المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الأول شبهات حول المثالية والمادية في الإسلام - أجنحة المكر الثلاثة

[عبد الرحمن حبنكة الميداني]

فهرس الكتاب

- ‌ترجمة المؤلف [ووالده]

- ‌الشيخ عبد الرحمن حبنكة الميداني [المؤلف]بقلم: أيمن بن أحمد ذو الغنى

- ‌الشيخ حسن حبنكة الميداني [والد المؤلف]بقلم د: يحيى الغوثاني

- ‌1ـ مولده ونسبه:

- ‌2ـ نشأته وطلبه للعلم:

- ‌3ـ مرحلة الدعوة والتعليم:

- ‌4ـ أسلوبه في التعليم:

- ‌5ـ مشاركاته العلمية:

- ‌6ـ اهتمامه بالمجتمع والأعمال الخيرية:

- ‌7ـ مواقفه الإسلامية الشجاعة:

- ‌8 ـ صفاته الشخصية ومشاركاته الأدبية ومختارات من شعره:

- ‌9 ـ صفاته التربوية:

- ‌10 ـ وفاته:

- ‌الشيخ عبد الرحمن حبنكة الميداني [المؤلف]بقلم د: يحيى الغوثاني

- ‌مولده وتعليمه:

- ‌من مؤلفاته:

- ‌من آرائه ومواقفه التاريخية:

