الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصْل الأوّل شُبهَاتٌ حَوْلَ المثَاليّةِ وَالمادّيَّةِ في الإسْلَام
شُبهَاتٌ حَوْلَ المثَاليّةِ والوَاقعيَّة في الإسلام
من الشبهات التي يثيرها الأعداء الغزاة والسائرون في أفلاكهم، شبهتان متناقضتان:
الشبهة الأولى: اتهام الإسلام بأن دعوته إلى فعل الخير والتحلي بالفضائل تعتمد على الترغيب بالثواب الماديّ المعجل أو المؤجل، ويزعمون - على سبيل التضليل - أن المثالية في فعل الخير والتحلي بالفضائل تقضي بأن يسعى الإنسان إلى تحقيق الخير لمجرد أنه خير، لا يترتب على فعله من ثواب وأجر يعود على الفاعل.
إنهم يثيرون هذا على سبيل الخداع الجدلي، الذي لا مضمون له في واقع فلسفتهم المرتكزة على أسس مادية بحتة، ولهم في هذا التضليل غرضان:
الغرض الأول: صرف أبناء المسلمين عن جوّ المؤثرات الترغيبية والترهيبية المشحونة بها نصوص الشريعة الإسلامية، لأنها من أفعل وسائل الإصلاح والتقويم للنفس البشرية، التي تنزع فيها الغرائز والأهواء والشهوات إلى الإثم والظلم، ولا تقبض عليها المثاليّات النظرية إلا قبضاً يسيراً.
الغرض الثاني: التمويه على الصغار من أبناء المسلمين الذين لم يخبروا الحياة بعد، ولم يكتشفوا صور الخصائص النفسية للإيمان، ليجذبوهم بذلك إلى صفوفهم وليخدعوهم بمثاليات جوفاء، حتى يقدموا أنفسهم ضحايا مجانية، وهم يجهلون أنهم يحقّقون بتضحياتهم للقادة المضلين غايتهم الموغلة في الماديّة،
التي لا تعترف بشيء من المثاليّات.
إنَّ الغزاة المضلين يستخدمون كل ذكائهم، ليقدّموا صغارنا أحداث الأحلام وقوداً في مطبخ السلاح الذي يعدّ، نه للتسلّط على الشعوب الإسلامية، والتحكّم بمصائرها، والانتفاع بخيراتها، في مادية مغرقة، ليس لها غاية إلا إشباع الغرائز الجسدية والنفسية، وتلبية الشهوة العارمة إلى استعباد الناس.
والمتأمل في أسس الإسلام ومبادئه وأحكامه وشرائعه ووسائل تربيته للناس وتوجيههم لفعل الخير وترك الشر، والتحلي بالفضائل والتخلي عن الرذائل، يلاحظ عناصر ثلاثة:
العنصر الأول: الدعوة المثالية، والدفع إلى نشدان الكمال المطلق.
العنصر الثاني: التطبيقات الواقعية الملائمة للواقع الإنساني.
العنصر الثالث: الوسائل المنسجمة مع الخصائص الإنسانية.
وهذا أفضل ما يمكن تصوره في فلسفة ما لهذا الكائن الإنساني، المزوَّد بالعقل المتطلع إلى المثاليات والباحث عنها، والمزوّد بطاقات ماديّة ومعنوية تقف به عند حدودٍ لا يستطيع تجاوزها ولا الزيادة عليها، والمزوّد بغرائز وشهوات تنبح في داخله بإلحاح لتحقيق مطالبها.
وأية فلسفة تحاول إصلاح هذا الكائن المركب من هذه العناصر الثلاثة على أساس تلبية واحد منها فقط، أو اثنين، وإهمال سائرها، فإنها فلسفة محكومة عليها بالفشل الذريع، وستضع الإنسانية في طريق الانحدار المهلك، بدل أن تأخذ بها صاعدة في سلم الكمال الإنساني.
