الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عذر نادر وغير
(1)
متصل، فأشبه ما لو لم يجد ترابًا يتيمَّمُ
(2)
به عنها، بخلاف [133/ب] نجاسة الجرح فإنها تعُمُّ بها البلوى وتطول مدّتُها. والمنصوص المشهور: أنه لا إعادة عليه، كالتيمم عن الحدث ونجاسة الجرح. وهذا بناءً على وجوب الإعادة على من عجز عن إزالة النجاسة وعن التيمُّم لها، وهو إحدى الروايتين، فإذا لم نوجب الإعادة هناك، فهاهنا أولى.
ويجب عليه أن يخفِّف النجاسة بما أمكنه من مسح أو حكٍّ أو نحو ذلك قبل التيمُّم، لأنه المستطاع.
وتعتبر له
(3)
النية في أصحِّ الوجهين، وإن لم تعتبر في مُبْدَلِه. وفي الآخر: لا تعتبر له النية، كما لا تعتبر لإزالة النجاسة. وليس بشيء.
فصل
يحرم على المحدث الصلاةُ، والطوافُ، ومسُّ المصحف
. فأمَّا الصلاة، فيحرم عليه فرضُها ونفلُها والسجود المجرد كسجود التلاوة والقيام المجرد وهو صلاة الجنازة، ولا يصح منه سواء كان عالمًا بحدثه أو جاهلًا به. هذا إذا كان قادرًا على الطهارة. فأمَّا العاجز، فيذكر إن شاء الله تعالى في التيمُّم؛ لما روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«لا يقبل الله صلاةَ أحدكم إذا أحدثَ حتى يتوضَّأ» متفق عليه
(4)
.
وعن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يقبل الله صلاةً بغير
(1)
في المطبوع: «وغيره» ، خطأ.
(2)
في الأصل والمطبوع: «تيمم» .
(3)
«له» ساقط من المطبوع.
(4)
تقدَّم تخريجه.
طَهور، ولا صدقةً من غُلول» رواه الجماعة إلا البخاري
(1)
.
وأمّا الطواف فهو محرَّم عليه أيضًا، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«إنما الطواف بالبيت صلاةٌ، فإذا طُفتم فأقِلُّوا الكلامَ» رواه أحمد والنسائي
(2)
.
لكن إذا خالف وطاف محدثًا، فهل [134/أ] يصحُّ طوافهُ؟ على روايتين، أصحُّهما أنه لا يصحّ
(3)
.
وأمّا المصحف، فإنه لا يمسُّ منه موضع الكتابة ولا حاشيته ولا الجلد
(1)
أحمد (4700)، ومسلم (224)، والترمذي (1)، وابن ماجه (272)، من حديث عبد الله بن عمر.
وأخرجه أبو داود (59) والنسائي (139) من مسند أسامة بن عامر.
(2)
أحمد (15423)، والنسائي (2922)، من طرق عن حسن بن مسلم، عن طاوس، عن رجل قد أدرك النبي صلى الله عليه وسلم به.
رجال إسناده ثقات، قال ابن حجر في «التلخيص الحبير» (1/ 130):«وهذه الرواية صحيحة، وهي تعضد رواية عطاء بن السائب، وترجح الرواية المرفوعة، والظاهر أن المبهم فيها هو ابن عباس، وعلى تقدير أن يكون غيره فلا يضر إبهام الصحابة» .
وحديث ابن عباس أخرجه الترمذي (960)، وصححه ابن خزيمة (2739)، وابن حبان (3836)، والحاكم (1/ 459)، (2/ 266 - 267).
وقد اختلف في إسناد هذا الحديث على طاوس ألوانًا: فجاء مرفوعًا من حديث ابن عباس وموقوفًا عليه، ومرفوعًا من طريق صحابي مبهم، وروي من حديث ابن عمر أيضًا، ورجح وقفه على ابن عباس جماعة.
انظر: «العلل» للدارقطني (13/ 162 - 163)، «الإمام» (2/ 410 - 414)، «البدر المنير» (2/ 487 - 498).
(3)
اختيار المصنف أنه يصح. انظر: «مجموع الفتاوى» (21/ 270، 273 - 274)، (26/ 210 - 214).
أو الدَّفَّ
(1)
والورقَ
(2)
الأبيض المتصل به، لا ببطن الكفِّ ولا بظهره ولا بشيء
(3)
من جسده؛ لأنَّ في الكتاب الذي كتبه النبي صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم أن لا يمسَّ القرآن إلا طاهرٌ. رواه مالك والأثرم والدارقطني وغيرهم
(4)
. وهو كتاب مشهور عند أهل العلم.
وقال مصعب بن سعد: كنتُ أُمسِكُ المصحفَ على عهد
(5)
سعد بن أبي وقاص، فاحتككتُ، فقال: لعلك مسِسْتَ ذكرك. فقلت: نعم. فقال: قُمْ،
(1)
كذا في الأصل، والدَّفّ: الجنب من كل شيء. ودفَّتا المصحف: جانباه. وقد يكون ما في الأصل مصحفًا عن «الدَّفَّة» .
(2)
في المطبوع: «أو الورق» ، والمثبت من الأصل.
(3)
في المطبوع: «شيء» ، والمثبت من الأصل.
(4)
مالك في «الموطأ» (1/ 275) مرسلًا، والدارقطني (1/ 121 - 122) مرسلًا ومسندًا، من طرق عن الزهري، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن أبيه، عن جده به. اختلف في إسناده؛ للخلاف في وصله وإرساله، وصححه ابن حبان (6559)، والحاكم (3/ 485)، وأعله أبو داود بالإرسال في «المراسيل» (196).
وذهب بعض أهل العلم إلى أن شهرة الكتاب تغني عن صحة إسناده، قال ابن عبد البر في «التمهيد» (17/ 396):«كتاب مشهور عند أهل العلم معروف، يستغني بشهرته عن الإسناد» ، ونقل نحوه ابن الملقن في «البدر المنير» (2/ 501) عن يعقوب بن سفيان.
وفي الباب مرفوعًا عن حكيم بن حزام وابن عمر وثوبان وعثمان بن أبي العاص، انظر:«البدر المنير» (2/ 499 - 505)، «إرواء الغليل» (122).
(5)
كذا في الأصل والمطبوع، وكلمة «عهد» ليست في «الموطأ». وفي مصنَّفي عبد الرزاق (415) وابن أبي شيبة (1742) وغيرهما: «على أبي
…
».
فتوضَّأ. رواه مالك
(1)
.
وذكر الإمام أحمد عن ابن عمر أنه قال: لا تمسَّ المصحفَ إلا على طهارة
(2)
.
وعن عبد الرحمن بن يزيد
(3)
قال: كنّا مع سلمان، فخرج، فقضى حاجته، ثم جاء، فقلتُ: يا أبا عبد الله، لو توضَّأتَ، لعلَّنا نسألك عن آيات. قال: إنِّي لستُ أمسُّه {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة: 79]. رواه الأثرم والدارقطني
(4)
.
وكذلك جاء عن خلق من التابعين، من غير خلاف يُعرف عن الصحابة والتابعين، وهذا يدلُّ على أنّ ذلك كان معروفًا بينهم.
وقد احتجَّ كثير من أصحابنا على ذلك بقوله تعالى: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} كما ذكرنا عن سلمان، وبنوا ذلك على أنَّ الكتاب هو المصحف بعينه، وأنَّ قوله:{لَا يَمَسُّهُ} صيغة خبر في معنى الأمر؛ لئلا يقع الخبر بخلاف مخبره. وردُّوا قولَ من حمله على الملائكة، فإنهم جميعهم مطهَّرون، وإنما يمسُّه ويطَّلع عليه [134/ب] بعضهم.
والصحيح: أنَّ
(5)
اللوح المحفوظ الذي في السماء مرادٌ من هذه الآية، وكذلك الملائكة مرادون من قوله:{الْمُطَهَّرُونَ} لوجوه
(6)
:
(1)
«الموطأ» (1/ 85).
(2)
أخرجه عبد الرزاق (7506)، وابن المنذر في «الأوسط» (2/ 101) واللفظ له.
(3)
في الأصل: «عبد الرحمن بن زيد» ، وتصحيحه من مصادر التخريج.
(4)
الدارقطني (1/ 123، 124) من طرق، وقال:«كلها صحاح» .
(5)
«أنَّ» ساقطة من المطبوع.
(6)
ذكر ابن القيم عشرة وجوه في «التبيان في أيمان القرآن» (ص 331 - 338) وجملة منها في «مدارج السالكين» (2/ 416 - 418) والظاهر من كلامه أنه سمعها من شيخ الإسلام.
أحدها: أنَّ هذا تفسير جماهير السلف من الصحابة ومَن بعدهم، حتّى الفقهاء الذين قالوا: لا يمسُّ القرآن إلا طاهر، من أئمة المذاهب صرَّحوا بذلك، وشبَّهوا هذه الآية بقوله:{كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ} [عبس: 11 - 16].
وثانيها: أنه أخبر أنَّ القرآن جميعَه في كتاب، وحين نزلت هذه الآية لم يكن نزل إلا بعضُ المكِّيّ منه، ولم يُجمع جميعُه في المصحف إلا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم.
وثالثها: أنه قال: {فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} [الواقعة: 78] والمكنون: المصون المحرَّر الذي لا تناله أيدي المضلِّين، فهذه صفة اللوح المحفوظ.
ورابعها: أن قوله: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} صفة للكتاب، ولو كان معناها الأمر لم يصحَّ الوصف بها، وإنما يوصف بالجملة الخبرية.
وخامسها: أنه لو كان معنى الكلام الأمر لقيل: «فلا يمسَّه» لتوسُّط الأمر بما قبله.
وسادسها: أنه قال
(1)
: {الْمُطَهَّرُونَ} ، وهذا يقتضي أن يكون تطهيرهم من غيرهم، ولو أريد طهارة بني آدم فقط لقيل:«المتطهِّرون» ، كما قال تعالى:{فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [التوبة: 108]،
(1)
في الأصل والمطبوع: «لو قال» ، والظاهر أن «لو» زيادة من الناسخ لانتقال النظر.
وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222].
