الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصْل الثاني شُبهَاتٌ حَوْلَ الرُّوحيَّة وَالمادّيَّةِ في الإسْلَام
شُبهَاتٌ حَوْلَ الروحية والماديَّة في الإِسلام
فريق من الأعداء الغزاة يتهمون الإسلام بأنه دعوة روحية بعيدة عن تلبية مطالب الحياة المادية، فهو لا يناسب الواقعية الوجودية، وفي مقدمة هذا الفريق مَنْ يطلق عليهم "المادّيون الوجوديون".
وفريق آخر يتهمون الإسلام بأنه مادي مفرط في المادية، بعيد عن السمو الروحي الذي ينبغي أن يرقى إليه الإنسان، وفي مقدمة هذا الفريق الثاني المبشرون وأنصارهم.
والإسلام في حقيقة نظامه وتشريعاته وأحكامه بريء مما يقوله عنه هؤلاء، وما يقوله عنه أولئك.
إن الإسلام متكامل الجوانب الفكرية والنفسية والروحية والمادية، كالإنسان، فكما أن الإنسان مؤلف من روح وعقل ونفس وجسد، فالإسلام ذو جوانب تعطي كل عنصر من هذه العناصر حقه، وبذلك يتم التطابق المثالي بين عناصر هذا الدين التي يكمل بعضها بعضاً وبين عناصر هذا الكائن الإنساني، التي جعلت منه مخلوقاً في أحسن تقويم، وهو ما وصفه الله به في قوله تعالى في سورة "التين/95 مصحف/28 نزول":
{لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ}
ولما كان الإنسان في أحسن تقويم أنزل الله له ديناً قيماً ليلائم واقعه أفضل ملاءمة، وأودع الله في فطرة الإنسان موازين عقلية ووجدانية يدرك بها
ملاءمة هذا الدين له، وفي الدلالة على ذلك قال الله تعالى في سورة (الروم/30 مصحف/84 نزول) :
وقال سبحانه في سورة (البينة/98 مصحف/100 نزول) :
والتطابق العجيب بين عناصر الإسلام وعناصر الإنسان، الذي يبدو الإسلام فيه مفصّلاً تفصيلاً رائعاً على مقدار خصائص الإنسان الفكرية والروحية والنفسية والجسدية، هو الذي جعل من الإسلام صورة فذة في الوجود، وهو الدليل المادي المستمر الذي يدل على أن الإسلام شريعة ربانية منزلة من عند الله.
لأنّ مثل هذه الصورة الرائعة التفصيل، المحكمة التقويم، على مقدار خصائص الإنسان وحاجاته الدنيوية والأخروية، العاجلة والآجلة، والمسايرة للعصور التي يمر بها في أطوار حياته على هذه الأرض، لا يمكن أن تكون من وضع الناس.
ذلك لأن براهين العقل وتجارب الحياة تثبت أن النظم الوضعيّة الإنسانية مهما ارتقت فإنها لن تصيب الحكمة الشاملة لمختلف جوانب مصالح الناس، وما يسعدهم في دنياهم وأخراهم، ولئن أصابت في جانب منها فإنها لن تصيب في كلّ الجوانب، بل لا بد أن يظهر نقصها أو فسادها في جوانب كثيرة، متى وضعت موضع التجربة، ومرت عليها الأعصر المختلفة.
