المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الوسيلة الثانية عشرة الإفساد الخلقي والسلوكي - أجنحة المكر الثلاثة

[عبد الرحمن حبنكة الميداني]

فهرس الكتاب

- ‌ترجمة المؤلف [ووالده]

- ‌الشيخ عبد الرحمن حبنكة الميداني [المؤلف]بقلم: أيمن بن أحمد ذو الغنى

- ‌الشيخ حسن حبنكة الميداني [والد المؤلف]بقلم د: يحيى الغوثاني

- ‌1ـ مولده ونسبه:

- ‌2ـ نشأته وطلبه للعلم:

- ‌3ـ مرحلة الدعوة والتعليم:

- ‌4ـ أسلوبه في التعليم:

- ‌5ـ مشاركاته العلمية:

- ‌6ـ اهتمامه بالمجتمع والأعمال الخيرية:

- ‌7ـ مواقفه الإسلامية الشجاعة:

- ‌8 ـ صفاته الشخصية ومشاركاته الأدبية ومختارات من شعره:

- ‌9 ـ صفاته التربوية:

- ‌10 ـ وفاته:

- ‌الشيخ عبد الرحمن حبنكة الميداني [المؤلف]بقلم د: يحيى الغوثاني

- ‌مولده وتعليمه:

- ‌من مؤلفاته:

- ‌من آرائه ومواقفه التاريخية:

- ‌الشيخ عبد الرحمن حبنكة الميداني [المؤلف]بقلم: وصفي عاشور أبو زيد

- ‌دعاء

- ‌القِسمُ الأول الغَزوُ بالحِيَل وَوَسَائل المَكْرِ غَيْر المبَاشِرَة

- ‌الفصل الأوّل من القسم الأول مقَدِّمَات عَامَّة

- ‌(1) الحروب الصليبية وخيبتها وتحول اتجاهها

- ‌(2) الغزو الفكري وخطره

- ‌(3) تاريخ ظاهرة الغزو الفكري

- ‌(4) المهمات الرئيسية لأعداء الإسلام

- ‌(5) المنهج الرئيسي للغزو الفكري

- ‌(6) الوسائل الرئيسية للغزو الفكري

- ‌(7) تعريفات للأجنحة الثلاثة

- ‌(8) المؤازرون من الداخل لقوى المكر الخارجية

- ‌الفصْل الثاني المبشِّرون وأعمالهمْ

- ‌1- عرض موجز لتاريخ التبشير وأعمال المبشرين

- ‌(2) مؤتمرات المبشرين

- ‌(3) مجالات أنشطة المبشرين

- ‌(4) التآزر بين المبشرين والمستعمرين

- ‌الفصْل الثالث المستَشرقون وَأعمَالهمْ

- ‌(1) تعريف عام بالاستشراق والمستشرقين

- ‌(2) موجز تاريخ الاستشراق

- ‌(3) مدارس الاستشراق

- ‌(4) دوافع المستشرقين وأهدافهم

- ‌(5) مجالات أنشطة المستشرقين

- ‌(6) أخطر وسائل المستشرقين الفكرية

- ‌(7) موازين البحث عند المستشرقين

- ‌(8) الجامعات الغربية وأثر المستشرقين فيها على المسلمين

- ‌(9) مقارنة بين التبشير والاستشراق وأعمالها

- ‌(10) المستشرقون يدركون قدرة الإسلام الذاتية

- ‌الفصْل الرابع الاسْتِعْمَار وَالمُسْتَعْمِرُون

- ‌(1) فكرة عامة عن بدء الاستعمار

- ‌(2) الاستعمار الغربي للبلاد الإسلامية العربية

- ‌(3) الاستعمار البريطاني للهند وآثاره

- ‌(4) أبرز أعمال الكيد التي قام بها الاستعمار في بلاد المسلمين

- ‌(5) وثيقة من دولة استعمارية لنصارى وطنيين

- ‌الفصل الخامس عناصر التلاقي والأهداف والأعمال المشتركة

- ‌(1) الالتقاء على الكراهية والحقد

- ‌(2) الالتقاء على كسب المغانم

- ‌(3) الالتقاء على محاربة الإسلام وتطبيقاته

- ‌(4) محاولات الفصل الكلي بين الإسلام والمسلمين

- ‌(5) محاولات الفصل الجزئي بين الإسلام والمسلمين

- ‌الفصل السادس وسائل الغزاة وحيلهم

- ‌(1) مقدمة عامة

- ‌(2) وسائل الغزو غير المسلح

- ‌(3) شرح الوسائل

- ‌الوسيلة الأولى: الوجوه المستعارة

- ‌الوسيلة الثانية الخداع السياسي

- ‌الوسيلة الثالثة: الضغط السياسي

- ‌الوسيلة الرابعة: الحصار الاقتصادي

- ‌الوسيلة الخامسة: الحصار العلمي والثقافي

- ‌الوسيلة السادسة: التمييز الطائفي

- ‌الوسيلة السابعة: التمييز العنصري والقومي

- ‌الوسيلة الثامنة: التضليل الفكري

- ‌الوسيلة التاسعة العبث النفسي

- ‌الوسيلة العاشرة: حيل السلب المالي

- ‌الوسيلة الحادية عشرة: الإفساد الاجتماعي

- ‌الوسيلة الثانية عشرة الإفساد الخلقي والسلوكي

- ‌الفصْل السّابع منْ وَسَائل الغزو الفكري: التفريغ وَالملء

- ‌(1) مقدّمة

- ‌(2) عناصر الخطة

- ‌(3) وسائل التفريغ

- ‌(4) عمليات ملء الفراغ

- ‌(5) تسخير الجيش الجديد من أبناء الأمة

- ‌الفصْل الثامِن خطط العَدُوّ لغزو الإسْلام

- ‌(1) خطة وغرض

- ‌(2) التحريف في مفهوم التوكل على الله

- ‌(3) سوء فهم معنى الرضى بالقضاء والقدر

- ‌(4) محاولات الغزاة إلغاء ركن الجهاد في سبيل الله

- ‌الخطة الأولى: خطَّة استغلال ردود الأفعال الناتجة عن توجيه الاتهام

- ‌الخطة الثانية: خطَّة تفريغ الجهاد في سبيل

- ‌الخطة الثالثة: اتخاذ حيلة الربط الدوري بين ركن الجهاد في سبيل الله بالقتال وبين إقامة الحكم الإسلامي