ضمن هذه الفلسفة الإسلامية العظيمة، القائمة على العناصر الثلاثة المذكورة، تدور مبادئ الشريعة الإسلامية وأحكامها ووسائل إصلاحها للناس وتهذيبها لأخلاقهم وتقويمها لأنواع سلوكهم في الحياة.
وضمن هذه الفلسفة الراقية استطاع الإسلام أن يقبض على نواصي شعوب مختلفة اللغات، وقوميات متباينة الاتجاهات، عبر أجيال وقرون، واستطاع أن يسير بها متآخية متوادة في طريق السعادة الإنسانية، وأن يدفع بها
إلى الصعود المتتابع في سلم الحضارة المثلى.
فإذا سأل الناس عن الخير الأمثل في واقع تطبيقي وجدوه في مجتمع المسلمين - يوم كان الإسلام حاكماً عليهم، والقرآن متمثلاً في أخلاقهم وأعمالهم- وإذا سألوا عن الفضيلة وجدوها عندهم، وإذا بحثوا عن الحق والعدل، وجدوهما في دينهم وشرائعهم وأقضيتهم، وإذا فتشوا عن القوة المتماسكة المتراصة، وجدوها في صفوفهم.
وهذا ما أذهل أعداء الإسلام الذين أعمتهم عصبياتهم الدينية والقومية، وأثار حقدهم وحسدهم، ولذلك أخذوا في تهديم الأسس التي كان بها للمسلمين ذلك المجد التليد.
وأعداء الإسلام يخشون أن يعود المسلمون إلى الاستمساك بالأسس الإسلامية الصحيحة، فيعود لهم مجدهم السليب.
وكل مثالية يدعيها أعداء الإسلام إنما هي مثالية مزورة، غايتهم منها التضليل والخداع، ولو كانت لهم مثاليات حقيقة صادقة قابلة للتطبيق الإنساني لرأى الناس أثرها في السلم أو في الحرب، ولكنهم لم يستطيعوا ولن يستطيعوا أن يسجلوا في تاريخهم الطويل إلا صور المادية المفرطة، المرتبطة بالأنانيات الفردية، أو العنصرية، أو العصبية المذهبية.
بخلاف الفلسفة الإسلامية العظيمة القائمة على الدعوة المثالية والدفع إلى نشدان الكمال المطلق، والتطبيقات الواقعية الملائمة للواقع الإنساني، والوسائل المنسجمة مع الخصائص الإنسانية، فإنها هي الفلسفة الوحيدة في العالم التي أثبتت التجربة الإنسانية كمالها وأهليتها للخلود، خلال قرون حافلة بكل المشكلات والعقبات التي تتعرض إليها الأمم، منذ أيام نشأتها وبنائها، حتى أيام قوتها وشدتها، ثم إلى أيام شيخوختها وهرمها، بيد أن هذه الفلسفة الإسلامية كفيلة - لو استمر المسلمون ملتزمين بها - أن تمنحهم الشباب الدائم المتجدد فيهم مع تجدد أجيالهم.
وذلك لأن عنصر الدعوة المثالية ونشدان الكمال المطلق يشبع في الإنسان
نوازعه العقلية والوجدانية المتطلقة باستمرار إلى المثاليات، وأن عنصر التطبيقات الواقعية الملائمة للواقع الإنساني يعالج ارتقاء الإنسان إلى الكمال ضمن إمكاناته واستطاعته الواقعية، أما عناصر الوسائل المنسجمة مع الخصائص الإنسانية فهو يداوي ويداري غرائز الإنسان ودوافعه النفسية وشهواته وأهواءه التي هي جزء من كيانه في الحياة، فلا يصح بحال من الأحوال طرحها أو إهمالها.