وسابعها: أنَّ هذا مسوقٌ لبيان شرف القرآن وعلوِّه وحفظه، وذلك بالأمر الذي قد ثبتَ واستقرَّ أبلغُ منه بما يحدُث ويكون.
نعم، الوجه في هذا ــ والله أعلم ــ: أنَّ القرآن الذي في اللوح [135/أ] المحفوظ هو القرآن الذي في المصحف كما أن الذي في هذا المصحف هو الذي في هذا المصحف بعينه، سواء كان المحلُّ ورقًا أو أديمًا أو حجرًا أو لِخافًا
(1)
. فإذا كان من حكم الكتاب الذي في السماء أن لا يمسَّه إلا المطهَّرون وجب أن يكون الكتاب الذي في الأرض كذلك، لأنَّ حرمته كحرمته؛ أو يكون الكتاب اسم جنس يعُمُّ كلَّ ما فيه القرآن، سواء كان في السماء أو الأرض.
وقد أومأ
(2)
إلى ذلك قوله تعالى: {يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً (2) فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ} [البينة: 2 - 3]. وكذلك قوله تعالى: {فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ} [عبس: 13 - 14] فوصفها أنها مطهَّرة، فلا يصلح للمحدِث مسُّها. وكذلك لا يجوز أن يمسَّ بعضو عليه نجاسة. ولو غسل المتوضِّئ بعض أعضائه لم يجُز له مسُّها حتى يكمل طهارته. ولو كانت النجاسة على عضو جاز مسُّه بغيره، لأن حكم النجاسة لا يتعدَّى محلَّها. ويجوز بالتيمُّم حيث يُشرع كما يجوز بالتوضؤ.
(1)
في الأصل والمطبوع بالحاء المهملة، وهو تصحيف. واللِّخاف: جمع اللَّخْفة، وهي حجر أبيض عريض رقيق.
(2)
في المطبوع: «أوحى» ، تحريف.
فأمَّا إن حمله بعِلَاقته، أو بحائلٍ له منفصلٍ منه لا يتبعه في الوصية والإقرار وغيرهما كغلافه، أو حائلٍ مانعٍ للحامل كحمله في كمِّه من غير مسِّ، أو على رأسه أو في ثوبه، أو تصفَّحه بعود أو مسَّه به= جاز في ظاهر المذهب.
وعنه: لا يجوز، لأنه إنما مُنع من مسِّه تعظيمًا لحرمته، وإذا تمكَّن من ذلك بحائل زال التعظيم. وحكى بعض أصحابنا روايةً أنه إنما يحرُم مسُّه بكمِّه وما يتصل به، لأنّ كمَّه وثيابه متصلة به عادةً، فأشبهت أعضاءَه، بخلاف العود والغلاف. وحكى الآمدي روايةً بجواز
(1)
حملِه [135/ب] بعلاقته وفي غلافه، دون تصفُّحه بكمِّه أو عود.
ولنا أنه لم يمسَّه، فيبقى على أصل الإباحة، لا سيَّما ومفهوم قوله صلى الله عليه وسلم:«لا يمسُّ القرآن إلا طاهر»
(2)
جواز ما سوى المباشرة، وليس المسُّ من وراء حائل كالمباشرة، بدليل نقض الوضوء وانتشار حرمة المصاهرة
(3)
به والفدية في الحج وغير ذلك. والعِلاقةُ وإن اتصلت به فليست منه، إنما تُراد
(4)
لتعليقه، وهو مقصود زائد على مقصود المصحف، بخلاف الجلد فإنه يراد لحفظ ورق المصحف وصونه.
وتجوز كتابته من غير مسِّ الصحيفة كتصفُّحه بعود، ولأن الصحابة استكتبوا أهلَ الحيرة المصاحف. وقيل: لا يجوز الكتابة، وإن أجزنا تقليبه بالعود. وقيل: يجوز للمحدِث دون الجنب كالتلاوة.
(1)
في المطبوع: «يجوز» ، والمثبت من الأصل.
(2)
في الأصل: «الطاهر» .
(3)
في الأصل والمطبوع: «المصاهر» .
(4)
في الأصل والمطبوع: «يراد» ، تصحيف.
وما فيه شيء من القرآن حكمه حكم المصحف إن كان مفردًا. فإن كُتب مع القرآن غيرُه، فالحكم للأغلب. فيجوز مسُّ كتب التفسير والحديث والفقه والرسائل التي فيها شيء من القرآن، في المشهور عنه، لأنها ليست مصحفًا. وقد كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى أهل الكتاب بكتاب فيه قرآن، وكان يكتب في صدر كتبه إلى أهل النواحي:{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ، ولأن ما فيها من القرآن لا يثبت لها حرمةُ المصحف، بدليل جواز بيعها وشِراها
(1)
وعموم الحاجة إلى مسِّها.
ويجوز مسُّ ما كُتِب فيه المنسوخ [و]
(2)
التوراة والإنجيل، في المشهور من الوجهين. وكذلك ما فيه
(3)
الأحاديث المأثورة عن الله تعالى، لأن ذلك ليس هو القرآن. وفي مسِّ الدراهم المكتوب عليها القرآن روايتان.
وفي مسِّ الصبيان ألواحَهم المكتوبَ فيها القرآنُ وجهان. وقيل: روايتان. ووجه الرخصة عموم الحاجة إلى ذلك.
ولا يجوز تمليكه من كافر، ولا السفرُ به إلى بلادهم، لما روى عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«لا تسافروا بالقرآن إلى أرض العدوِّ مخافةَ أن يناله العدو» رواه أحمد ومسلم
(4)
. ولو ملك الذميُّ مصحفًا بالإرث أُلزِمَ بإزالة ملكه عنه، لأنهم يتديَّنون بانتهاكه وانتقاص حرمته.
(1)
في المطبوع: «وشرائها» ، والمثبت من الأصل.
(2)
زاد الواو في المطبوع دون تنبيه.
(3)
في المطبوع، «مسُّ ما فيه» خلافًا للأصل.
(4)
أحمد (4507)، ومسلم (1869). وهو في «صحيح البخاري» (2990) مختصرًا.
فصل
ويحرم على الجنُب ما يحرم على المحدِث. وهو في ذلك أشدُّ، لأن الصلاة تحرُم عليه لأنها صلاة ولأنَّ فيها قراءة. وكذلك الطواف يحرم عليه، لأنه صلاة ولأنه يحتاج إلى المُكث في المسجد الحرام. وكذلك مسُّ المصحف.
ويحرم أيضًا عليه قراءةُ القرآن، لما روي عن علي قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحجُبه ــ وربما قال: لا يحجُزه ــ عن قراءة القرآن شيء، ليس الجنابةَ. رواه الخمسة
(1)
، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
ويجوز بعض الآية في إحدى الروايتين، اختارها القاضي وغيره، لأنه لا يجزئ في الخطبة، ولا يحصل به إعجاز، فأشبه البسملة والحمدلة. والثانية: لا يجوز، وهي أقوى، لقول علي: اقرؤوا القرآن ما لم يُصِب أحدَكم جنابةٌ. فإن أصابته
(2)
جنابة فلا، ولا حرفًا واحدًا. رواه الدارقطني، وإسحاق بن راهويه
(3)
(1)
أحمد (627)، وأبو داود (232)، والترمذي (146)، والنسائي (265)، وابن ماجه (594)، من طرق عن عمرو بن مرة، عن عبد الله بن سلمة، عن علي، بألفاظ متقاربة مطولًا ومختصرًا.
واختلف في صحة إسناده؛ لاختلافهم في حال ابن سلمة وقد انفرد به، وللخلاف الواقع عليه أيضًا، فصححه الترمذي، وابن خزيمة (208)، وابن حبان (799)، والحاكم (4/ 107)، وأعله أحمد والبخاري.
انظر: «العلل» للدارقطني (3/ 248 - 251)، «البدر المنير» (551 - 557)، «ضعيف أبي داود ــ الكتاب الأم» (31).
(2)
في المطبوع: «أصابه» ، والمثبت من الأصل.
(3)
الدارقطني (1/ 118) وصححه، ورواه أيضًا عبد الرزاق (1306) وابن أبي شيبة (1092).
وقال: عليٌّ أعلم بها، حيث روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقرأ على [136/ب] كلِّ حال إلا الجنابة. والحرف من القرآن، فهو أعلم بما يرويه.
وقال ابن عباس: الجنب والحائض يذكران الله، ولا يقرآن من القرآن شيئًا. قيل: ولا آية؟ قال: ولا نصف آية. رواه حرب
(1)
.
ولأنَّ بعض الآية كالآية في منع المُحدِث من مسِّ كتابتها، فكذلك في منع الجنب من تلاوتها.
وأما ذكرُ الله سبحانه ودعاؤه ونحو ذلك، فهو جائز، لأن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كلِّ أحيانه. رواه الخمسة إلا النسائي
(2)
، وأخرجه البخاري تعليقًا. ولأنّ المنع إنما جاء في القرآن، وغيرُه من ذكر الله لا يساويه في الحرمة، بدليل أنه لا يُمنعَ المُحدِث من مسِّ صحيفته، ولا تصحُّ الصلاة به إلا عند العجز عن القرآن، وأن التلاوة أفضل من الذكر، وغير ذلك. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:«أفضل الكلام بعد القرآن أربع، وهن من القرآن: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر»
(3)
.
(1)
في «مسائله» (1/ 352)، وقد أخرج ابن المنذر في «الأوسط» (2/ 98) ما يدل على تجويزه القراءة للجنب.
(2)
أحمد (24410)، ومسلم (373)، وأبو داود (18)، والترمذي (3384)، وابن ماجه (302)، والبخاري معلقًا مجزومًا به في باب تقضي الحائض المناسك كلها إلا الطواف بالبيت.
(3)
أخرجه أحمد (20223)، وابن ماجه (3811)، من حديث سمرة بن جندب به.
قال الهيثمي في «مجمع الزوائد» (10/ 100): «هو في الصحيح غير قوله: «بعد القرآن، وهن من القرآن» ، ورواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح».
وقال: «فضل القرآن على سائر الكلام كفضل الله على خلقه»
(1)
.
وقال: «ما تقرَّب العبادُ إلى الله بأفضلَ مما خرَج منه»
(2)
.
