الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(11) نحن والغزاة
تحرص كلّ الشعوب على لغاتها ، وتحاول الاحتفاظ بها ، ونشرها بين الناس ، كما يفعل الاستعماريون ، وغيرهم من ذوي النزعات القومية.
ونلاحظ تمسّك اليهود تمسكاً شديداً بالعبرية ، ضمن دوافع دينية وعرقية قومية ، ولو نشأ ناشئوهم بين شعب لا يتكلّم العبرية مطلقاً ، وقد يصل التعصب ببعضهم إلى رفض تعلم لغة أخرى.
وتفاخر الأمم بالروائع الأدبية والروائع العلمية المكتوبة بلغاتها والمصوغة بألسنتها؛ إذ تشعر في ذلك بلون من ألوان المجد المتصل بذاتياتها ولغاتها الممثلة لصورة الرقي الذي بلغه أسلافها ، والذي يمنحهم الشعور بأن وراثة عوامل المجد مستمرة فيهم ، وهذه العوامل سيكون لها بين حين وآخر ثمرات متجددة ، بينما تشعر أمم أخرى بكثير من الخجل والضآلة ، إذا لم تجد في تاريخها الغابر روائع علمية أو أدبية تبرهن للناس على مدى الرقي الذي بلغه أسلافها ، الأمر الذي قد يشعر هؤلاء الأحفاد بأنهم لا يملكون النصيب الذي يفخرون به من وراثة عوامل المجد ، وبأن القصور الذي أصيب به آباؤهم وأجدادهم قد يكبو بهم أيضاً على مرّ الزمن.
هذه ظاهرة من الظواهر الإِنسانية ، ذات الأثر في مجتمعات الناس ، وإننا نجد أنفسنا مضطرين لعرضها في ميادين البحث الإِِنساني ، سواء أقرها التحليل العلمي أو تردد في إقرارها ، لأن كلَّ ظاهرة اجتماعية لا بد أن يكون لها عامل أو أكثر من العوامل النفسية داخل الأفراد ، وهي التي تمثل بشكل عام جانباً من خصائص الأمة.
ولما كانت اللغة العربية الفصحى تحوي ذخائر الروائع الأدبية والعلمية ، التي لا تطاولها ذخائر أخرى في العالم؛ حق للأمة العربية في جميع عصورها أن تفخر بهذه الذخائر ، وأن تحرص عليها ، وأن تكون وفية لأسلافها ، وذلك
بالمحافظة على متن لغتها الراقية ، وقواعدها التي كتبت بها هذه الذخائر ، وضبطت بها علومها وآدابها.
وجدير بالأمة العربية فوق ذلك أن تفخر بالشرف العظيم الذي منحها الله إياه ، إذ أنزل بلغتها العربية الفصحى القرآن المجيد ، آخر الكتب الربانية للناس وخاتمها ، وجامع زبدة ما أنزل فيها من علم وهداية ، وقد امتن الله على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وعلى الأمة العربية بهذا التشريف إذ قال تعالى في سورة (الزخرف / 43 مصحف / 63 نزول) :
{
فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} .
أي: وإن القرآن لشرف عظيم لك ولقومك ، إذ أنزل باللغة العربية التي تنطقون بها ، فتوّج ذخائر علومكم وآدابكم بتاج المجد الخالد ، الذي لا يطاوله مجد آخر ، لما يتمتع به من حكمة وحق وإعجاز في لفظه ومعناه.
وإذا اختار الله اللغة العربية الفصحى لإِنزال آخر كتبه للناس بها ، الجامع لزبدة ما في الكتب السابقة من هداية وحكمة ، والذي أعدّه الله للخلود ، وتعهد بصيانته وحفظه من التحريف والتبديل والنسيان والضياع في لفظه ومعناه ، فمن المؤكد أن يكون لهذا الاختيار حكمة تتصل بجوهر هذه اللغة وخصائصها ، لذلك نجد في القرآن الكريم آيات عشراً تنوه بأنه قرآن عربي:
أ - فمنها قول الله تعالى في سورة (الشعراء / 26 مصحف / 47 نزول) :
فالقرآن بلسان عربي مبين ، وظاهر في وصف اللسان العربي بالإِبانة المدح له بالدقة والضبط في تأدية ألفاظه وتراكيبه وقواعده وأساليبه البلاغية للمعاني التي يقصد إليها البليغ ، حينما يستخدم هذا اللسان للتعبير عما يريد الإِبانة عنه ، واللسان العربي هو اللغة العربية الفصحى التي أنزل الله بها القرآن.