وكون الإسلام صورة حية مطابقة للحكمة الشاملة في كلّ زمان ومكان شاهدٌ عدلٌ على أنه شريعة من عند الله الذي خلق الأنفس كلها، وخلق فيها خصائصها وغرائزها وحاجاتها ومطالب حياتها، فهو يعلم ما يناسبها، قال الله تعالى في سورة (الملك/67 مصحف/77) :
وإذا كان الإسلام كذلك، وقد جمع بين المثالية والواقعية في أروع صورة ممكنة التطبيق، وكفل للناس سعادة دنياهم وأخراهم، فخليق به أن يبيح للناس أن يأخذوا نصيبهم من زينة الحياة الدنيا ومتعها، بلا إسراف ولا إجحاف، ولا طغيان ولا عدوان على حقوق الناس ولا تجاوز لحدود الله في أوامره ونواهيه، وخليق به أن يلزم الناس بأداء ما فرض الله عليهم من فروض، وما أوجب عليهم من واجبات تتعلق بما وهبهم في هذه الحياة الدنيا من قدرات فكرية ونفسية وقولية وجسدية، وبما وهبهم من مال أو سلطان أو جاه أو رعاية، وأن يترك لهم بين هذا وذاك مجالاً واسعاً للتنافس في الخيرات، والتسابق إلى ابتغاء مرضاة الله، في كدح واجتهاد ومجاهدة للنفس على ما يرضيه سبحانه وتعالى.
في وهذا الميدان الواسع المعد للتسابق والتنافس الشريفين يقف رقباء التسجيل، وفي نهاية حلبة السباق يقدم الحكم العدل جوائز المتسابقين كل بحسب استحقاقه.
وحينما خلق الله الغرائز في الناس لم يشأ أن يحرمها من تلبية مطالبها الفطرية، ضمن حدود ضواط المصلحة والحكمة وابتلاء الإرادة. ولكن شاء أن يضعها على مائدة الحياة الدنيا، وأذن لها أن تأخذ نصيبها الذي ينفعها ولا يضرها، ولم يأذن لها أن تمتد مطامعها إلى أنصبة الآخرين الذين هم شركاء معها في هذه المائدة، وحرم عليها أشياء قليلة ضمن مباحات كثيرة، دون أن ترتبط بهذه الأشياء التي حرمها عليها مطالب فطرية ملحة، بعد أن يسر في مائدته الواسعة شتى المجالات المباحة، الكفيلة بتلبية مطالب هذه الغرائز.
وضمن هذا الجو السعيد - الذي لا كدح فيه يزيد على كدح أي إنسان يحاول أن يتمرد على شريعة الله وأحكامه - تمت ظروف ابتلاء الإرادة التي يجتازها المؤمنون المتقون بنجاح.
الزينة:
ومن بديع حكمة الله في خلقه أنه ألبس مطالب الحياة أثواب مطالب الشهوات، لتكون هذه الشهوات بمثابة المحرّض الذاتي على تناول حاجات
الجسد، التي تمده بالبقاء إلى أمده المقدّر له، أو على ممارسة الغرائز التي تمد النوع بالتكاثر والبقاء، إلى الأمد المقدر لبقاء النوع، أو لبقاء الحياة على هذه الأرض، أو على السعي لتحقيق حاجات نفسية ترتبط بها مصلحة من المصالح الإنسانية الفردية أو الجماعية.
ومجالات مطالب الحياة الجسدية أو النفسية أو الفكرية تعرض للإنسان زينتها، لتجذبه إليها، وتحببه بها، وبذلك يتم بينها وبين مطالب الحياة علاقة التجاذب.
فحينما تعرض الوردة مثلاً زينتها التي تتمثل بألوانها الزاهية، وعرفها الشهيّ الطيب، وملمسها المخملي، فإنها تقول بلسان حالها للعين الذواقة: هنا يستوقف النظر. وتقول للشم المرهف: من هنا يسنتشق العبير. وتقول للشفاه الناعمة: هنا يحلو المقام. ولولا أن هذه الحواس تلائمها هذه الخصائص ما انجذبت إليها، ولاهفت نحوها، ولا رأت فيها شيئاً من الزينة.
ولقد أبدع القرآن أيما إبداع، إذ اختار لفظة الزينة للتعبير عن الخصائص التي أودعها الله في الأشياء، ليكون فيها ملاءمة وجذب للغرائز والطبائع التي فطر الله الأنفس عليها، وتلك نعمة كريمة من نعم الله في الحياة، ولو أن حاجات الحياة مرتبطة بأشياء لا زينة فيها، فلا ملاءمة بينها وبين شهوات الأنفس وغرائزها وطبائعها، لكان السعي لاستمرار الحياة مشكلة قد تستعصي على الحل.
