الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(1) الحروب الصليبية وخيبتها وتحول اتجاهها
- العوامل التي مهّدت لطمع الصليبيين بالمسلمين
تواطأت الدول النصرانية كلُّها على الإسلام والمسلمين منذ بيَّتَت المكيدة، ودبرت الخطة، وأعدت العدة للحروب الصليبية، ثم قامت فعلاً بهذه الحروب، وقدمت لها حشوداً كبيرة من رجالها، وأموالها، وأعتدتها، وواتتها فرصة العمل، لأن المسلمين قد أمسَوا في واقع من التخلف والتفرق ومجافاة الإسلام لا يُحسدون عليه، بل يرثى لحالهم فيه.
فالإسلام في مفاهيمه الصحيحة قد كان بينه وبين تطبيقات المسلمين العملية مسافة المخالفة والمعصية والإثم، وكان بينه وبين تصور جمهور المسلمين له خلاف في كثير من الأمور. وكانت الحكومات الإسلامية في مختلف الأمصار متنازعة متنافرة، قد أوهنتها عوامل العداء والطمع والأثرة وحب الذات. وكانت الشعوب الإسلامية قد نالت من كيانها عوامل حب الدنيا، والانغماس في الشهوات، والإخلاد إلى الأرض، وحطمت من قواها عدة عوامل، منها البخل بالأموال وبالأنفس، وفقد الثقة بالنفس، وضعف اليقين بالله والاعتماد عليه، وهذا هو المرض الذي يصيب كل أمة ذات مجد رفيع، متى بدأت عجلات مركبة المجد فيها تنحدر إلى ما دون القمة، بسبب الغرور بمظاهر القوة وتراث المجد، وبسبب الانغماس بالشهوات، والاستغراق في مفاتن الحياة الدنيا من مال وجاه، وبسبب التنازع والتفرق والغفلة عن مكامن الخطر، وإهمال ما يجب عليها من الصيانة المستمرة لكل قواعد مجدها،وأسس عزتها،
سواء أكانت فكرية أم نفسية أم خلقية أم سياسية، وسواء أكانت فردية أم اجتماعية.
وكان هذا الواقع في المسلمين المباين لتعاليم الإسلام من أبرز الأسباب التي مكنت عدوها من أن يجد لنفسه ثغرات في صفوف المسلمين، ينفذ منها إلى نواصي قوتهم، فيعمل على توهينها، وتجزئتها، وتبديد ما يستطيع منها؛ بكل وسيلة من وسائل القوة والبأس، أو الخديعة والمكر.
ولدى البحث والتأمل نلاحظ أن نفوسهم التي بين جنوبهم قد كانت أول عدوٍّ داخلي لهم مكن لعدوّهم من خارج الحدود أن يدخل إليهم، ويقاتلهم في مرابعهم وأمصارهم، ثم يستولي عليهم، ويستعمر لنفسه بلادهم.
إن العدو من شأنه أن يمكر ويبيت كل سوء، ولكن الذي يمكن عدوه من نفسه أشد عداوة لنفسه من عدوه، لأنه يفعل في نفسه ما لا يفعله أحدٌ به، وذلك بسبب غفلته، أو شهوته أو سوء تفكيره وتقديره وتدبيره أو سوء تصرفه وسوء عمله.
تلخيص العوامل:
1-
بعد المسلمين عن تطبيق الإسلام تطبيقاً صحيحاً.
2-
بعد جمهور المسلمين عن فهم الإسلام فهماً سليماً.
3-
تنازع حكام وأمراء المسلمين، وتقاتلهم من أجل السلطة.
4-
تعلق جماهير المسلمين بحبّ الدنيا، والانغماس في الشهوات، واتباع الهوى.
5-
البخل بالأموال والأنفس، وكراهية الموت.
6-
ضعف اليقين بالله، وفقد الثقة بالنفس.