- ‌الخطة الرابعة: اصطناع الفرق العميلة الأجيرة

- ‌الخطة الخامسة: خطَّة استغلال المنظمات الدولية المندسة في الشعوب المسلمة

- ‌الخطة السادسة: خطة التوريط والإحباط، لإقناع جماهير المسلمين بالعجز

- ‌(5) محاولات الغزاة تفريغ الإسلام من أحكام المعاملات وسائر شؤون الحياة

- ‌(6) محاولة إلغاء تطبيق أحكام الأحوال الشخصية الإسلامية

- ‌(7) التلاعب بالأحكام الإسلامية بحيلة المرونة في الشريعة

- ‌(8) حيلة خلط معنى التمسك المحمود بالحق بمعنى التعصب الجاهلي المذموم

- ‌(9) التلاعب بعبارات التقدمية والرجعية والتمدن والتخلف ونحوها

- ‌(10) حيلة التحسر على افتقار الأمة العربية إلى فلسفة ترفع من شأنها

- ‌(11) حيلة التمجيد بعبقرية محمد لتفريغ دعوته من كونها رسالة ربانية

- ‌الفصْل التاسِع الغزاة وأعمالهم في هدم وحدة المسلمين

- ‌(1) مقدمة عامة

- ‌(2) التجزئة باستغلال الخلافات السياسية

- ‌(3) تفتيت وحدة المسلمين هدف مشترك لدى أجنحة المكر

- ‌(4) دسائس وألاعيب استعمارية لتمزيق وحدة المسلمين

- ‌(5) التقسيم الطبقي

- ‌(6) هدم الخلافة الإسلامية

- ‌(7) مكيدة تحديد النسل

- ‌الفصْل العاشر الغزو بفكرة القوميّة

- ‌(1) خطة وأهداف

- ‌(2) مغالطة جدلية

- ‌(3) موقع الشعب العربي بين الشعوب الإسلامية الأخرى

- ‌(4) تقبّل المبادئ الأخرى بعد التفريغ بفكرة القومية

- ‌(5) الأمة العربية بعد الإسلام وقبله

- ‌الفصْل الحَادي عشر أعمال الغزَاة ضِدّ اللغةِ العربيَّة

- ‌(1) مقدمة عامة حول أهمية اللّغة

- ‌(2) الاستعمار ومحاربته للعربية الفصحى

- ‌(3) الدعوة إلى نشر العاميات واللهجات الإقليمية

- ‌(4) نظرة تاريخية إلى حركة التحويل عن الفصحى

- ‌(5) ردود على مزاعم خصوم الفصحى

- ‌(6) دغدغة العواطف القومية القديمة للتحويل عن العربية الفصحى

- ‌(7) مزاعم إصلاح رسم الخط العربي

- ‌(8) غزو الفصحى عن طريق العبث بقواعدها

- ‌(9) غزو اللغة العربية بالمفردات الأجنبية الدخيلة

- ‌(10) طلائع المستجيبين لمكيدة إحلال العاميات محل الفصحى

- ‌(11) نحن والغزاة

- ‌الفصْل الثاني عشر الغزاة وتفصيل أعمالهم في الإفساد

- ‌(1) تكسير معاقد الترابط الاجتماعي وتقطيع أوصاله

- ‌(2) العبث بجذور الأخلاق

- ‌(3) طريقا التضليل الفكري والاستدراج إلى الانحراف السلوكي

- ‌(4) الوسائل

- ‌الوسيلة الأولى: استخدام عنصر المال

- ‌الوسيلة الثانية: استخدام عنصر النساء

- ‌الوسيلة الثالثة: الاهتمام بالمرأة في مجالات العلم والثقافة والفن

- ‌الوسيلة الرابعة: فتنة الاختلاط وسفور المرأة

- ‌الوسيلة الخامسة: استخدام الآداب والفنون

- ‌الوسيلة السادسة: استخدام عنصر الحكم

- ‌الوسيلة السابعة: استخدام المسكرات والمخدرات

- ‌الوسيلة الثامنة: استخدام وسائل اللهو واللعب

- ‌الوسيلة التاسعة: اهتمام الغزاة بإفساد الفتيان والفتيات

- ‌الوسيلة العاشرة: استخدام وسائل الترف والرفاهية

- ‌الوسيلة الحادية عشرة: سياسة المستعمرين غير الأخلاقية

- ‌الوسيلة الثانية عشرة: استخدام الفكر الإلحادي

- ‌الفصْل الثالث عشر الغزو بالمذاهِبِ الاقتصَادية

- ‌(1) مقدمة عامة

- ‌(2) بين اتجاهين متباينين

- ‌(3) وسائل إيقاف نشاط غزو المذاهب المخالفة للإسلام

- ‌(4) نظام الإسلام على قمة وعن يمينها ويسارها منحدران

- ‌(5) قدوم المذاهب الاقتصادية المخالفة لنظام الإسلام

- ‌(6) لا تكفي الكلمة وحدها

- ‌(7) الأسس العامة لنظام الإسلام الاقتصادي

- ‌(8) مقارنة بين الأسس العامة للنظام الاقتصادي في الإِسلام والنظم الأخرى