ولست أدري ماذا سيحدث لو كان الطعام مكروها في الأنفس غير مشتهى، مثل الدواء المر الكريه، ولو كان الشراب مما تعافه الأنفس كالنفط، وكانت بقية حاجات الحياة على هذا الشكل؟
إنه من غير شك سيختار معظم الأحياء الفناء على البقاء، فسبحان من زين لنا حاجات أجسادنا وحاجات أنفسنا حتى نسعى إلى طلبها سعياً ذاتياً.
أقسام الزينة
واستنباطاً من النصوص القرآنية، ومن ملاحظة الأشياء والأعمال المزينة
للناس، نستطيع أن نقسّم الزينة إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: الزينة الربّانية.
القسم الثاني: الزينة الشيطانية.
القسم الثالث: الزينة الحيادية، التي يمكن أن تستخدم في الخير وطاعة الله عز وجل، ويمكن أن تستخدم في الشر ومعصية الله عز وجل. فإن استخدمت في الخير وطاعة الله ألحقناها بالقسم الأول، فكانت من قبيل الزينة الربّانية. وإن استخدمت في الشر ومعصية الله تعالى ألحقناها بالقسم الثاني، فكانت من قبيل الزينة الشيطانية.
1-
فمن أمثلة القسم الأول (الزينة الربّانية) تزيين الإيمان، وإرادة الخير، وفضائل الأخلاق، والعمل الصالح، في قلوب المؤمنين.
ومن هذا القسم ما جاء في قول الله تعالى خطاباً للمؤمنين أصحاب رسول الله في سورة (الحجرات/49 مصحف/106 نزول) :
فتزيين الإيمان في قلوب المؤمنين من قسم الزينة الربّانية المحضة.
2-
ومن أمثلة القسم الثاني (الزينة الشيطانية) تزيين الأعمال السيئة للكافرين والعصاة، كتزيين الشيطان لهم قتال المسلمين، وشرب الخمور، وظلم عباد الله، وحبَّ المعاصي والمخالفات، وقتل أولادهم سفهاً بغير علم، ونحو ذلك.
ومن هذا القسم ما قصّه الله على رسوله من أحوال الأمم السابقة، في سورة (الأنعام/6 مصحف/55 نزول) بقوله عز وجل:
{وَلَقَدْ أَرْسَلنَآ إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَآءِ وَالضَّرَّآءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلا إِذْ
جَآءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواّ يَعْمَلُونَ} .
ومنه ما نزل في شأن الذين خرجوا لقتال المسلمين في بدر من مشركي مكة، وهو قول الله عز وجل في سورة (الأنفال/8 مصحف/88 نزول) :
3-
ومن أمثلة القسم الثالث (الزينة الحيادية) حبّ الشهوات من النساء، وحبّ البنين، وحبّ المال، وحبّ المآكل والمشارب، وحبّ المراكب، وحبّ الخيل المسوّمة والأنعام والحرث، إلى غير ذلك ممّا جعل الله فيه زينة للناس، فالزينة في كلّ ذلك من خلق الله ومن فطرته التي فطر المزيّناتِ والنفوس علهيا، ليمتحن إرادات الناس بها.
وزينة أفراد هذا القسم إن استخدمت في حدود ما أذن الله، دون عدوان، ولا ظلم، ولا بغي، ولا إسراف، ولا تبذير، ولا تجاوز إلى مواطن الضرر، كانت زينة ملحقة بقسم الزينة الربّانية.
وقد دلّ على أنها تلحق بالزينة الربّانية ضمن هذه الحدود قول الله عز وجل في سورة (الأعراف/7 مصحف/39 نزول) :
{
وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلَا تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ * قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ}
أمّا إن استخدمت زينة أفراد هذا القسم في غير ما أذن الله وأحلّ، فإنّها تُلْحَق عندئذٍ بقسم الزينة الشيطانية.