والقرآن ليس بدعاً بين الكتب المنزلة ، فما احتواه من هداية وحق وحكمة قد أنزله الله موزعاً في كتب الرسل الأولين ، وهذا ما دلّ عليه قول الله تعالى:
{وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ}
ب - ومنها قول الله تعالى في سورة (يوسف / 12 مصحف / 53 نزول) :
{إِنَّآ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}
وقوله تعالى في سورة (الزخرف / 43 مصحف / 63 نزول) :
{
إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ *} .
ونستطيع أن نفهم من قول الله تعالى في هذين النصين: "قرآناً عربياً لعلكم تعقلون" أن في اختيار إنزاله قرآناً عربياً حكمة عبّر عنها بقوله: "لعلكم تعقلون" أي رجاء أن تعقلوا ما فيه من معانٍ ، لأن اللغة العربية لغة فيها من القواعد الرصينة والأساليب البلاغية ما يضبط الدلالة على المعاني الكثيرة المرادة ، ولا يسمح لها أن تكون مائجة مائعة رجراجة ، أو رجاء أن تعقلوا هذا التشريف الربّاني للغتكم ، فتحافظوا على هذا الكتاب ، وتحافظوا على هذه اللغة التي اختارها الله من بين لغات الأرض لغة خاتم كتبه للناس بها ، مع أن من آياته جلّ وعلا اختلاف ألسنة الناس وألوانهم.
جـ - ومنها قول الله تعالى في سورة (الأحقاف / 46 مصحف / 66 نزول) :
وقوله تعالى في سورة (فصلت / 41 مصحف / 61 نزول) :
وقوله تعالى في سورة (طه / 20 مصحف / 45 نزول) :
وقوله تعالى في سورة (الزمر / 39 مصحف / 59 نزول) :
ففي هذه النصوص يؤكد الله مِنّته على الأمة العربية بإنزال القرآن بلسانها ، تشريفاً للغتها وتكريماً لها.
وإن كتاباً قد بلغ هذا المجد العظيم حقيق بأن تبذل من أجل الحرص عليه حياة أجيال ، وحقيق بأن تكون لغته محور لغة الأمة التي شرّفها الله به ، وأن يكون صراطه سبيل حياتها ، وأن تكون مبادئه وفلسفته أسس عقائدها ومفاهيمها.
أما الذين يحاولون صرف الأمة العربية والشعوب الإسلامية عن العربية الفصحى ، فهم يعملون ليخلعوا عن هذه الأمة مجدها العظيم.
ومع اعترافنا بأن الخطة الذكية ، التي سلكها الأعداء الغزاة ، المشتملة على استئجار أجراء من داخل البلاد الإسلامية ، لتحقيق أهدافهم في هدم الإِسلام ، قد كانت أكثر نجاحاً من خططهم السابقة التي واجهوا بها المسلمين صراحة ، وهم يعلنون عداءهم الصريح لهم ولدينهم ولماضيهم وكل ما يتصل بهم.
ومع اعترافنا أيضاً بأن أبناء المسلمين الذين تربوا على أيدي أعداء الإِسلام ، وتأثروا بهم ، قد كانوا أكثر إنفاذاً لأفكار الغزاة وأكثر نشراً لها داخل المجتمعات الإِسلامية من الأعداء أنفسهم ، لأنهم من جلدتهم ، وينطقون بلغتهم ، ويتظاهرون بالغيرة عليهم ، ويستطيعون أن ينفذوا إلى مراكز القيادة فيهم ، ويجد كلٌ منهم عشيرة تناصره ، وعصابة تؤازره ، وجماهير تحسن به الظن ، لأنه بحسب الظاهر غير متّهم على قومه ، إذ هو منهم ، مع أنه في الحقيقة قد خرج بأفكاره وعواطفه الصادقة عنهم خروجاً بيناً ، بسبب عملية الصهر
البطيء الذي تعرّض له ، من قبل أعداء قومه ودينه ، منذ نشأته في المدارس التي تطبق خطط الأعداء ، فهو في كل إساءاته لأمته ولأمجادها وأبنيتها الحضارية يحسب أنه يصلح ولا يفسد ، ويساهم في تقدم أمته لا في تأخرها ، وصاحب هذا الظن شر على أمته من صاحب الخيانة ، لأن الأجير الخائن يعمل بمقدار الأجر الذي يدفع له ، ويظل جباناً خائفاً يحاذر الفضيحة ، أما هذا فإنه يقوم بأعمال الهدم باذلاً كل قوتّه ، متحمساً للأفكار الفاسدة التي حملها معتقداً لها ، حتى أمست جزءاً من كيانه النفسي والفكري.
