الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولها العبور في المسجد، لكن إن كان دمها جاريًا فإنها تتلجَّم لأمنِ
(1)
تلويث المسجد. وقيل: لا تدخله إلا لأخذِ شيء منه، دون وضعِ شيء فيه؛ للحاجة إلى ذلك. وقد تقدَّمت الأحاديث في جواز ذلك.
وأمّا اللبثُ فيه بالوضوء، فيجوز إذا انقطع دمها. وأمَّا قبل، فلا يجوز، نصَّ عليه، لأن طهارتها لا تصح، لأنَّ سببَ
(2)
الحدث قائم. ولذلك لم يستحبَّ لها الوضوء لنوم أو أكل ونحو ذلك.
الفصل الرابع: أنه يحرم وطؤها في الفرج
. فأمَّا الاستمتاع منها فيما دون الفرج مثل القبلة واللمس والوطء دون الفرج، فلا بأسَ به، لقول الله سبحانه وتعالى:{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222].
والمحيض: إما أن يكون اسمًا لمكان الحيض كالمَقِيل والمَبِيت
(3)
، فيختصُّ التحريمُ بمكان الحيض، وهو الفرج. أو هو الحيض، وهو الدم نفسه، لقوله:{هُوَ أَذًى}
(4)
. أو [174/أ] نفسُ خروج الدم الذي يعبَّر عنه
(1)
كذا في الأصل. وقد يكون محرَّفًا من «لتأمن» . وفي المطبوع: «لتأمن مِن» ، زاد «مِن» دون تنبيه على ما في الأصل.
(2)
في الأصل: «لا سبب» ، والظاهر أن الناسخ أسقط حرف النون من «لأن». وفي المطبوع:«وسبب» .
(3)
في الأصل والمطبوع: «كالقبل والمنبت» ، والصواب ما أثبتنا. انظر:«المغني» (1/ 415). والمقصود التمثيل على اسم المكان من الأجوف اليائي.
(4)
«هو» ساقط من المطبوع.
بالمصدر كقوله: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ} [الطلاق: 4].
فقوله على هذا التقدير: {فِي الْمَحِيضِ} يحتمل مكانَ الحيض، ويحتمل زمانَه وحالَه. فإن كان الأول، فمكانُ المحيض هو الفرج. وإن كان المراد: فاعتزِلوا النساء في زمن المحيض، فهذا الاعتزال يحتمل اعتزالَهن مطلقًا كاعتزال المُحرِمة والصائمة، ويحتمل اعتزالَ ما يراد منهن في الغالب، وهو الوطء في الفرج، وهذا هو المراد بالآية لوجوه:
أحدها: أنه قال: {هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة: 222] فذكر الحكمَ بعد الوصف بحرف الفاء، وذلك يدلّ على أنّ الوصف هو العلّة، لا سيّما وهو مناسب للحكم، كقوله:{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا}
(1)
[المائدة: 38] و {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2]. فإذا كان الأمر باعتزالهن من الإيذاء إضرارًا أو تنجيسًا، وهذا مخصوص بالفرج، فيختصُّ بمحلِّ سببه.
وثانيها: أنَّ الإجماع منعقد على أنّ اعتزالَ جميع بدنها ليس هو المراد، كما فسَّرته السنة المستفيضة، فانتفت الحقيقة المعنوية، فتعيَّن حملُه على الحقيقة العُرفية ــ وهو المجاز اللغوي ــ وهو اعتزال الموضع المقصود في الغالب، وهو الفرج؛ لأنه يُكنى عن اعتزاله باعتزال المرأة كثيرًا، كما يُكنى عن مسِّه بالمسِّ والإفضاء مطلقًا.
وبذلك فسَّره ابن عباس فيما رواه ابن أبي طلحة عنه في قوله: {فَاعْتَزِلُوا
(1)
في الأصل: «السارق
…
».
النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة: 222] يقول
(1)
: فاعتزِلُوا نكاحَ فروجهن. رواه عبد بن حميد، وابن جرير
(2)
، وأبو بكر عبد العزيز، وغيرهم في [174/ب] تفاسيرهم
(3)
.
فأمَّا اعتزال الفرج وما بين السُّرَّة والرُّكبة، فلا هو حقيقة اللفظ ولا مجازه.
وثالثها: أنّ السنَّة قد فسَّرت هذا الاعتزال بأنه تركُ الوطء في الفرج. فروى أنس أنَّ اليهود كانت إذا حاضت امرأة منهم لم يؤاكلوها، ولم يجامعوها في البيوت، فسأل أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فأنزل الله {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى} الآية
(4)
[البقرة: 222] فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «اصنعوا كلَّ شيء إلا النكاح» . وفي لفظ: «إلا الجماع» رواه الجماعة إلا البخاري
(5)
.
(1)
قراءة المطبوع: «بقوله» .
(2)
في الأصل والمطبوع: «ابن حزم» ، وهو تحريف ما أثبت. انظر:«المبدع» (1/ 231).
(3)
أخرجه الطبري في «جامع البيان» (3/ 723)، وابن أبي حاتم في «تفسيره» (2/ 401)، والبيهقي (1/ 309).
في إسناده عبد الله بن صالح المصري فيه ضعف، كما في «الميزان» (2/ 440)، وعلي بن أبي طلحة لم يسمع التفسير من ابن عباس، كما في «جامع التحصيل» (240)، ومع ذلك فهي نسخة معتبرة عند كثير من أهل العلم. انظر:«أسانيد نسخ التفسير» لعطية بن نوري الفقيه (ص 346 - 351).
