الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصْل الثالث شُبهَاتٌ حَوْلَ بَعْض العبَادات في الإسْلَام
شُبهَاتٌ حَوْلَ بعض العبادات في الإِسلام
لا يدع أعداء الإسلام جانباً من جوانبه إلا ويثيرون حوله شبهة تافهة مردودة من شبهاتهم، ففي العبادات الإسلامية يحاولون تشكيك أبناء المسلمين ببعض ما هو منها، أو يصورون صوراً من عند أنفسهم أو يفهمون مفاهيم خاطئة، ثم يوجهون الانتقادات على ما صوروا وعلى ما فهموا، وليس الإسلام في واقع حاله كذلك.
فقد يتهمون المسلمين بأنهم يعبدون الكعبة أو يعبدون الحجر الأسود، مع أن الكعبة في عقيدة المسلمين مركز في الأرض لتوحيد اتجاه المسلمين عند عباد الله بالصلاة، ولتوحيد مطاف المسلمين عند عبادة الله بالطواف، والحجر الأسود علامة لتحديد الركن الذي يبدأ الطواف من عنده من أركان الكعبة. ورمز لمبايعة رب الكعبة على الطاعة والمحبة.
ويشككون بعبادة رمي الجمار في الحج، مع أن هذه العبادة تعبير مادي عن جانب الكفر بالطواغيت، الذي هو جزء من الإيمان، إذ لا يتم إيمان المؤمن حتى يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله.
ويشككون بالتيمم بدل الطهارة بالماء عند فدقه أو تعذر استعماله، مع أن التيمم عمل رمزي يقدم فيه المسلم عذره لربه، بأنه لم تتيسر له الطهارة بالماء، فأدى شكلاً يشبه جزءاً حركياً من أعمال الطهارة.
وعلى هذا النمط يثيرون شبهاتهم الضعيفة المردودة، وللرد عليها جملة
واحدة أضع بين يدي القارئ تعريف موجزاً بأسس العبادات في الإسلام، وبياناً مختصراً جداً لمفاهيمها العامة.
يلاحظ الباحث المتأمل أشكال العبادات التي شرعها الله للناس في الإسلام فيراها نموذجاً فريداً رائعاً، مطابقاً لجوانب الحكمة الفكرية والنفسية والاجتماعية ذات الفلسفة الراقية، الملائمة لواقع الناس في حياتهم الدنيا.
إن الحكمة الإسلامية في جانب العبادات قائمة على مجموعة من الأسس الفكرية العظيمة، يتضح لنا منها الأسس التالية:
الأساس الأول: الإنسان مخلوق لله وحده، ومن واجب هذا المخلوق أن يعترف لخالقه بالربوبية، وأن يعبده وحده لا يشرك بعبادته أحداً، ذلك لأن جميع ما في الكون مخلوق لله، فلا يستحق شيء منه أن يتقرب إليه بأي شكل من أشكال العبادة، فأي يتقرب إلى غير الله بأي لون من ألوان العبادات هو شرك بالله سبحانه.
الأساس الثاني: حقيقة العبادة الخضوع القلبي والفكري والنفسي لله تعالى، والاعتراف له بالعظمة والجلال، والإقرار له بكمال الربوبية والألوهية، والالتجاء إليه في كل مطلب، والثناء عليه بما يليق بجلاله، وشكره على نعمائه.
لكن طبيعة الحياة المادية للإنسان، تستدعي بحسب ظروفه المعاشية، أن يعبر عن هذه العبادة القلبية والفكرية والنفسية بصيغ مادية، تدل بصورتها الظاهرة على ما يعتمل في داخل الإنسان من معاني العبادة الحقة، لأنه يعسر على كل إنسان أن يستجمع معاني العبادة الحقيقية في داخله من غير أن يغلف ذلك بعمل مادي. لذلك كان لا بد للإنسان من أن يتجه في عبادته لربه اتجاهاً مادياً يعبر به عما في قلبه وفكره ونفسه من معاني العبادة.
الأساس الثالث: متى فقدت العبادة المادية جانبها الداخلي في الإنسان
كانت نوعاً من أنواع الرياضة البدنية البحتة، أو عملاً من الأعمال الجوفاء التي لا أثر لها في سلوك الإنسان.