- الحروب الصليبية أيقظت المسلمين من نومهم
كانت الحروب الصليبية عاملاً محركاً للمسلمين، وموقظاً لهم من نومهم أو من غفواتهم، حتى يهبوا ويلتفتوا إلى سهام عدوهم، التي بدأت تجتاز الثغور إلى مقاتلهم، ويدركوا واقعهم، ويتبصروا أسباب الضعف الذي أصابهم،
ويعملوا على ترميم القواعد التي تآكلت من بنيانهم، والأسس التي خلخلها المنافقون الذين دخلوا في صفوفهم، عاملين على تقويض كل حقيقة للإسلام، وكل مجد للمسلمين، فكان موقف المسلمين يومئذٍ يحمل خطتين من خطط العمل، على شيء من الضعف في تركيزهما.
الخطة الأولى: خطة الدفاع عن البلاد الواقعة هدفاً للعدو الصليبي، ضمن الإمكانات التي تسمح بها حالة تجميع القوى المبعثرة عند حلول الأزمة.
الخطة الثانية: خطة العمل على إصلاح الداخل الذي نخرت عظامه أسباب الفساد والتخلف والفرقة بين صفوف المسلمين.
وقيّض الله للمسلمين الشهيد نور الدين، ثم البطل صلاح الدين، ثم فيضاً آخر من أبطال المسلمين عرباً وغير عرب، ولم يتم للمسلمين النصر على عدوهم ورد كيدهم إلا بمقدار ما أصلحوا من واقعهم، وقوّموا من معوجهم.
اجتهدوا وجهِدوا في إزالة عوامل الضعف من صفوفهم، فاستجمعوا قوتهم، وردتهم المحنة الكبرى التي أصابتهم إلى الله، فالتجأوا إليه، والتمسوا النصر من عنده، فألهمهم الله أن يحققوا في أنفسهم أسباب النصر، ثم منحهم من فضله التأييد على عدوهم، لما استكملوا من شروطه وأسبابه ما يكفي لتأييدهم بالنصر وفق سنة الله في عباده، ولن تجد لسنة الله تبديلاً.
وتم جلاء الصليبيين عن بلاد المسلمين بعد حقبة من الدهر، كانت سياط التأديب الإلهي فيها تصيبهم من كل جانب، وقد لبثوا خلالها بين كر وفر مع عدوين: عدو صليبي محارب، وعدو من داخل الأنفس يغري بالجبن والبخل، وبالدعة واتباع الشهوات، ويغذي بالتحاسد والتباغض والفرقة ومعصية الله والرسول، وبالتثاقل عن كل واجب، وتباطؤ الهمة عن كل إصلاح أو تغيير.
ولدى التأمل في الحكمة الربانية، نرى أن في تسليط جيوش الصليبيين على بلاد المسلمين حينئذٍ لوناً من ألوان التأديب الرباني، الذي رد للمسلمين شيئاً من كيانهم الذاتي، الذي كان به مجدهم واصطفاؤهم على الأمم، والذي كانوا به أمةً وسطاً، وخير أمةٍ أخرجت للناس، ألا وهو كونهم مسلمين حقاً،
عقيدةً وعملاً، ودعوة إلى الله وجهاداً في سبيله، فهم يحققون في أنفسهم كل أسباب النصر التي أمر الله بها، في عباداتهم، وفي معاملاتهم، وفي نظم حياتهم، وفي أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، وفي جهادهم في سبيل نشر دين الله، والدفاع عن الإسلام وجماعة المسلمين.
إنه ليس بين الله وبين أحدٍ من عباده نسب ولا قرابة، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، فليس أحد بأكرم عند الله من أحد من هذه الناحية، الناس كلهم عباده مخلوقون بقدرته، ولكن لله أوامر ونواهي وسنناً، وعلى مقدار نصيب العبد من التقوى يكون نصيبه من إكرام الله وتأييده، وما النصر إلا من عند الله يؤتيه من يشاء وفق حكمته، وحكمته قضت بنصر المؤمنين "وكان حقاً علينا نصر المؤمنين"، ومهما ابتعد الخصمان عن طاعة الله وتأييد دينه وكَلَهما الله لأسبابهما الدنيوية، وأغرى بينهما العداوة والبغضاء.