- ‌الشيخ عبد الرحمن حبنكة الميداني [المؤلف]بقلم: وصفي عاشور أبو زيد

- ‌دعاء

- ‌القِسمُ الأول الغَزوُ بالحِيَل وَوَسَائل المَكْرِ غَيْر المبَاشِرَة

- ‌الفصل الأوّل من القسم الأول مقَدِّمَات عَامَّة

- ‌(1) الحروب الصليبية وخيبتها وتحول اتجاهها

- ‌(2) الغزو الفكري وخطره

- ‌(3) تاريخ ظاهرة الغزو الفكري

- ‌(4) المهمات الرئيسية لأعداء الإسلام

- ‌(5) المنهج الرئيسي للغزو الفكري

- ‌(6) الوسائل الرئيسية للغزو الفكري

- ‌(7) تعريفات للأجنحة الثلاثة

- ‌(8) المؤازرون من الداخل لقوى المكر الخارجية

- ‌الفصْل الثاني المبشِّرون وأعمالهمْ

- ‌1- عرض موجز لتاريخ التبشير وأعمال المبشرين

- ‌(2) مؤتمرات المبشرين

- ‌(3) مجالات أنشطة المبشرين

- ‌(4) التآزر بين المبشرين والمستعمرين

- ‌الفصْل الثالث المستَشرقون وَأعمَالهمْ

- ‌(1) تعريف عام بالاستشراق والمستشرقين

- ‌(2) موجز تاريخ الاستشراق

- ‌(3) مدارس الاستشراق

- ‌(4) دوافع المستشرقين وأهدافهم

- ‌(5) مجالات أنشطة المستشرقين

- ‌(6) أخطر وسائل المستشرقين الفكرية

- ‌(7) موازين البحث عند المستشرقين

- ‌(8) الجامعات الغربية وأثر المستشرقين فيها على المسلمين

- ‌(9) مقارنة بين التبشير والاستشراق وأعمالها

- ‌(10) المستشرقون يدركون قدرة الإسلام الذاتية

- ‌الفصْل الرابع الاسْتِعْمَار وَالمُسْتَعْمِرُون

- ‌(1) فكرة عامة عن بدء الاستعمار

- ‌(2) الاستعمار الغربي للبلاد الإسلامية العربية

- ‌(3) الاستعمار البريطاني للهند وآثاره

- ‌(4) أبرز أعمال الكيد التي قام بها الاستعمار في بلاد المسلمين

- ‌(5) وثيقة من دولة استعمارية لنصارى وطنيين

- ‌الفصل الخامس عناصر التلاقي والأهداف والأعمال المشتركة

- ‌(1) الالتقاء على الكراهية والحقد

- ‌(2) الالتقاء على كسب المغانم

- ‌(3) الالتقاء على محاربة الإسلام وتطبيقاته

- ‌(4) محاولات الفصل الكلي بين الإسلام والمسلمين

- ‌(5) محاولات الفصل الجزئي بين الإسلام والمسلمين

- ‌الفصل السادس وسائل الغزاة وحيلهم

- ‌(1) مقدمة عامة

- ‌(2) وسائل الغزو غير المسلح

- ‌(3) شرح الوسائل

- ‌الوسيلة الأولى: الوجوه المستعارة

- ‌الوسيلة الثانية الخداع السياسي

- ‌الوسيلة الثالثة: الضغط السياسي

- ‌الوسيلة الرابعة: الحصار الاقتصادي

- ‌الوسيلة الخامسة: الحصار العلمي والثقافي

- ‌الوسيلة السادسة: التمييز الطائفي

- ‌الوسيلة السابعة: التمييز العنصري والقومي

- ‌الوسيلة الثامنة: التضليل الفكري

- ‌الوسيلة التاسعة العبث النفسي

- ‌الوسيلة العاشرة: حيل السلب المالي

- ‌الوسيلة الحادية عشرة: الإفساد الاجتماعي

- ‌الوسيلة الثانية عشرة الإفساد الخلقي والسلوكي

- ‌الفصْل السّابع منْ وَسَائل الغزو الفكري: التفريغ وَالملء

- ‌(1) مقدّمة

- ‌(2) عناصر الخطة

- ‌(3) وسائل التفريغ

- ‌(4) عمليات ملء الفراغ

- ‌(5) تسخير الجيش الجديد من أبناء الأمة

- ‌الفصْل الثامِن خطط العَدُوّ لغزو الإسْلام

- ‌(1) خطة وغرض

- ‌(2) التحريف في مفهوم التوكل على الله

- ‌(3) سوء فهم معنى الرضى بالقضاء والقدر

- ‌(4) محاولات الغزاة إلغاء ركن الجهاد في سبيل الله

- ‌الخطة الأولى: خطَّة استغلال ردود الأفعال الناتجة عن توجيه الاتهام

- ‌الخطة الثانية: خطَّة تفريغ الجهاد في سبيل

- ‌الخطة الثالثة: اتخاذ حيلة الربط الدوري بين ركن الجهاد في سبيل الله بالقتال وبين إقامة الحكم الإسلامي