- ‌(9) فرية ربط التخلف الصناعي بنظام الإسلام

- ‌(10) اصطناع المناخات المناسبة لتقبل الأفكار والمذاهب الغازية

- ‌(11) التعلُّل بعدم وجود دولة تطبق نظم الإسلام وتحميها

- ‌الفصْل الرابع عشر مَا تُعانيه الحَركات وَالمؤسَّسّاتُ الإسْلَاميَّة

- ‌(1) مقدمة عامة

- ‌(2) الكمين والإثارة

- ‌(3) الفقر الذي تعاني منه المؤسسات والحركات الإسلامية

- ‌القِسمُ الثَّاني الغَزْو بالهُجُوم المبَاشِر عَلى الإسْلَام

- ‌الفصْل الأوّل شُبهَاتٌ حَوْلَ المثَاليّةِ وَالمادّيَّةِ في الإسْلَام

- ‌الفصْل الثاني شُبهَاتٌ حَوْلَ الرُّوحيَّة وَالمادّيَّةِ في الإسْلَام

- ‌الفصْل الثالث شُبهَاتٌ حَوْلَ بَعْض العبَادات في الإسْلَام

- ‌الفصْل الرابع شُبهَاتٌ حَوْلَ الزَّكَاةِ في الإسْلَام

- ‌الفصْل الخامس شُبهَاتٌ حَوْلَ العُقوبَات في الإسْلَام

- ‌الفصْل السادس شُبهَاتٌ حَوْلَ الرِّقِّ في الإسْلَام

- ‌الفصْل السّابع شُبهَاتٌ حَوْلَ حُقُوق المَرأةِ في الإسْلَام

- ‌الفصْل الثامِن أجوبَة أسئِلة تَشكيكيَّة

- ‌القِسمُ الثالِث نَظَراتٌ عَامَّة حَوْل دَوافِع الغزو في الناسِ

- ‌الفصْل الأوّل دَوافع الغزو

- ‌(1) ربانية أو عدوانية

- ‌(2) الجهاد المقدس

- ‌(3) أهداف محاولات التسلط المادي المرتبط بالدوافع العدوانية

- ‌(4) تآزر الغزاة لتحقيق الأهداف المشتركة

- ‌الفصْل الثاني خلَاصَة وتوجيه لِلمسْلمين

- ‌(1) مقدمة

- ‌(2) العناصر الغازية

- ‌(3) نتائج حققها الغزاة

- ‌(4) خطوات العمل الحميدة

الفصل: ‌الوسيلة الثانية عشرة الإفساد الخلقي والسلوكي

وبالخطط الماكرة الذكية، وبالأعمال التنفيذية الدائبة، استطاع الأعداء الغزاة أن يجنوا من ثمرات إفسادهم الاجتماعي للأمة الإسلامية الواحدة ما حققوا به قدراً كبيراً من أهدافهم الظالمة الآثمة.

* * *

‌الوسيلة الثانية عشرة الإفساد الخلقي والسلوكي

ومن وسائل الغزو غير المسلح الإفساد الخلقي، وقد اكتشف الأعداء الغزاة طريقين للوصول إلى إفساد أخلاق الشعوب، والهبوط بها من قمة الكمال الإنساني إلى حضيض النقص والرذيلة:

الطريق الأول: العبث بالمفاهيم والحقائق الخلقية.

الطريق الثاني: الغمس بالمجتمعات ذات الأخلاق الفاسدة.

أ- العبث بالمفاهيم والحقائق الخلقية والسلوكية:

وقد ظهر العبث بالمفاهيم والحقائق الخلقية في حشد النظريات الفلسفية الأخلاقية المنحرفة عن الشرائع الربانية المستندة إلى مبادئ الخير والشر، والنفع والضر، والمصالح والمفاسد.

ومن نظرياتهم ما يعتمد على تمجيد اللذة الفردية، وإباحة كل ما يحققها، مهما أضر ذلك بجسم الفرد أو عقله أو أضر بالجماعة، أو خالف أوامر الله لعباده.

ومنها النظريات التي تعتمد على تمجيد قوة الجماعة، التي تمثلها دولة سياسية، فكل ما يفضي إلى دعم هذه القوة أو إنمائها فإنه لا ينافي الأخلاق الكريمة لدى هذه النظريات المنحرفة.

ومنها التضليلات التي تدرس بين الشعوب المسلمة أن الأخلاق أمور اعتبارية تتواضع عليها الشعوب، إذ تمليها عليها مصالح أو دوافع نفسية، أو أحوال

ص: 243

خاصة اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية أو غيرها، وليس لها أصول فكرية ثابتة، ويضربون على ذلك الأمثلة من تقاليد بعض الشعوب البدائية، أو مما تواضعت عليه بعض الشعوب المنحلة خلقياً، كأن التقاليد البدائية أو الانحلال الخلقي من الصور المعتبرة التي يصح أن توضع في جداول الأخلاق الفاضلة لدى التصنيف الذي يقوم به متتبعو الحقيقة بالبحث العلمي المتجرد النزيه.