- تجربة حروب أقنعت الصليبيين بضرورة التحوّل إلى مخطّط آخر
كانت خطة مدبري الحروب الصليبية القيام بحرب مادية مسلحة بالأسلحة العسكرية، لغزو بلاد المسلمين، واستلاب أموالهم، وهدم حضارتهم، وتحويلهم عن دينهم الذي هو مصدر قوتهم ووحدتهم، ومنبع حضارتهم وتقدّمهم في شتّى المجالات الإنسانية.
كانت هذه خطة الصليبيين، يوم كانت عقول المسلمين وأفكارهم ونفوسهم لا تسمح لعوامل التنصير أن تؤثر فيها، يوم كانت العواصم الإسلامية في العالم تعيش في خيرات مجدٍ خلَّفَهُ المدّ الإسلامي في العلم والحضارة والتقدّم، في مختلف مجالات المعرفة الإنسانية المادّية والنظرية، بالإضافة إلى ألوان المعارف الروحية الدينية، والكمالات الأخلاقية، والنظم التشريعية الشاملة كل شؤون السلوك الإنساني الفردية والاجتماعية، والكفيلة بضمان الحق والعدل والسعادة.
بينما كانت عواصم العالم الآخر غارقة في أوحال الجهالة والتخلف، والبعد
عن القيم الحقيقية للأخلاق الفاضلة الكريمة، والكمالات الإنسانية، والمفاهيم الصحيحة للحياة، بدءاً ومعاشاً ومعاداً.
ثم أرسل مدبرو الحروب الصليبية عيونهم إلى البلاد الإسلامية، وبثوا جواسيسهم، ليتحسَّسُوا واقع المسلمين، وليكتشفوا مواطن القوة والضعف لديهم، وليتخذوا لهم من ضمن البلاد الإسلامية أعواناً لهم يوالونهم.
وقد ظفروا من ذلك بنصيب كبير تصيّدوه من أهل الذمّة، ومن الطوائف والفرق المنحرفة، التي كانت قد نشأت في جسم الأمة الإسلامية بأنواع الكيد اليهودي والمجوسي والصليبي، وليحدّدوا لأنفسهم أخيراً الثغرات التي يمكن أن يظفروا بها، إذا جمعوا جموعهم، وأعدّوا عدّتهم، وهيَّئوا قوتهم.
ثم لما سنحت لهم الفرصة ركبت قراصنتهم البحار، ولعاب الأمل بانتزاع الأرض المباركة من أيدي المسلمين يسيل على عرض أشداقهم، وأحلام الظفر بعرش المشرق العربي الإسلامي، وسائر بلاد المسلمين تتراقص لهم، واحتلوا بعض الثغور الإسلامية على حين غِرّة من المسلمين، يرافقها ضعف في قوتهم، وتفرق في صفوفهم.
واستمرت الحروب بينهم وبين المسلمين قرابة قرنين كاملين، هما القرنان
الثاني عشر والثالث عشر من الميلاد، ثم انتهت بجلائهم بعد أن أسسوا لأنفسهم في المشرق العربي الإسلامي عروشاً صغيرة تابعة لممالكهم من وراء البحار.
ولما كتب الله عليهم الجلاء، على أيدي الأبطال المسلمين الذين رفعوا راية الإسلام، وقاتلوا في سبيل الله، وباعوا الله أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة، فأظفرهم الله بعدوهم، وأيدهم بنصره، كانت عظة هذه الحروب في نفوس الصليبيين وجوب تحويل المعركة مع المسلمين من حرب سافرة مسلحة توقظهم من سباتهم، وتعيدهم إلى أسس دينهم، وتحيي فيهم روح الجهاد في سبيل الله، إلى حرب مقنَّعةٍ يدخل في حسابها الغزو الفكري والنفسي والخلقي، والغزو الحضاري والمدني والاقتصادي، وأخذ مفكروهم يضعون الخطط لتنفيذ هذه الحروب المقنّعة.
