الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وبالخطط الماكرة الذكية، وبالأعمال التنفيذية الدائبة، استطاع الأعداء الغزاة أن يجنوا من ثمرات إفسادهم الاجتماعي للأمة الإسلامية الواحدة ما حققوا به قدراً كبيراً من أهدافهم الظالمة الآثمة.
* * *
الوسيلة الثانية عشرة الإفساد الخلقي والسلوكي
ومن وسائل الغزو غير المسلح الإفساد الخلقي، وقد اكتشف الأعداء الغزاة طريقين للوصول إلى إفساد أخلاق الشعوب، والهبوط بها من قمة الكمال الإنساني إلى حضيض النقص والرذيلة:
الطريق الأول: العبث بالمفاهيم والحقائق الخلقية.
الطريق الثاني: الغمس بالمجتمعات ذات الأخلاق الفاسدة.
أ- العبث بالمفاهيم والحقائق الخلقية والسلوكية:
وقد ظهر العبث بالمفاهيم والحقائق الخلقية في حشد النظريات الفلسفية الأخلاقية المنحرفة عن الشرائع الربانية المستندة إلى مبادئ الخير والشر، والنفع والضر، والمصالح والمفاسد.
ومن نظرياتهم ما يعتمد على تمجيد اللذة الفردية، وإباحة كل ما يحققها، مهما أضر ذلك بجسم الفرد أو عقله أو أضر بالجماعة، أو خالف أوامر الله لعباده.
ومنها النظريات التي تعتمد على تمجيد قوة الجماعة، التي تمثلها دولة سياسية، فكل ما يفضي إلى دعم هذه القوة أو إنمائها فإنه لا ينافي الأخلاق الكريمة لدى هذه النظريات المنحرفة.
ومنها التضليلات التي تدرس بين الشعوب المسلمة أن الأخلاق أمور اعتبارية تتواضع عليها الشعوب، إذ تمليها عليها مصالح أو دوافع نفسية، أو أحوال
خاصة اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية أو غيرها، وليس لها أصول فكرية ثابتة، ويضربون على ذلك الأمثلة من تقاليد بعض الشعوب البدائية، أو مما تواضعت عليه بعض الشعوب المنحلة خلقياً، كأن التقاليد البدائية أو الانحلال الخلقي من الصور المعتبرة التي يصح أن توضع في جداول الأخلاق الفاضلة لدى التصنيف الذي يقوم به متتبعو الحقيقة بالبحث العلمي المتجرد النزيه.
ومن العجيب أن يتصيد هؤلاء المضلون الأمثلة من شعوب بدائية أو شعوب منحلة، بغية زلزلة أصول الأخلاق التي يريدون تهديمها في الشعوب المسلمة، ذات التقدم الحضاري في ميادين الأخلاق التي اكتسبها من رسالة الإسلام الربانية، مع أنهم في الوقت نفسه لا يعتبرون أكواخ الشعوب البدائية، وطراز لباسها، وطرق أكلها وشربها، ووسائل عيشها، وأنظمة مجتمعاتها المتخلفة، ونحو ذلك من الأمثلة التي يصح أن توضع في جداول المدنيات المتقدمة، وأن تقارن بما توصلت إليه المدنيات الراقية، من بناء ناطحات السحاب، إلى طراز الألبسة الأنيقة، وطرق الأكل والشرب الراقية النظيفة، التي تنتزع الإعجاب والاستحسان، ثم إلى وسائل الرفاهية والراحة والقوة والسرعة، ثم إلى كل منجزات العلم المادي الحديث.
ويقول قائل هؤلاء المضلِّين: إن بعض القبائل تأكل موتاها بدافع اقتصادي، ولا ترى ذلك منافياً للأخلاق أو للسلوك السليم، وبعض الشعوب لا ترى في العري والزنى بأساً، ولا ترى شيئاً من ذلك منافياً للأخلاق أو للسلوك السوي، ويسوق كلامه هذا دليلاً على أن الأخلاق أمور اعتبارية تتواضع عليها الشعوب، وليس لها أصول ثابتة. ولقد كان على صاحب هذا التضليل أن يكون منسجماً مع نفسه، فيقول مع ذلك: إن التقدم المدني ليس له صورة ثابتة أيضاً، فالأكواخ البدائية، وسكنى الغابات والكهوف والمغارات، واستخدام الحجارة بدل أوراق الكتابة أو بدل السكاكين، والتقاتل بها في الحروب بدل الأسلحة الحربية المتفوقة، ونحو ذلك هو من الصور المدنية التي تتواضع عليها الشعوب، أخذاً من الواقع الذي عليه الناس، فهي ومظاهر المدنيات
الراقية المدهشة توضعان على قدم المساواة، إن قياس كلامه يقتضي ذلك.