ومن العجيب أن يتصيد هؤلاء المضلون الأمثلة من شعوب بدائية أو شعوب منحلة، بغية زلزلة أصول الأخلاق التي يريدون تهديمها في الشعوب المسلمة، ذات التقدم الحضاري في ميادين الأخلاق التي اكتسبها من رسالة الإسلام الربانية، مع أنهم في الوقت نفسه لا يعتبرون أكواخ الشعوب البدائية، وطراز لباسها، وطرق أكلها وشربها، ووسائل عيشها، وأنظمة مجتمعاتها المتخلفة، ونحو ذلك من الأمثلة التي يصح أن توضع في جداول المدنيات المتقدمة، وأن تقارن بما توصلت إليه المدنيات الراقية، من بناء ناطحات السحاب، إلى طراز الألبسة الأنيقة، وطرق الأكل والشرب الراقية النظيفة، التي تنتزع الإعجاب والاستحسان، ثم إلى وسائل الرفاهية والراحة والقوة والسرعة، ثم إلى كل منجزات العلم المادي الحديث.

ويقول قائل هؤلاء المضلِّين: إن بعض القبائل تأكل موتاها بدافع اقتصادي، ولا ترى ذلك منافياً للأخلاق أو للسلوك السليم، وبعض الشعوب لا ترى في العري والزنى بأساً، ولا ترى شيئاً من ذلك منافياً للأخلاق أو للسلوك السوي، ويسوق كلامه هذا دليلاً على أن الأخلاق أمور اعتبارية تتواضع عليها الشعوب، وليس لها أصول ثابتة. ولقد كان على صاحب هذا التضليل أن يكون منسجماً مع نفسه، فيقول مع ذلك: إن التقدم المدني ليس له صورة ثابتة أيضاً، فالأكواخ البدائية، وسكنى الغابات والكهوف والمغارات، واستخدام الحجارة بدل أوراق الكتابة أو بدل السكاكين، والتقاتل بها في الحروب بدل الأسلحة الحربية المتفوقة، ونحو ذلك هو من الصور المدنية التي تتواضع عليها الشعوب، أخذاً من الواقع الذي عليه الناس، فهي ومظاهر المدنيات

ص: 244

الراقية المدهشة توضعان على قدم المساواة، إن قياس كلامه يقتضي ذلك.

فإذا كان هذا في المدنيات أمراً مرفوضاً فهو في ميادين الحضارة الخلقية مرفوض أيضاً، وبنسبة أكبر، إن ميادين الحضارة الخلقية ذات سلم في الرقي الإنساني يماثل سلم الرقي المدني، إلا أن ثمرات الرقي المدني لا تزيد على أنها تحقق رفاهية الإنسان، أما الرقي الخلقي فثمراته تحقق سعادة الإنسان، وفرق عظيم بين هذين الصنفين من الثمرات، ندرك هذا الفرق حين ندرك أن السعادة أثمن ما في الحياة كلها.

ب- الغمس بالمجتمعات ذات الأخلاق الفاسدة والسلوك المنحرف

قد يكون الغمس في المجتمعات الموبوءة بعناصر الفساد الخلقي والسلوكي من أفعل وسائل الإفساد العملي، ولذلك تلجأ إليه كتائب الغزو غير المسلح لإفساد أخلاق المسلمين.

فمن المعروف المجرَّب في طبائع الناس، أن الإنسان بطبيعته قابل للتكيف والتأثر بالبيئات الاجتماعية التي ينغمس فيها، وأن مقداراً من التفاعل لا بد أن يتم بين مجتمع ما وبين من يدخل فيه، ولا بد أن يتأثر كل منهما بالآخر على مقدار ما لدى كل منهما من قوة التأثير وقابلية التأثر.