ولذلك جاء في الحديث الصحيح قول الرسول: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى" وجاء في المأثور عن الرسول أيضاً: "ليس للإنسان من صلاته إلا ما عقل منها" أي: إلا ما كان منها مرافقاً لمعاني العبادة القلبية والفكرية والنفسية. وروى الدارمي بإسناد جيد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله: "كم من صائم ليس له من صيامه إلا الظمأ، وكم من قائم ليس له من قيامه إلا السّهر" أي: لأن كلا من هذا الصيام وهذا القيام قد كان عملاً أجوف فارغاً من معاني العبادة الحقة، التي من شأنها أن تكون متغلغلة في داخل نفس الصائم القائم، ومؤثرة في سلوكه.
الأساس الرابع: أن من تمام الحكمة الربانية أن الله لم يترك لعباده أ، يختاروا لأنفسهم أشكال عباداتهم لربهم، ولكنه حددها لهم وفق حكمته، وأمرهم أن يتقيدوا بها، وأن لا يتجاوزوا حدودها العامة.
ولو أنه سبحانه ترك ذلك للناس لتفرقوا في تحديد أشكال العبادات، ولاختاروا منها أموراً بعيدة عن منطق الحكمة، فلربما اختار بعضهم ما فيه تعذيب شديد للأجسام والنفوس، وقد اتجه إلى مثل هذا بعض فلاسفة الهنود، ولربما اختار بعضهم ما فيه إرضاء للشهوات وإشباع للغرائز وانغماس بكل موبقة، وقد اتجه إلى مثل هذا بعض مخترعي العبادات لأنفسهم، إلى غير ذلك مما لا تقبله فلسفة الحياة القويمة.
الأساس الخامس: ولما حدّد الله للناس أشكال العبادات التي ينبغي له يعبدوه بها، اقتضت حكمه العالية أن يجعلها متنوعة على مقدار ما في الحياة من أشكال متنوعة، يمارسها الناس في أعمالهم الخاصة أو العامة، مما تدعو إليه مطالب حياتهم الفردية والاجتماعية.
ضمن هذه الأسس قامت فلسفة أشكال العبادات في الإسلام، وبذلك كانت في مركز القمة، فمن تبصر بها ورعاها لم يجد فيها مدخلاً ينفذ منه عدو إلى تشكيك.
لقد عرف الناس في أعمالهم التي تستدعيها حاجاتهم حركات الوقوف والانحناء وهبوط الجبهة إلى الأرض، كما عرفوا من مظاهر التعظيم والإجلال لملوكهم ورؤسائهم أشكال الوقوف والركوع والسجود، فقضت مشيئة الله أن يخصص الإنسان لعبادة ربه طائفة من الأعمال التي تشاكل ما يقوم به عادة في حاجاته، كما قضت مشيئته أن يكرّم الإنسان عن أن يذل لمخلوق مثله، فأمره أن يقوم ويركع ويسجد لله وحده لا شريك له، وأن لا يفعل مثل ذلك في تعظيم غير الله تعالى.
وضمن هذا شرع الله للناس عبادة الصلاة، التي تحتوي في أعمالها المادية الجسدية على القيام والركوع والسجود، ليقدم الإنسان في هذه الحياة قسطاً من أعماله في طاعة ربه، مع شرط تحقق معاني العبادة القلبية والفكرية والنفسية، ضمن أداء الأعمال المادية في الصلاة.
وعرف الناس في حياتهم الطعام والشراب والإمساك عنهما بالإرادة، والحرمان منهما عند الفقد. أو عند حاجة الحمية الصحية،فشرع الله لهم عبادة لصوم، كما شرع لهم عبادة الفطر في يومي العيد وأيام التشريق، ليخصص الإنسان من هذا النوع من أعماله المعتادة في حياته طائفة لعبادة ربه.
وعرف الناس في حياتهم تحصيل المال وبذله في حاجاتهم ومطالبهم الخاصة، فشرع الله لهم عبادة الزكاة، ليخصص الإنسان جزءاً مما يبذله من ماله في عبادة ربه.