- ‌الخطة الرابعة: اصطناع الفرق العميلة الأجيرة

- ‌الخطة الخامسة: خطَّة استغلال المنظمات الدولية المندسة في الشعوب المسلمة

- ‌الخطة السادسة: خطة التوريط والإحباط، لإقناع جماهير المسلمين بالعجز

- ‌(5) محاولات الغزاة تفريغ الإسلام من أحكام المعاملات وسائر شؤون الحياة

- ‌(6) محاولة إلغاء تطبيق أحكام الأحوال الشخصية الإسلامية

- ‌(7) التلاعب بالأحكام الإسلامية بحيلة المرونة في الشريعة

- ‌(8) حيلة خلط معنى التمسك المحمود بالحق بمعنى التعصب الجاهلي المذموم

- ‌(9) التلاعب بعبارات التقدمية والرجعية والتمدن والتخلف ونحوها

- ‌(10) حيلة التحسر على افتقار الأمة العربية إلى فلسفة ترفع من شأنها

- ‌(11) حيلة التمجيد بعبقرية محمد لتفريغ دعوته من كونها رسالة ربانية

- ‌الفصْل التاسِع الغزاة وأعمالهم في هدم وحدة المسلمين

- ‌(1) مقدمة عامة

- ‌(2) التجزئة باستغلال الخلافات السياسية

- ‌(3) تفتيت وحدة المسلمين هدف مشترك لدى أجنحة المكر

- ‌(4) دسائس وألاعيب استعمارية لتمزيق وحدة المسلمين

- ‌(5) التقسيم الطبقي

- ‌(6) هدم الخلافة الإسلامية

- ‌(7) مكيدة تحديد النسل

- ‌الفصْل العاشر الغزو بفكرة القوميّة

- ‌(1) خطة وأهداف

- ‌(2) مغالطة جدلية

- ‌(3) موقع الشعب العربي بين الشعوب الإسلامية الأخرى

- ‌(4) تقبّل المبادئ الأخرى بعد التفريغ بفكرة القومية

- ‌(5) الأمة العربية بعد الإسلام وقبله

- ‌الفصْل الحَادي عشر أعمال الغزَاة ضِدّ اللغةِ العربيَّة

- ‌(1) مقدمة عامة حول أهمية اللّغة

- ‌(2) الاستعمار ومحاربته للعربية الفصحى

- ‌(3) الدعوة إلى نشر العاميات واللهجات الإقليمية

- ‌(4) نظرة تاريخية إلى حركة التحويل عن الفصحى

- ‌(5) ردود على مزاعم خصوم الفصحى

- ‌(6) دغدغة العواطف القومية القديمة للتحويل عن العربية الفصحى

- ‌(7) مزاعم إصلاح رسم الخط العربي

- ‌(8) غزو الفصحى عن طريق العبث بقواعدها

- ‌(9) غزو اللغة العربية بالمفردات الأجنبية الدخيلة

- ‌(10) طلائع المستجيبين لمكيدة إحلال العاميات محل الفصحى

- ‌(11) نحن والغزاة

- ‌الفصْل الثاني عشر الغزاة وتفصيل أعمالهم في الإفساد

- ‌(1) تكسير معاقد الترابط الاجتماعي وتقطيع أوصاله

- ‌(2) العبث بجذور الأخلاق

- ‌(3) طريقا التضليل الفكري والاستدراج إلى الانحراف السلوكي

- ‌(4) الوسائل

- ‌الوسيلة الأولى: استخدام عنصر المال

- ‌الوسيلة الثانية: استخدام عنصر النساء

- ‌الوسيلة الثالثة: الاهتمام بالمرأة في مجالات العلم والثقافة والفن

- ‌الوسيلة الرابعة: فتنة الاختلاط وسفور المرأة

- ‌الوسيلة الخامسة: استخدام الآداب والفنون

- ‌الوسيلة السادسة: استخدام عنصر الحكم

- ‌الوسيلة السابعة: استخدام المسكرات والمخدرات

- ‌الوسيلة الثامنة: استخدام وسائل اللهو واللعب

- ‌الوسيلة التاسعة: اهتمام الغزاة بإفساد الفتيان والفتيات

- ‌الوسيلة العاشرة: استخدام وسائل الترف والرفاهية

- ‌الوسيلة الحادية عشرة: سياسة المستعمرين غير الأخلاقية

- ‌الوسيلة الثانية عشرة: استخدام الفكر الإلحادي

- ‌الفصْل الثالث عشر الغزو بالمذاهِبِ الاقتصَادية

- ‌(1) مقدمة عامة

- ‌(2) بين اتجاهين متباينين

- ‌(3) وسائل إيقاف نشاط غزو المذاهب المخالفة للإسلام

- ‌(4) نظام الإسلام على قمة وعن يمينها ويسارها منحدران

- ‌(5) قدوم المذاهب الاقتصادية المخالفة لنظام الإسلام

- ‌(6) لا تكفي الكلمة وحدها

- ‌(7) الأسس العامة لنظام الإسلام الاقتصادي

- ‌(8) مقارنة بين الأسس العامة للنظام الاقتصادي في الإِسلام والنظم الأخرى

- ‌(9) فرية ربط التخلف الصناعي بنظام الإسلام

- ‌(10) اصطناع المناخات المناسبة لتقبل الأفكار والمذاهب الغازية