فلو وضعنا تقياً نقياً غير معصوم في بيئة اجتماعية، معظم ممن فيها فاسدون متحللون ماديون لا يعرفون في حياتهم إلا الانحرافات الخلقية وأنواع السلوك الفاسد فإن الذي يحدث لهذا التقي النقي عملية تحول تدريجي تمر بمراحل، واجتياز هذه المراحل قد يكون بطيئاً وقد يكون سريعاً.

قد تبدأ مراحل التحول بالنفرة الشديدة والمقاومة والصمود، ثم تنتقل إلى الانكماش والتوجس، ثم تنتقل إلى حالة من حالات العزلة النفسية، وفي كل مرحلة من هذه المراحل لون من ألوان التأثر بالبيئة لا محالة، ثم تنتقل إلى الشعور بعدم المبالاة فراراً من الصراع النفسي والقلق الدائم، وسأماً من العزلة النفسية القائمة ثم تنتقل إلى إلف هذه البيئة، وذلك لأن تكرار مشاهدة القبيح من الوسائل التي تجعله مألوفاً لا يثير في النفس نفرة ولا اشمئزازاً، وربما غدت

ص: 245

علامات قبحه من الأمور المنسية التي لا يلتفت الذهن إليها، وإن كانت مما تشهده الحواس، وهذا في القبيح النفسي أو القبيح الحسي، فكيف بالأمور التي لا يدرك قبحها إلا عن طريق الشرع، أو عن طريق التأمل العقلي العميق والنظر الفكري الدقيق، وهي جميلة لدى الحواس، لذيذة في النفوس، تهفو إليها الغرائز، وتميل إليها الأهواء والشهوات.

وبعد مرحلة الإلف تبدأ مراحل المسايرة، ثم مراحل الاندماج الكلي، والتحول التام، والتلاؤم مع واقع البيئة الجديدة.

فلا عجب أن نجد تقياً نقياً تحول إلى فاسق فاجر من الطراز الأول إذا استطاع شياطين الإنس أن يزجوا به في بيئة اجتماعية ماكرة، مملوءة بالعناصر الفاسدة الفاسقة، المنغمسة بالمال واللذة والنساء، والاستمتاع بأنواع الشهوات المحرمة، ومرافقات هذه العناصر، مما يحرك الغرائز ويهيجها، ويؤثر في النفوس ويستميلها.

وفي مقابل ذلك ربما يستطيع المصلحون أن يعملوا على تحويل فاسق فاجر إلى تقي نقي طاهر، إذا استطاعوا أن يغمسوه في بيئة اجتماعية كريمة، مملوءة بعناصر الصلاح والتقوى من غير تنفير، مزينة ببعض ما تحبه النفوس وتميل إليه مما أذن الله به وأباحه، ولا غرو أن يمر هذا في مراحل مناظرة لمراحل تحويلات البيئة الفاسدة لذلك التقي النقي.

وقد عرفت كتائب الأعداء الغزاة هذه الطبيعة النفسية عند الإنسان، فوضعت في منهاج عملها أن تسلك طريق غمس المسلمين في بيئات فاسدة منحلة خلقياً، تصدرها إليهم من خارج بلادهم، أو تستوردهم إليها، فستقدمهم بهجرات الدراسة أو العمل أو غير ذلك، وفي كلا الأمرين تتهيأ أكثر الظروف الملائمة لإفساد الأجيال من أبناء المسلمين إفساداً عملياً، عن طريق الغمس في المجتمعات الموبوءة بجراثيم الفساد الخلقي والسلوكي.

ومعلوم أن أهم عناصر هذا الإفساد العناصر التالية: المال - النساء - الخمر - المادية البحتة - أنماط العيش التي تعتمد على الرفاهية والمتعة واللذة وعدم المبالاة إلا بما تمتص طاقات الفكر والجسد من متعة ولذة ولهو.

ص: 246

ومهمة المصلحين في مقابل ذلك أن يعملوا على تهيئة البيئات الصالحة المؤثرة، التي تتوافر فيها معظم الشروط لتحويل الفاسدين إلى الصالحين، أسوة بالبيئة النبوية التي انصهر فيها الجيل الإسلامي الأول، وتخرج منها إلى العالم دعاة إلى الخير، فاتحون بالهداية، مصلحون بالحكمة والموعظة الحسنة، والقدوة الكريمة.