فعلى هذا يجوز من الكلام ما يوافق نظمُه نظمَ القرآن، إذا لم يقصد به تلاوة القرآن، وإن بلغ آيةً، كقول الآكل والمتوضئ:{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ، وقول الشاكر:{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ، وقول المستغفر:{رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا} الآية [الأعراف: 23]؛ لأن هذا الكلام قد يُقصَد به القرآن، ويُقصَد به غيرُه، وإن اتفقت ألفاظها.
[137/أ] ومتى كان شيئًا يتميَّز به القرآن عن غيره، فقد قيل: لا يجوز قراءته بكلِّ حال، لأنه لا يكون إلا قرآنًا. وقيل: يجوز إذا قُصد به معنًى غيرُ
(3)
التلاوة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى الروم في رسالة: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ
(1)
أخرجه أبو يعلى في «المعجم» (294)، وابن عدي في «الكامل» (5/ 48)، والبيهقي في «الأسماء والصفات» (1/ 583)، من حديث أبي هريرة به.
إسناده ضعيف جدًّا، فيه عمر بن سعيد الأبح منكر الحديث كما في «الكامل» (5/ 48)، وشهر بن حوشب ضعيف، وقد اضطرب في إسناده أيضًا.
انظر: «العلل» للدارقطني (11/ 29)، «السلسلة الضعيفة» (1334).
(2)
جزء من حديث أخرجه أحمد (22306)، والترمذي (2912)، من طرق عن بكر بن خنيس، عن ليث بن أبي سليم، عن زيد بن أرطاة، عن أبي أمامة به.
إسناده ضعيف، بكر وليث ضعيفان، قال الترمذي:«هذا حديث غريب، لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وبكر بن خنيس قد تكلم فيه ابن المبارك، وتركه في آخر أمره. وقد روي هذا الحديث عن زيد بن أرطاة، عن جبير بن نفير، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسل» .
(3)
في الأصل والمطبوع: «عين» ، تصحيف.
تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} الآية [آل عمران: 64]، لأنه قصَد بها التبليغَ دون القراءة
(1)
والتلاوة.
ويحرُم عليه اللُّبثُ في المسجد بغير وضوء. فأما العبور فيه فلا بأس، لما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«لا أُحلُّ المسجدَ لحائض ولا جنب» رواه أبو داود
(2)
.
وعن أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إنَّ المسجد لا يحِلُّ لجنُب ولا حائض» رواه ابن ماجه
(3)
. ولأنَّ المسجد منزل الملائكة، لما فيه من الذكر؛ والملائكةُ لا تدخل بيتًا فيه كلبٌ ولا جنُب ولا تمثال. كذلك رواه علي عن النبي صلى الله عليه وسلم. أخرجه مسلم وغيره
(4)
. ففي لُبث الجنُب في
(1)
في المطبوع: «لا القراءة» خلافًا للأصل.
(2)
برقم (232)، من طريق الأفلت بن خليفة، عن جسرة بنت دجاجة، عن عائشة به.
في إسناده مقال، جسرة فيها جهالة، وفي متنها نكارة، قال البخاري في «التاريخ الكبير» (2/ 67 - 68):«عند جسرة عجائب، وقال عروة وعباد بن عبد الله، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم: «سدوا هذه الأبواب إلا باب أبي بكر» ، وهذا أصح»، وكذا أعله البيهقي في «معرفة السنن» (1/ 257).
وصححه ابن خزيمة (1327)، وحسنه ابن القطان في «بيان الوهم» (5/ 332).
انظر: «البدر المنير» (2/ 558 - 564)، «ضعيف أبي داود ــ الكتاب الأم» (32).
(3)
برقم (645)، من طريق أبي الخطاب الهجري، عن محدوج الذهلي، عن جسرة، عن أم سلمة به. إسناده تالف، أبو الخطاب مجهول، ومحدوج فيه نظر كما في «الميزان» (3/ 443)، وتقدم الكلام في جسرة، وانظر مصادر تخريج الحديث السابق.
(4)
أخرجه أحمد (608)، وأبو داود (227، 4152)، والنسائي (261)، عن عبد الله بن نجي، عن علي، وتارة عن أبيه، عن علي.
في إسناده ضعف، عبد الله لم يسمع من علي، وأبوه مجهول، واضطُرِب في إسناده أيضًا، قال البخاري في «التاريخ الكبير» (5/ 214):«عبد الله بن نجيّ الحضرمي، عن أبيه، عن علي، فيه نظر» ، وصحح له ابن خزيمة (904)، وابن حبان (1205).
وأصل الحديث في «الصحيحين» من حديث أبي طلحة وعائشة دون لفظ: «الجنب» ، وانظر:«العلل» للدارقطني (3/ 357 - 360).
المسجد إيذاء للملائكة.
فأمّا المرور فيجوز، لما روت عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ناوليني الخُمْرةَ من المسجد» . فقلت: إني حائض، فقال:«إنّ حَيضتَكِ ليست في يدك» رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي والترمذي
(1)
.
وقالت ميمونة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل على إحدانا وهي حائض، فيضع رأسه في حَجْرها، فيقرأ القرآن وهي حائض، ثم تقوم إحدانا بخُمرته، فتضعها في المسجد وهي حائض. رواه أحمد والنسائي
(2)
.
وقال جابر بن عبد الله: كان [137/ب] أحدنا يمرُّ في المسجد جنبًا مجتازًا. رواه سعيد في «سننه»
(3)
.
وقال زيد بن أسلم: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشون في المسجد، وهم جنُب. رواه ابن المنذر
(4)
.
(1)
أحمد (24184)، ومسلم (297)، وأبو داود (261)، والنسائي (271)، والترمذي (134).
(2)
أحمد (26810)، والنسائي (273)، من طريق منبوذ، عن أمه، عن ميمونة به.
في إسناده لين، أم منبوذ مجهولة، كما في «تهذيب الكمال» (35/ 396)، ويشهد له حديث عائشة المتقدم في الصحيح.
(3)
«السنن ــ قسم التفسير» (4/ 1270).
(4)
«لأوسط» (2/ 108).
وقد احتجَّ أصحابنا على هذه المسألة بقوله: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ} [النساء: 43] لأن ابن مسعود وابن عباس وغيرهما فسَّروا ذلك بعبور الجنُب في المسجد
(1)
. قال جماعة من أصحابنا وغيرهم
(2)
: يكون المراد بالصلاة مواضع الصلاة، كما قال تعالى:{لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ} [الحج: 40].
وقد فسَّرها آخرون
(3)
بأن المسافر إذا لم يجد الماء تيمَّم، لأن الصلاة هي الأفعال أنفسها. القول على ظاهره ضعيف، لأن المسافر قد ذُكر في تمام الآية فيكون تكريرًا، ولأن المسافر لا تجوز له صلاة مع الجنابة إلا في حال عدم الماء، وليس في قوله:{إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ} تعرض لذلك
(4)
، ولأنه كما تجوز الصلاة مع الجنابة للمسافر، فكذلك للمريض، ولم يُستثنَ كما استُثني المسافر، فلو قصد ذلك لبيَّن
(5)
، كما بيَّن في آخر الآية المريض والمسافر إذا لم يجدا
(6)
الماء. ولأنَّ في حمل الآية على ذلك لزوم التخصيص في
(1)
أخرج الأثرين الطبري في «تفسيره» (8/ 382 - 384)، وابن المنذر في «لأوسط» (2/ 106 - 107).
(2)
انظر: «المغني» (1/ 200).
(3)
منهم: ابن عباس أيضًا وعلي وسعيد بن جبير ومجاهد. انظر: «تفسير الطبري» (8/ 379 - 381).
(4)
في الأصل: «فعرض كذلك» ، أصلحه في المطبوع إلى «معترض» مع التنبيه، ولعل الصواب ما أثبت.
(5)
في المطبوع: «ليبين» ، والمثبت من الأصل.
(6)
في المطبوع: «لم يجد» ، والصواب ما أثبت من الأصل.
قوله تعالى: {عَابِرِي سَبِيلٍ} ويكون المخصوص أكثر من الباقي، فإنَّ واجد الماء أكثر من عادمه؛ وفي قوله
(1)
: {وَلَا جُنُبًا} لاستثناء المريض أيضًا، وفيه تخصيص أحد الشيئين
(2)
بالذكر مع استوائهما في الحكم. ولأنَّ عبور السبيل حقيقةً
(3)
: المرور والاجتياز، [138/أ] والمسافر قد يكون
(4)
لابثًا وماشيًا، فلو أريد المسافر لقيل:«إلا ابن سبيل»
(5)
، كما في الآيات التي عنى بها المسافرين.
والتوجيه المذكور عن أصحابنا على ظاهره ضعيف أيضًا، لما تقدَّم من أن الآية نزلت في قوم صلَّوا بعد شرب الخمر، ولم يكن ذلك في المسجد، وإنما كان في بيت رجل من الأنصار. ولأنه جوَّز القربان للمريض والمسافر إذا عُدِمَ الماء بشرط التيمُّم، وهذا لا يكون في المساجد غالبًا.
وإنما الوجه في ذلك أن تكون الآية عامّةً في قربان الصلاة ومواضعها، واستثني من ذلك عبورُ السبيل، وإنما يكون في مواضعها خاصَّةً. وهذا إنما فيه حملُ اللفظ على حقيقته ومجازه، وذلك جائز عندنا على الصحيح
(6)
. وعلى هذا فتكون الآية دالَّةً على منع اللبث. أو تكون الصلاة هي الأفعال، ويكون قوله:{إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ} استثناءً منقطعًا. ويدل ذلك على منع اللبث، لأنّ
(1)
في المطبوع: «ولا قوله» ، والمثبت من الأصل.
(2)
في المطبوع: «السببين» ، ولعله تصحيف.
(3)
في المطبوع: «حقيقته» ، والمثبت من الأصل.
(4)
في الأصل: «وقد يكون» .
(5)
في الأصل والمطبوع: «إلا من سبيل» ، تحريف.
(6)
انظر: «المسوّدة» لآل تيمية (1/ 370 وما بعدها).
تخصيص العبور بالذكر يوجب اختصاصه بالحكم، ولأنه مستثنى من كلام في حكم النفي، كأنه قال: لا تقربوا الصلاة ولا مواضعها إلا عابري سبيل.
