الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(1) تكسير معاقد الترابط الاجتماعي وتقطيع أوصاله
اجتازت بي السيارة مرة في طريق صحراوي، فهبت رياح ليست بعاتية، فشهدت جبالاً ضخمة تحملها أنامل الرياح من جهة نائية عن يمين الطريق، ثم تضعها في جهة نائية عن يساره، وقالوا: هذه جبال من رمل، تتلاعب بها الرياح، فتنقلها في الصحراء، بحسب اتجاهاتها، فقلت: ما أشبه أكثر المجتمعات الإنسانية في هذا العصر بهذه الجبال الرملية، تتقاذفها الرياح الكونية ذات اليمين وذات الشمال.
ولما اجتزنا جبال الرمل صادفنا هضبة مرتفعة ، تزمجر الرياح العاتية من حولها ، تريد أن تقتلعها ، وتحملها كما حملت جبال الرمل هناك ، فلا تستطيع أن تنال منها نيلاً ، إلا غباراً كان قد علق بها فكنسته عنها ، وبعض حصىً اختار أن ينفصل عن الهضبة ، فعبثت به الرياح ، فقلت: ما أشبه هذه الهضبة بمجتمع بشري متماسك بالإسلام ، استطاعت الروابط الاجتماعية لديه أن تجد في أفراد معاقد خلقية متينة فتنعقد عليها فتكسب المجتمع قوة الكتلة الواحدة ، لا قوة الأفراد المبعثرين ، وفرق كبير جداً بين القوتين ، إن بطلاً واحداً يستطيع أن يصرع مئة ألف مصارع على التناوب ، لكنه متى اجتمع عليه عدد قليل منهم صرعوه مهما بلغت قوته.
وقد دلت التجربات الإنسانية والأحداث التاريخية أن ارتقاء القوى المعنوية للأمم والشعوب ملازم لارتقائها في سلم الأخلاق الفاضلة ، والسلوك الاجتماعي السليم ، ومتناسب معه ، وأن انهيار القوى المعنوية للأمم والشعوب
ملازم لانهيار أخلاقها وفساد سلوكها ، ومتناسب معها. فبين القوى المعنوية وفضائل الأخلاق ومحاسن السلوك تناسب طردي دائماً ، صاعدين وهابطين.
إن الأخلاق في أفراد الأمم والشعوب تمثل المعاقد الثابتة التي تعقد بها الروابط الاجتماعية ، ومتى انعدمت هذه المعاقد أو انكسرت في الأفراد لم تجد الروابط الاجتماعية مكاناً تنعقد به ، ومتى فقدت الروابط الاجتماعية صارت الملايين في الأمة المنحلة عن بعضها مزودة بقوة الأفراد فقط ، لا بقوة الجماعة ، بل ربما كانت قواها المبعثرة مضافة إلى قوة عدوها ضدها ، وذلك بالتصادم الداخلي ، وبالبأس الذي يقع فيما بينها.
وقد أدرك الأعداء الغزاة للإسلام والمسلمين هذه الحقيقة ، فعملوا على إفساد أخلاق المسلمين وإفساد سلوكهم الاجتماعي والفردي بكل ما أوتوا من مكر وحيلة ودهاء ، ووسائل مادية ، وشياطين وسوسة وتضليل ، ليبعثروا قواهم المتماسكة بالأخلاق الإسلامية العظيمة ، والسلوك الإسلامي القويم ، وليفتتوا وحدتهم التي كانت مثل الجبل الراسخ الصلب قوة ، ومثل الجنة الوارفة المثمرة خضرة وبهاء ، وثمراً وماءً.
لقد عرف الأعداء الغزاة أن الأخلاق الإسلامية في أفراد المسلمين تمثل معاقد الترابط الاجتماعي فيهم ، فجندوا لغزو هذه المعاقد وكسرها جيوش الإفساد والفتنة وعرفوا أن النبع الأساسي الذي يزود الإنسان المسلم بالأخلاق الإسلامية العظيمة إنما هو الإيمان بالله واليوم الآخر. وما فيه من حساب وجزاء ، فصمموا على أن يكسروا مجاري هذا النبع العظيم ، ويسدوا عيونه ، ويقطعوا شرايينه. وعرفوا أيضاً أن تفهم مصادر الشريعة تفهماً سليماً هو الذي يمُد نبع الإيمان بالمعرفة ، فمكروا بالعلوم الإسلامية ، والدراسات المتعلقة بها مكراً كُبَّاراً ، ما بين حجب أو تلاعب أو تشويه أو تجميد أو مضايقة لروادها ومبلغيها ، وذلك في حرب مستمرة ، لا تعرف كللاً ، ولا تعرف مللاً.
ومن العجيب أن تعمل أجنحة المكر الثلاثة: (المستعمرون والمبشرون والمستشرقون) لغزو الشعوب الإسلامية بخطط الإفساد الخلقي والسلوكي ، لتفتيت كتلة المسلمين الصلبة في العالم ، في حين أن شعوب هذه الأجنحة مغزوة