شاهد على الإِفساد باستقدام كثير من أبناء المسلمين إلى بلاد الكفر

جاء في مقدمة كتاب "المنبوذون في الأرض" لناشر الضلال وداعيته اليهودي الفرنسيّ "جان بول سارتر" حامل لواء الوجودية الملحدة، قوله:

"كنَّا نُحْضِر رؤساء القبائل، وأولاد الأشراف والأثرياء والسّادة، من أفريقية وآسيا، ونطوف بهم بضعة أيّام، في أمستردام، ولندن، والنرويج، وبلجيكا، وباريس، فتتغيّر ملابسهم، ويَلْتَقطون بعض أنماط العلاقات الاجتماعيّة الجديدة، ويرتدون السّترات والسراويل. ويتعلّمون منا طريقةً جديدة في الرَّواح والْغُدُوّ، والاستقبال والاستدبار، ويتعلّمون لغاتنا، وأساليبَ رَقْصِنَا ورُكوب عربتانا، وكُنَّا نُدَبِّر لبعضهم أحياناً زواجاً من أوروبيّة، ثُمَّ نلقِّنُهُمْ أسلوبَ الحياة على أثاث جديد، وغذاء أوروبيّ، وكُنَّا نضعُ في أعماق قلوبهم الرغبة في أوروبّة بلادِنا، ثم نرسِلُهم إلى بلادهم، وأيّ بلاد؟!

لقد كانت أبوابُ بلادهم مغلقة دائماً في وجوهنا، لم نكن نجد منفذاً إليها، كُنَّا بالنسبة إليها رِجْساً ونجساً وخَنَا، كُنَّا أعداءً يخافون منا، وكأنّهم همجٌ لم يعرفوا بشراً، لكنَّا بمجرد أن أرسلنا المفكرين الذين صنعناهم إلى بلادهم، كُنّا بمجرّدِ أن نصيح من أمستردام، أو برلين، أو بلجيكا، أو باريس، قائلين:"الإخاء البشري" نرى أنّ أصواتنا يرتَدُّ من أقاصي أفريقية، أو من فجّ من الشرق، الأوسط أو الأدنى أو الأقصى، أو شمال أفريقية.

ثمّ إنّنا كنّا واثقين من أنّ هؤلاء المفكرين لا يملكون كلمةً واحدةً يقولونها غير ما وضعنا في أفواههم، ليس هذا فحسب، بل إنَّهم سُلِبُوا حق الكلام عن مواطنيهم.

ص: 247

هذا دور المفكّر الّذي يتشكَّل بالشَّكْل الأوروبّي، ويلْعَبُهُ في الدُّول الإسلاميّة، إنّه دور "دليل الطريق" للاستعمار في البلاد التي لم نكن نعْرفُها، أو نعرفُ لغاتها، وهو السوس الذي عمل في الشرق من أجل تثبيت موادّنا الثقافية والاقتصادية والأخلاقية والفلسفيّة والفكريّة، المسمّمة للاستعمار الغربيّ، داخل هذه الأشجار الوارفة الأصيلة.

هذا هو السوس الذي كُنَّا صنعناه وسمَّيْنَاهُ بالمفكرين، كانوا عالمين بلغاتنا، وكان قُصَارى همِّهم، ومُنْتَهى أمَلِهم، أنْ يصبحوا مثْلَنا، في حين أنَّهم أشباهُنَا، وليسوا مثلنا.

إنَّهُمْ نَخَرُوا من الداخل ثقافة أهليهم، وأديانهم القوميّة، الّتي تصنَعُ الحضارات، ونَخَرُوا مُثُلَهُم وأحاسيسهم وأفكارهم الجميلة، وأصالتَهُم الأخلاقيّة والإنسانيّة، وتحتَ أيّ شعار؟ وبأيّ اسم؟

باسْمِ مقاومة الخرافات، أو مكافحة الرّجعيّة أو الوقوف ضِدّ السلفيّة".

هذا مخطّطهم فليحذر المسلمون.

* * *

ص: 248