الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصْل الثاني المبشِّرون وأعمالهمْ
1- عرض موجز لتاريخ التبشير وأعمال المبشرين
.
2-
مؤتمرات المبشرين.
3-
مجالات أنشطة المبشرين.
4-
التآزر بين المبشرين والمستعمرين.
(1)
عرض موجز لتاريخ التبشير وأعمال المبشرين
1-
الغارة على العالم الإسلامي من كلام المستشرق المبشر الفرنسي (لُ. شاتيليه) :
قام المبشرون على اختلاف نزعاتهم الدينية، وتعدد مذاهبهم المتصارعة، وجمعياتهم التبشيرية، برسم خارطة العالم الإسلامي رسماً دقيقاً تناول جميع الجوانب البشرية وغير البشرية وأعدوا للعالم الإسلامي في خطتهم للإغارة عليه حشداً عظيماً من إرساليات التبشير، وعزموا على أن يتناسوا ما بينهم من خلافات مذهبية عنيفة؛ بغية جمع طاقاتهم لمحاربة الإسلام، وهدم دعائمه، وتحويل المسلمين عن تعاليمه، وإيقاف امتداده الطبيعي.
ويستطيع الباحث أن يطلع على معلومات بالغة الأهمية، تتعلق بأعمال المبشرين في العالم الإسلامي، من البحث المستفيض الذي نشرته مجلة العالم الإسلامي الفرنسي الاستشراقية ثم التبشيرية، في سنة (1912م) تحت عنوان:"الغارة على العالم الإسلامي".
وهذه المجلة كانت تصدرها جمعية اسمها: "الإرسالية العلمية المغربية" مؤلفة من عدد من المستشرقين، وكان رئيس تحرير المجلة يومئذٍ المستشرق المسيو "لُ. شاتليه".
وباستطاعتنا أن نكشف الأهداف التي يلتقي عليها المستشرقون والمبشرون من كلام المسيو (لُ. شاتليه) في مقدمته للبحث المشار إليه إذ يقول:
"قلنا في سنة (1910م) عندما كنا نخوض على صفحات هذه المجلة في موضوع السياسة الإسلامية: ينبغي لفرنسا أن يكون عملها في الشرق مبيناً قبل كل شيء على قواعد التربية العقلية، ليتسنى لها توسيع نطاق هذا العمل، والتثبت من فائدته. ويجدر بنا لتحقيق هذا بالفعل أن لا نقتصر على المشروعات الخاصة التي يقوم بها الرهبان المبشرون وغيرهم، لأن لهذه المشروعات أغراضاً خاصة. ثم ليس للقائمين بها حول ولا قوة في هيئتنا الاجتماعية، التي من رأيها الاتكال على الحكومة، وعدم الإقبال على مساعدة المشروعات الخاصة التي يقوم بها الأفراد، فتبقى مجهوداتهم ضئيلة بالنسبة إلى الغرض العام الذي نتوخاه، وهو غرض لا يمكن الوصول إليه إلا بالتعليم الذي يكون تحت الجامعات الفرنسية، نظراً لما اختص به هذا التعليم من الوسائل العقلية والعلمية المبنية على قوة الإرادة.
وأنا أرجو أن يخرج هذا التعليم إلى حيز الفعل ليبث في دين الإسلام التعاليم المستمدة من المدرسة الجامعة الفرنسية.
هذا ما ارتأيناه يومئذ، وسيظهر ما يؤيده في الفصول التالية المتعلقة بإرساليات التبشير البرتستانتي الانجلوسكسونية والجرمانية الدائبة على العمل في العالم الإسلامي، حتى أصبحت أهميتها تفوق بكثير ما اعتاد الفرنسيون أن يتصوروه، لأن النشاط وقوة الجأش التي يظهرها القائمون بأعمال هذه الإرساليات تختلف عن التي تمتاز بها أمتنا.
وكنا منذ أمد بعيد نودّ أن نخوض في ذكر تفاصيل أعمال هذه الإرساليات التي اشتهرت بخطتها، ووفرة الوسائل التي أعدَّتها وتوسلت بها لمقاومة دين الإسلام".
ثم يمضي هذا الكاتب المستشرق الفرنسي فيستشهد ببعض المؤسسات التعليمية التابعة لبعض إرساليات البشير في البلاد العربية والتركية ثم يقول:
"ومن هذا يتبين لنا أن إرساليات التبشير الدينية التي لديها أموال جسيمة، وتدار أعمالها بتدبير وحكمة تأتي بالنفع الكثير في البلاد الإسلامية من حيث إنها تبثُّ الأفكار الأوروبية.
إلا أن لإرساليات التبشير مطامع أخرى كما يتبين من الجملة الآتية التي استخرجتها من رسالة أرسلها إليَّ من جزيرة البحرين في 2 آب (أغسطس) /سنة 1911م/ حضرة القسيس المحترم صموئيل زويمر منشئ مجلة العالم الإسلامي الإنكليزية، وهو يبني فيها صروح آمال شامخة على أعمال المبشرين البروتستانت، قال:(إن لنتيجة إرساليات التبشير في البلاد الإسلامية مزيتين: مزيد تشييد ومزية هدم، أو بالأحرى مزيتي تحليل وتركيب) .
والأمر الذي لا مرية فيه هو أن حظ المبشرين من التغيير الذي أخذ يدخل على عقائد الإسلام ومبادئه الخلقية.... أكثر بكثير من حظ الحضارة الغربية منه" انتهى.
فإذا أخذنا بقاعدة من فمك أدينك؛ وجدنا في كلام هذا المستشرق ما يدين المستشرقين والمبشرين بأنهم قد قاموا بحرب مركزة ضد الإسلام صاحب رسالة الهداية للناس أجمعين، وهم يعمون أنهم يريدون هداية الناس إلى الحق والخير.
2-
لمحة عن تاريخ التبشير اقتباساً من "أدوين بلس":
منذ أن انتشر الإسلام وظهر على الدين كله، وأهل الكتاب من يهود ونصارى يضمرون له ولأهل الحقد العظيم، وزاد الأمر بالنسبة إلى النصارى أن دخيلاً دخل على نفوس قادتهم الدينين والسياسيين منذ الحروب الصليبية، وارتداد الصليبيين على أدبارهم مهزومين إثر حروب قرنين من الزمان، فولَّد هذا في نفوس هؤلاء أحقاداً وآلاماً صعب عليهم أن ينسوها، فكان من
نتائجها مخططاتهم الهادفة للغارة على العالم الإسلامي بحروب من نوع آخر، منها مخططات التبشير بالنصرانية بين الشعوب الإسلامية، أو تحويل المسلمين عن دينهم ولو إلى الإلحاد والكفر بكل دين.
وأفضل ما يرجع إليه لدى دراسة تاريخ التبشير ما كتبه مؤرخوهم.
جاء في كتاب (ملخص تاريخ التبشير) لمؤلفه "إدوين بلس" البروتستانتي: إن "ريمون لول" الإسباني هو أول من تولى التبشير بعد أن فشلت الحروب الصليبية في مهمتها، فتعلم (لول) اللغة العربية بكل مشقة، وجال في بلاد الإسلام، وناقش علماء المسلمين في بلاد كثيرة.
ثم تحدث مؤلفه عن إرساليات التبشير في القرون الوسطى إلى الهند وجزائر السند وجاوة، وعن اختلاط المبشرين بالمسلمين منذ ذلك الحين، وعن اهتمام هولندة بالتبشير في جاوة في أوائل القرن الثامن عشر، وعن محاولات المبشرين إخراج المسلمين عن دينهم، وأشار إلى "بترِ هيلِنبغ" الذي أبدى نشاطاً تبشيرياً قوياً بين مسلمي سواحل إفريقية.
وفي سنة (1664م) حضَّ البارون "دويتز" على تأسيس مدرسة كلية تكون قاعدة لتخريج المبشرين بعد تعليمهم أصول التبشير ووسائله، وارتأى أحد الأحبار أن يعهد إلى الأروام بمسؤولية تبشير الأتراك المسلمين، إلا أن البارون قد فشل في مشروعه يومئذ.
ثم تحدث عن تاريخ تنظيم الإرساليات البروتستانتية من دانمركية وانكليزية وألمانية وهولندية، وأخبار اتصال بعضها ببعض، وأسماء الملوك والأمراء الذين كانوا عضداً لها، ومؤيدين لأعمالها في القرن السابع عشر وما بعده في أقطار العالم.