مع اعترافنا بما سبق فإن الإصلاح لا يعدم وسيلة تنفذ إلى الواقع الفاسد ، بالإقناع والترغيب والترهيب والتربية والتقويم القسري.
ولو تسنى للمصلحين الظفر بإقناع الذين انحرفوا من أبناء أمتنا ، حتى يعلموا أنهم قد كانوا ضحايا غزو فكري أعده أعداء أمتهم بإحكام بالغ ، لهدم مباني مجدها التاريخي العظيم ، لانقلبوا بقوة أشد عنفاً على أفكارهم التي حسبوها خيراً وهي شرٌ لهم ولأمتهم ، ولعادوا إلى تدعيم المباني التاريخية التي يعملون اليوم على تهديمها ، بكل ما أوتوا من قوة.
وما على الطلائع المؤمنة بالحق والخير إلا أن تضطلع بمهمة نشر ما تؤمن به ، غير متواكلة ولا متخاذلة.
ففي ردّ هجمات التحدي التي يوجهها خصوم اللغة العربية الفصحى بين حين وآخر إلى حصونها وقواعدها ، بغية الفصل بين الشعوب الناطقة بها وبين كنوز الإسلام المحفوظة فيها ، يجب على العرب خاصة وعلى المسلمين عامة أن يقابلوا هذه الهجمات بالصمود والثبات ، إن لم يردوها بهجمات مناظرة على أسس اللغات الأخرى ، التي يحاول الناطقون بها نشرها بين أمم الأرض ، وإحلالها محلّ لغاتها الأصلية ، ويوجهون جهوداً ضخمة على وجه الخصوص لمحو اللغة العربية حاملة رسالة الإسلام.
وخطة الصمود والثبات تفرض على الأمة العربية ثم على سائر الشعوب الإسلامية أن يعملوا على نشر العربية الفصحى بين الأجيال الناشئة في
بلادهم ، ثم أن يعملوا أيضاً - إن استطاعوا - على نشرها بين شعوب الأرض قاطبة ، بأحدث وسائل النشر ، وأقرب أساليب تعليم اللغات ، ولا أقل من أن تكون هي لغة التخاطب بين الشعوب الإسلامية التي يبلغ عددها ربع سكان الكرة الأرضية.
هذا واجب إسلامي يطالب به جميع المسلمين ، وهو واجب عربي يطالب به جميع العرب.
وتتحمل مناهج التعليم وبرامجها وخططها الدراسية وكتبها المدرسية والمدارس التي تطبق ذلك أثقل أعباء هذه المسؤولية الخطيرة.
وأي تهاون أو تقصير في أمر العناية بالعربية الفصحى من قبل المؤسسات المسؤولة عن وضع المناهج والبرامج والخطط الدراسية والكتب المدرسية ، والمسؤولة عن الإشراف على المدارس التي تطبقها ، سيكون مساهمة سلبية ، تمكن لخصوم اللغة العربية ، أن يظفروا ببعض ثمرات هجمات التحدي عليها وعلى الإسلام ، الذي يمثل بالنسبة إليها قوة الحماية غير المنظورة ، التي يعرفها الخبيرون ، ويتجاهلها المغرضون.