وإذا توضأ الجنب جاز له اللبث، لما روى أبو نعيم: ثنا هشام بن سعد عن زيد بن أسلم قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحدثون في المسجد وهم على غير وضوء. وكان الرجل يكون جنبًا، فيتوضَّأ، ثم يدخُل فيتحدَّث
(1)
.
وقال عطاء بن يسار: رأيت رجالًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يجلسون في المسجد، وهم مُجنبون، إذا توضؤوا وضوءَ الصلاة. رواه سعيد
(2)
.
وهذا لأن الوضوء يرفع الحدثين عن أعضاء الوضوء، ويرفع حكمَ الحدث الأصغر عن سائر البدن، فيقارب من عليه الحدث الأصغر فقط. ولهذا أُمِر الجنبُ إذا أراد النوم والأكل بالوضوء، ولولا ذلك لكان مجرَّد عَبث. يبيِّن ذلك أنه قد جاء في نهي الجنب أن ينام قبلَ أن يتوضأ: أن لا يموتَ فلا تشهدَ الملائكة جنازته
(3)
. فهذا يدلُّ على أنه إذا توضَّأ شهدَتْ جنازتَه، ودخلَت المكان الذي هو فيه. ونُهيَ الجنبُ عن المسجد لئلا يؤذي الملائكة بالخروج، فإذا توضَّأ أمكن دخولُ الملائكة المسجدَ، فزال المحذور.
وهذا العبور إنما يجوز إذا كان لحاجة وغرض، وإن لم يكن ضروريًّا.
(1)
عزاه إلى أبي نعيم من طريق حنبل بن إسحاق المجد في «المنتقى» (1/ 159)، وأخرجه بنحوه ابن أبي شيبة (1567).
(2)
في «السنن ــ قسم التفسير» (4/ 1275)، ورواه أيضًا القاضي أبو إسحاق المالكي في «أحكام القرآن» (139)، من طريقين، عن هشام بن سعد، عن زيد بن اسلم، عن عطاء به. قال ابن كثير في «تفسيره» (2/ 313):«هذا إسناد صحيح على شرط مسلم» .
(3)
سيأتي لفظ الحديث وتخريجه.
فأمّا لمجرَّد
(1)
العبث فلا. فإن اضطُرَّ إلى اللبث في المسجد أو إلى الدخول ابتداءً، أو اللبثِ فيه لخوف على نفسه وماله= جاز ذلك، ولزمه التيمُّم في أحد الوجهين، كما يلزم إذا لبث فيه لغير ضرورةٍ وقد عَدِم الماء. والمنصوص عنه: أنه لا يلزمه لأنه مُلْجَأ إلى اللبث والمقام غيرَ قاصد له، فيكون في حكم العابر المجتاز، كالمسافر لو حبسَه عدوٌّ أو سلطان كان في حكم المجتاز في رُخَص السفر. ولهذا لو دخل المسجدَ بنيَّة اللبث أثِمَ، وإن لم يلبَث، اعتبارًا بقصد اللبث، كما يعتبر قصد الإقامة.
ولا يكره للجنب أن يحتجم، أو يأخذ من شعره أو ظفره، أو يختضب. نصَّ عليه. وكذلك الحائض، لأن هذا نظافة، فأشبه الوضوء. ولا يقال: إن الجنابة تبقى على الشعر والظفر، لأن حكم الجنابة إنما ثبت لهما ما داما متصلين [139/أ] بالإنسان، فإذا انفصلا لحقا بالجمادات.
فصل
فأما قراءة القرآن وذكر الله تبارك وتعالى، فيجوز للمحدِث، لحديث عائشة المتقدِّم، ولأن ابن عباس أخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما قام الليلَ قرأ العشرَ الآياتِ الأواخرَ من سورة آل عمران، قبل أن يتوضَّأ
(2)
.
وقد روى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من الخلاء، فأُتي بطعامٍ، فذُكِر له الوضوء، فقال:«ما أردتُ صلاةً فأتوضأ» رواه أحمد ومسلم
(3)
وفي رواية: «إنما أُمِرتُ بالوضوء إذا أقيمت الصلاة» رواه أحمد
(1)
في الأصل: «المجرد» .
(2)
أخرجه البخاري (183)، ومسلم (763 - 191).
(3)
أحمد (3245)، ومسلم (374) واللفظ له.
وأبو داود والترمذي والنسائي
(1)
.
لكن يستحبُّ له الوضوء لذلك
(2)
، لما روى المهاجر بن قنفذ أنه سلَّم على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يتوضأ، فلم يردَّ عليه حتى فرغ من وضوئه، فردَّ عليه، وقال:«إنه لم يمنعني أن أردَّ عليك إلا أنِّي كرهتُ أن أذكر الله إلا على طهارة» . رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه
(3)
.
وعن أبي جَهْم
(4)
بن الحارث قال: أقبل النبيُّ صلى الله عليه وسلم من نحو بئر جمَل، فلقيه رجلٌ، فسلَّم عليه، فلم يردَّ عليه السلام، حتى أقبل على الجدار، فمسَح وجهه ويديه، ثم ردَّ عليه السلام. متفق عليه
(5)
.
وكذلك يستحبُّ الوضوء لكلِّ صلاة، في المشهور من الروايتين. وفي الأخرى: لا فضل فيه، كما لو توضَّأ مرارًا ولم يصلِّ بينهما، ولأنَّ الوضوء إنما يراد لرفع الحدث، فإذا لم يكن محدِثًا لم يستحبَّ له، بخلاف الغسل فإنه يشرع للتنظيف. والصحيح: الأول، لما روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لولا أن أشُقَّ على أمتي لأمرتُهم عند كلِّ صلاة [139/ب] بوضوء، ومع كلِّ
(1)
أحمد (3381)، وأبو داود (3760)، والترمذي (1847)، والنسائي (132).
قال الترمذي: «حديث حسن» ، وصححه ابن خزيمة (35).
(2)
في الأصل والمطبوع: «كذلك» .
(3)
أحمد (19034)، وأبو داود (17)، وابن ماجه (350).
وصححه ابن خزيمة (206)، وابن حبان (803).
(4)
كذا في الأصل و «صحيح مسلم» . والصواب: «أبو الجهيم» كما في «صحيح البخاري» . وكذا في المطبوع.
(5)
البخاري (337) ومسلم (369).
وضوء سواكٌ» رواه أحمد بإسناد صحيح
(1)
.
وعن أنس قال: كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ عند كلِّ صلاة. قيل له: فأنتم كيف كنتم تصنعون؟ قال: كنّا نصلِّي الصلوات بوضوء واحد، ما لم نُحدِث. رواه الجماعة إلا مسلمًا
(2)
.
وعن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من توضَّأ على طهرٍ كتبَ الله له عشر حسنات» رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه
(3)
، وفيه لين.
وكان عبد الله بن عمر يتوضَّأ لكلِّ صلاة طاهرًا وغيرَ طاهر. رواه أحمد وأبو داود
(4)
.
(1)
برقم (7513)، من طريق أبي عبيدة الحداد، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة به.
إسناده جيد، وصححه الشارح، وابن الملقن في «البدر المنير» (1/ 699)، غير أن في متنه نكارة، ذلك أن أبا عبيدة خالف الرواة عن محمد بن عمرو فقال:«عند كل صلاة بوضوء» ، ورواه الآخرون بلفظ:«عند كل صلاة بسواك» ، انظر: حاشية محققي «مسند أحمد» طبعة الرسالة (12/ 484).
(2)
أحمد (12346)، والبخاري (214)، وأبو داود (171)، والترمذي (60)، والنسائي (131)، وابن ماجه (509).
(3)
أبو داود (62)، والترمذي (59)، وابن ماجه (512)، من طرق عن عبد الرحمن بن زياد، عن أبي غطيف الهذلي، عن ابن عمر به.
قال الترمذي: «إسناد ضعيف» ، وقال البيهقي في «السنن الكبرى» (1/ 162):«عبد الرحمن بن زياد الأفريقي غير قوي، وهذا حديث منكر» .
(4)
أحمد (21960)، وأبو داود (48).
وصححه ابن خزيمة (15)، والحاكم (1/ 156).
ولأن قوله: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا} [المائدة: 6] أمرٌ لكلِّ قائم طاهر أو غير طاهر، لكن فسَّرت السنة أن الأمر في حقِّ غير المحدِث ليس للإيجاب، فيبقى الندب.
ويستحبُّ الوضوء لمن يريد المنام، لما روى البراء بن عازب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أتيتَ مضجعك فتوضَّأْ وضوءَك للصلاة، ثم اضطَجِعْ على شقِّك الأيمن» متفق عليه
(1)
.
فإن كان جنبًا كان الاستحباب في حقِّه أوكدَ، بحيث يكره له تركُ الوضوء كراهةً شديدةً. والمشهور أنه يُسَنُّ له أن يغسل فرجه ويتوضَّأ. وفي كلامه ظاهره وجوب ذلك، لما روى ابن عمر أنَّ عمر قال: يا رسول الله أينام أحدنا وهو جنب؟ قال: «نعم إذا توضَّأ» رواه الجماعة
(2)
.
وعن أبي سلمة عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن ينام وهو جنُب غسَل فرجَه وتوضَّأ وضوءَه للصلاة. رواه الجماعة إلا الترمذي
(3)
.
وأما [140/أ] ما رواه أبو إسحاق عن الأسود عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينام وهو جنُب، ولا يمسُّ ماءً. رواه الخمسة إلا النسائي
(4)
،
(1)
البخاري (247) ومسلم (2710).
(2)
أحمد (4662)، والبخاري (287)، ومسلم (306)، وأبو داود (221)، والترمذي (120)، والنسائي (259)، وابن ماجه (585).
(3)
أحمد (24872)، والبخاري (288)، ومسلم (305)، وأبو داود (226)، والنسائي (256)، وابن ماجه (593).
(4)
أحمد (24161)، وأبو داود (228)، والترمذي (118)، وابن ماجه (581)، من طرق عن أبي إسحاق السبيعي، عن الأسود، عن عائشة به.