أما أعمال إرساليات التبشير في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر فقد ذكر مؤلف الكتاب: أن المستر (كاري) هو الذي فاق أسلافه في مهنة التبشير، فدرس لغات اللاتين، واليونان والفرنسيين والهولنديين والعبرانيين كما تعلم كثيراً من العلوم. وأخذ ينشر الكتب في التحريض على التبشير. وقد
قوبلت هذه الكتب بالاستحسان في أوربا، وبدأ المتبرعون يقدمون له المساعدات المالية لدعمه في مهمته، وسافر إلى الهند بغرض التبشير، ولتنظيم أعماله، وصارت الأموال ترسل إليه من اللجان التي أخذت في أوربا تجمع له المساعدات من المكتتبين في مشروعه، ثم طلب أن يرسل إليه رجال يؤازرونه في التبشير، ونجم عن ذلك تأسيس "جمعية لندن التبشيرية" في عام (1795م) ، ثم تأسست جمعيات مماثلة في (اسكوتلندة) وفي (نيويورك) ، وانتشرت هذه الفكرة في ألمانيا والدانمرك وهولندة والسويد ونرويج وسويسرا وغيرها.
وتأسست أيضاً جمعيات فرعية كثيرة، منها "جمعية التبشير في أرض التوراة العثمانية" أي: البلاد العربية التي كانت تحت حكم السلطنة العثمانية يومئذ.
وزاد الشغف في أوربا بأعمال التبشير الهادفة إلى إخراج المسلمين عن دينهم، إلى أن تأسست إرساليات تبشير طيبة على سبيل التجربة، لتلحق بالإرساليات العامة.
وذكر مؤلف الكتاب أن هذه الإرساليات نجحت نجاحاً باهراً، لذلك أخذت تنمو وتزداد، وتألفت لها أقسام نسائي، وقد أرسل بعضها إلى الهند والأناضول.
وفي عام (1855م) تألفت "جمعية الشبان المتطوعين للتبشير في البلاد الأجنبية" ويقول مؤلف الكتاب: إنها لعبت دوراً مهماً في تبشير المسلمين على الخصوص.
ثم تبع ذلك تأسيس جمعيات التبشير في كل البلاد البروتستانت.
وفي عام (1902م) تأسست "جمعية تبشير الشبان" ومهمتها استمالة النساء والبنات والشبان والطلبة على استماع صوت المبشرين.
وفي عام (1907م) تأسست جمعية أخرى لتبشير الكهول، وأخذت تباشر مهماتها وترفع التقارير بذلك.
ويقول "إدوين بلس" في كتابه هذا: إن الدين الإسلامي هو العقبة القائمة في طريق تقدم التبشير في إفريقية، والمسلم فقط هو العدو اللدود لنا.
ويقول أيضاً: دخل المبشرون الكاثوليك ربوع إفريقية منذ القرن الخامس عشر، أي في أثناء الاكتشافات البرتغالية، وبعد ذلك بكثير أخذت ترد إرساليات التبشير البروتستانتية الإنكليزية والألمانية، وكذلك إرساليات التبشير الفرنسية.
ولم تهتم جمعية الكنيسة البروتستانتية بالتبشير في إفريقية الغربية إلى منذ سنة (1804م) حيث تعاونت إرسالياتها، وانكفأت على الكونغو.
ثم يقول: وهذه الجمعية تقاتل الآن (أي: أيام كتابته مؤلفه) بمؤازرة الأسقف "صموئيل كروتز" الزنجي سلطة الإسلام المتدفق في النيجر الغربية.
وفي سنة (1819م) اتفقت جمعية الكنيسة البروتستانتية مع الأقباط، وألفت في مصر إرسالية عهدت إليها بالتبشير في إفريقية الشرقية، وقررت إرسال مبشرين إلى الحبشة، ولكنها فشلت بسبب المنافسة بين اليسوعيين والبروتستانت، ثم أخذ المبشرون السويديون والإنكليز يرتادون غربي إفريقية، وتبعهم مبشرو المدرسة الجامعة، فهبطوا مدينة "ممباسة".
ثم عززت ألمانيا إرسالياتها عقب اتساع مستعمراتها.
وتوافد المبشرون على إفريقية الوسطى عقب بعثة "لفنسنون" و"ستانلي" سنة (1878م) ، فاقتسموا مناطقها مع اختلاف جنسياتهم، بين ألماني واسكوتلندي وانكليزي ومورافي، وقد انتشرت إرساليات هؤلاء بدون انقطاع من شرقي إفريقية إلى أواسطها حتى الخرطوم والحبشة وبلاد الجُلَا.
أما بلاد المغرب فلها مبشرون خاصون بها ترسلهم "جمعية تبشير شمال إفريقية" وهم منتشرون في المغرب والجزائر وتونس وسائر بلاد المغرب، ومنهم المبشرون والأطباء التابعون لهم.
ثم ذكر أن المبشرين البروتستانت يقومون في جزيرة مدغشقر بخدمة مهنتهم بكل جد ونشاط.
ثم يقول متحدثاً عن المبشرين في آسيا الغربية:
كان للمبشر "هنري مارتين" يد طولى في إرسال المبشرين إلى بلاد آسيا الغربية، فبعد أن أقام في الهند مدة عرَّج على فارس والبلاد العثمانية، وتوفي سنة (1812م) وبعده أخذت إرساليات التبشير تشد الرحال إلى الأناضول، وفلسطين واتخذت لها مراكز في إزمير والقسطنطينية وبيت المقدس.
ثم يقول المؤلف: ولما حدثت حوادث سنة (1860م) في سورية توجهت الأنظار إلى جبل لبنان، وبعد عشر سنوات انتشرت لجنة التبشير الأمريكية في البلاد العثمانية عدا سورية.
وعلى إثر تأسيس المركز البروتستانتي في الآستانة سنة (1846م) صارت الآستانة مركزاً عاماً آمناً لأعمال المبشرين.
ثم يقول متحدثاً عن المبشرين في الهند:
انتشرت إرساليات التبشير في الهند عقب إرسالية "جمعية لندن التبشيرية" التي قام بها (كاري) ثم تبعتها الإرساليات الأمريكية، والاسكوتلندية والهولندية والنرويجية وغيرها. وكلها تؤدي وظائفها بنشاط وتقوم بأعمالها بكل دقة.
وقد وقع هؤلاء في الحيرة أول الأمر، لأنهم لم يعلموا بمن يبدأون في التبشير، ثم اكتشفوا خطة التقاط الأطفال الذين يعضهم ناب الفاقة والفقر، فيحسنون إليهم ويستجلبونهم نحوهم. وقرر مؤتمر التبشير الذي عقد في شيكاغو أن ينظر في وسائل تعميم التبشير في الهند.
ثم تحدث عن التبشير في الملايو، وذكر أن أهالي هذه البلاد اقتبسوا شيئاً من مذهب الكاثوليك عقب ظهور البرتغاليين، ومن مذهب البروتستانت بعد استيلاء الهولنديين على هذه البلاد، وقد أبدى الهولنديون قسوة وعدم تسامح في القرون الوسطى لنشر عقيدتهم.
ثم يقول: وفي هذه الأيام (أي: أيام كتب مؤلفه) ذهبت إرساليات كثيرة إلى الملايو لتبشيرهم.
ثم تحدث المؤلف عن التبشير في الصين فقال:
وتاريخ ذهاب إرساليات التبشير إلى الصين يرجع إلى سنة (1813م) ، ولما افتتحت الثغور الصينية بعد ذلك انتشر فيها المبشرون والأطباء والممرضون التابعون لهم انتشاراً هائلاً، واتسع نطاق أعمالهم وجاءت بثمرات كثيرة.
وهكذا يحدثنا (إدوين بلس) عن تاريخ التبشير، وقد استشهد المبشرون أنفسهم بكلامه وأثنوا عليه واعتمدوا على كتابه.
واتسعت دوائر التبشير وتنوعت أساليبها داخل البلاد الإسلامية وبين المسلمين. فلينظر المسلمون ماذا جرى في بلادهم وبين شعوبهم وماذا يجري باستمرار، وهم عن أعدائهم غافلون،ولما يجب عليهم نحوهم مهملون.