إن هذه الفلسفة العظيمة في دعوتها المثالية تحرر الإنسان من عشق المادة وعبادتها، وتربطها بمثالية عبادة الله وحده لا شريك له، وفي هذا غاية الدفع المثالي، لأن نقل غاية الأعمال الإنسانية من أهدافها المادية، إلى ابتغاء مرضاة الله الخالق الرازق الذي بيده ملكوت السماوات والأرض وهو على كل شيء قدير، وله وحده الألوهية، وهو وحده الذي يجازئ على الخير خيراً وعلى الشر شراً، هو غاية المثالية، فالله تعالى هو مثالية الوجود، وهو واضع مفاهيم الخير والشر في الحياة، وخالق موازين الإحساس بها في ضمائر الناس، فابتغاء مرضاته لا بد أن تكون هي مثالية الغايات.
وأما في تطبيقاتها الواقعية، فإنها حينما تكلف الإنسان السعي إلى كماله الإنساني لا تتجاوز حدود طاقاته الجسدية أو الفكرية، كما أنها تعطي غرائزه وشهواته ومطالبه النفسية من الدنيا بالمقدار الذي يصلح ولا يفسد، وفي هذا غاية التكميل والتهذيب الواقعي، الذي يشرئبّ إلى المثاليات في جانب الفكر والضمير، ويسير مع أحسن صور الواقع في جانب ال غرائز والدوافع الجسدية والنفسية.
وأما في وسائلها المنسجمة مع الخصائص الإنسانية، فإنها قائمة بعد الإقناع الفكري والوجداني على وسيلتي الترغيب والترهيب، فهي تطمئنه عن سلامة اتجاهه لاكتساب سعادته في الحياة الدنيا، إذا هو تقيد بتعاليم الإسلام، وتَعِدُه وعد حق وصدق بالسعادة الأخروية العظمى الشاملة للسعادة الروحية المثالية، والسعادة الجسدية والنفسية التي هي وسيلة مادية للنعيم الروحي وتحجزه أيضاً عن المضرات والمهلكات الدنيوية بالوسائل الدنيوية الرادعة،
وتحذره تحذير حق وصدق من الشقاء الأخروي الشامل للشقاء الروحي في الجانب المثالي، وللشقاء الجسدي الذي هو وسيلة مادية للعذاب الروحي، وهذه هي أفضل الأسس لوسائل الإصلاح المنسجمة مع الخصائص الإنسانية.
الشبهة الثانية: اتهام الإسلام بأنه مثالي بعيد عن الواقعية الإنسانية، وظاهر أن هذه الشبهة مناقشة في مضمونها للشبهة الأولى.
ففي مجموعات الشبان المثقفين بالثقافات المادية المعاصرة من أبناء المسلمين الذين يهزهم الوجدان الديني أحياناً، يندس أعداء الإسلام أو أجراؤهم والسائرون في أفلاكهم، فينفثون بينهم سمومهم ضد نظم الإسلام وأحكامه وواقعيتها، فيقولون للتشكيك بالإسلام والتنفير منه:
إن الإسلام تعاليم وأنظمة مثالية غير ممكنة التطبيق، وإن حياة الإنسان الواقعية تستدعي أنظمة وتعاليم واقعية ممكنة التطبيق.
ثم يبنون على هذه المقدمة الكاذبة فيقولون:
وبما أن الإسلام شيء مثالي غير واقعي فإنه غير صالح لأن يكون دستور حياة الناس، وما على الأجيال المسلمة إلا أن تسعى وراء أنظمة وضعية واقعية، مستفادة من التجارب والاختبارات الإنسانية.
هذا ما يقولون، ومن هذا المدخل القائم على المغالطة والكذب يحيكون نسيجاً إقناعياً، يضللون به فريقاً من أبناء المسلمين، ومما يساعد على تمكن هذا النسيج الإقناعي في نفوس هؤلاء انعدام الصورة التطبيقية الكاملة لنظم الإسلام في مجتمعات المسلمين اليوم.