هذا الحديث تفرد فيه أبو إسحاق بزيادة: «ولا يمس ماء» دون سائر أصحاب الأسود فإنهم روَوا عنه، عن عائشة أنه صلى الله عليه وسلم إذا كان جنبًا توضأ قبل أن ينام.
انظر: «السنن الكبرى» للبيهقي (1/ 201 - 202)، «الإعلام» (2/ 365 - 372).
فقال أحمد: ليس بصحيح. وكذلك ضعَّفه يزيد بن هارون والترمذي وغيرهما. وإن كان محفوظًا معناه ــ والله أعلم ــ: لا يمسُّ ماء الاغتسال. أرادت أن تبيِّن أنه لم يكن يغتسل قبل النوم، كما جاء عنها في رواية سعد بن هشام.
والمرأة كالرجل في ذلك إذا أصابتها الجنابة. وعنه: أنه لم يرَ
(1)
ذلك على النساء، ورآه على الرجال، لأنَّ عائشة أخبرت عنه بالوضوء ولم تذكر أنها كانت تفعل ذلك، ولا أنه أمرها مع اشتراكهما في الجنابة. ولأن المرأة تمكث مدة حائضًا لا يُشرَع لها وضوء، فمكثُها جنبًا
(2)
أخفّ.
وكذلك يستحبُّ الوضوء للجنب إذا أراد أن يجامع ثانيًا، أو يأكل أو يشرب
(3)
، لما روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أتى
أحدكم أهلَه ثم أراد أن يعود، فليتوضَّأْ» رواه الجماعة إلا البخاري
(1)
.
وروى إبراهيم عن الأسود عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان جنبًا، وأراد أن يأكل أو يشرب أو ينام، توضَّأ وضوءَه للصلاة. رواه أحمد وأبو داود والنسائي
(2)
.
وعن عمار بن ياسر
(3)
أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم رخَّص للجنب، إذا أراد أن يأكل أو يشرب أو ينام، أن يتوضأ وضوءَه للصلاة. رواه أحمد وأبو داود والترمذي
(4)
وقال: هذا
(5)
حديث حسن صحيح.
[140/ب] وفي رواية لأحمد وأبي داود
(6)
: «إنّ الملائكة لا تحضر جنازة الكافر
(7)
بخير، ولا المتضمِّخ بالزعفران، ولا الجنب».
(1)
أحمد (11036)، ومسلم (308)، وأبو داود (220)، والترمذي (141)، والنسائي (262)، وابن ماجه (587).
(2)
أحمد (25597)، ومسلم (305)، وأبو داود (224)، والنسائي (255).
(3)
في الأصل: «يسار» .
(4)
أحمد (18886)، وأبو داود (225)، والترمذي (613)، من طرق عن عطاء الخراساني، عن يحيى بن يعمر، عن عمار به.
قال الترمذي: «حسن صحيح» ، وأعل بالانقطاع بين يحيى وعمار، قال أبو داود:«بين يحيى بن يعمر وعمار بن ياسر في هذا الحديث رجل» ، وقال ابن رجب في «فتح الباري» (1/ 352):«إسناده منقطع؛ فإن يحيى بن يعمر لم يسمع من عمار بن ياسر، قاله ابن معين، وأبو داود، والدارقطني وغيرهم» ، وانظر:«ضعيف أبي داود ــ الكتاب الأم» (29).
(5)
«هذا» ساقط من المطبوع.
(6)
أحمد (18886)، وأبو داود (4176).
(7)
في الأصل: «الكفار» ، وأراه سهوًا من الناسخ.
ويُكره له تركُه هنا كتركه للنوم عند القاضي لحديث عمَّار هذا. والمنصوص: أنه لا يُكرَه هنا
(1)
، لكن يكفيه أن يغسل يديه وفمه للأكل. وأما الجماع فلا يحتاج فيه إلى ماء. ولو ترك غسلَ اليدين والفم عند الأكل والشرب لم يُكرَه على ظاهر كلامه، لما روى أبو سلمة عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن ينام، وهو جنُب، توضَّأ وضوءه للصلاة، وإذا أراد أن يأكل ويشرب يغسل يديه ثم يأكل ويشرب. رواه أحمد والنسائي
(2)
. وليس فيه غسل الفم فالظاهر أنه بلغ أحمد من وجه آخر.
وعن الأسود عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كانت له حاجة إلى أهله أتاهم، ثم يعود، ولا يمسُّ ماء. رواه أحمد
(3)
.
ومن أصحابنا من يجعل المسألة في الأكل والشرب على روايتين: إحداهما: استحباب الوضوء. والثانية: استحباب غسل اليدين والمضمضة. والصحيح ما ذكرناه أنَّ الوضوء كمال السنة، وأنّ الاقتصار على غسل اليدين أدنى السنة.
وأما المرأة، فالمنصوص أنها كالرجل فيما يُشرع لها عند الأكل والشرب من وضوء أو غسل اليد والفم. وأما عند معاودة الرجل لها، فالأشبه أنه كالنوم.
فصل
والواجب في الغسل: الإسباغ كالوضوء، لكن [141/أ] يستحبُّ أن لا ينقص في غسله من صاع، ولا في وضوئه من مُدٍّ، لما روى سفينة قال: كان
(1)
«هنا» ساقطة من المطبوع.
(2)
أحمد (24872)، والنسائي (257). وصححه ابن حبان (1218).
(3)
برقم (24778) من طريق أبي إسحاق عن الأسود، وقد تقدم الكلام عليه.
رسول الله صلى الله عليه وسلم يغتسل بالصاع، ويتطهَّر بالمد. رواه أحمد ومسلم وابن ماجه والترمذي وصحَّحه
(1)
.
وعن أنس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغتسل بالصاع إلى خمسة أمداد، ويتوضّأ بالمُدِّ. متفق عليه
(2)
.
وعن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يجزئ في الغسل
(3)
الصاع، ومن الوضوء المد» رواه أحمد والأثرم
(4)
.
ولو أسبغَ بدون ذلك جازَ، من غير كراهة، إذا أتى بالغَسل ولم يقتصر على مجرد المسح كالدهن؛ لظاهر القرآن، وحديثِ أم سلمة وجبير بن مطعم وأسماء
(5)
، فإنه علَّق الإجزاءَ بالإفاضة من غير تقدير.
وعن عائشة أنها كانت تغتسل هي والنبيُّ صلى الله عليه وسلم من إناء واحد يسع ثلاثة أمداد أو قريبًا من ذلك. رواه مسلم
(6)
.
(1)
أحمد (21931)، ومسلم (326)، وابن ماجه (267)، والترمذي (56).
(2)
البخاري (201) ومسلم (325).
(3)
كذا في الأصل و «الطهور» لأبي عبيد (114). وفي «المسند» و «سنن الأثرم» و «المنتقى» (1/ 155): «من الغسل» .
(4)
أحمد (14976)، و «السنن» للأثرم (254).
وصححه ابن خزيمة (117)، وابن القطان في «بيان الوهم» (5/ 270)، ورجح ابن رجب في «فتح الباري» (1/ 251) وقفه على جابر، كما هو في رواية البخاري (252) وغيره.
(5)
تقدمت أحاديثهم.
(6)
برقم (321).
وعنها أيضًا قالت: لقد رأيتُني أغتسل أنا ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم من هذا ــ فإذا بتَورٍ
(1)
موضوع مثل الصاع أو دونه ــ فنشرَع فيه جميعًا، فأفيضُ بيدي على رأسي ثلاثَ مرَّات، وما أنقُض لي شَعرًا. رواه النسائي
(2)
.
وقال عبد الرحمن بن عطاء: سمعت سعيد بن المسيب يقول: إن لي رَكْوةً ــ أو قال: قَدَحًا ــ ما تسع إلا نصفَ المُدِّ أو نحوَه، ثم أبول، ثم أتوضأ، وأُفضِل منه فضلًا. قال عبد الرحمن: فذكرتُ [141/ب] ذلك لسليمان بن يسار فقال: وأنا يكفيني مثل ذلك. قال عبد الرحمن: فذكرتُ ذلك لأبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر، فقال أبو عبيدة: وهكذا سمعنا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. رواه الأثرم
(3)
.
وقال إبراهيم النخعي: كانوا أشدَّ استبقاءً للماء منكم، وكانوا يرون أنّ رُبعَ المُدِّ يجزئ من الوضوء. رواه سعيد
(4)
.
وإن زاد على ذلك زيادةً يسيرةً جاز. فأمَّا السرَف فمكروه جدًّا، كما تقدَّم في الوضوء. والصاع هنا كصاع الطعام المذكور في الكفَّارات والصدقات. وهي خمسة أرطال وثلُث بالعراقي، في المشهور عنه. وقد روي عنه ما يدل على أنَّ صاع الماء ثمانية أرطال، والمُدُّ رطلان. وهو اختيار القاضي في «الخلاف» وغيره، لأنَّ أنسًا قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ بإناء يكون
(1)
كذا في الأصل والمطبوع. وفي «السنن» : «تورٌ» .
(2)
برقم (416).
(3)
«السنن» (255).
(4)
عزاه إليه صاحب «كنز العمال» (9/ 473)، وأخرجه ابن أبي شيبة (743) مختصرًا، وليس فيه موضع الشاهد.
رطلين، ويغتسل بالصاع. رواه أحمد وأبو داود، والترمذي
(1)
ولفظه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يجزئ في الوضوء رطلان من ماء» . وهذا يفسِّر روايته المتفق عليها: «كان يتوضأ بالمُدِّ»
(2)
.
وعن عائشة قالت: كنتُ أغتسل أنا والنبيُّ صلى الله عليه وسلم من إناء واحد من قدَحٍ يقال له: الفَرَق. متفق عليه
(3)
. والفَرَق: ستة عشر رِطلًا بالعراقي.
فصل
ينبغي للمغتسل الغسلَ الواجبَ والمستحَبَّ وغيرَهما: التستُّر، ما أمكنه، لأن الله حَيِيٌّ سِتِّير يحبُّ الحياءَ والسَّتْر
(4)
. ثم لا يخلو إما أن يكون بحضرته أحدٌ من الآدميين أو لا، فإن كان هناك أحد وجب عليه أن يستر عورته منه، لقوله سبحانه:{قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور: 30].