3-
المبشر "زويمر" وكتابه "العالم الإسلامي اليوم"
نشر المبشر القسيس "زويمر" الذي كان رئيساً لإرسالية التبشير في البحرين بمؤازرة بعض رفاقه في مهنة التبشير كتاباً بعنوان "العالم الإسلامي اليوم"، جمع فيه طائفة من التقارير والمباحث التاريخية والاجتماعية، مما كتبه المبشرون عن أحوال المسلمين القاطنين في مناطقهم التبشيرية، وخلاصة عن أعمال المبشرين التي قاموا بها في مختلف البلاد، وما نتج عنها من ثمرات لصالح مهمة التبشير.
وقد جاء في مقدمة هذا الكتاب الإلحاح على ضرورة التبشير بين المسلمين، وانتقاد المؤسسات التبشيرية العالمية بأنها ارتكبت خطأ كبيراً بتركها المسلمين وشأنهم، إذ ظهر لها أن أهمية الإسلام هي في الدرجة الثانية بالنسبة إلى ثمانمائة مليون وثني رأت أن تشتغل بهم، ولم تنتبه إلى خطر الإسلام وحقيقة قوته وسرعة نموه إلا منذ ثلاثين عاماً فقط (أي: رجوعاً من تاريخ كتابة زويمر كتابه هذا الذي ظهر في أوائل القرن العشرين) .
وجاء في مقدمة هذا الكتاب أيضاً: أن أبواب التبشير صارت مفتوحة الآن في ممالك العالم الإسلامي، مثل الهند والصين الجنوبية الشرقية ومصر وتونس والجزائر. ومن النصائح التي جاءت فيها للمبشرين ما يلي:
1-
يجب أن يكون تبشير المسلمين بواسطة رسول من أنفسهم ومن بين صفوفهم، لأن الشجرة يجب أن يقطعها أحد أعضائها.
2-
ينبغي للمبشرين أن لا يقطنوا إذا رأوا تبشيرهم المسلمين ضعيفة، إذ من المحقق أن المسلمين قد نما في قلوبهم الميل الشديد إلى علوم الأوروبيين وتحرير النساء.
وفي هذا الكتاب فصل بعنوان "الإسلام في مصر" وقد تضمن هذا الفصل ملخص أعمال المبشرين البروتستانت في مصر، والوسائل التي يتذرعون بها، والنتائج التي توصلوا إليها.
وفيه أن أهم معاهد التبشير التي أنشئت في مصر المعهد الذي أسسته جمعية اتحاد مبشري أمريكا الشمالية سنة (1854م) . وقد استطاع المبشرون منذ هذه الحقبة حتى سنة (1904م) أن يحتكوا المسلمين عن طريق مؤلفاتهم ومدارسهم وعن طريق المحاضرات العامة التي يقيمونها مرتين في كل أسبوع، للموازنة والمناظرة بين الإسلام وبين الدين المسيحي، ويحضر هذه المحاضرات جمع غفير من المسلمين، ويسمح لهم أن يتكلموا. وقد غدا لدى مدارس المبشرين في القطر المصري (3000) ثلاثة آلاف طالب مسلم، وخُمس هؤلاء من البنات المسلمات. وفي سنة (1882م) تأسس في مصر معهد علمي للتبشير، تابع لجمعية تبشير الكنيسة، وله أربعة فروع كما يلي:
الأول: قسم طبي.
الثاني: مدرسة للصبيان.
الثالث: مدرسة للبنات.
الرابع: مدرسة لنشر الإنجيل.
وينشر مبشرو هذا المعهد مجلة أسبوعية، وكراسات ولهم مكتبة خاصة بهم. وكان لأعمال هؤلاء المبشرين نتيجتان:
الأولى: إخراج عدد قليل من الشبان والفتيات عن الإسلام، وغرس العقائد التبشيرية في قلوبهم.
الثانية: تعويد كل طبقات المسلمين أن يقتبسوا بالتدريج الأفكار غير الإسلامية.
وفي سنة (1898م) تأسست الجمعية العامة لتبشير مصر، فكان لها معاهد في الدلتا والسويس، وأخذت تدير مدارس للصبيان والبنات، وتبث فيهم المسيحية، ونشطت هذه الجمعية حتى كان لها مجلة منتشرة جداً وبخاصة بين المسلمين، وكان لها خزائن كتب تحوي كتباً عربية ذات علاقة بالإسلام.
وأقل إرساليات التبشير أهمية في القطر المصري الإرسالية الهولندية،التي تمركزت في قيلوب، ومن أعمالها أنها أنشأت ملجأ تبشيرياً للأيتام.
وقد جاء في هذا الفصل من الكتاب أن العقبة الوحيدة التي تقف في سبيل إرساليات التبشير هي أنه ليس لديها قوة تزيل بها الضرر الذي يحف بالذين يرتدون عن دينهم من المسلمين، بسبب مقاطعة المسلمين لهم.
4-
ما كتبه المبشر المستر "م. هْوُرّي" حول التبشير في الهند
من الذين كتبوا في موضوع "الإسلام وإرساليات التبشير في الهند" المبشر المستر "م. هوري" فقد تكلم عن حالة التبشير في شمالي الهند، وعن انتشار الإسلام ووسائطه، وأشار إلى دعاة جمعية "انجمن الإسلام" وتحدث عن التقدم الفكري والاجتماعي الذي حدث في هذه الجهات، وأن الإسلام عرقل سير التبشير.
وفي حديثه عن تاريخ التبشير في الهند قال: إنه ابتدأ منذ مائة سنة (أي: من أوائل القرن التاسع عشر) وذلك عندما نال المبشر "جيروم كزافيه" اليسوعي إذناً بالتبشير في (لاهور) ، ففتح باب الجدال في مسائل التوحيد والتثليث وألوهية المسيح.
ثم جاء المبشر "هنري مارتين" فوضع أساساً قوياً للتبشير.
ثم تلاه "فاندر" فترجم كتابه "ميزان الحق" من الفارسي إلى الأردية،
وزاد عليه ترجمة كتاب "طريق الحياة" وكتاب "مفتاح الأسرار" وبهذا آثار "فاندر" مجادلات شديدة مع علماء الإسلام في (دهلي) و (أكرا) و (لكنو) .
ثم تحدث عن جمعيات التبشير في شمال الهند فقال: وفي شمال الهند الان (أي: في أوائل القرن العشرين) ما لا يقل عن (12) جمعية تبشيرية بين إنكليزية وأمريكية وأسترالية، وكلها ترمي إلى غاية واحدة.
قال: وقد اشتد انتباه المبشرين إلى مكافحة الإسلام في الأيام الأخيرة،فمنت فيهم فكرة الاختصاص بتبشير المسلمين على إثر كتابات الدكتور "مردوتش"، وبادرت جمعيات متعددة إلى إرسال مبشرين اختصاصيين لهذا الغرض.
أما ثمرة التبشير في أواسط الهند فهي أضعف بكثير من ثمرة التبشير في شمالي الهند، بالرغم من اجتهاد جمعية "تبشير الكنيسة" التي في "مدراس" و"حيدر أباد" وبالرغم من تفاني إرسالية "زنانة التبشيرية" وفوق كل ذلك يكثر في هذه الجهات انتقال غير المسلمين إلى الإسلام، وجمعية "انجمن الإسلام" تنجح دائماً بما لها من النشاط في حمل عدد كبير من غير المسلمين على اعتناق الإسلام.
ومؤتمر المبشرين الذي عقد في القاهرة سنة (1906م) لم يفته البحث في حركة الإصلاح التي دخلت في مسلمي الهند، ولم تفته الإشارة إلى "السير سيد أحمد خان" زعيم تلك النهضة، وما تبذله مدرسته الإسلامية في (عليكرا) ومؤتمر التربية الإسلامية.
وقد خطب القسيس "ويتبرتشّت" في مؤتمر القاهرة بموضوع "الإسلام الجديد" فذكر أن تعاليم أوربا تقرب المسلمين من الاستجابة للمبشرين، ثم قال: يجب أن ننشئ جسراً فوق الهاوية التي تفصل بين العناصر، ولتتوصل إلى ذلك يجب أن ننتفع من وجو الطلبة المسلمين في انكلترا. ويجب أن تلقى محاضرات ودروس منظمة بمراقبة رجال ممتازين. وأن تصرف العناية إلى المناقشات. ويجب أن يوسع نطاق المطبوعات بالأردية، مثل مجلة (ترقي) ، وأن يترجم تاريخ التوراة للدكتور "بلاكي" وأن يتذرع لترويج ذلك بنشر الجرائد والكتب الإنكليزية التي يأنس بها المسلمون المتعلمون.
