الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أما المرونة الحقة فليست هي الجمود الذي يخدم العدو الغازي، ولا المروق من نظمه الذي يحقق أغراضه، ولكنها وسط بين بين، فهي التزام بكل الأسس المنصوص عليها، أو التي تدل عليها مصادر التشريع الإسلامي من جهة، وتكيف مع المصالح المعتبرة في الشريعة الإسلامية من جهة أخرى.
(8) حيلة خلط معنى التمسك المحمود بالحق بمعنى التعصب الجاهلي المذموم
يطلق التعصب على التقليد الأعمى لما كان عليه الأسلاف دون بصر ولا نظر، ودون تفريق بين حق وباطل، مع التشدد في الاستمساك به، والانتصار له، ولو كان باطلاً لا يمت إلى الحق والصلاح بصلة فكرية أو واقعية، وهذا التعصب أمر مذموم، ذم القرآن المتصفين به ذماً شديداً، فقال الله تعالى في شأن المشركين في سورة (البقرة/2 مصحف/87 نزول) :
وقال تعالى في سورة (لقمان:31 مصحف/57 نزول) :
هذا هو التعصب المذموم، لأنه لا سند له إلاّ الانتصار لما كان عليه الآباء والأجداد، والمحافظة عليه، والتزامه، ولو كان غير مستند إلى عقل أو هداية، ولو كان ثمرة استجابة لدعوة الشيطان الذي دعوهم إلى شقائهم الأبدي في عذاب السعير.
أما الالتزام بما كان عليه الأسلاف من حق يشهد به المنطق الصحيح،
وتقوم عليه دلائل الواقع، فليس هو من التعصب في شيء، وإنما هو استمساك بالحق، وهو فضيلة لا يجافيها الإنسان إلا متجهاً في سبل الرذيلة.
وقد تلاعب أعداء الإسلام في هذين المعنيين بين صفوف المسلمين تلاعباً خطيراً، وأوهموا متبعيهم أن الاستمساك بشريعة الله، والأخذ بما ثبت فيها، والمحافظة على ما كان عليه السلف الصالح من عقيدة صالحة وعمل صالح، لون من ألوان التعصب المذموم. أما إحياء التراث الجاهلي، والتعصب له، والأخذ بتقاليد الجاهلية الأولى، والرجعة إليها، فهو فضيلة قومية، ولو كان ذلك شراً، أو أمراً تافهاً من أمور الفن، أو عملاً فاسداً غير صالح.
وصاروا بهذا التلاعب التضليلي يحلون بين المسلمين عرى استمساكهم بأحكام دينهم، وأصول شريعتهم، عروة فعروة، فإذا التزم المسلم بفريضة الصلاة فأداها في أوقاتها اتهموه بالتعصب، ووجهوا إليها عبارات الهزء والتندر، أو رشقوه بالهمز واللمز، وإذا تباعد عن شرب الخمر، أو تجافى عن موائد القمار، أو انتصر لمبادئ الإسلام وأحكام شريعة الله، قالوا: هذا متعصب متزمت، وإذا احتشمت المرأة المسلمة في لباسها أرعبوها بغول التعصب، وهكذا في جميع الالتزامات الإسلامية، بغرض تفريغ العقيدة الإسلامية من مضمونها العملي.
وكثير من المسلمين تضعف نفوسهم عن مقاومة هذا الاتهام المزور اللاذع، الموجه ضمن عبارات الهزء والسخرية والتندر، فينحل تماسكهم، ويخشون أن يقال: إنهم مسلمون، لأنهم يخشون أن يتهموا بالتعصب، وهي خديعة من أخبث صور الخداع، التي استخدمها أعداء الإسلام في المجتمعات الإسلامية.
وقد بلغ الأمر بكثير من المسلمين أنهم صاروا يتهاونون بحقوق أنفسهم، وحقوق إخوانهم، الذين تجمعهم معهم الوحدة الإيمانية،خشية أن يتهموا بالتعصب، وبدأ أعداء الإسلام والمسلمين ينفذون من هذا الباب إلى نهب حقوق المسلمين المشروعة من أموال ووظائف ومراتب ومصالح اقتصادية
أو اجتماعية أو سياسية، والمسلمون يخشون أن يؤيدوا حق إخوانهم في ذلك حذر أن يتهموا بالتعصب.
وطارت بين المسلمين نظرية التسامح الإسلامي، بزعم الدفاع عن الإسلام، واستخدمت هذه النظرية في غير مجالها، حتى صار تطبيق التسامح الإسلامي يعني تنازل المسلمين عن حقوقهم الشخصية، وعن حقوق جماعة المسلمين، وهي حقوق لا يجوز بحال من الأحوال التنازل عنها، لأن المسلمين كلهم أو بعضهم لا يملكون مثل هذا الحق، ما دام من شأنه أن يفضي إلى الإضرار بجوهر الإسلام، وسياسته في الأرض، ووحدة جماعته، وسلطان شريعته.
وزحف أعداء الإسلام وخصوهم هذه الخديعة الماكرة حتى وصلوا إلى معظم مراكز السلطة الفعالة في طائفة من بلاد المسلمين، وأخذت قلتهم القليلة الكثرة الكاثرة من مراكز القوة والحكم والإدارة والمال، ثم امتدت أيديهم إلى مقاتل المسلمين، وأخذوا يقبضون عليها بشدة متصاعدة، ويحتكرون بتعصب ذميم كل خير يجدونه، ولا يسمحون لغير المنتسبين إلى جماعاتهم بأن يصل إلى أي مركز حقيقي له قوة فعالة في البلاد، ومن عجيب المفارقات أنهم من أكثر الناس تعصباً للباطل الذي توارثوه عن آبائهم وأجدادهم وطوائفهم، ولا يقبلون فيه أية مناقشة منطقية مهما كان شأنها، وأنهم من أكثر الناس تعصباً أعمى للمنتسبين إلى أقوامهم أو طوائفهم، في الوقت الذي يستخدمون فيه سلاح الاتهام بالتعصب ضد المسلمين، الذين ليس عندهم من التعصب مثقال ذرة، وإنما يوجب عليهم الإسلام أن يستمسكوا الحق، وينصروا إخوانهم بالحق.
ومما يؤسف له أن كثيراً من المسلمين في غفلة كثيرة عن هذه الخديعة، التي يستخدمها أعداء الإسلام ضد المسلمين، ليصرفوهم عن الاستمساك بالحق الذي أنزله الله، وليحلوا بينهم وبين إخوانهم المؤمنين معاقد الترابط، وليغشّوا على أبصارهم حتى لا يروا الجيوش الزاحفة على حقوقهم وخيراتهم، السارقة لكل قوة لهم، والعاملة على هدم دينهم وكيانهم بين أمم الأرض.