وروى بَهْز بن حكيم بن معاوية بن حَيْدة القشيري عن أبيه عن جدِّه قال: قلت: يا رسول الله، عوراتُنا ما نأتي منها وما نذر؟ قال:«احفظ عورتَك، إلا من زوجتك وما ملكت يمينك» . قلتُ: فإذا كان القوم بعضهم في بعض؟
(1)
أحمد (12843)، وأبو داود (95)، والترمذي (609).
إسناده ضعيف، فيه شريك النخعي سيئ الحفظ، قال الترمذي:«هذا حديث غريب، لا نعرفه إلا من حديث شريك على هذا اللفظ» ، وضعفه ابن حجر في «الدراية» (1/ 273).
(2)
سبق في أول الفصل.
(3)
البخاري (250) ومسلم (319).
(4)
كما ورد في الحديث، وسيأتي.
قال: «إن استطعتَ أن لا يراها أحد فلا يَرَيَنَّها» . قلتُ: فإذا كان
(1)
أحدُنا خاليًا؟ قال: «فالله تبارك وتعالى أحقُّ أن يُستَحْيا منه» رواه الخمسة إلا النسائي
(2)
. وذكره البخاري تعليقًا
(3)
.
وهذا يعمُّ حفظَها من النظر والمسِّ، فقال:«لا تُبْرِزْ فخذَك، ولا تنظر إلى فخذِ حيٍّ ولا ميِّت»
(4)
. وقال: «لا تمشُوا عُراةً» . رواه مسلم
(5)
. وقد تقدَّم
(6)
حديث اللذين يضربان الغائط. ونهَى عن دخول الحمام إلا بالأُزُر
(7)
.
وإن لم يكن بحضرته أحد، فينبغي أن يستتر بسقف أو حائط أو دابَّة أو غير ذلك وأن يأتزر، كما يستحبُّ له
(8)
أن يستتر عند الخلاء والجماع، وأن
(1)
في المطبوع: «كان القوم» . وكذا في الأصل أيضًا ولكن وضع الناسخ فوق «القوم» علامة الحذف.
(2)
أحمد (20034)، وأبو داود (4017)، والترمذي (2769)، وابن ماجه (1920).
قال الترمذي: «هذا حديث حسن» ، وصححه الحاكم (4/ 179 - 180).
(3)
بصيغة الجزم في باب من اغتسل عريانًا وحده في الخلوة، ومن تستر فالتستر أفضل.
(4)
أخرجه أبو داود (4015)، وابن ماجه (1460)، من طريق ابن جريج، عن حبيب بن أبي ثابت، عن عاصم بن ضمرة، عن علي به. قال أبو داود:«هذا الحديث فيه نكارة» ، وقال ابن الملقن في «البدر المنير» (4/ 142 - 143) باختصار:«أعلَّ هذا الحديث بالطعن في عاصم، والانقطاع بين ابن جريج وحبيب بن أبي ثابت، وبين حبيب وعاصم؛ فإنه لم يسمعه منه» . وانظر: «العلل» لابن أبي حاتم (6/ 51)، «فتح الباري» لابن رجب (2/ 407).
(5)
من حديث المسور بن مخرمة (341).
(6)
في باب دخول الخلاء.
(7)
سيأتي لفظه وتخريجه في الفصل القادم.
(8)
«يستحب له» ساقط من المطبوع.
لا يرفع ثوبه حتى يدنو من الأرض، وأوكد، لأنَّ الله أحقُّ أن يستحيي منه الناس، فيأتي من الستر بقدر ما يمكنه.
وقد صحَّ عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يستتر عند الغسل
(1)
.
وقال أبو موسى الأشعري: إني لأغتسل في البيت المظلم فأحني ظهري حياءً من ربِّي عز وجل. رواه إبراهيم الحربي
(2)
.
فإن اغتسل في فضاء، ولا إزارَ عليه، كُرِه له ذلك، لما روى يعلى بن أمية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلًا يغتسل بالبَراز، فقال:«إنَّ الله حيِيٌّ سِتِّيرٌ يحبُّ الحياء والستر، فإذا اغتسل أحدكم فَلْيستترْ» . رواه أبو داود والنسائي
(3)
.
وعن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله ينهاكم عن التعرِّي، فاستحيُوا من الملائكة الكرام الكاتبين الذين لا يفارقونكم، إلا عند الغائط والجنابة والغسل. فإذا اغتسل أحدكم بالعَراء فَلْيستتِرْ بثوبه أو بجِذْمِ حائط» رواه
(1)
انظر حديث أم هانئ في «صحيح البخاري» (280).
(2)
وأخرجه ابن سعد في «الطبقات» (4/ 114)، وابن أبي شيبة (1134).
(3)
أبو داود (4012)، والنسائي (406)، وأحمد (17970) مختصرًا، من طرق عن عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاء، عن صفوان بن يعلى، عن أبيه به.
رجال إسناده ثقات، غير أنه قد اختلف فيه وصلًا وإرسالًا على عطاء، وأنكر الموصول أحمد وأبو حاتم وأبو زرعة والدارقطني، وصححه النووي في «الخلاصة» (1/ 204)، والألباني في «صحيح أبي داود ــ الكتاب الأم» (4010).
انظر: «العلل» لابن أبي حاتم (1/ 429 - 431)، «الإعلام» (3/ 80 - 81)، «فتح الباري» لابن رجب (1/ 336).
إبراهيم الحربي
(1)
. ورواه ابن بطة من حديث ابن عمر
(2)
. وقد صحَّ ذلك من مراسيل مجاهد
(3)
.
وقيل: لا يُكره، كما لو استتر بحائط أو سقف ونحوه، فإنه يجوز أن يتجرَّد لأنَّ به حاجة إلى ذلك، فأشبهَ حال الجماع والتخلِّي. وذكر القاضي في كراهة كشف العورة للاغتسال في الخلوة روايتين
(4)
. وإنما لم يُكرَه له التجرُّد مع الاستتار، لأنَّ في «الصحيحين»
(5)
عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّ موسى عليه السلام اغتسل [143/أ] عُريانًا. وفي البخاري
(6)
عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أن أيوب عليه السلام اغتسل عريانًا، ولما تقدَّم من
(1)
وأخرجه البزار (11/ 89)، من طريق حفص بن سليمان، عن علقمة بن مرثد، عن مجاهد، عن ابن عباس به.
قال البزار كما في «كشف الأستار» (1/ 161): «لا نعلمه يروى عن ابن عباس إلا من هذا الوجه، وحفص لين الحديث» ، وقد اختلف في إسناده على مجاهد على أوجه، وضعف المرفوع منها الدارقطني في «العلل» (8/ 232).
(2)
وأخرجه الترمذي (2800) من طريق ليث بن أبي سليم، عن نافع، عن ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«إياكم والتعري فإن معكم من لا يفارقكم إلا عند الغائط، وحين يفضي الرجل إلى أهله، فاستحيوهم وأكرموهم» .
قال الترمذي: «هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه» ، ليث ضعيف، وبه أعله ابن القطان في «بيان الوهم» (3/ 507).
(3)
انظر: «العلل» للدارقطني (8/ 232).
(4)
انظر: «المبدع» (1/ 176)، وهو صادر عن كتابنا هذا.
(5)
البخاري (278) ومسلم (339).
(6)
رقم (279).
الأحاديث، ولأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم تجرَّد لأهله واغتسل، وكان يستتر
(1)
بالثوب ويغتسل، وحديث بَهْز في قوله:«فالله أحق أن يستحيا منه»
(2)
.
إذا
(3)
لم يكن حاجة كالغسل والخلاء وغير ذلك، فإنه يُنهى عن كشف السوءة لغير حاجة. وقيل: هو على طريق الاستحباب، فإنه يستحبُّ له الائتزار
(4)
في حال الغسل وغيره. وعلى هذا فلا يكره دخول الماء بغير مئزر لكن يستحبّ الائتزار لما روى أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن موسى عليه السلام كان إذا أراد أن يدخل الماء لم يُلْقِ ثوبَه حتى يُواري عورتَه في الماء» رواه أحمد
(5)
. ولأنه كشفٌ للاغتسال حيث لا يراه آدميٌّ، فجاز، كما لو لم يكن في الماء.
وعنه: أنه يُكرَه، وعلى هذا أكثر نصوصه. وكرهه كراهةً شديدةً، وإنما رخَّص فيه لمن لا إزار معه، لما روي عن جابر قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُدخَل الماءُ إلا بمئزر. رواه أبو حفص العكبري
(6)
.
(1)
في الأصل والمطبوع: «يستر» .
(2)
تقدَّم قريبًا.
(3)
كذا في الأصل. وأثبت في المطبوع: «فإذا» وقد يكون سقط لفظ «أمّا» .
(4)
في المطبوع: «الاتزار» خلافًا للأصل.
(5)
برقم (13764).
إسناده ضعيف، فيه علي بن زيد بن جدعان وقد انفرد بهذا اللفظ، انظر:«فتح الباري» لابن رجب (1/ 333).
(6)
وأخرجه أبو يعلى (3/ 343)، وابن المنذر في «الأوسط» (2/ 353)، من طريق حماد بن شعيب، عن أبي الزبير، عن جابر به.
إسناده ضعيف، أبو الزبير لم يصرح بالتحديث، وحماد صاحب مناكير، وقد عدوا هذا الحديث من مناكيره، كما في «الميزان» (1/ 596).
وتابعه الحسن بن بشر، نا زهير، بمثل إسناد حماد، وصححه من هذا الوجه ابن خزيمة (249)، والحاكم (1/ 267)، وفيه نظر؛ إذ إن الحسن سمعه من حماد، ثم ركبه على حديث زهير، والحسن له مناكير عن زهير، فعاد الحديث إلى مخرجه الأول، قال ابن حبان:«ليس للحديث أصل يرجع إليه، وقد سمع الحسن بن بشر هذا الخبر عن حماد بن شعيب، ورواه عن زهير بن معاوية، عن أبي الزبير، وهم فيه» .