5-
تقريرات حول التبشير في البلاد العربية
وضع المبشر القسّيس "أناتوليكوس" تقريراً حول موضوع التبشير في البلاد الإسلامية الخاضعة للدولة العثمانية في أوائل القرن العشرين.
فقال في تقريره عن سورية وفلسطين: تقف في طريق تبشير هذه البلاد عقبات خاصة، بعضها من الحكومة وبعضها الآخر ناشئ عن حالة البلاد وموقفها الحاضر، فسورية وفلسطين مملوءتان بالمذاهب المختلفة، وللدين فيهما ارتباط بالسياسة. وأهم الوسائل التي يستخدمها المبشرون لتذليل هذه الصعوبات هي ما يلي:
1-
توزيع نسخ الكتاب المقدس.
2-
التبشير عن طريق الطب، لأنه في مأمن من مناوأة الحكومة له، والمسلمون يلجأون بأنفسهم إلى مستشفيات المبشرين ومستوصفاتهم.
3-
الأعمال التهذيبية كالمدارس والكليات التي تقبل أبناء المسلمين.
4-
الأعمال النسائية، مثل زيارة المبشرات لمنازل المسلمين، وإلقائهن المحاضرات الخاصة.
5-
توزيع الكتب والمؤلفات التبشيرية.
التبشير في الجزيرة العربية
وقد نظر المبشرون إلى الجزيرة العربية بحنق شديد، لأنها قد كانت في يوم من الأيام مشرق شمس الإسلام، ولأن فيها أماكن مقدسة يحج إليها المسلمون في كل عام وافدين من أقطار الدنيا.
فقال المبشر "وليم جيفور بالكراف": متى توارى القرآن ومدينة مكة عن بلاد العرب يمكننا حينئذ أن نرى العربي يتدرج في سبيل الحضارة التي لم يبعده عنها إلا محمد وكتابه!!.
وقال مؤلف كتاب "العالم الإسلامي اليوم" تعقيباً على فكرة "بالكراف": وقد أدرك أهمية هذه الفكرة القسيس "يانغ" صاحب التقرير عن التبشير في جزيرة العرب، فجعلها نصب عينيه في كل الأعمال، قال: ولكننا نتساءل عما
إذا كان قد حان الوقت للعمل بها، وعما تكون نتيجة التبشير حينئذ.
وللمبشر القسيس "زويمر" رئيس إرسالية التبشير في البحرين سَبْقٌ في هذا المضمار، فقد ألف كتاباً سماه "مهد الإسلام"، تحدث فيه عن إرساليات التبشير في الجزيرة العربية، وانتقل بعد هذا إلى ذكر النفقات الجسيمة التي تتكبدها إرساليات التبشير في جزيرة العرب، ومما قاله: إن مرتبات المبشرين والموظفين عندهم وبائعي كتبهم تساوي ثلاثة أضعاف مرتبات أمثالهم في الهند، ومما يخفف أمر هذه النفقات أن المبشرين في بلاد العرب اتخذوا لهم مراكز تمهد لهم سبيل التوغل في داخل الجزيرة.
وكل الإرساليات هناك على اختلاف نزعاتها وأشكالها ومعاهدها الطبية والتهذيبية والأدبية ترمي إلى غاية واحدة، والمرضى يشدون الرحال من أصقاع بعيدة إلى مستشفيات المبشرين في الموصل وبغداد والبصرة والبحرين والشيخ عثمان وعدن. وعندما يرحل الأطباء جائبين البلاد، ينثرون في النفوس بذوراً يمكن للمبشرين وبائعي الكتب أن يحصدوها بعد ذلك، وينمّو غراسها.
والتعليم المدرسي والتربية اللذان يعنى بهما المبشرون قد أسفرا عن نتائج جمة، وأثمرا ثمرات نافعة في الأطفال والمراهقين على السواء.
6-
اهتمام المبشرين بالمرأة
عرف المبشرون ماللمرأة من تأثير على الأسرة، وعلى المجتمع كله بوجه عام، فوجَّهوا شطراً كبيراً من أعمالهم التبشيرية إليها.
ولما كانت المرأة المسلمة الملتزمة بآداب الإسلام بعيدة عن الاختلاط في مجتمعات الرجال، اضطر المبشرون أول الأمر أن يضموا إليهم فريقاً من المبشرات اللواتي يحملن مهمة التبشير إلى النساء المسلمات، كما بدا لهم أن يؤسسوا جمعيات نسائية، كجمعية الشابات المسيحيات، وأن يؤسسوا مدارس للبنات
على نسق المدارس التي أسسوها للذكور، وأن يوجهوا عناية لفتح المدارس الداخلية، لأن فرص التأثير فيها أكثر، وأن يشجعوا التعليم المختلط، وأن يفتحوا دوراً خاصة بالطالبات تشرف عليها طائفة من المبشرات، وأن يقيموا الأندية النسائية والمخيمات الكشفية النسائية، ثم ما زالوا يتدرجون في كسر الحواجز بين الذكور والإناث، حتى شاعت المجتمعات المختلطة بين المسلمين والمسلمات بتأثير العدوى والسِّراية.
وصفق المبشرون كثيراً ابتهاجاً وسروراً حينما فتحت المرأة المسلمة أبوابها، ونزعت عنها جلبابها، لأن ذلك قد أتاح لهم كل الفرص الملائمة للتغلغل عن طريقها إلى داخل الأسرة المسلمة كي يبثُّوا ما يريدون بثَّه من تعاليم تمليها عليهم مهمَّاتهم التبشيرية.
يقول نفر من المبشرين: "بما أن الأثر الذي تحدثه الأمّ في أطفالها - ذكوراً وإناثاً- حتى السنة العاشرة من عمرهم بالغ الأهمية، وبما أن النساء هنّ العنصر المحافظ في الدفاع عن العقيدة، فإننا نعتقد أن الهيئات التبشيرية يجب أن تؤكد جانب العمل بين النساء المسلمات، على أنه وسيلة مهمَّة في التعجيل بتحويل البلاد الإسلامية إلى المسيحية".
وفي مؤتمر القاهرة التبشيري الذي عُقد في عام (1906م) قدَّم الأعضاء المبشرات النداء التالي:
".... لا سبيل إلا بجلب النساء المسلمات إلى المسيح. إن عدد النساء المسلمات عظيم جداً.... فكل نشاطٍ مجدٍ للوصول إليهن يجب أن يكون أوسع مما بذل إلى الآن، نحن لا نقترح منظّمات جديدة، ولكن نطلب من كلّ هيئة تبشيرية أن تحمل فرعها النسائي على العمل واضعة نصب عينيها هدفاً جديداً، هو الوصول إلى جميع نساء العالم المسلمات في هذا الجيل..".
وحين سمع القسيس الدكتور "صموئيل زويمر" قطب التبشير الصليبي الشكوى من استعصاء المسلم على المبشرين، وعجزهم عن التأثير في قلبه، أبان في تعقيبه: أنه ليس غرض التبشير التنصير فقط، ولكن أقصى ما يجب على المسلم عمله هو تفريغ القلب المسلم من الإيمان بالله، ثم قرر لهم أن أقصر
طريق لذلك هو اجتذاب الفتاة المسلمة إلى مدارسهم بكل الوسائل الممكنة، لأنها هي التي تتولى عنهم مهمة تحويل المجتمع الإسلامي وسلخه من مقومات دينه.
وقد ابتكر المبشرون وسيلة لتصيّد الفتيات اللاتي يتعرضن لأزمات عاطفية أو عائلية أو اقتصادية، والتأثير عليهن وتبشيرهن، وقد لخّص هذه الوسيلة مؤتمر قسنطينة التبشيري، الذي انعقد في الجزائر بما يلي:
"إن الحاجة الملحة المستعجلة إنما هي إلى إنشاء بيت أو بيوت للفتيات المطلّقات وللأرامل الصغار، ويجب أن لا تكون هذه البيوت مؤسسات كبيرة، بل أماكن يخيم عليها الجو العائلي، ثم تفرق النساء فيها حسب أحوالهن وحاجاتهن، وكذلك مُكثُ هؤلاء النسوة في تلك البيوت يجب أن يطول أو يقصر حسب المقتضيات الشخصية لكل واحدة منهن....