لذلك جعل الله المبذرين إخوان الشياطين، والتبذير أهون من معاصي
أكل أموال الناس بالباطل، وأهون من الظلم والعدوان والقتل بغير حق، والزنى، ونحو ذلك من آثام.
فاستخدام الزينة الحيادية في غير ما أذن الله هو من اتباع خطوات الشيطان الذي يزين للناس الإثم والفسوق والعصيان.
وقد ضرب الله أمثلة للأشياء الكثيرة التي زيّنها لعباده، وجعل زينتها زينة حياديّة ليبتلي إرادتهم بها، ويكشف المطيعين والعاصين عن طريقها.
وفي بيان ما فيها من زينة فطريّة إشارة إلى أنّ ميل الإنسان إليها لا يعتبر نقيصةً من نقائصه، بل هو أمر "فطري" في أصل تكوينه، ولكنّ الإنسان بانحرافه عن منهج الاعتدال الذي رسمه الله له، هو الذي يضيف إلى نفسه بانحرافه عن منهج الاعتدال الذي رسمه الله له، هو الذي يضيف إلى نفسه النقيصة، ويهوي بها إلى دركات الشرّ والإثم، وهذا عملٌ إرادي من أعماله.
ومن الأمور التي جعل الله فيها زينة حيادية قابلة لأن تستعمل في الخير، وتستعمل في الشرّ، ما ذكره بقوله في سورة (آل عمران/3 مصحف/89 نزول) :
{
زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ}
وحُسن المآب يكون لمن استقام في الدنيا على الصراط الذي رسمه الله للمتقين.
ومنها ما ذكره الله بقوله في سورة (النحل/16 مصحف/70 نزول) :
{وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ}
ولعل في قوله تعالى: {ويخلق ما لا تعملون} إشارة إلى المركبات التي ألهم الله الإنسان اختراعها وصنعها، وإلى ما سيلهمه من ذلك حتى آخر الدهر.
ومنها ما ذكره الله بقوله في سورة (الكهف/18 مصحف/69 نزول) :
{إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً}
ما ذكره بقوله فيها أيضاً:
فليس من شذوذ الطبيعة الإنسانية أن يكون لديها ميل فطري إلى هذه الأشياء التي ألبسها الله أثواب الزينة، ليسعى الإنسان في طلبها، ويؤدي وظيفته الفردية والاجتماعية والنوعية في هذه الحياة الدنيا.
ولكن الميل بالزينة الحيادية إلى غير ما أذن الله، واستخدامها في معصيته، هو الذي يجعلها ملحقة بالزينة الشيطانية.
وباستطاعتنا توضيح الأمر بالمثال التالي:
لقد حدد الله لتأدية الوظيفة الفردية في الحياة أن يأكل الإنسان ويشرب مما يسر الله له في الأرض وأباح له من دون إسراف ولا تبذير، وأن يبتعد عن المضار مهما كانت إغراءاتها، وزين له المآكل والمشارب بخصائص تميل إليها الأنفس. فمن أخذ منها ضمن الحدود التي حدَّها الله أدى وظيفته أداءً حسناً، ومن تجاوز هذه الحدود فقد سلّم قياده إلى الشيطان، وللشيطان عند ذلك وسائل كثيرة يزين له فيها الشر والفساد في الأرض والطغيان والظلم والعدوان، وبهذا التزيين الشيطاني ينقلب الإنسان إلى شرهٍ نهم، يتهافت على الاستزادة من الزينة، تهافتاً يقذفه به إلى التهلكة، وهذا التجاوز من شأنه أن يقلب الوضع الطبيعي فيفسد الزينة الحيادية، ويجعلها زينة ضارة، وبذلك تكون زينة شيطانية، وهذا ما التزم به إبليس إذ قال لربه فيما حكى عنه في سورة (الحجر/15 مصحف/54 نزول) :
{رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ....} .