- ‌(11) التعلُّل بعدم وجود دولة تطبق نظم الإسلام وتحميها

- ‌الفصْل الرابع عشر مَا تُعانيه الحَركات وَالمؤسَّسّاتُ الإسْلَاميَّة

- ‌(1) مقدمة عامة

- ‌(2) الكمين والإثارة

- ‌(3) الفقر الذي تعاني منه المؤسسات والحركات الإسلامية

- ‌القِسمُ الثَّاني الغَزْو بالهُجُوم المبَاشِر عَلى الإسْلَام

- ‌الفصْل الأوّل شُبهَاتٌ حَوْلَ المثَاليّةِ وَالمادّيَّةِ في الإسْلَام

- ‌الفصْل الثاني شُبهَاتٌ حَوْلَ الرُّوحيَّة وَالمادّيَّةِ في الإسْلَام

- ‌الفصْل الثالث شُبهَاتٌ حَوْلَ بَعْض العبَادات في الإسْلَام

- ‌الفصْل الرابع شُبهَاتٌ حَوْلَ الزَّكَاةِ في الإسْلَام

- ‌الفصْل الخامس شُبهَاتٌ حَوْلَ العُقوبَات في الإسْلَام

- ‌الفصْل السادس شُبهَاتٌ حَوْلَ الرِّقِّ في الإسْلَام

- ‌الفصْل السّابع شُبهَاتٌ حَوْلَ حُقُوق المَرأةِ في الإسْلَام

- ‌الفصْل الثامِن أجوبَة أسئِلة تَشكيكيَّة

- ‌القِسمُ الثالِث نَظَراتٌ عَامَّة حَوْل دَوافِع الغزو في الناسِ

- ‌الفصْل الأوّل دَوافع الغزو

- ‌(1) ربانية أو عدوانية

- ‌(2) الجهاد المقدس

- ‌(3) أهداف محاولات التسلط المادي المرتبط بالدوافع العدوانية

- ‌(4) تآزر الغزاة لتحقيق الأهداف المشتركة

- ‌الفصْل الثاني خلَاصَة وتوجيه لِلمسْلمين

- ‌(1) مقدمة

- ‌(2) العناصر الغازية

- ‌(3) نتائج حققها الغزاة

- ‌(4) خطوات العمل الحميدة

الفصل: ‌الفصل الأول شبهات حول المثالية والمادية في الإسلام

‌الفصْل الأوّل شُبهَاتٌ حَوْلَ المثَاليّةِ وَالمادّيَّةِ في الإسْلَام

ص: 493

شُبهَاتٌ حَوْلَ المثَاليّةِ والوَاقعيَّة في الإسلام

من الشبهات التي يثيرها الأعداء الغزاة والسائرون في أفلاكهم، شبهتان متناقضتان:

الشبهة الأولى: اتهام الإسلام بأن دعوته إلى فعل الخير والتحلي بالفضائل تعتمد على الترغيب بالثواب الماديّ المعجل أو المؤجل، ويزعمون - على سبيل التضليل - أن المثالية في فعل الخير والتحلي بالفضائل تقضي بأن يسعى الإنسان إلى تحقيق الخير لمجرد أنه خير، لا يترتب على فعله من ثواب وأجر يعود على الفاعل.

إنهم يثيرون هذا على سبيل الخداع الجدلي، الذي لا مضمون له في واقع فلسفتهم المرتكزة على أسس مادية بحتة، ولهم في هذا التضليل غرضان:

الغرض الأول: صرف أبناء المسلمين عن جوّ المؤثرات الترغيبية والترهيبية المشحونة بها نصوص الشريعة الإسلامية، لأنها من أفعل وسائل الإصلاح والتقويم للنفس البشرية، التي تنزع فيها الغرائز والأهواء والشهوات إلى الإثم والظلم، ولا تقبض عليها المثاليّات النظرية إلا قبضاً يسيراً.

الغرض الثاني: التمويه على الصغار من أبناء المسلمين الذين لم يخبروا الحياة بعد، ولم يكتشفوا صور الخصائص النفسية للإيمان، ليجذبوهم بذلك إلى صفوفهم وليخدعوهم بمثاليات جوفاء، حتى يقدموا أنفسهم ضحايا مجانية، وهم يجهلون أنهم يحقّقون بتضحياتهم للقادة المضلين غايتهم الموغلة في الماديّة،

ص: 494

التي لا تعترف بشيء من المثاليّات.

إنَّ الغزاة المضلين يستخدمون كل ذكائهم، ليقدّموا صغارنا أحداث الأحلام وقوداً في مطبخ السلاح الذي يعدّ، نه للتسلّط على الشعوب الإسلامية، والتحكّم بمصائرها، والانتفاع بخيراتها، في مادية مغرقة، ليس لها غاية إلا إشباع الغرائز الجسدية والنفسية، وتلبية الشهوة العارمة إلى استعباد الناس.

والمتأمل في أسس الإسلام ومبادئه وأحكامه وشرائعه ووسائل تربيته للناس وتوجيههم لفعل الخير وترك الشر، والتحلي بالفضائل والتخلي عن الرذائل، يلاحظ عناصر ثلاثة:

العنصر الأول: الدعوة المثالية، والدفع إلى نشدان الكمال المطلق.

العنصر الثاني: التطبيقات الواقعية الملائمة للواقع الإنساني.