وأخيراً نرى أن أمثال هؤلاء النسوة يكُنّ في أثناء مكثهن في هذه البيوت تحت تأثير الإنجيل، ثم إننا نختار منهم أولئك اللواتي يرجى أن يُمرّنّ أكثر من غيرهنّ، ليكنّ بدورهنّ مبشرات بين قومهنّ. ولقد اعتنق الإفرنسيون أيضاً هذا الرأي في التبشير بين النساء".
وهكذا تتنوع أساليب المبشرين، وتتعدد وسائلهم، ولا تعدو جميعها أن تكون فخاخاً للصيد، والذي يؤسف له أن التبشير ليس له غاية في ذاته، لأنه لا يدعو إلى حق تدعمه الأدلة العقلية أو الأدلة العلمية، إنما يدعو إلى دين دخل التحريف والتبديل إلى أصوله الكبرى، ولا يستمسك أتباعه به إلا بدوافع التعصب الأعمى، ومعظم أهداف التبشير تتجه أخيراً إلى تحقيق أهداف الدول الاستعمارية الطامعة بديار المسلمين وبخيراتهم.
7-
يتخوف المبشرون من الإسلام أكثر مما يتخوفون من أية قوة أخرى
لقد كان جميلاً بالمبشرين وهم يدعون أنهم أنصار رسالة سماوية أن يتآزروا مع المسلمين لمحاربة الإلحاد بالله، ولنشر الخير والفضيلة بين الشعوب،
ومقاومة الشر والرذيلة، وإقامة العدل والأمن والسلام العالمي، ونظائر هذه الأمور التي تلتقي عليها الأصول الصحيحة للشرائع السماوية كلها.
فإن لم يحلُ لهم التآزر مع المسلمين فلا أقلّ من تجنب كلٍّ من الفريقين حقول عمل الفريق الآخر، وأماكن سيادته، أو تجنُّب التماس والتصادم،حتى لا يظفر دعاة الإلحاد بالله، وحملة الوجودية أو الفوضوية المطلقة، بكلٍ منها.
إلا أن كل الدلائل القولية والفعلية ما زالت تدل على أن المبشرين ينظرون إلى ألإسلام -وهو خاتم الأديان الربانية وصاحب سفينة النجاة العالمية المشحونة بالحق والخير والفضيلة والجمال- بتخوف شديد، أكثر مما يتخوفون من الكتل البشرية الهائلة، التي قد تجمع نحو ثلث سكان الأرض في دولة واحدة، لا تدين بالديانة المسيحية.
فهل بلغت في نفوس المبشرين عوامل التنافس بينهم وبين المسلمين من القوة والشدة أكثر مما بلغته عوامل العداء الحقيقي بينهم وبين دعاة الإلحاد بالله والكفر به وإنكار كل رسالة ربانية أنزلها الله لعباده على ألسنة رسله؟
لقد كان على المبشرين أن يوجهوا كل جهودهم لعدو الأديان المشترك، الذي لا يفرق بين دين ودين، ولا بين مذهب ومذهب، وإنما يرفع لواء المادية والوجودية ويفاخر بعقائده الكافرة بكل رسالة ربانية، وقد غزت هذه الدعوات الإلحادية معظم شعوبهم، فبينما تعمل جيوشهم التبشيرية في البلاد الإسلامية التي لا تعطيهم خلال عشرات السنين إلا أضعف الثمرات لصالح أهداف التبشير بالمسيحية، تنتشر جيوش الإلحاد من وراء ظهورهم غازية بلادهم غربية كانت أم شرقية، وغازية أبناء جلدتهم،بمبادئها الوجودية، وأخلاقها المنحلة، ومذاهبها الاجتماعية الهادمة لكل المعاقل الدينية، التي بناها أسلافهم خلال عشرين قرناً مضت في أوربا وأمريكا وسائر بلاد الدنيا، وأمست هذه الجيوش الإلحادية تعيث في بلادهم فساداً. فأين المبشرون من مصادر الخطر الحقيقية على دينهم إن كانوا صادقين مع رسالتهم الدينية التي يزعمون أنهم يحملونها للناس؟!
أما الإسلام فلا خطر على الحق والخير والعدل والأديان السماوية من قِبَله، لقد استطاع المسلمون خلال أربعة عشر قرناً، بما فيها أيام مجدهم وقوتهم ودولتهم الكبرى، أن يعيشوا في ودٍ ووئام وبعدٍ عن كل تصادم ديني - إلا ما كان من قبيل الدفاع - مع سائر المنتسبين إلى الأديان السماوية الأخرى، وإن كانت محرفة في نظره، وانتهى دور العمل بها.
فما بال المبشر "لورنس براون" يقول: " لقد كان نخوف بشعوب مختلفة، ولكننا بعد اختبار لم نجد مبرراً لمثل هذه المخاوف، لقد كنا نخوف من قبل بالخطر اليهودي، وبالخطر الأصفر،وبالخطر البلشفي، إلا أن هذا التخوف كله لم يتفق كما تخيلناه، إننا وجدنا اليهود أصدقاء لنا، وعلى هذا يكون كل مضطهد لهم عدونا الألد، ثم رأينا أن البلاشفة حلفاء لنا، أما الشعوب الصفر فهنالك دول ديمقراطية كبرى تقاومها.... ولكن الخطر الحقيقي كان في نظام الإسلام، وفي قوته على التوسع والإخضاع، وفي حيويته، إنه الجدار الوحيد في وجه الاستعمار الأوربي"؟!.
هذا كلام أحد أقطاب المبشرين في العالم، ولو أنه كان يهودياً لم يزد في حديثه عن اليهود على ما قال، مع أن الشعوب النصرانية تعاني من الكيد اليهودي لدينها ومجتمعاتها ولكل مقوم من مقوماتها أكثر مما عانته الشعوب المسلمة، بما في ذلك مشكلة فلسطين التي استخدم اليهود الدول النصرانية لدعمهم فيها ضد المسلمين.
ولا عجب بعد هذه النصيحة التي قدمها هذا المبشر للشعوب النصرانية، والنصائح المماثلة التي يقدمها زملاؤه، أن نجد دولاً كبرى في العالم تدعم باطل اليهود ضد حق المسلمين، وأن نجد دولاً مختلفة في مذاهبها العقائدية والاجتماعية تتصافح وتتآزر فيما بينها لمقاومة الإسلام.
وليس لنا أمام هذه القوى العالمية المتآزرة ضدنا إلا أن نكافح ونصبر ونصمد ونقول: والله من ورائهم محيط، وهو حسبنا ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
8-
السياسة التعليمية عند المبشرين
تنحصر السياسة التعليمية عند المبشرين بأنها سياسة تهدف إلى استخدام العلم وسيلة لأغراض التبشير من جهة، ولأغراض الدول الاستعمارية من جهة أخرى.
وبمقدار ما يحقق التعليم لهم من هذه الأغراض يوسعون فيه ويضيّقون منه، ويوجِّهون مناهجه وخططه الدراسية، والكتب المصنفة له والوسائل المستخدمة فيها والعناصر التعليمية التي تمارسه وتشرف عليه.
ونجد في أقوال المبشرين حشداً كبيراً من النصوص الدالة على أن التعليم عندهم لم يكن إلا وسيلة لتحقيق أغراض المبشرين.
يقول نفر من المبشرين: "إن أهداف المدارس والكليات التي تشرف عليها الإرساليات في جميع البلاد كانت دائماً متشابهة. إن المدارس والكليات كانت تعتبر في الدرجة الأولى وسيلة لتحقيق أهداف التبشير.... حتى إن الموضوعات العلمية البحتة التي تُعلّم من كتب غربية وعلى أيدي مدرسين غربيين تحمل معها الآراء التبشيرية....".
ويرى المبشِّر "هنري هريس جَسَب""أن التعليم في الإرساليات التبشيرية إنما هو وسيلة إلى غاية فقط، هذه الغاية هي قيادة الناس وتعليمهم حتى يصبحوا أفراداً مسيحيين وشعوباً مسيحية، ولكن حينما يخطو التعليم وراء هذه الحدود ليصبح غاية في نفسه، وليخرج لنا خيرة علماء الفلك وعلماء طبقات الأرض وعلماء النبات، وخيرة الجراحين والأطباء في سبيل الزهو العلمي.... فإننا لا نتردد حينئذٍ في أن نقول: إن رسالة مثل هذه قد خرجت عن المدى التبشيري إلى مدىً علماني محض، إلى مدىً علمي دنيوي....".