فمن الواجب أن تضم المناهج الدراسية لجميع مراحل الدراسة النسبة الكافية من علوم اللغة العربية ، وأن تعطى هذه المناهج من الخطط الدراسية النسبة الكافية من الساعات الأسبوعية ، وأن يشجع المؤلفون والمنتجون بكلّ وسائل التشجيع المغرية لابتكار الطرق التعليمية السهلة لهذه اللغة ، ولتأليف الكتب الملائمة التي تحبب اللغة العربية لروادها ، وأن تقدم العلوم على اختلافها باللغة العربية الفصيحة اللينة السهلة ، التي لا تقعير فيها ولا تعقيد ، وذلك منذ أول المرحلة الابتدائية حتى نهاية المرحلة الجامعية ، وأن لا يسمح بتدريس العلوم المختلفة باللغات الأجنبية ، مهما دعت الضرورة إلى ذلك ، فضرورة المحافظة على اللغة العربية أشد ، والأمر ميسور لمن طلبه وسعى إليه ، وأن تعد الجوائز والمكافآت للكتَّاب والأدباء والشعراء الذين يقدمون ثمرات إنتاجهم العلمي أو الأدبي ، المتقيد بأصول اللغة العربية متنها وقواعدها والمتقيد بأصول العقائد والأخلاق الإسلامية ، وأن تعقد مجالس محادثات عامة أسبوعية أو شهرية
في كل معهد علمي مهما كان مستواه الدراسي للطلبة والمدرسين، يلزم فيها المتحدثون بأن يتقيدوا بالعربية الفصحى، مهما كانت موضوعات الأحاديث، ولو كانت من الأحاديث العادية غير ذات الشأن، وأن تقوم مؤتمرات دورية في العالم الإسلامي يشارك فيها ذوو الاختصاص لاكتشاف أحسن الوسائل لتسهيل نشر اللغة العربية في العالم.
ويقع قسم آخر من عبء هذه المسؤولية، على المجامع العربية التي يجب عليها أن تعمل بكل جهدها، على توحيد المصطلحات العربية لمختلف العلوم والفنون الحديثة، وأن تصدر في سبيل تحقيق هذه الغاية على شكل دوري مجلة عربية رسمية موحدة، تنشر فيها ما تتلقاه من طلبات ووضع مصطلحات عربية في مختلف العلوم والفنون، تفد إليها من جميع المؤسسات التعليمية وغيرها، ثم تنشر فيها جميع القرارات التي تتخذها بشأن المصطلحات العربية الحديثة، وقبل أن تتخذ قراراتها لا بد أن تطرح موضوعاتها على الرأي العام العربي، طالبة تقديم المقترحات حول المعاني العلمية أو الفنية الجديدة التي تريد أن توجد لها مصطلحات عربية.
ومن الخير أن تحدّد هذه المجامع مكافأة مادية لكلّ مصطلح ينال لدى المجامع العربية أولولية الإقرار، ومن ثم يلزم الكتاب والمؤلفون والمحاضرون بأن يتقيدوا بهذه المصطلحات التي توضع لها المعاجم الخاصة، على أن تجدد طباعتها بين حين وآخر، مضافاً إليها ما استحدث من مصطلحات.
وأخيراً فإن القسط الباقي من عبء هذه المسؤولية يقع على جميع المؤسسات الرسمية والدوائر الحكومية في جميع البلاد العربية، وعلى وسائل الإعلام المختلفة الشاملة للإذاعات والصحف والمجلات والأندية والمؤسسات الاقتصادية العامة أو الخاصة.
أما نشر اللغة العربية بين الشعوب الإسلامية فيتطلب عملاً إسلامياً عاماً تتحمل البلاد العربية فيه قسطاً كبيراً من مسؤوليته.
ومن وسائل تحقيق هذا الهدف افتتاح مراكز لتعليم اللغة العربية في كل بلد من البلاد الإسلامية، بالاتفاق مع حكومات هذه البلاد، ولن تكون
مشكلة التمويل كبيرة متى اقتنعت هذه الدول الإسلامية بضرورة الأمر، إذ ستتحمل كل دولة منها معظم أعباء المراكز التي تؤسس داخل دولتها، وما على الدول العربية في إطار التعاون مع الشعوب الإسلامية إلا أن تقدم الخبرات والمعلمين المدربين الكتب الملائمة.
ومن الوسائل تذليل تعلّم وتعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها، وعن طريق الكتب الميسرة السهلة، والتعليم الإذاعي، والتعليم التلفزيوني، وأشرطة التسجيل السمعية، والسمعية البصرية، ومعامل اللغة، والمسابقات العامة، وغير ذلك.
هذه طائفة من الوسائل التي نستطيع أن نخدم بها لغتنا العربية، وستكون فائدتنا جليلة جداً في المجال الدولي العام إذا حققنا هذا الأمل العظيم.
* * *