وعرف الناس في حياتهم التعبير عما يخالج نفوسهم من أفكار بما يتكلمون به من أقوال، فشرع الله لهم عبادات التلاوة والأذكار والتسبيح والتحميد والدعاء والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنصح لكل مسلم، إلى غير ذلك من عبادات قولية.
وعرف الناس في حياتهم القيام بالأسفار للتجارة والسياحة والنزهة وغيرها من منافع الحياة، فشرع الله لهم عبادة السفر إلى بيته الحرام، لأداء مناسك الحج والعمرة، وليشهدوا منافع لهم.
وتعتبر مناسك الحج والعمرة صوراً رائعة من صور العبادات.
لقد عرف الناس من مظاهر إلحاح المحبين الطواف على دار المحبوب، فشرع الله لهم عبادة الطواف حول الكعبة بيت الله المقدّس، ليعلنوا في مقام عبوديتهم لله تعالى أنهم في مقام المحبين له، اللائذين بعظمته.
كما عرف الناس من مظاهر الإلحاح في الطلب الصبر في تكرار السعي لبلوغ ما يرجونه من حاجات الدنيا، فشرع الله لهم عبادة السعي ذهاباً وعوداً بين الصفا والمروة، ليلحوا في طلب عفو الله والجنة، وجعل ذلك منسكاً من مناسك الحج والعمرة.
وعرف الناس من مظاهر مطالبهم الجماعية إنشاء الأسواق والمنتديات والحفلات العامة، فشرع الله لهم عبادة الوقوف بعرفة في يوم جامع، وجعلها منسكاً من مناسك الحج.
وعرف الناس من مظاهر أفراحهم في أعيادهم ذبح الذبائح، والتوسعة على أهليهم بأكل اللحوم، فشرع الله لهم عبادة ذبائح الهدي والأضاحي، توسعة على أنفسهم وعلى أهليهم وعلى الفقراء والمساكين.
وعلى هذا القياس نلاحظ فلسفة مشروعية عبادة المبيت بمزدلفة، والمبيت بمنى من مناسك الحج، وعبادة التجرد من الثياب المخيطة عند الإحرام بالحج أو العمرة للرجال، وعبادة الحلق أو التقصير عند التحلل منه.
ولن يجد المتأمل الباحث صعوبة في تدبر الحكمة من نسك رمي الجمار، الذي شرعه الإسلام، ضمن مناسك الحج.
إن هذا النسك لون من ألوان العبادة ذو معنى عميق في نفس المسلم العارف بمقاصد الشريعة الإسلامية، ذلك لأنه عمل يشعر بمدى ما بلغه المؤمن من إرغام لشياطينه التي توسوس داخل نفسه، بعد ما أدى عباداته المتنوعة لله تعالى، فهو يقهر بصيغة الرمي المادية أنواع شياطينه الثلاثة: شيطانه الذي يوسوس في فكره فيفسد عليه عقيدته، وهو أكبر شياطينه، وشيطانه الذي يوسوس في قلبه فيفسد عليه أخلاقه، إذ يحرك فيه الحقد والحسد والطمع وسائر
أمراض القلوب، وهو شيطانه الأوسط، وشيطانه الذي يوسوس في نفسه، فيحرك له أهواءه وشهواته وغرائزه، ويفسد عليه سلوكه، وهو شيطانه الأصغر، فإذا قذف المؤمن بالحجارة الصغيرة الأماكن التي خصصها الشارع رمزاً لعوارض الشيطان في الأنفس فقد أعلن بصيغة مادية ما جزمت به إرادته من إرضاء للرحمن وامتثال لأمره، وكفر بالطواغيت وإرغام للشيطان وطرد لوساوسه.
وضمن هذه الفلسفة الحكيمة الرصينة تتجلى لنا حكمة مشروعية عبادة كف البصر عن محارم الله، وإحصان الفرج عن الزنى وسائر الموبقات، وكف اللسان عن الكذب والغيبة والنميمة، وهكذا إلى آخر أنواع العبادات التي شرعها الله لنا.
ومن تدبر هذه الحقائق ونظائرها، سقطت من نفسه وساوس أعداء الإسلام وشبهاتهم التي يحاولون جهدهم بثَّها للتشكيك بالإسلام وبكماله وبربَّانيته.
* * *