أي: ربّ بما حكمت علي بالغواية بسبب عصياني ما أمرتني به لأزيننّ لبني آدم سبيل معصيتك، حتى يخرجوا عن صراط الهداية، وينغمسوا في الإثم والظلم والعدوان.
ونظير ذلك يقال في الوظائف الأخرى، كالوظائف الاجتماعية التي تميل إليها غرائز الأمومة والأبوة، وحب الاجتماع، والرغبة بالسلطان، وكالوظئاف النوعية التي تجذب الرجل إلى المرأة، والمرأة إلى الرجل لحفظ النوع، ففي كلٍّ منها قدر معتدل له صراط مستقيم ترافقه زينة ربانية، ووراء ذلك قدر جائر زائد زيادة فاحشة عن حاجات الوظائف الفطرية، فيه ضرر وإثم، وله سبل متعرجة ملتوية تنحدر بسالكها إلى سحيق التهلكة، ترافقها زينة خادعة شيطانية.
ولقد حار أعداء الإسلام بماذا يتهمونه، أيتهمونه بالصوفية المغرقة المنافية لطبيعة الإنسان؟ أم يتهمونه بأنه مادي بعيد عن الكمالات الروحية؟ ولكنهم لا يظفرون من إطلاق أية شبهة منهما بطائل، لأن الإسلام في واقع حاله قد كان بين ذلك قواماً.
فالذين يصورون الإسلام دعوة صوفية تطارد الغرائز الإنسانية أنّى وجدتها، وتحاول أن تسلخ الإنسان عن بشريته، وتحجر على كلّ شهواته فلا تدع لها متنفساً إنما هم مفترون، يقولون على الله ما لا يعلمون، ويكذبهم في تصويهم هذا قول الله تعالى في سورة (الأعراف/7 مصحف/39 نزول) :
فهذا النص القرآني يعلن بصراحة تامة أن ما أخرج الله لعباده من زينة وما رزقهم من طيبات حلال هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا، وأما غير المؤمنين فقد سكت عنهم، لأنهم لم يؤمنوا بالله حتى ينظروا فيما أحل لهم أو حرّم عليهم، ولكن طبيعة تيسير الوسائل لهم تقضي بأن يصيبوا منها كما يصيب منها غيرهم من خلق الله، وفق سننه الدائمة في كونه، إلا أنه لما انتقل إلى الحديث عما أعدّ الله من زينة يوم القيامة، قررّ أنها لن تكون لغير المؤمنين يومئذ، قال
تعالى: {خالصة يوم القيامة} وذلك لأن حكمة الله اقتضت أن تكون دار الابتلاء دار اشتراك، أما دار الجزاء فهي دار تمييز، فالمؤمنين يكونون في دار النعيم منها، والكافرون يكونون في دار العذاب الأليم.
والذين يصورون الإسلام مادياً بعيداً عن السمو الروحي هم أيضاً مفترون، يقولون على الله ما لا يعلمون، ويكذبهم في تصويرهم هذا قول الله تعالى في سورة (الحديد/57 مصحف/94 نزول) :
وقول الله تعالى في سورة (الكهف/18 مصحف/69 نزول) :
ونظيرهما نصوصٌ قرآنية أخرى كثيرة، وهذه النصوص تسور الغرائز والشهوات التي تدعوها زينة الحياة الدنيا ومغرياتها، بأسوار تضم منافعها فتأذن بها، وتحجز عن مضارها فتحرّمها، وتضع خطوطاً على الزيادات التي لا فائدة منها فترغب بتركها، وتلفت نظر المسلم إلى مراتب الكمال الروحي، فتدعوه إلى أن يصعد في سلمها مرتبة فمرتبة، حتى يسمو على الملائكة في مراتبهم الروحية الخالصة من شوائب الغرائز والشهوات، وتغذي قلبه بالعفة عن الشهوات التي فيها إثم ومعصية لله، وبالزهد في زوائد المتاع الفاني التي قد تُطغي وتصرف عن الخير وتصد عن الفضيلة، وحينما تزهده بزوائد المتاع الفاني تعلق قلبه بالباقيات الصالحات التي هي خير عند الله ثواباً وخيرٌ أملاً.