وبدأ جنود هذه الحروب القادمون بأقنعة شتى ينفذون خططها بكل مكر ودهاء وخبث، متسترين بالعلم أو بالتجارة أو بالصناعة أو بتحسين مظاهر المدنية أو بالتعاون والمحبة الإنسانية أو بالطب والمستشفيات أو بالخبرات الفنية في مختلف مجالات الحياة إلى غير ذلك من أقنعة جميلة مقبولة لدى أنفس الشعوب. وكانت ثمرة هذه الحروب المقنّعة وافرة لأعداء الإسلام والمسلمين.
- التحول الصليبي إلى خطط الغزو الفكري مع ما يتيسر لهم من غزو عسكري
إذن فقد كان الاتجاه عند أعداء الإسلام والمسلمين منذ قرون خلت أن يباشروا أولاً بالغزو المادي المسلح، ليؤدي وظيفته المادية من جهة، وليكون سبيلاً للغزو الفكري والنفسي والخلقي من جهة ثانية، حتى إذا تم للغازي الاحتلال الفكري والنفسي كانت ضحيته مركباً ذلولاً يصرفها طوع بنانه، ومرتعاً سهلاً يفعل به ما يريد.
ثم تحول الاتجاه عند أعداء الإسلام بعد تجاربهم الطويلة مع المسلمين، فغدا أن يعملوا على تهيئة الشعوب الإسلامية من الداخل، وذلك بأسلوب الغزو الفكري والنفسي والخلقي عن طريق عملائهم وأجرائهم، وتحت ستار
المبادئ التي تزعم أنها إنسانية، لتكون الشعوب مؤهلة فكرياً ونفسياً لتسليم قيادهم طائعة مختار لأعدائها، في غزو مادي لا يحمل الغزاة فيه سلاحاً، ولا يكلفهم قتالاً.
لقد أدركوا بعد التجارب الطويلة أن الغزو المادي قبل الغزو الفكري والنفسي والخلقي يولد في الشعوب رد فعل عنيف، يحمي أكثريتها من تقبل الغزو بكل أنواعه، لما فيه من العداء السافر، والتسلط بالقهر والغلبة المكروه للنفوس، حتى إذا تحركت كوامن النهضة في الشعوب، وواتتها الفرصة، ردت الغزاة على أعقابهم، وكان عمر الاحتلال في البلاد قصيراً، في حساب تاريخ الشعوب، مهما عظمت فيها قلاعه، وتكاثرت فيها جيوشه.
والغزو الجديد الفكري والنفسي والخلقي الذي خططوا له يحمل في ثناياه أفدح الأخطاء على كيان الشعوب الإسلامية، ووحدتها وأسس مجدها، ويجعلها طعمة سائغة يزدردها العدو دون أن يجد من ذلك غصَّةً في حلقومه، كما يفقدها كل مقوم من مقوماتها الإنسانية الراقية، التي بها كانت خير أمة أخرجت للناس، ويجعلها كبقرة حلوب، تُعلفُ بمقدار ما تستثمر من لبن أو لحم أو حرث.
وما دام الإنسان إنساناً فإن معظم تصرفاته خاضعة لإرادته، وإرادته خاضعة لمفاهيمه في الحياة خيراً كانت هذه المفاهيم أم شراً، وقد أدرك المخططون للغزو الجديد أن المكر والحيلة أجدى في الإنسان من أية وسيلة، وأن القوى المختلفة التي في أيدي المسلمين يمكن بالمكر والحيلة أن تسخر ضدهم، وذلك إذا تحولت أفكارهم عن مفاهيم إسلامهم، وفسد منطقهم وإدراكهم للأمور، وغدت تصوراتهم تخدم أغراض عدوهم منهم، وانتهى المخططون إلى أن وضعوا لأنفسهم القاعدة التالية:" إذا أرهبك سلاح عدوك فأفسد فكره، ينتحر به " وكذلك فعلوا وكذلك يفعلون باستمرار في الشعوب الإسلامية. وكلما استجمعت هذه الشعوب شيئاً من قوتها، وأبصرت مراكز عدوها، وأرادت أن ترفع رأسها إلى المجد مكر بها أعداؤها وأعداء دينها، فأفسدوا لديها جانباً من جوانب الفهم السليم للأمور، والفكر الصحيح في معالجة المشكلات الكبرى،