله تعالى في سورة (النور/24 مصحف/102 نزول) :
5-
وفي جريمة قذف الآخرين في شرفهم واتهامهم بالزنى دون إقامة بيّنة نصابُها أربعة شهود عدول: يقرر الإسلام عقوبة ثمانين جلدة، حداً تأديبياً رادعاً للقاذفين الطاعنين في أعراض الناس، كالذين يبغون أن تشيع الفاحشة في المؤمنين، قال الله تعالى في سورة (النور/24 مصحف/102 نزول) :
وقد امتحن العالم الإسلامي تنفيذ هذه العقوبات الرادعة فكان ثمرة ذلك أمناً شاملاً، واستقراراً كاملاً، جعل مجتاز البادية الغريب يأمن على ماله ونفسه وعرضه من عاديات اللصوص والقتلة وسائر المجرمين، بعد أن كانت مليئة بالمخاوف الشديدة، والجرائم الشنيعة.
ومن عجيب التناقضات التي يقع فيها منتقدو العقوبات الإسلامية الرادعة - وهم فريق من علماء القانون، وعلماء النفس، وعلماء الاجتماع - والذين يتأثرون بهم ويستمعون إليهم، أن تثار شفقتهم الإنسانية العارمة على يدٍ واحد أو أيدٍ معدوداتٍ تقطع طوال عام أو أكثر من أصل ملايين الأيدي، بسبب ارتكاب جريمة السرقة التي لا تصاحبها شبهة تدرأ عن مرتكبها الحدّ، دون أن تثار شفقتهم الإنسانية على ألوف الضحايا الأبرياء، الذين يتعرضون لأبشع الجرائم الإنسانية على أيدي مجرمي اللصوصية والسطو على أموال الناس بغير حق. وأ، تثار شفقتهم الإنسانية العارمة على قتيل بالرجم، بسب تحديه بالزنى العلني أمام أربعة شهود وهو محصن (متزوج) ، واستهانته بالآداب العامة والشرائع الربانية، دون أ، تثار شفقتهم الإنسانية على ألوف الضحايا الأبرياء الذين يتعرضون لأبشع الجرائم الإنسانية على أيدي مجرمي الجنس، علماً بأن ثبوت الزنى بأربعة شهود لا يحدث في مجتمع إسلامي إلا نادراً جداً خلال قرون.
ولا يخفى عليهم ما عليه حال كبريات الدول التي تعيش في مباهج مدنية القرن العشرين، وما تعانيه من مشكلات تكاثر الجرائم وتزايد نسبتها حيناً بعد حين، بسبب فقد الحدود الرادعة والعقوبات الزاجرة في قوانينها القضائية.
فأيهما أحفظ لكرامة الإنسان، ولسلامة المجتمع، وأفضل لمنحه نعمة الطمأنينة والأمن، أن يُعاقب عدد محدود من الناس عقوبةً صارمة شديدة، يرتدع بها كل من تحدثه نفسه بالجريمة، أو أن تتعرض أموال وأعراض وأرواح ألوف من الأبرياء من الناس لجرائم المنحرفين والشاذين، الذين يتكاثرون في كل مجتمع تقل فيه روادع العقوبات؟.
يضاف إلى ذلك أن هؤلاء الذين ينتقدون العقوبات الإسلامية الرادعة، التي لا ترتقي نسبتها بحسب طبيعة النظام الإسلامي الكامل إلى جزء من ألف جزء مما يسببه المجرمون الذي يمارسون جرائمهم وهم يستهينون بالنتائج، إذ عرف كثير منهم سبيله إلى السجن، الذي قد يجد فيه بطولة وراحة، ورزقاً وفسقاً، لا يتحرك وجدانهم الإنساني حينما يتعرض مئات الألوف من البشر
لجرائم القتل الجماعي، بالقنابل النووية، أو بسير الدبابات على أجسادهم، عقوبة لهم على مخالفة سياسية.
نحن لا نلوم أعداء الإسلام على ما يقولون، فهم في حالة حرب معه، يفعلون ما يرونه هادماً له، ولكن نلوم أجراءهم والمنخدعين بهم السائرين في ركابهم، الذين يقولون مثل ما يقولون جهلاً وغباءً، أو خدمة خائنة لأعداء دينهم وأمتهم.
* * *