فإذا كان هذا في المدنيات أمراً مرفوضاً فهو في ميادين الحضارة الخلقية مرفوض أيضاً، وبنسبة أكبر، إن ميادين الحضارة الخلقية ذات سلم في الرقي الإنساني يماثل سلم الرقي المدني، إلا أن ثمرات الرقي المدني لا تزيد على أنها تحقق رفاهية الإنسان، أما الرقي الخلقي فثمراته تحقق سعادة الإنسان، وفرق عظيم بين هذين الصنفين من الثمرات، ندرك هذا الفرق حين ندرك أن السعادة أثمن ما في الحياة كلها.
ب- الغمس بالمجتمعات ذات الأخلاق الفاسدة والسلوك المنحرف
قد يكون الغمس في المجتمعات الموبوءة بعناصر الفساد الخلقي والسلوكي من أفعل وسائل الإفساد العملي، ولذلك تلجأ إليه كتائب الغزو غير المسلح لإفساد أخلاق المسلمين.
فمن المعروف المجرَّب في طبائع الناس، أن الإنسان بطبيعته قابل للتكيف والتأثر بالبيئات الاجتماعية التي ينغمس فيها، وأن مقداراً من التفاعل لا بد أن يتم بين مجتمع ما وبين من يدخل فيه، ولا بد أن يتأثر كل منهما بالآخر على مقدار ما لدى كل منهما من قوة التأثير وقابلية التأثر.
فلو وضعنا تقياً نقياً غير معصوم في بيئة اجتماعية، معظم ممن فيها فاسدون متحللون ماديون لا يعرفون في حياتهم إلا الانحرافات الخلقية وأنواع السلوك الفاسد فإن الذي يحدث لهذا التقي النقي عملية تحول تدريجي تمر بمراحل، واجتياز هذه المراحل قد يكون بطيئاً وقد يكون سريعاً.
قد تبدأ مراحل التحول بالنفرة الشديدة والمقاومة والصمود، ثم تنتقل إلى الانكماش والتوجس، ثم تنتقل إلى حالة من حالات العزلة النفسية، وفي كل مرحلة من هذه المراحل لون من ألوان التأثر بالبيئة لا محالة، ثم تنتقل إلى الشعور بعدم المبالاة فراراً من الصراع النفسي والقلق الدائم، وسأماً من العزلة النفسية القائمة ثم تنتقل إلى إلف هذه البيئة، وذلك لأن تكرار مشاهدة القبيح من الوسائل التي تجعله مألوفاً لا يثير في النفس نفرة ولا اشمئزازاً، وربما غدت
علامات قبحه من الأمور المنسية التي لا يلتفت الذهن إليها، وإن كانت مما تشهده الحواس، وهذا في القبيح النفسي أو القبيح الحسي، فكيف بالأمور التي لا يدرك قبحها إلا عن طريق الشرع، أو عن طريق التأمل العقلي العميق والنظر الفكري الدقيق، وهي جميلة لدى الحواس، لذيذة في النفوس، تهفو إليها الغرائز، وتميل إليها الأهواء والشهوات.
وبعد مرحلة الإلف تبدأ مراحل المسايرة، ثم مراحل الاندماج الكلي، والتحول التام، والتلاؤم مع واقع البيئة الجديدة.
فلا عجب أن نجد تقياً نقياً تحول إلى فاسق فاجر من الطراز الأول إذا استطاع شياطين الإنس أن يزجوا به في بيئة اجتماعية ماكرة، مملوءة بالعناصر الفاسدة الفاسقة، المنغمسة بالمال واللذة والنساء، والاستمتاع بأنواع الشهوات المحرمة، ومرافقات هذه العناصر، مما يحرك الغرائز ويهيجها، ويؤثر في النفوس ويستميلها.
وفي مقابل ذلك ربما يستطيع المصلحون أن يعملوا على تحويل فاسق فاجر إلى تقي نقي طاهر، إذا استطاعوا أن يغمسوه في بيئة اجتماعية كريمة، مملوءة بعناصر الصلاح والتقوى من غير تنفير، مزينة ببعض ما تحبه النفوس وتميل إليه مما أذن الله به وأباحه، ولا غرو أن يمر هذا في مراحل مناظرة لمراحل تحويلات البيئة الفاسدة لذلك التقي النقي.
وقد عرفت كتائب الأعداء الغزاة هذه الطبيعة النفسية عند الإنسان، فوضعت في منهاج عملها أن تسلك طريق غمس المسلمين في بيئات فاسدة منحلة خلقياً، تصدرها إليهم من خارج بلادهم، أو تستوردهم إليها، فستقدمهم بهجرات الدراسة أو العمل أو غير ذلك، وفي كلا الأمرين تتهيأ أكثر الظروف الملائمة لإفساد الأجيال من أبناء المسلمين إفساداً عملياً، عن طريق الغمس في المجتمعات الموبوءة بجراثيم الفساد الخلقي والسلوكي.