ولما كان الناس أصنافاً ثلاثة في هذه الحياة الدنيا: كافرين غارقين في متاعها ظالمين لأنفسهم، ومؤمنين ملفقين يخلطون عملاً صالحاً وآخر سيئاً، ومتقين وسابقين في الخيرات بإذن الله وتوفيقه، جاء في آية سورة (الحديد) الآنفة
الذكر فقرات ثلاث كل واحدة منها تلائم صنفاً من هؤلاء الأصناف، وهي قوله تعالى: {وفي الآخرة عذاب شديد، ومغفرة من الله، ورضوان".
فالكافرون الغارقون في متاع الحياة الدنيا الظالمون لأنفسهم يلوِّح لهم بالعذاب الشديد، والمؤمنون الملفّقون الذين يخلطون عملاً صالحاً وآخر سيئاً يلوِّح لهم بالمغفرة من الله، والمتقون والسابقون بالخيرات يلوِّح لهم بمنزلة الرضوان من الله.
وفي سلم الكمال الصاعد إلى مغفرة الله ورضوانه يتنافس المتنافسون من المؤمنين المتقين، وفي درك الهبوط إلى عذاب الله الشديد وسخطه يتهاوى المتكالبون على الدنيا وزينتها بمعصية الله ومخالفة أوامره ونواهيه، ويقال لمن كفر منهم يوم القيامة ما جاء في قول الله تعالى في سورة (الأحقاف/46 مصحف/66 نزول) :
{
وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُواْ عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ}
منهج الاعتدال:
مما سبق يتضح لنا أن منهج الإسلام هو منهج الاعتدال، ويكون بإعطاء كل ذي حقٍ حقّه، فللجسد حقوقه في الحياة، وللروح حقوقها، ولا إفراط ولا تفريط، ولا تعارض بين حظوظ الدنيا المشروعة وطلب حظوظ الآخرة العظيمة، فحظوظ الآخرة تطلب بابتغاء مرضاة الله في أعمال الحياة الدنيا، وطلب ما أباح الله من زينة الحياة الدنيا لا يتنافى مع ابتغاء مرضاة الله.
وبين زينة الحياة الدنيا وشهوات الأنفس المشرئبة إليها تقف حدود الله ومدركات العقل وضوابط الإرادة، لكبح جماح الشهوات عن الإفراط الذي يسوق الإنسان إلى الضرّ والأذى ومعصية الله بفعل ما نهى الله عنه أو بترك ما أمر به.
وتقف حدود الله ومدركات العقل لضبط إرادة الإنسان عن التفريط بحقوق النفس والجسد، حتى لا يقسو الإنسان عليها فيحرمهما مما أباحه الله
وأذن به، مما تستد عيه ضرورات الحياة وحاجاتها.
وفي منهج الوسط الذي لا إفراط فيه ولا تفريط تسير الحياة السعيدة في هذه الدنيا، وهذا هو منهج المسلم العارف بدينه الملتزم لتعاليمه ووصاياه.