العنصر الثالث: الوسائل المنسجمة مع الخصائص الإنسانية.

وهذا أفضل ما يمكن تصوره في فلسفة ما لهذا الكائن الإنساني، المزوَّد بالعقل المتطلع إلى المثاليات والباحث عنها، والمزوّد بطاقات ماديّة ومعنوية تقف به عند حدودٍ لا يستطيع تجاوزها ولا الزيادة عليها، والمزوّد بغرائز وشهوات تنبح في داخله بإلحاح لتحقيق مطالبها.

وأية فلسفة تحاول إصلاح هذا الكائن المركب من هذه العناصر الثلاثة على أساس تلبية واحد منها فقط، أو اثنين، وإهمال سائرها، فإنها فلسفة محكومة عليها بالفشل الذريع، وستضع الإنسانية في طريق الانحدار المهلك، بدل أن تأخذ بها صاعدة في سلم الكمال الإنساني.

ضمن هذه الفلسفة الإسلامية العظيمة، القائمة على العناصر الثلاثة المذكورة، تدور مبادئ الشريعة الإسلامية وأحكامها ووسائل إصلاحها للناس وتهذيبها لأخلاقهم وتقويمها لأنواع سلوكهم في الحياة.

وضمن هذه الفلسفة الراقية استطاع الإسلام أن يقبض على نواصي شعوب مختلفة اللغات، وقوميات متباينة الاتجاهات، عبر أجيال وقرون، واستطاع أن يسير بها متآخية متوادة في طريق السعادة الإنسانية، وأن يدفع بها

ص: 495

إلى الصعود المتتابع في سلم الحضارة المثلى.

فإذا سأل الناس عن الخير الأمثل في واقع تطبيقي وجدوه في مجتمع المسلمين - يوم كان الإسلام حاكماً عليهم، والقرآن متمثلاً في أخلاقهم وأعمالهم- وإذا سألوا عن الفضيلة وجدوها عندهم، وإذا بحثوا عن الحق والعدل، وجدوهما في دينهم وشرائعهم وأقضيتهم، وإذا فتشوا عن القوة المتماسكة المتراصة، وجدوها في صفوفهم.

وهذا ما أذهل أعداء الإسلام الذين أعمتهم عصبياتهم الدينية والقومية، وأثار حقدهم وحسدهم، ولذلك أخذوا في تهديم الأسس التي كان بها للمسلمين ذلك المجد التليد.

وأعداء الإسلام يخشون أن يعود المسلمون إلى الاستمساك بالأسس الإسلامية الصحيحة، فيعود لهم مجدهم السليب.

وكل مثالية يدعيها أعداء الإسلام إنما هي مثالية مزورة، غايتهم منها التضليل والخداع، ولو كانت لهم مثاليات حقيقة صادقة قابلة للتطبيق الإنساني لرأى الناس أثرها في السلم أو في الحرب، ولكنهم لم يستطيعوا ولن يستطيعوا أن يسجلوا في تاريخهم الطويل إلا صور المادية المفرطة، المرتبطة بالأنانيات الفردية، أو العنصرية، أو العصبية المذهبية.

بخلاف الفلسفة الإسلامية العظيمة القائمة على الدعوة المثالية والدفع إلى نشدان الكمال المطلق، والتطبيقات الواقعية الملائمة للواقع الإنساني، والوسائل المنسجمة مع الخصائص الإنسانية، فإنها هي الفلسفة الوحيدة في العالم التي أثبتت التجربة الإنسانية كمالها وأهليتها للخلود، خلال قرون حافلة بكل المشكلات والعقبات التي تتعرض إليها الأمم، منذ أيام نشأتها وبنائها، حتى أيام قوتها وشدتها، ثم إلى أيام شيخوختها وهرمها، بيد أن هذه الفلسفة الإسلامية كفيلة - لو استمر المسلمون ملتزمين بها - أن تمنحهم الشباب الدائم المتجدد فيهم مع تجدد أجيالهم.