وفي كشف موجز للتضليل الذي اشتملت عليه هذه الشبهة، نلفت النظر إلى أن من الأمور البدهية في الشريعة الإسلامية، أن الإسلام مثالي الغاية واقعي التطبيق، فهو لدى توجيه المسلمين إلى تحديد الأهداف والغايات من صور سلوكهم في الحياة يسمو بهم إلى الغايات المثالية، التي ترتقي بالوجدان الإنساني إلى كماله، دون أن يؤثر هذا الارتقاء الوجداني أي تأثير معوق في
السلوك الواقعي المهذب، الذي يحقق الكمال الإنساني في صورته الممكنة، المنسجمة مع متطلبات الواقع انسجاماً تاماً، وحينما يرغب الإسلام بالمثاليات التطبيقية فإنه يجعلها مجالاً لتسابق المجدين المتطلعين إلى الكمال التطبيقي، ولا يجعلها أمراً إلزامياً واجباً.
إن دراسة أحكام الشريعة الإسلامية ووصاياها تكشف لكل باحث، أن المثالية في الإسلام حينما تكون أمراً واجباً فإنها تكون مثالية وواقعيّة معاً، إذ تكون مثالية ميسورة التطبيق، وهذه المثالية الواجبة منحصرة في العقائد والغايات والأهداف، ومعلوم أن المثالية في هذه الأمور لا تتعارض مع الواقعية بحال من الأحوال، لأنها ممكنة التطبيق، فليس من العسير على الإنسان أن يعتقد العقيدة المثالية، وليس من العسير أن يجعل غايته من أعماله العبادية أو غيرها غاية مثالية.
وحينما تكون المثالية أمراً غير واجب، فهي مثالية موضوعة في مدى نظر الإنسان الأعلى، حتى تكون مغرية له بالتطلع المستمر إلى الأحسن والأفضل والأنفع والأكمل من صور العمل واحتمالاته، وليس من الصعب على الإنسان أن يجعل الكمال المثالي في كلّ أمرٍ من أموره مطلباً أسمى ينشده ويسعى إليه قدر استطاعته دون أن يكون ملزماً به لدى التطبيق العملي.
أما الواقعية في التطبيق العملي فتظهر لكل دارس لأحكام الشريعة الإسلامية، والإسلام في تطبيقاته العملية ملتزم جانب الواقعية أروع التزام، ولعله أكثر تسامحاً من أي نظام في العالم معتمدٍ على الأسس الواقعية فيما يأمر به أو ينهي عنه.
وطبيعي أنه ليس من الواقعية في شيء أن يترك المجرمون والشاذون في الأرض يعيثون فساداً وخراباً، وينشرون الآلام الكثيرة، مجاراة لواقعيتهم المنحرفة وإن أي تفكير يحاول أن يبرر الجرائم وأنواع الشذوذ المفسدة في الأرض ضمن إطار الفلسفة الواقعية، إنما هو تفكير شياطين المجرمين المفسدين في الأرض، الذين لا يريدون إصلاحاً، ولا ينشدون كمالاً، ولكنهم يريدون أن
يخرجوا بني آدم من جنة الحق والخير والفضيلة ونشدان الكمال، وأن يقذفوا بهم في جحيم الباطل والشر والرذيلة وحضيض النقص، وأن يوقعوهم في سخط الله.
وإن الذين يدعون الواقعيات في أنظمتهم لا يستطيعون أن يقيموها في دولهم إلا بسلطان الحكم الصارم، فلو أنها واقعيات كما يحاولون أن يصوروا معنى الواقعية لما احتاجت إقامتها إلى سلطان الحكم الصارم، الذي يعتمد على أسلوب واحد من أساليب التربية، وهو أسلوب الإرهاب والإلزام القهري.
أما الإسلام فيعتمد على أساليب الإقناع الفكري أولاً، ثم على وسائل التربية العملية المختلفة، ومنها وسائل الترغيب، ثم على وسائل الترهيب والتحذير والعقوبات المادية، وهذه هي الوسائل الواقعية التي يتمّ بها تقويم أكبر نسبة ممكنة من الناس.
* * *