وروى أيضًا عن أبي محمد الأنصاري قال: خرجتُ إلى شاطئ الفرات، فرأيت بغالًا، فقلت لرجل: لمن هذه البغال؟ فقال: للحسن والحسين وعبد الله بن جعفر. [143/ب] قلت: وأين هم؟ قال: في الفرات يتغاطُّون. قال: فأتيتُهم، فرأيتُهم في سراويلات. فقلت للحسن: يا ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم تَغاطُّون في الماء، وعليكم سراويلات؟ فقال: نعم، أما علمتَ أنَّ للماء سُكَّانًا، وإنَّ أحقَّ مَن استتر من سُكَّان الماء لَنحنُ
(1)
.
وذكر إسحاق بن راهويه أنَّ الحسن والحسين قيل لهما، وقد دخلا الماءَ وعليهما بُردان، فقالا: إنَّ للماء سُكَّانًا
(2)
. واحتج به إسحاق وأحمد بمعناه
(3)
، ولأنه كشفٌ للعورة بحضرة من يَراه من الخلق، فأشبَه ما لو كشَفهَا بحضرة آدميٍّ. ولذلك كرهنا له التكشُّفَ في الخلوة إلا بقدر الحاجة، وهو مستغنٍ عن كشفِها في الماء، لأنَّ الماء يصل إلى الأرفاغ ونحوها من غير تكشُّف.
وحديثُ موسى شرعُ مَن قبلنا، وكان التستُّر في شرعهم أخفَّ، ولم
(1)
لم أقف عليه، وأخرجه بنحوه عبد الرزاق (1114) مختصرًا.
(2)
أخرجه الدولابي في «الأسماء والكنى» (2/ 457).
(3)
انظر: «المغني» (1/ 309).
يكن محرَّمًا عليهم النظرُ إلى العورة، بدليلِ أنَّهم كانوا يغتسلون عراةً، ينظر بعضُهم إلى عورةِ بعض، وإنما كان موسى يجتنب ذلك حياءً. والتكشُّف في الماء أهونُ منه بين الناس، فما كان مكروهًا فيهم صار حرامًا
(1)
فينا، وما كان مباحًا صار مكروهًا. أو يُحمَل حديثُ موسى على كشفها في الماء لحاجةٍ، والحديثُ الآخر إذا لم يحتج إلى كشفها، كما في كشفها خارجَ الماء، ويكون مقصود الحديث بيانَ أنَّ الماء ليس بساترٍ، لأنَّ فيه سُكَّانًا.
فصل
ولا فرق في ذلك بين الحمَّام وغيره، فلا يحلُّ دخولها إلا بشرط أن يستر عورتَه عن أعين الناس، ويغُضَّ نظرَه [144/أ] عن عوراتهم، ولا يمسَّ عورة أحد، ولا يدع أحدًا يمسُّ عورته، من قيِّم ولا غيره؛ لأنَّ كشف العورة والنظر إليها ومسَّها حرام.
ثم إن أمِنَ
(2)
النظرَ إلى عورة غيره، بأن يكون كلُّ من في الحمام مؤتزرًا أو لا يكون فيه غيرُه، فلا بأس بدخوله. وإن خشي أن ينظرَ
(3)
إلى عوراتهم كُرِه له ذلك. قال الإمام أحمد: إن علمتَ أنَّ كلَّ من في الحمَّام عليه إزار فادخُلْه، وإلَّا فلا تدخُلْ
(4)
. وقال أيضًا: ادخُلْ إذا استترتَ واسْتُتِرَ منك، ولا
(1)
في المطبوع: «محرَّمًا» ، والمثبت من الأصل.
(2)
في الأصل: «من» ، وسقطت الهمزة فيما أرى. وقد أصلحت العبارة في المطبوع بزيادة «عدم»: «إنَّ مَن عدم النظر
…
».
(3)
في المطبوع: «خشي النظر» خلافًا للأصل.
(4)
«المغني» (1/ 305).
أظنُّك تسلَم إلا أن تدخل بالليل، أو وقتًا لا يكون في الحمام أحد
(1)
. قال القاضي: إن كان لا يسلَم من ذلك لم يجُزْ له الدخول. يعني: إذا غلب على ظنِّه رؤيةُ العورات.
هذا إذا قام بفرض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيها، مثل تغييرِ ما يكون فيها من التماثيل المحرَّمة، وأمرِ المتعرِّين بالتستر، ونهيِ القَيِّم عن مسِّ عورات الناس عند تدليكهم. فإن لم يقدر أن يغيِّر المنكر بلسانه ولا بيده فلا يدخُلْها إلا لحاجة، كما لو لم يقدر أن يتحرَّز من النظر إلى العورات كما قلنا في الحاجة
(2)
إلى.
ولأنَّ فيها المنكراتِ، والقعودَ مع قوم يشربون الخمر، أو قومٍ
(3)
يخوضون في آيات الله أو يغتابون؛ فإنَّ الأمور المحرَّمة إنما يباح منها ما تدعو إليه الحاجة. ولهذا حُرِّمت على النساء إلا لحاجة، [144/ب] لأنَّ المرأةَ كلَّها عورة، ولا يحِلُّ لها أن تضع ثيابها في غير بيت زوجها.
ومتى دخلها لحاجة أو غير حاجة وجب عليه أن يقوم بفرض التغيير، إمَّا بيده أو بلسانه. والأفضلُ اجتنابها بكلِّ حال، مع الغنى عنها، لأنَّها مما أحدث الناسُ من رقيق العيش، ولأنها مظنَّة النظر في الجملة.
وقد روى أبو سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا ينظُرُ الرجلُ إلى عورة الرجل، ولا المرأةُ إلى عورة المرأة، ولا يفضي الرجلُ إلى الرجل في الثوب الواحد،
(1)
وانظر: «مسائل الكوسج» (9/ 4690).
(2)
في الأصل: «الإباحة» ثم كتب فوقها بخط أصغر: «حاجة» ، والظاهر أن بعد «إلى» سقطًا في العبارة. وفي المطبوع لم يُثبت شيئًا بعد «قلنا» .
(3)
في الأصل: «أقوم» ، أسقط الناسخ الواو من «أو» .
[ولا تفضي المرأة إلى المرأة في الثوب الواحد]
(1)
» رواه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي
(2)
.
وعن أبي هريرة أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من كان يؤمن
(3)
بالله واليوم الآخر [من ذكور أمَّتي، فلا يدخُلِ الحمَّام إلّا بمئزر. ومن كانت تؤمن بالله واليوم الآخر]
(4)
من إناث أمَّتي، فلا تدخُلِ الحمَّام» رواه أحمد
(5)
.
وعن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدخُلِ الحمَّام إلا بمئزر» . رواه النسائي بإسناد صحيح
(6)
.
وعن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنها ستفتَح عليكم أرضُ العجم، وستجدون فيها بيوتًا يقال لها: الحمامات، فلا يدخُلْها الرِّجالُ إلا بالأُزُر، وامنعوا النِّساءَ إلا مريضةً أو نُفَساءَ
(7)
» رواه أبو داود وابن
(1)
التكملة من «صحيح مسلم» . وأظن أنها سقطت من الأصل لانتقال النظر.
(2)
أحمد (11601)، ومسلم (338)، وأبو داود (4018)، والترمذي (2793)، وابن ماجه (661).
(3)
أثبت في المطبوع: «من كانت تؤمن» خلافًا للأصل ولم يفطن للساقط من الأصل.
(4)
ما بين الحاصرتين ساقط من الأصل.
(5)
برقم (8275).
إسناده ضعيف، فيه أبو خيرة مجهول، كما في «الميزان» (4/ 521).
وذهب جماعة من أهل العلم إلى أنه لا يصح في الحمام حديث، انظر:«العلل المتناهية» (1/ 340 - 345)، «التحديث بما قيل لا يصح فيه حديث» (176 - 177).
(6)
برقم (401)، وأخرجه أحمد (14651)، والترمذي (2801).
قال أبو عيسى: «حسن غريب» ، وصححه ابن خزيمة (249)، والحاكم (4/ 288).
(7)
في الأصل والمطبوع: «في نفساء» .
ماجه
(1)
.
وعن عائشة أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى الرجال والنساء عن الحمَّامات، ثم رخَّص للرجال أن يدخلوها في المآزِر
(2)
. رواه أحمد وأبو داود وابنماجه والترمذي
(3)
.
وعن عائشة أنَّ نساءً من أهل الشام [145/أ] أو من أهل حمص دخلن عليها، فقالت: أنتنَّ اللاتي يدخلن نساؤكنَّ الحمَّاماتِ. سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من امرأةٍ تضع ثيابها في غير بيت زوجها إلّا هتكت السِّترَ بينها وبين ربِّها» رواه أبو داود وابن ماجه، والترمذي
(4)
وقال: حديث حسن.
والحاجة التي تبيحها مع قيام الحاظر: المرض والنفاس، فإنَّ الحمَّام يُذهب الدَّرَن، وينفع البدن. وكذلك الحاجة إلى الغسل من جنابة أو حيض
(1)
أبو داود (4011)، وابن ماجه (3748).
إسناده ضعيف، قال البيهقي في «شعب الإيمان» (6/ 159):«هذا حديث يتفرد به عبد الرحمن بن زياد الأفريقي، وأكثر أهل العلم لا يحتج بحديثه» .
(2)
في المطبوع: «الميازر» ، والمثبت من الأصل.
(3)
أحمد (25006)، وأبو داود (4009)، وابن ماجه (3749)، والترمذي (2802).
قال الترمذي: «هذا حديث لا نعرفه إلا من حديث حماد بن سلمة، وإسناده ليس بذاك القائم» ، فيه أبو عُذرة مجهول، انظر:«مصباح الزجاجة» (4/ 121).
(4)
أبو داود (4010)، وابن ماجه (3750)، والترمذي (2803)، وأحمد (25407)، من طرق عن سالم بن أبي الجعد، عن أبي المليح، عن عائشة به.
قال الترمذي: «حديث حسن» ، وصححه الحاكم (4/ 288 - 289)، واختلف فيه على ابن أبي الجعد، فتارة يجعلون بينه وبين عائشة أبا المليح، وأخرى يسقطونه، ورجح الوصل الدارقطني في «العلل» (14/ 392)، وأعله أبو داود والبزار بالانقطاع بين أبي المليح وعائشة، كما في «البدر المنير» (9/ 204).