وذلك لأن عنصر الدعوة المثالية ونشدان الكمال المطلق يشبع في الإنسان

ص: 496

نوازعه العقلية والوجدانية المتطلقة باستمرار إلى المثاليات، وأن عنصر التطبيقات الواقعية الملائمة للواقع الإنساني يعالج ارتقاء الإنسان إلى الكمال ضمن إمكاناته واستطاعته الواقعية، أما عناصر الوسائل المنسجمة مع الخصائص الإنسانية فهو يداوي ويداري غرائز الإنسان ودوافعه النفسية وشهواته وأهواءه التي هي جزء من كيانه في الحياة، فلا يصح بحال من الأحوال طرحها أو إهمالها.

إن هذه الفلسفة العظيمة في دعوتها المثالية تحرر الإنسان من عشق المادة وعبادتها، وتربطها بمثالية عبادة الله وحده لا شريك له، وفي هذا غاية الدفع المثالي، لأن نقل غاية الأعمال الإنسانية من أهدافها المادية، إلى ابتغاء مرضاة الله الخالق الرازق الذي بيده ملكوت السماوات والأرض وهو على كل شيء قدير، وله وحده الألوهية، وهو وحده الذي يجازئ على الخير خيراً وعلى الشر شراً، هو غاية المثالية، فالله تعالى هو مثالية الوجود، وهو واضع مفاهيم الخير والشر في الحياة، وخالق موازين الإحساس بها في ضمائر الناس، فابتغاء مرضاته لا بد أن تكون هي مثالية الغايات.

وأما في تطبيقاتها الواقعية، فإنها حينما تكلف الإنسان السعي إلى كماله الإنساني لا تتجاوز حدود طاقاته الجسدية أو الفكرية، كما أنها تعطي غرائزه وشهواته ومطالبه النفسية من الدنيا بالمقدار الذي يصلح ولا يفسد، وفي هذا غاية التكميل والتهذيب الواقعي، الذي يشرئبّ إلى المثاليات في جانب الفكر والضمير، ويسير مع أحسن صور الواقع في جانب ال غرائز والدوافع الجسدية والنفسية.

وأما في وسائلها المنسجمة مع الخصائص الإنسانية، فإنها قائمة بعد الإقناع الفكري والوجداني على وسيلتي الترغيب والترهيب، فهي تطمئنه عن سلامة اتجاهه لاكتساب سعادته في الحياة الدنيا، إذا هو تقيد بتعاليم الإسلام، وتَعِدُه وعد حق وصدق بالسعادة الأخروية العظمى الشاملة للسعادة الروحية المثالية، والسعادة الجسدية والنفسية التي هي وسيلة مادية للنعيم الروحي وتحجزه أيضاً عن المضرات والمهلكات الدنيوية بالوسائل الدنيوية الرادعة،

ص: 497

وتحذره تحذير حق وصدق من الشقاء الأخروي الشامل للشقاء الروحي في الجانب المثالي، وللشقاء الجسدي الذي هو وسيلة مادية للعذاب الروحي، وهذه هي أفضل الأسس لوسائل الإصلاح المنسجمة مع الخصائص الإنسانية.

الشبهة الثانية: اتهام الإسلام بأنه مثالي بعيد عن الواقعية الإنسانية، وظاهر أن هذه الشبهة مناقشة في مضمونها للشبهة الأولى.

ففي مجموعات الشبان المثقفين بالثقافات المادية المعاصرة من أبناء المسلمين الذين يهزهم الوجدان الديني أحياناً، يندس أعداء الإسلام أو أجراؤهم والسائرون في أفلاكهم، فينفثون بينهم سمومهم ضد نظم الإسلام وأحكامه وواقعيتها، فيقولون للتشكيك بالإسلام والتنفير منه:

إن الإسلام تعاليم وأنظمة مثالية غير ممكنة التطبيق، وإن حياة الإنسان الواقعية تستدعي أنظمة وتعاليم واقعية ممكنة التطبيق.

ثم يبنون على هذه المقدمة الكاذبة فيقولون:

وبما أن الإسلام شيء مثالي غير واقعي فإنه غير صالح لأن يكون دستور حياة الناس، وما على الأجيال المسلمة إلا أن تسعى وراء أنظمة وضعية واقعية، مستفادة من التجارب والاختبارات الإنسانية.

هذا ما يقولون، ومن هذا المدخل القائم على المغالطة والكذب يحيكون نسيجاً إقناعياً، يضللون به فريقاً من أبناء المسلمين، ومما يساعد على تمكن هذا النسيج الإقناعي في نفوس هؤلاء انعدام الصورة التطبيقية الكاملة لنظم الإسلام في مجتمعات المسلمين اليوم.