ويقول "هنري هريس جَسَبْ" أيضاً: "إن المدارس شرطٌ أساسي لنجاح التبشير، وهي بعد هذا وسيلة إلى غاية،لا غاية في نفسها، لقد كانت
المدارس تسمّى بالإضافة إلى التبشير: (دقَّ الإسفين) وكانت على الحقيقة كذلك في إدخال الإنجيل إلى مناطق كثيرة لم يكن بالإمكان أن يصل إليها الإنجيل أو المبشرون من طريق آخر".
ويرى بعض المبشرين: "أن المدارس قوة لجعل الناشئين تحت تأثير التعليم المسيحي أكثر من كل قوة أخرى، ثم إن هذا التأثير يستمر حتى يشمل أولئك الذين سيصبحون في يوم ما قادة في أوطانهم".
ونلمح في هذا الغرض السياسي الذي ظهرت آثاره فيما بعد،إذ تسلَّم القيادة السياسية في بلاد كثيرة من بلاد المسلمين، من تخرَّجوا عل أيدي المبشرين وحملوا في نفوسهم ما أراد المبشرون أن يحملوه،وأخذوا يطبقون المناهج والخطط الدراسية التي تخدم ما حملوه في نفوسهم من نفثات أعداء الإسلام والمسلمين.
ولم يكن في استطاعة السياسة التعليمية عند المبشرين أن تتسامح في أمر يمسّ هدف التبشير، فلم يكن في استطاعتها أن تقبل في مدارسها معلمين من المسلمين لأبناء المسلمين الذين يفدون إليها، مهما كانت قدرتهم العلمية وكفاءتهم التعليمية، لأن قبول مثل هؤلاء المعلمين يعتبر من وجهة نظر المبشرين مؤثراً على الأهداف التبشيرية، ولئن قبلت بعض المعلمين من المسلمين فلغرض التمويه، وإخفاء التعصب ضدّهم.
عهد مؤتمر القدس التبشيري الذي انعقد في نيسان سنة (1935م) إلى المبشر "هـ دانبي" بأن يضع كتاباً توجيهياً، يتضمن ما وصل إليه المؤتمرون من الملاحظات والآراء، فوضع هذا الكتاب الذي عُهد به إليه،وقد جاء فيه ما يلي:
"ثم يتسع الشك على كل حال حينما نأتي إلى استخدام معلم غير مسيحي ليعلم موضوعات لا نجد لتعليمها معلماً مسيحياً، أجل: إن البراعة في التعليم
لا صلة لها بدين المعلم، ومما لا ريب فيه أن معلماً مسلماً ذا خبرة بمهنته وذا كفاءة، يمكن أن يكون له من الجاذب الشخصي وقوة الخلقِ والشعور بالواجب ما يجعل منه معلماً يبعث الحياة في طلابه، أو مربياً صالحاً، ثم هو يمكن أن يؤثر في طلابه أكثر من المعلم المسيحي المجرَّد من الصفات التي يتصف بها ذلك المعلم المسلم، ولكن إذا كانت الغاية من التعليم في المدارس التبشيرية - كما يجب أن تكون - إنما هي تزويد الطلاب باستشراف مسيحي للحياة، وتمرين لهم على ممارسة المبادئ المسيحية، وتقريبهم من اختبار شخصي للإيمان المسيحي، فكيف للمسلم الأمين أن يعاوننا على بلوغ هذه الغاية؟ ثم إذا كان هو يعتقد بهذه الغاية، ولكنه لا يخطو خطوة يصبح بها مسيحياً، أفلا يكون له حينئذٍ على تلاميذه تأثير سلبي، فيستنتجون من سلوكه أن الدين ليس موضوعاً ذا أهمية حاسمة؟ ".
هذا هو تفكيرهم تجاه أي معلم مسلم. فكيف نحن المسلمين أن نضع أبناءنا في أحضان المبشرين، يعلمونهم كما يشاؤون؟ وكيف نرسل أبناءنا إلى المستشرقين الذين هم مبشرون في معاهد العلم الكبرى، أو أنصاف مبشرين، يخدمون أغراض التبشير وأغراض بلادهم الاستعمارية؟ ونبعثهم لا لتعلم العلوم البحتة، وإنما لتعلم العلوم الإنسانية أو العلوم الدينية والعربية،أفنريد أن نجعل الأزهر أو كليات الشريعة في العالم الإسلامي فروعاً للكنيسة في بلاد المسلمين؟!.
أفلا يتدبرون المسلمون أمرهم من قبل أن يفلت الأمر نهائياً من أيديهم.
9-
المدارس الأجنبيّة والتبشيرية
فتن المترفون من المسلمين بمظاهر العناية التعليمية والتربوية التي تقدمها المدارس الأجنبية والتبشيرية للتلاميذ الذين يتعلمون ويتربون فيها، وفتنوا بما فيها من تعليم جيد للتكلم باللغات الأجنبية، فصاروا يتسابقون إلى دفع أبنائهم وبناتهم إليها، ويبذلون لأصحابها الأجور الشهرية أو السنوية الكبيرة،
ثمن قبول أبنائهم تلاميذ فيها.
وتقبل هذه المدارس أبناء أثرياء المسلمين وبناتهم بصلف ظاهر، وزهد متصنع في بعض الأحيان، مع لهفة شديدة مكتومة إلى قبولهم،لأن المشرفين على هذه المدارس يعلمون أنهم كلما قبلوا وافداً جديداً من أبناء المسلمين وبناتهم فقد ظفروا بصيد جديد، وسرقوا من ذرياتهم عجينة لينة بكراً، يطبعونها كما يشاؤون، ويصورونها كما يريدون، ويخرجونها من الإسلام إخراجاً سهلاً، وهم يأخذون من أوليائها الأجر الباهظ على ذلك.
ويعيش هؤلاء الأبناء ضمن هذه المدارس غرباء في كل شيء،غرباء في الدين، وغرباء في اللغة،وغرباء في التقاليد والعادات، ثم تلجئهم الضرورة إلى التكيف مع الواقع الذي يعيشون فيه،وتقليد كل ما يشاهدونه، ومحاكات الأوضاع الاجتماعية التي تفرض عليهم. وبعد فترة من الزمن تصبح هذه الأمور التي اقتبسوها بالمحاكاة والتقليد ومحاولة التكيف مع الواقع جزءاً من حياتهم وأسلوباً محبباً. فإذا رجعوا إلى أهليهم نفروا من واقعهم واستنكروه، وشعروا بأنهم غرباء، ووقعوا في صراع عنيف بين الحياة التي نشأوا عليها في مدارسهم، وبين الحياة التي يشعرون بأنها حياة أهلهم وقومهم، ولكن تأثير الحياة التي عاشوها في هذه المدارس المنطلقة من القيود الدينية وقيود المجتمعات الإسلامية، والمزينة بمظاهر الأناقة والترتيب والنظام، تظل أقرب إلى أهوائهم ونفوسهم وما يشتهون.
لذلك فهم يحاولون بكل وسيلة أن يعملوا على تحويل واقع أسرهم وواقع مجتمعهم، حتى يكونوا صورة للحياة التي عاشوا في هذه المدارس، يهودية كانت أو نصرانية أو ملحدة كافرة بكل الأديان الربانية.
وبعد سنوات التعليم ذات العدد، يخرج الأبناء والبنات بزاد واسع من اللغات الأجنبية، وبجهل كبير باللغة العربية، لغة قومهم ودينهم، وبجهل بتاريخ أمتهم وتشويه له، وبجهل تام بالإسلام وبمصادره من قرآن وسنة، يضاف إلى ذلك ما يحملون من ميل إلى أساليب الحياة غير الإسلامية، وطرائق السلوك المجافية لأخلاق المسلمين وآدابهم.