أو غيره، مع تعذُّره في المنزل، وخشيةِ التضرُّر به لبرد أو غيره.
فصل
وبناءُ الحمَّام من الآمر والصانع، وبيعُه وشراؤه وكراؤه: مكروهٌ. نصَّ عليه، حتى قال: مَنْ له حمَّام لا يبيعه على أنه حمَّام، يبيعه على أنه عَقار، ويهدِم الحمَّام. وكرِه غلَّته، وإن اشترط على المكتري أن لا يُدخِله أحدًا إلا بمئزر، إذا كان الشرط لا ينضبط
(1)
. وقال فيمَن
(2)
بنى حمامًا للنساء: ليس بعَدْل
(3)
، لأنه لا يسلم غالبًا من المحرَّمات، مثل نظر العورات وكشفها ودخول النساء. وهذه الكراهة كراهة تنزيه عند كثير من أصحابنا.
وقال القاضي: لا يجوز بناؤها وبيعها وإجارتها، كما لم يجُزْ عمل آلة اللهو وبيعُها وإجارتُها، وعملُ أواني الذهب والفضة، وعملُ بيت النار والبيع.
وهذا ينبغي أن يُحمَل على بلاد لا يضطرُّون إلى الحمَّامات كالحجاز والعراق [145/ب] ومصر. فأمّا البلاد الباردة كالشام والجزيرة وإرمينية و [ما]
(4)
تشاءَم عنها
(5)
، فإنهم لا يقدرون على الاغتسال في الشتاء إلا في الحمَّامات.
ولهذا قال عمر: عليكم بالشمس، فإنها حمَّام العرب
(6)
. ولهذا لما ذكر النبيُّ صلى الله عليه وسلم أنها ستفتح بلاد العجم وأنَّ فيها بيوتًا يقال لها: الحمَّامات، لم يأمُرْ بهدمها.
(1)
انظر: «المغني» (1/ 305) و «مسائل أبي داود» (ص 265).
(2)
في الأصل والمطبوع: «فمن» ، تصحيف.
(3)
«المغني» (1/ 305).
(4)
زيادة منِّي.
(5)
زاد بعده في المطبوع: «وغيرها» !
(6)
أخرجه ابن أبي شيبة (24188)، وابن حبان (5454) من وجه آخر مطول.
وتُكرَه قراءةُ القرآن فيه. نصَّ عليه، لما روى ابن بطّة بإسناده عن معاوية بن قُرَّة قال: كتب عمر إلى الأشعري: إنَّ عندك بيوتًا يقال لها: الحمَّامات، فلا تقرأ فيها آية من كتاب الله
(1)
.
وبإسناده عن علقمة عن عبد الله بن مسعود في القراءة قال: ليس لذلك بُنِيَ
(2)
.
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: بئس البيتُ الحمَّام! نُزِع من أهله الحياءُ، ولا يُقرأ فيه القرآن. رواه سعيد
(3)
، واحتجَّ به إسحاق.
ولا بأس بذكر الله فيه، لما روى ابن بطة بإسناده عن إبراهيم أن أبا هريرة دخل الحمَّام، فقال: لا إله إلا الله
(4)
.
وعن بكر بن عبد الله قال: دخلتُ مع عبد الله بن عمر الحمَّام، فضرب يده في الحوض، فقال: نِعم البيتُ هذا لمن أراد أن يتذكَّر! وبئس البيت هذا لمن نزَع الله منه الحياءَ!
(5)
.
(1)
أخرجه عبد الرزاق (1121) بنحوه من بلاغ ابن جريج، والبيهقي في «شعب الإيمان» (2/ 536) مسندًا عن مورق العجلي به، وفيهما:«ولا يذكر فيه اسم الله حتى يخرج منه» .
(2)
وأخرجه البيهقي في «شعب الإيمان» (2/ 537) من حديث إبراهيم عنه، وأخرجه عبد الرزاق (1148) من قول إبراهيم، ورجح أبو حاتم في «العلل» (2/ 70) هذا الأخير، وأنكر الموقوف على ابن مسعود رضي الله عنه.
(3)
وأخرجه مختصرًا عبد الرزاق (1172)، وبتمامه ابن المنذر في «الأوسط» (2/ 124).
(4)
لم أقف عليه، وأخرج ابن أبي شيبة (1174) خبر دخوله الحمام من طريق إبراهيم، وليس فيه موضع الشاهد.
(5)
أخرجه بنحوه مختصرًا ابن أبي شيبة (1179)، وابن المنذر في «الأوسط» (2/ 121).
وعن سفيان بن عبد الله قال: كانوا يستحبُّون إذا دخلوا الحمَّام أن يقولوا: يا بَرُّ، يا رحيمُ، مُنَّ، وقِنا عذابَ السَّموم
(1)
.
وأما السلام فيه، فقال أحمد: لا أعلم أني سمعتُ فيه شيئًا
(2)
. وكرهه أبو حفص والقاضي وابن عقيل، لما روى ابن بطَّة بإسناده عن الحسن بن علي رضي الله عنهما قال: ليس في الحمَّام سلام [146/أ] ولا تسليم
(3)
.
ورخَّص فيه بعضُهم، لأنه كالذكر وأولى منه، ولأنه أشبه الخلاءَ من حيث هو مظنَّةُ ظهورِ العورات وصبِّ الأقذار والنجاسات، ومحتضَرُ الشياطين. قال العباس بن عبد الرحمن بن مِينا: قال إبليس: يا ربِّ اجعل لي بيوتًا. قال: بيوتك الحمامات. رواه إبراهيم الحربي
(4)
. وفارقه من حيث وجود الاستتار فيه وتطهُّره من الأوساخ، فمُنِع من القراءة فيه، دون الذكر، لأنها أعظم حرمةً منه. ولذلك مُنِعَها الجنبُ.
وأما ماؤها
(5)
إذا كان مسخَّنًا بالنجاسة، فقد تقدَّم حكمه. وإن كان مسخَّنًا بالطاهر فلا بأس به.
قال الخلال: ثبت عن أصحاب أبي عبد الله ــ يعني: في روايتهم عنه ــ أنه
(1)
لم أقف عليه.
(2)
«المغني» (1/ 308).
(3)
لم أقف عليه.
(4)
لم أقف عليه. وفي الباب عدة أحاديث وآثار. انظر: «جامع معمر» (20511)«السلسلة الصحيحة» (1564، 6054، 6055).
(5)
في «مجموع الفتاوى» (21/ 319 - 333) فصل طويل في حكم ماء الحمام.
يجزئ أن يُغتسَلَ به، ولا يغتسَلُ منه
(1)
.
قال الإمام أحمد رضي الله عنه: ماء الحمام عندي طاهر
(2)
. وقال أيضًا: هو بمنزلة الماء الجاري
(3)
.
وقال أيضًا: لا بأس بالوضوء من ماء الحمام
(4)
.
وقال أيضًا: يجزئه ماء الحمام، وفي هذا اختلاف.
وروى حنبل بإسناده عن إبراهيم أن أصحاب عبد الله كانوا لا يغتسلون من ماء الحمام، وكان أصحاب علي يغتسلون منه
(5)
.
قال أبو عبد الله: أذهب إلى فعل أصحاب عبد الله.
وقال في رواية أخرى: إذا كان يوقد بالعَذِرة لا تدخُلْه إلا إذا دخلتَ فخرجتَ يكون لك ما تصبُّه عليك. وهذا مبنيّ على ما تقدَّم، فإنه إذا سُخِّن بالطاهرات، وجرى في موضع طاهر، فلا وجه للكراهة.
[146/ب] وإن سُخِّن بالنجاسات مع وثاقة الحاجز بين النار والماء، فكلامه هنا يقتضي روايتين، لأنه كرهه في رواية، وذكر الاختلافَ في رواية
(6)
(1)
«المغني» (1/ 307).
(2)
المصدر السابق.
(3)
«مسائل صالح» (2/ 137)، و «المغني» (1/ 307).
(4)
«المغني» (1/ 307).
(5)
لم أقف عليه.
وأخرج عبد الرزاق في «المصنف» (1/ 296 - 298) جملة من الآثار في هذا عن علي وعبد الله وأصحابهما.
(6)
في الأصل: «رواه» .
أخرى، واختار الرخصة.
ومن أصحابنا من يحمل الرخصة على ما إذا كان الوقود طاهرًا، والكراهة في الوقود النجس. ومن كرهه فلكراهته سببان:
أحدهما: كونه مسخَّنًا
(1)
بالنجاسات.
والثاني: كونه ماءً قليلًا تقع فيه يدُ الجنب، وذلك مختلف في نجاسته وفي طهوريته، وربما كانت اليد نجسة.
وقد احتاط لذلك فقال: يأخذ من الأنبوبة، ولا يُدخل يده إلا طاهرة
(2)
. وقال أيضًا: من الناس من يشدِّد فيه، ومنهم من يقول: هو بمنزلة الماء الجاري لأنه يُنزَف ويخرج الأول فالأول
(3)
. وإنما احتاط بذلك، لأنَّ من الناس من يجعله كالماء الدائم، وذلك يصير مستعملًا بوضع الجنُب يدَه فيه، في إحدى الروايتين. ومن أصحابنا من علَّل ذلك بخوف نجاسة اليد.
فأما ما يأخذه من الأنبوبة فإنه جارٍ بلا تردُّد. ومذهبه أن الجميع كالماء الجاري إذا كان فائضًا. وكذلك المياه التي تجتمع في البِرَك ونحوها وتفيض
(4)
من بعض جوانبها، وذلك لأن ذلك الماء يُنزَف، وكلَّما خرج شيء ذهب شيء. ولهذا لو كان متغيِّرًا بشيء من الطاهرات والنجاسات زال التغيُّر بعد زمان يسير، فأشبه الحفائر التي تكون في أثناء الأنهار الصغار والكبار.
(1)
في المطبوع: «سخن» خلافًا للأصل.
(2)
انظر نحوه في «المغني» (1/ 307).
(3)
رواه عنه الأثرم. انظر: «المغني» (1/ 307).
(4)
في الأصل: «يقتض» ، وفي المطبوع:«يغتض» . وكلاهما تصحيف.