وفي كشف موجز للتضليل الذي اشتملت عليه هذه الشبهة، نلفت النظر إلى أن من الأمور البدهية في الشريعة الإسلامية، أن الإسلام مثالي الغاية واقعي التطبيق، فهو لدى توجيه المسلمين إلى تحديد الأهداف والغايات من صور سلوكهم في الحياة يسمو بهم إلى الغايات المثالية، التي ترتقي بالوجدان الإنساني إلى كماله، دون أن يؤثر هذا الارتقاء الوجداني أي تأثير معوق في

ص: 498

السلوك الواقعي المهذب، الذي يحقق الكمال الإنساني في صورته الممكنة، المنسجمة مع متطلبات الواقع انسجاماً تاماً، وحينما يرغب الإسلام بالمثاليات التطبيقية فإنه يجعلها مجالاً لتسابق المجدين المتطلعين إلى الكمال التطبيقي، ولا يجعلها أمراً إلزامياً واجباً.

إن دراسة أحكام الشريعة الإسلامية ووصاياها تكشف لكل باحث، أن المثالية في الإسلام حينما تكون أمراً واجباً فإنها تكون مثالية وواقعيّة معاً، إذ تكون مثالية ميسورة التطبيق، وهذه المثالية الواجبة منحصرة في العقائد والغايات والأهداف، ومعلوم أن المثالية في هذه الأمور لا تتعارض مع الواقعية بحال من الأحوال، لأنها ممكنة التطبيق، فليس من العسير على الإنسان أن يعتقد العقيدة المثالية، وليس من العسير أن يجعل غايته من أعماله العبادية أو غيرها غاية مثالية.

وحينما تكون المثالية أمراً غير واجب، فهي مثالية موضوعة في مدى نظر الإنسان الأعلى، حتى تكون مغرية له بالتطلع المستمر إلى الأحسن والأفضل والأنفع والأكمل من صور العمل واحتمالاته، وليس من الصعب على الإنسان أن يجعل الكمال المثالي في كلّ أمرٍ من أموره مطلباً أسمى ينشده ويسعى إليه قدر استطاعته دون أن يكون ملزماً به لدى التطبيق العملي.

أما الواقعية في التطبيق العملي فتظهر لكل دارس لأحكام الشريعة الإسلامية، والإسلام في تطبيقاته العملية ملتزم جانب الواقعية أروع التزام، ولعله أكثر تسامحاً من أي نظام في العالم معتمدٍ على الأسس الواقعية فيما يأمر به أو ينهي عنه.

وطبيعي أنه ليس من الواقعية في شيء أن يترك المجرمون والشاذون في الأرض يعيثون فساداً وخراباً، وينشرون الآلام الكثيرة، مجاراة لواقعيتهم المنحرفة وإن أي تفكير يحاول أن يبرر الجرائم وأنواع الشذوذ المفسدة في الأرض ضمن إطار الفلسفة الواقعية، إنما هو تفكير شياطين المجرمين المفسدين في الأرض، الذين لا يريدون إصلاحاً، ولا ينشدون كمالاً، ولكنهم يريدون أن

ص: 499

يخرجوا بني آدم من جنة الحق والخير والفضيلة ونشدان الكمال، وأن يقذفوا بهم في جحيم الباطل والشر والرذيلة وحضيض النقص، وأن يوقعوهم في سخط الله.

وإن الذين يدعون الواقعيات في أنظمتهم لا يستطيعون أن يقيموها في دولهم إلا بسلطان الحكم الصارم، فلو أنها واقعيات كما يحاولون أن يصوروا معنى الواقعية لما احتاجت إقامتها إلى سلطان الحكم الصارم، الذي يعتمد على أسلوب واحد من أساليب التربية، وهو أسلوب الإرهاب والإلزام القهري.

أما الإسلام فيعتمد على أساليب الإقناع الفكري أولاً، ثم على وسائل التربية العملية المختلفة، ومنها وسائل الترغيب، ثم على وسائل الترهيب والتحذير والعقوبات المادية، وهذه هي الوسائل الواقعية التي يتمّ بها تقويم أكبر نسبة ممكنة من الناس.

* * *

ص: 500