فلا حرج على المسلم أن يتمتّع بنوع من زينة الحياة الدنيا، عن طريق الزواج المشروع، الذي لم يجعل الإسلام له قيوداً عسيرة صعبة الدنيا، بل رغب فيه وحض عليه، ثم أرشد المسلمين إلى الاعتدال وعدم الإسراف، حتى لا ينفقوا في مجاله كل طاقاتهم، فيحرموا أنفسهم من خيرات أخرى لدنياهم وآخرتهم، هذا هو منهج الإسلام المعتدل، السائر بين جانبي تفريط وإفراط. فمن وراء ذات اليمين كره الإسلام التبتل، لما فيه من تفريط بحق النفس والجسد، وحق الحياة الداعية إلى بقاء النوع، فإذا بلغ التبتل إلى مستوى الإضرار الجسد أو العقل أو النفس، أو التحريض على الفسق والشذوذ، كان محرماً ولم يجز للمسلم عندئذ أن يعزف عن الزواج وهو قادر عليه. ومن وراء ذات الشمال كره الإسلام الإفراط الذي قد يضيع قسطاً من الواجبات أو الوظائف الأخرى، ولو لم يكن في الإفراط تجاوز لحدود الله، وحرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وحرم كل ما فيه تجاوز لحدود الله التي حدها لعباده.
ولا حرج على المسلم أن يتمتع بنوع من زينة الحياة الدنيا عن طريق جمع المال بالسعي الجميل والعمل الشريف المشروع، بل حضّ الإسلام على الكدح وحث على العمل ورغب فيه، وجعله أهم وسيلة من وسائل كسب الرزق في الحياة، وأقام للكسب حدوداً تمنع العدوان والظلم والبغي وأكل أموال الناس بالباطل، ومنهج الإسلام في كسب الرزق ومنهج معتدل سائر بين جانبي تفريط وإفراط. فمن وراء ذات اليمين لم يأذن الإسلام للمسلم بالبطالة والكسل وعدم الأخذ بوسائل الكسب، سواء أكان ذلك زهداً أو اكتفاء بالنفقة التي تأتيه من عمل الآخرين، ما لم يكن متفرغاً لعمل آخر ذي نفع عام، كالبحث العلمي والدعوة إلى الله والقيام بمصالح المسلمين العامة، فهذا من سبل العمل ذات الأهداف السامية والنفع العام، وقد نهى الإسلام عن البطالة والكسل لما فيهما من تفريط بحق النفس والجسد والأسرة ومنافاة لوظائف الحياة. ومن وراء
ذات الشمال كره الإسلام الشره والطمع والتكالب على جمع الأموال، وحرّم الظلم والعدوان وأكل أموال الناس بالباطل تحريماً جازماً.
ولا حرج على المسلم أن يتمتع بنوع من زينة الحياة الدنيا عن طريق المآكل والمشارب والملابس المتنوعة، ولكن ضمن منهج معتدلٍ لا إفراط فيه ولا تفريط. فمن وراء ذات اليمين لم يأذن الإسلام للمسلم أن يحرم جسده من طعام وشراب تستدعيهما ضرورة الحياة، ولباس يدفع عنه أذى الحر والبرد ويستره، وكره التقشف الزائد الموهن للجسم والمضعف للقوى، لما في ذلك من تفريط بحق الجسم. ومن وراء ذات الشمال كره الإسلام الإسراف الذي قد يؤدي إلى الأذى، أو يشغل عن الواجبات، أو يورث القلب قسوة ونزوعاً إلى الطغيان، وحرّم الإسراف المضر بالجسم أو النفس أو العقل، والمضيع للواجبات، وحرّم أنواعاً يسيرة من الأطعمة والأشربة والألبسة التي لا خير فيها للإنسان.
وكذلك كان منهج الإسلام بين المادية والروحية منهجاً وسطاً، لا إفراط فيه ولا تفريط، أما الذين يختارون لأنفسهم سبل الإفراط أو التفريط، متجاوزين حدود منهج الإسلام السوي، فقد زُين لهم سوء عملهم، ويصدق عليهم قول الله تعالى في سورة (محمد/47 مصحف/95 نزول) :
{أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ}
فهل في هذا المنهج الإسلامي العظيم شبهة يتذرع بها خصوم الإسلام فينتقدوه بها؟
ولكن أعداء الإسلام يحلو لهم دائماً أن يفتروا عليه، والله متمّ نوره ولو كره الكافرون.
* * *