وقد عانيت ألماً شديداً حينما رأيتُ بعض أبناء المسلمين المنتسبين إلى هذه المدارس يحسن التكلم باللغة الإنكليزية أو الفرنسية أكثر مما يحسن التكلم بالعامية الشائعة في مجتمعه العربي، فضلاً عن اللغة العربية الفصيحة، لغة قومه ولغة دينه ولغة القرآن المجيد. وزاد ألمي كثيراً حينما طلبت من أحدهم أن يقرأ سورة الفاتحة فلم يحسن قراءتها، لأنه لم يتعلمها ولم يكلف حفظها فيما سلف من عمره.
والأشد من كل ذلك ما يتعلمه هؤلاء التلاميذ في هذه المدارس من أكاذيب وأضاليل وتشويهات متعمدة للحقائق عن الرسول محمد، وعن القرآن الكريم وعن الحديث الشريف،وعن التاريخ الإسلامي وعن مقاصد الشريعة وعن أحكامها وعن كل ما يتعلق بالإسلام والمسلمين عرباً أو غير عرب.
وقد ذكر لي منتسبون إلى بعض هذه المدارس المؤسسة في بعض بلاد العربية زمرة مما يدرسونه فيها عن الإسلام وتاريخ العرب وسائر المسلمين، وما يدرسونه عن محمد في الكتب المدرسية المقررة عليهم، والمكتوبة باللغات الأجنبية التي يدرسونها فيها. فنالني ذهول لم أستطع دفعه لهول ما سمعت من أكاذيب، وتشويه للحقائق العلمية المعروفة في بدهيات الإسلام وتاريخ المسلمين،ولا يمكن أن يعزى ذلك إلى مجرد الجهل، بل إلى مبلغ الحقد الذي تحمله، والكيد الذي تكيده هذه المؤسسات التعليمية للإسلام والمسلمين، وهو ما يدفعها إلى أن تسلك مسالك الكذب على الحقائق العلمية الناصعة، وتقدمه إلى رواد معارفها باسم العلم، وتحت ستار المعرفة النزيهة البعيدة عن التحيز والتعصب. وهي المعرفة التي تفرض على ناشديها أن يكونوا صادقين في عرضها، مهما كانت مخالفة لأهوائهم ولما يشتهون.
ولكننا إذا تدبرنا في الغاية التي أسست هذه المدارس من أجلها لم يخف علينا أنها أبعد المؤسسات التعليمية عن العلم الصحيح، والنزاهة العلمية، لأنها في جميع ما تقدمه إلى طلابها من أبناء المسلمين تهدف إلى محاربة الإسلام في الصميم،وهدم كيان جماعة المسلمين.
ومن مفتريات هذه المدارس التبشيرية على الإسلام
ولهذه المدارس التبشيرية المعادية للإسلام مفتريات كثيرة عليه، منها ما يلي:
1-
من عجيب النبأ ما ذكر لي بعض الطلبة من أبناء المسلمين الذين يدرسون في بعض هذه المدارس، أن من الشائع في المدرسة التي يتلقى تعليمه فيها أن القرآن الكريم من وضع الراهب بَحيرى، وأن هذا الراهب قد أخذ الإنجيل وصاغه صياغة جديدة، وزاد عليه التشريعات التي توافق زمنه، وهي التي تطابق ما جاء في السور المدنية، ثم إن هذا الراهب قد أعطى كل ذلك لمحمد، فتبناه وسماه قرآناً.
ومن عجيب هذه الفرية المختلقة الحديثة، التي يتعلمها أبناء المسلمين في بعض المدارس التبشيرية النصرانية أنها لا تستند إلى أية أكذوبة تاريخية، سبق أن افتراها معاد قديم للإسلام، وأن بدهيات التاريخ تثبت وقاحة مفتريها البالغة، وتحديهم الأحمق للحقائق التاريخية الناصعة.
فمن أية شبهة تصيد هؤلاء الأفاكون فريتهم هذه على رسول الله وعلى القرآن الكريم كتاب الله، وظاهر في هذه الأخبار عن الرهبان تأكيد نبوة الرسول محمد بما عند أهل الكتاب من بشارات وعلامات لا تنطبق إلا عليه.
وهل يليق بالأمانة العلمية المجردة أن يلجأوا إلى تضليلٍ مثل هذا التضليل، وإلى افتراء مفضوح مكشوف مثل هذا الافتراء.
إن فريتهم هذه أقل شأناً من فرية مشركي العرب، إذ زعموا أن النبي كان يتعلم القرآن الكريم من رجل أعجمي كان في الحجاز، فأنزل الله قوله في سورة (النحل/16 مصحف/70 نزول) :
2-
ومن التحويرات في الحقائق التاريخية التي تدسها المدارس التبشيرية
والأجنبية والمستشرقون في عقول أبناء المسلمين الذين يتلقون علومهم على أيدي علماء الإسلام، زعمهم أن الفتح الذي قام به العرب المسلمون إنما كان توسعاً عربياً لا امتداداً إسلامياً.
ويركزون على هذا التضليل كثيراً من البحوث التاريخية والاجتماعية وغيرها، ويهتمون باختيار الأسئلة الموجهة على وفقه، ويطرحون هذه الأسئلة في الامتحانات التي يتوقف عليها نجاح تلاميذهم أو رسوبهم، ويشحنون بهذه الأكاذيب عقول أبناء المسلمين، ويسمونها علوماً، وذلك من أدهى وسائل التضليل، وهو شرٌ من الجهل، لأن الجاهل يظل صامتاً فلا يتحدث بما لا يعلم، ويتلقّف العلم من العالم به،ولكن الذي يُلقّن الأكاذيب على أنها من الحقائق العلمية، ويأخذ بذلك الشهادات العالية، يرفع نفسه إلى مستوى العلماء، ويقدمه المجتمع بسبب شهاداته إلى سدة القيادة التعليمية، فينشر في أمته ما كان قد تلقاه من إفك في مدارس أعداء الإسلام.
إن الدعوى التي يزعمون فيها أن الفتح الذي قام بها العرب المسلمون قد كان توسعاً عربياً لا إسلامياً لا تستند إلى حقيقة تاريخية، وإنما هي أوهام لا وجود لها إلا في نفوس أعداء الإسلام الحاقدين، الذين أكل الحقد قلوبهم من ظاهرة الفتح الإسلامي الذي حار فلاسفة مؤرخيهم في تعليله تعليلاً مادياً، لأنهم أبعدوا أنفسهم عن تعليله تعليلاً دينياً إسلامياً، فأوقعوها في متاهات مظلمة لا يهتدون فيها إلى ما يشفي تعطشهم لمعرفة السبب الحقيقي، فأخذوا يرشقون التاريخ الإسلامي بسهامٍ مسمومة، بغية أن يفرقوا الشعوب الإسلامية غير العربية عن العرب المسلمين، ويهدموا كتلتهم العالمية الكبرى.
ولدى مناقشة هذه الدعوى المفتراة، لا بد أن نضع آثار الفتح الذي قام به العرب المسلمون، في ميدان الموازنة بين ما جناه الإسلام من الفتح وما استفاده العرب منه، ثم نضع في جانب آخر آثار الغزو الذي قامت به الدول الاستعمارية والخيرات التي جنتها هذه الدول ونقلتها إلى بلادها،
من البلاد التي استعمرتها حقبة من الزمن، تحت ستار بعض الشعارات الإصلاحية، التي كانت تزعم أنها تهدف إليها.
إن نظرة سريعة إلى واقع حال الجزيرة العربية التي انطلق منها الفاتحون المسلمون من العرب، تكشف أن مدن هذه الجزيرة قد بقيت أكثر البلاد الإسلامية فقراً، وتخلفاً عن مظاهر الغنى والتقدم العمراني، حتى قبيل منتصف القرن العشرين وظهور البترول فيها هو الذي جعلها تبدأ في مسايرة التقدم العمراني.
بينما نشاهد الآثار العربية الإسلامية العظيمة، التي تكشف للأجيال صورة تقدم الحضارة الإسلامية الباهرة، موجودة في معظم المدن الواقعة خارج حدود الأرض التي انطلق منها الفاتحون من العرب والمسلمين.
ففي الشام والعراق وإيران وتركيا والهند ومصر والمغرب والأندلس، وغيرها من الأقطار التي فتحها العرب المسلمون،آثار باهرة عظيمة، تشهد للفتح الإسلامي بظاهرة التقدم المدني الحضاري،أما مكة والمدينة وسائر مدن وقرى الجزيرة فقد بقيت على حالها، لم تلبس لباس أصغر المدن الأخرى التي عمرها الفاتحون المسلمون من العرب.