ومعلوم أن أهم عناصر هذا الإفساد العناصر التالية: المال - النساء - الخمر - المادية البحتة - أنماط العيش التي تعتمد على الرفاهية والمتعة واللذة وعدم المبالاة إلا بما تمتص طاقات الفكر والجسد من متعة ولذة ولهو.
ومهمة المصلحين في مقابل ذلك أن يعملوا على تهيئة البيئات الصالحة المؤثرة، التي تتوافر فيها معظم الشروط لتحويل الفاسدين إلى الصالحين، أسوة بالبيئة النبوية التي انصهر فيها الجيل الإسلامي الأول، وتخرج منها إلى العالم دعاة إلى الخير، فاتحون بالهداية، مصلحون بالحكمة والموعظة الحسنة، والقدوة الكريمة.
شاهد على الإِفساد باستقدام كثير من أبناء المسلمين إلى بلاد الكفر
جاء في مقدمة كتاب "المنبوذون في الأرض" لناشر الضلال وداعيته اليهودي الفرنسيّ "جان بول سارتر" حامل لواء الوجودية الملحدة، قوله:
"كنَّا نُحْضِر رؤساء القبائل، وأولاد الأشراف والأثرياء والسّادة، من أفريقية وآسيا، ونطوف بهم بضعة أيّام، في أمستردام، ولندن، والنرويج، وبلجيكا، وباريس، فتتغيّر ملابسهم، ويَلْتَقطون بعض أنماط العلاقات الاجتماعيّة الجديدة، ويرتدون السّترات والسراويل. ويتعلّمون منا طريقةً جديدة في الرَّواح والْغُدُوّ، والاستقبال والاستدبار، ويتعلّمون لغاتنا، وأساليبَ رَقْصِنَا ورُكوب عربتانا، وكُنَّا نُدَبِّر لبعضهم أحياناً زواجاً من أوروبيّة، ثُمَّ نلقِّنُهُمْ أسلوبَ الحياة على أثاث جديد، وغذاء أوروبيّ، وكُنَّا نضعُ في أعماق قلوبهم الرغبة في أوروبّة بلادِنا، ثم نرسِلُهم إلى بلادهم، وأيّ بلاد؟!
لقد كانت أبوابُ بلادهم مغلقة دائماً في وجوهنا، لم نكن نجد منفذاً إليها، كُنَّا بالنسبة إليها رِجْساً ونجساً وخَنَا، كُنَّا أعداءً يخافون منا، وكأنّهم همجٌ لم يعرفوا بشراً، لكنَّا بمجرد أن أرسلنا المفكرين الذين صنعناهم إلى بلادهم، كُنّا بمجرّدِ أن نصيح من أمستردام، أو برلين، أو بلجيكا، أو باريس، قائلين:"الإخاء البشري" نرى أنّ أصواتنا يرتَدُّ من أقاصي أفريقية، أو من فجّ من الشرق، الأوسط أو الأدنى أو الأقصى، أو شمال أفريقية.
ثمّ إنّنا كنّا واثقين من أنّ هؤلاء المفكرين لا يملكون كلمةً واحدةً يقولونها غير ما وضعنا في أفواههم، ليس هذا فحسب، بل إنَّهم سُلِبُوا حق الكلام عن مواطنيهم.
هذا دور المفكّر الّذي يتشكَّل بالشَّكْل الأوروبّي، ويلْعَبُهُ في الدُّول الإسلاميّة، إنّه دور "دليل الطريق" للاستعمار في البلاد التي لم نكن نعْرفُها، أو نعرفُ لغاتها، وهو السوس الذي عمل في الشرق من أجل تثبيت موادّنا الثقافية والاقتصادية والأخلاقية والفلسفيّة والفكريّة، المسمّمة للاستعمار الغربيّ، داخل هذه الأشجار الوارفة الأصيلة.
هذا هو السوس الذي كُنَّا صنعناه وسمَّيْنَاهُ بالمفكرين، كانوا عالمين بلغاتنا، وكان قُصَارى همِّهم، ومُنْتَهى أمَلِهم، أنْ يصبحوا مثْلَنا، في حين أنَّهم أشباهُنَا، وليسوا مثلنا.
إنَّهُمْ نَخَرُوا من الداخل ثقافة أهليهم، وأديانهم القوميّة، الّتي تصنَعُ الحضارات، ونَخَرُوا مُثُلَهُم وأحاسيسهم وأفكارهم الجميلة، وأصالتَهُم الأخلاقيّة والإنسانيّة، وتحتَ أيّ شعار؟ وبأيّ اسم؟
باسْمِ مقاومة الخرافات، أو مكافحة الرّجعيّة أو الوقوف ضِدّ السلفيّة".
هذا مخطّطهم فليحذر المسلمون.
* * *