الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
للجماهير العربية به، وخير له أيضاً أن لا يرى النور، لأن إثمه أكبر من نفعه، إذ هو منزلق مهما يكن يسيراً فقد يتبعه منزلقات أخرى، تمس جهور الكتابة العربية، وتهدم كيانها، وهو كيان ذو تاريخ عظيم.
(8) غزو الفصحى عن طريق العبث بقواعدها
ومن الدعوات المشبوهة الهدامة التي أطلقت باسم الإصلاح دعوت نادت بتبسيط اللغة العربية الفصحى وتطويرها.
وتدفقت تحت هذا العنوان المقترحات العديدة التي تضمنت النيل من أسس قواعد العربية الفصحى، بغية هدمها باسم تبسيطها وتطويرها.
فمن ذلك المقترحات التالية:
المقترح الأول: إلغاء صورة الإعراب في الكلام العربي، واللجوء إلى تسكين أواخر الكلمات.
ويحمل هذا الاقتراح في ظاهره التسهيل على الناطق بالعربية، ولكنه يحمل في باطنه هدم الصروح التي قامت عليها هذه اللغة العظيمة، وذلك يؤدي مع الزمن إلى التلاعب بمعاني معظم المصادر الإسلامية والعربية، لأنه متى ألغي الإعراب فقد ألغيت المستندات التي يتحاكم إليها في تحديد المعاني، ثم تحتاج اللغة الجديدة المسكنة الأواخر إلى قواعد أخرى تضبط بها المعاني.
ولست أدري كيف تفهم الأجيال التي ستنشأ على إلغاء الإعراب مثل قول الله تعالى في سورة (فاطر/35 مصحف/43 نزول) :
{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ}
وقوله تعالى في سورة (البقرة/2 مصحف/87 نزول) :
{وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ....} .
فلو ألغي الإعراب وسكنت أواخر الكلمات لكان المتبادر في النص الأول أن الله هو الذي يخشى العلماء، لا أن العلماء هم الذين يخشونه ولكان المتبادر في النص الثاني أن إبراهيم هو الذي ابتلى ربه، لا أن ربه هو الذي ابتلاه، مع أن الأمر في كل منهما بعكس ذلك، وقاعدة الإعراب هي التي حددت هذه المعاني ومنعت عنها الالتباس.
المقترح الثاني: إيثار كل لهجة أو لغة عربية قديمة توافق العامية، كإيثار اللغة التي تجعل الأسماء الخمسة تلزم الألف دائماً، وإيثار اللغة التي تجعل المثنى يلزم الألف في جميع حالاته.
وهذا المقترح من شأنه أن يكلف المتعلمين تطويع ألسنتهم أن ينطقوا بالعربية مرتين، مرة يتقنون بها قراءة المصادر الإسلامية والعربية وفق القواعد التي استقرت عليها لغة قريش، ونزل بها القرآن الكريم، وأخرى وفق هذا المقترح.
والأسهل من ذلك التزام الطريقة التي نزل بها القرآن.
المقترح الثالث: حذف بعض قواعد النحو أو تعديلها، ومن أمثلة ذلك حذف باب الممنوع من الصرف، واعتبار جميع الكلمات مصروفة، وإلغاء قاعدة التخالف بين العدد والمعدود في التذكير والتأنيث وجعل العدد موافقاً لمعدوده دائماً تذكيراً وتأنيثاً، وإبقاء المفعول به منصوباً في حال بناء الفعل للمجهول، وإلغاء صيغ جموع التكسير في الأسماء التي يجوز جمعها جمع المذكر سالماً وجمع تكسير، والاكتفاء بصيغة جمع المذكر السالم، وإلزام المنادى والمستثنى حالة واحدة من الحالات، فيكون منصوباً دائماً أو مرفوعاً دائماً.
وكأني بهذا المقترح يتضمن محاولة وضع لغة جديدة مشتقة من أصول اللغة العربية، وسيلة لإلغاء اللغة العربية والتخلص منها ومن المصادر العظيمة المكتوبة بها، خدمة لأغراض الأعداء الغزاة، تحت ستار التسهيل على الناطق العربي.
ولا ندري ما سر هذا الإلحاح على تطوير اللغة العربية أو تحريفها أو تغيير أصولها!؟ وكيف يتبناه طائفة من أبناء العربية استجابة للدسائس التي كان قد
بثها طائفة من المستشرقين الاستعماريين، وما يزالون يدفعون إلى تبنيها عدداً من أجرائهم أو السائرين في أفلاكهم من المستغربين؟!
مع أن في اللغات العالمية الأخرى صعوبات وشذوذات عن القواعد القياسية لا تقل عما في اللغة العربية الفصحى، ثم لا نجد أحداً من الشرقيين أو المستشرقين ولا من الغربيين أو المستغربين ينادي بإصلاح تلك اللغات، أو تغيير شيء من قواعدها وأصولها المتبعة، ومن الثابت أن في هذه اللغات عاميات يجري بها حديث الناس في شؤونهم العامة، وفيها إلى جانب ذلك لغة راقية منضبطة يكتب بها العلماء والأدباء، ويسجلون بها آثارهم التي يريدون لها أن تكون خالدة.
وقواعد كل لغة هي القوانين التي يجب اتباعها، للدلالة على المعاني التي يريدها من أراد النطق أو الكتابة بتلك اللغة، ولتأليف الكلام في كل لغة نظام خاص لا يجوز الإخلال به، ولا يكون الكلام مفهوماً ولا مصوراً للمراد حتى يكون متقيداً به غير زائغ عنه، وأية محاولة لتغيير هذه القوانين اللغوية المتبعة في أية لغة، لا تخلو عن أن تكون عملية اختراع لغة جديدة، اختراعاً كلياً أو جزئياً، وقد يكون أمر اختراع لغة ما حدثاً من الأحداث التي تقذف نفسها إلى ميادين التجربة في حياة الناس، لولا ارتباط الناس بتاريخ حضاري عملي صنعته آلاف الملايين من الآباء والأجداد، ولولا ارتباط لغتهم الموروثة بأهم الأحداث العظيمة التي تربط الناس بخالقهم، إذ اختارها لإعلامهم بدينه وشرائعه وعظاته وأخباره عن أحداث النبوات والرسالات الأولى.
وهدم هذه اللغة تصميم على تنفيذ مؤامرة الزيغ عن دين الله ورسالته الخالدة لخلقه، وتحويل للأمة العربية عن مكان القيادة في مجال الدعوة إلى دين الله، وبيان رسالة الإسلام للناس، وقذف بها إلى مؤخرة الأمم، حيث تجد نفسها مضطرة إلى أن تتلقف صدقات الناس، بعد أن تركت كنوزها، إذ يكون عليها حينئذ أن تدفع ضريبة الحماقة التي سلكتها مهانة وفقراً وذلاً، وأن تقف بين الأمم الأخرى موقف الأيتام على موائد اللئام.
وهذا ما يريده للمسلمين الأعداء الغزاة.