فلو كانت الغاية من الفتح غاية عربية لا إسلامية، لاستطاع الفاتحون العرب بكل سهولة أن ينقلوا الأموال الكثيرة التي كانت تتدفق عليهم من أقطار الأرض إلى داخل جزيرتهم، ويجعلوها صورة رائعة لمملكة عربية ذات مجد تليد، كما فعل بعض أجدادهم حينما ظفروا بملك صغير في بعض المناطق العربية، كتدمر والحيرة.
ولكنها الحقيقة التاريخية الخالدة، التي لا تغيرها أوهام المحرفين لحقائق التاريخ، وهي أن الفتح قد كان فتحاً إسلامياً بحتاً، ومن أجل ذلك استقبلته شعوب الأرض استقبال الأرض الظامئة للسحاب المثقلات بالخصب والخير الكثير، ومن أجل ذلك انصهرت شعوب كثيرة في لغة الفاتحين، وهجرت لغاتها الأولى.
وفي مقابل هذه الصورة الرائعة الخالدة نشاهد صورة الدول الاستعمارية التي افترست أمماً وحضارات، كيف صنعت بالبلاد التي دخلتها، وكيف أفقرتها، وكيف نقلت خيراتها إلى بلادها بكل وسيلة من وسائل السلب والنهب والاستيلاء، لأن غزوها قد كان لصالح قومياتها وشعوبها، لا لصالح الشعارات التي حملوا رايتها كاذبين.
3-
ذكر لي بعض أبناء المسلمين الذين يتلقون علومهم في هذا النوع من المدارس التبشيرية المعادية للإسلام، أن مما يحاوله المعلمون فيها إقناع أبناء المسلمين من طلابهم بأن المسلمين يعبدون الكعبة وهي حجارة مبنية، ويعبدون الحجر الأسود فيسجدون له ويقبلونه. وغرضهم من ذلك إلقاء الشبهة بأن عبادات المسلمين لون من ألوان العبادات الوثنية، التي ينكرها المسلمون على غيرها ممن يتخذون من البشر آلهة يعبدونها، ويعبدون صورها وأوثانها من دون الله.
ويطمسون بهذا التمويه والتشويه وجه الحقيقة الناصع، الذي عليه العبادات والمناسك الإسلامية، مع أنه ليس بخفي على باحثيهم أن الإسلام حينما أمر بالاتجاه للكعبة في الصلاة، وأمر بالطواف حولها، قد أثبت في قلوب المسلمين مجموعة من العقائد التي هي من أسس العقيدة الإسلامية، وهي العقائد التالية:
العقيدة الأولى: أن الكعبة بناء أرضي لا يضر بذاته ولا ينفع.
العقيدة الثانية: أن الصلاة وسائر أشكال العبادات إنما هي لله وحده لا شريك له.
العقيدة الثالثة: أن الاتجاه إلى الكعبة ليس بحال من الأحوال عبادة لها، وإنما هو طاعة لأمر الله، وقد أمر الله بالاتجاه إليها توحيداً للجهة التي يتجه إليها المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها، حينما يعبدون الله في صلاتهم، وليس اتجاههم إليها عبادة لها،كما أن سجودهم ووضع جباههم على الأرض ليس عبادة للأرض.
العقيدة الرابعة: أن من يقصد عبادة الكعبة حينما يتجه إليها في الصلاة فإنه يشرك بالله الواحد الأحد، ويتخذ الكعبة إلهاً من دون الله، كما يتخذ عُبَّاد الأوثان أوثانهم آلهة من دون الله، ويخالف بذلك أسس العقيدة الإسلامية ويخرج عن دائرتها.
وتأسيساً لهذه العقائد قال الله تعالى في سورة (البقرة/2 مصحف/87 نزول) :
وقال تعالى فيها أيضاً:
وبياناً لمعنى المسجد الحرام ليس إلا قبلة يتجه المسلمون شطرها حينما يعبدون الله في صلواتهم قال الله تعالى مخاطباً رسوله محمداً، ثم مخاطباً سائر المؤمنين في سورة (البقرة) :
ومن الأمور البدهية أن ضرورة توحيد جماعة المسلمين تستدعي تحديد شكل عبادتهم لله تعالى، وتستدعي توحيد الجبهة التي يجب أن يتجهوا جميعاً إليها حينما يعبدون الله تعالى، وقد اختار الله من أرضه الواسعة مكاناً غير ذي زرع من أمكنتها،وجعل له تاريخاً دينياً مجيداً على أيدي صفوة من أنبيائه ورسله،فكان أول بيت عبادة وضعه الله
للناس، مُطَهَّراً للطائفين والعاكفين والركع السجود، قال الله تعالى في سورة (آل عمران/3 مصحف/89 نزول) :
وقال تعالى في سورة (الحج/22 مصحف/103 نزول) :
وأما الحجر الأسود فمعاذ الله أن يعبده أحد من المسلمين وإن لمسوه وقبلوه، مهما كذب عليهم أعداء الإسلام،وما الحجر الأسود في نظر المسلمين إلا كأحد الحجارة التي خلقها الله في كونه، ولكن كما جعل الله الكعبة قبلة يتجه إليها المسلمون في صلواتهم، ويدورون حولها حينما يعبدون الله في طوافهم، جعل الحجر الأسود مشيراً إلى ركن من أركان الكعبة، الذي تبتدئ أشواط الطواف عند محاذاته، وما لمسه وتقبيله إلا رمز مبايع الله على الإخلاص له في العبادة، وهو المنزه عن التشبيه بأي مخلوق مادي، كما هو لون من ألوان عبادة الله المسنونة كالسجود لله على الأرض ومعلوم أن أي ساجد على الأرض لا يعبد مكان سجوده.
وبياناً لهذه الحقيقة قال عمر بن الخطاب مخاطباً الحجر الأسود بعد أن قبَّله: "إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله يقبلك ما قبلتك".
4-
ومن الأمثلة ما أعلنته الصحف مؤخراً عن طرد المعلمة البريطانية "شيلابورتر" ناظرة المدرسة الإنكليزية بالدوحة، ومؤلفة كتاب:"العصور الوسطى" وإغلاق هذه المدرسة التبشيرية.
فقد جاء في كتابها هذا الذي كان يدرَّس في المدرسة للطلاب العرب
والأجانب في قطر الدسائس والأباطيل المفتريات التالية:
الأولى: أن الإسلام منقول عن الثقافة الهيلنية الإغريقية. ومتأثر بالفلسفات اليونانية والوثنية.
الثانية: أن الإسلام أذاب شخصية الفرد وقضى على كبريائه خاصة في البلاد التي شهدت الفتوحات الإسلامية.
الثالثة: أن الإسلام جعل الإنسان المسلم غيبياً واتكالياً "ميتافيزيقيا" بتأكيده على مبدأ القناعة والتوكل والاعتماد على القضاء والقدر.
الرابعة: أن الإسلام غذَّى النزعة الحربية والعدائية تجاه الشعوب، ودرَّب أنصاره على مبدأ الحرب.
الخامسة: أن الإسلام جعل المسلم يركع ويمرّغ جبهته في الأرض خلال صلواته خمس مرات يومياً، لتكون العبادة مسألة شكلية ليس إلا.
السادسة: أن الحضارة التي ينسبها المسلمون إلى أنفسهم، ليست إلا حضارة هندية أو إغريقية أو فارسية، وليس للعرب سوى الاقتباس والأخذ عن هذه الحضارات.
السابعة: أن الفتوحات الإسلامية اعتمدت على تدمير الشعوب،وإذلال المجتمعات التي وقعت تحت رحمة الغزو العربي الإسلامي.
الثامنة: أن الرسول محمداً () شخصية ذات سطوة قمعية، ترى أن الرأي رأيها، ولأنه سليل أسرة قرشية عريقة،فقد فرض زعامته عن طريق جده، وساعدته خديجة في تمكين هذا النفوذ، لأنه لم يكن مفكراً بل كان أمياً.
وغير ذلك من افتراءات واضحة، يستطيع أن يكشف زيفها أصغر طلاب العلوم الإسلامية ، ولكن المبشرين يلقون هذه الزيوف على طلاب المدارس الابتدائية الذين تقل أعمارهم عن (12) سنة.