(4)
لفظ «الآية» ساقط من المطبوع.
(5)
أحمد (12354)، ومسلم (302)، وأبو داود (258، 2165)، والترمذي (2977)، والنسائي (369)، وابن ماجه (644)، كلهم بلفظ:«النكاح» ، إلا ابن ماجه والنسائي، فقد أخرجاه بلفظ:«الجماع» .
والجماع عند الإطلاق هو: الإيلاج في الفرج. فأما في غير الفرج، فليس هو بجماعٍ
(1)
ولا نكاحٍ، وإنما يسمَّى به توسعًا عند التقييد، فيقال: الجماع فيما دون الفرج، لكونه بالذَّكر في الجملة. وكذلك جميع الأحكام المتعلِّقة بالجماع إنما تتعلَّق بالإيلاج، لا سيَّما الاستمتاعُ في الفرج فما فوق السُّرَّة جائز إجماعًا
(2)
.
وروى أبو داود
(3)
عن عكرمة عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد من الحائض شيئًا ألقى على فرجها شيئًا.
وعن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عمّا يحِلُّ للرجل من امرأته الحائض، فقال: «يجتنبُ
(4)
شعارَ الدم» رواه ابن بطة
(5)
.
ولأنه محلٌّ حُرِّم للأذى، فاختصَّ التحريم بمحلِّ الأذى، كالوطء في الدبر. ولا يقال: هذا يخشى منه مواقعة المحظور، لأنَّ الأذى القائم بالفرج
(1)
في المطبوع: «كالجماع» ، والصواب ما أثبت من الأصل.
(2)
كذا جاءت العبارة في الأصل والمطبوع.
(3)
برقم (272).
وصححه ابن عبد الهادي في «تنقيح التحقيق» (1/ 390)، وقال ابن حجر في «فتح الباري» (1/ 404):«إسناده قوي» .
(4)
في المطبوع: «تجنب» ، والمثبت من الأصل.
(5)
لم أقف عليه مرفوعًا، ورواه الدارمي (1080) موقوفًا على عائشة بإسناد فيه جهالة. وقد صحّ نحوه موقوفًا على عائشة من وجه آخر عند عبد الرزاق (1260)، والدارمي (1079).
ينفِّر عنه، كما ينفِّر عن الوطء في الدبر. ولذلك
(1)
أبيح له [175/أ] ما فوق الإزار إجماعًا. ثم إنه إذا أراد ذلك ألقى على فرجها شيئًا، كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، لئلا يصيبه الأذى. ولو رُوعِي هذا لحُرِّم
(2)
جميعُ بدنها كالمُحرِمة والصائمة والمعتكفة.
ومع هذا، فالأفضل أن يقتصر في الاستمتاع على ما فوق الإزار، لأنه هو الغالب على استمتاع النبي صلى الله عليه وسلم بأزواجه. قالت عائشة: كانت إحدانا إذا كانت حائضًا، فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يباشرها، أمَرها أن تأتزر بإزار في فور حيضتها، ثم يباشرها. متفق عليه
(3)
. وعلى نحوه من حديث ميمونة. ولأنه أبعد له عن
(4)
الإلمام بالموضع المعتاد، بخلاف الدبر فإنه ليس بمعتاد. والفرجُ المباح يغني عن الدبر، فلا يفضي إليه. ثم القرب منه ضروري. وهنا، ليس هناك فرج مباح ولا ضرورة، فيُخاف
(5)
الإلمام به على العادة السابقة أو يلوِّثه الدم، مع ما في ذلك من الخروج من اختلاف العلماء.
فصل
ولا يجوز وطؤها بعد انقطاع الدم حتى تغتسل، لأن الله تعالى قال:{وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} أي: حتى ينقطع دمها {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} أي: اغتسلت
(1)
في الأصل: «كذلك» .
(2)
في المطبوع: «فحرم» ، والصواب ما أثبت من الأصل.
(3)
البخاري (302) ومسلم (293).
(4)
في الأصل: «على» ، تحريف.
(5)
رسمها في الأصل: «فيخاب» ، وقراءة المطبوع:«فنهاب» .
بالماء. وهكذا فسَّره ابن عباس فيما رواه عنه ابن أبي طلحة، وكذلك قال مجاهد وغيره
(1)
. وقال إسحاق بن راهويه: أجمع أهل العلم من التابعين على أن لا يطأها حتى تغتسل
(2)
.
وأكثر أهل الكوفة يقرؤون: «حتى يطَّهَّرْن» بالتشديد
(3)
، وكلُّهم يقرؤون الحرف الثاني [175/ب]{فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} ، والتطهُّر إنما يكون فيما يتكلَّفه ويروم تحصيله، وذلك لا يكون إلا في الاغتسال؛ فأمَّا انقطاعُ الدم فلا صنعَ لها فيه، ولهذا لما قال:{وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6] فُهم منه الاغتسال.
فإن قيل: فعلى قراءة الأكثرين ينتهي النهي عن القُربان
(4)
بانقطاع الدم، لأن الغاية هنا تدخل في المغيَّا، لأنها بحرف «حتَّى» ، فإذا تمَّ انقطاع الدم فقد انتهت الغاية.
قلنا: قبل الانقطاع، النهيُ عن القربان مطلقٌ
(5)
، فلا يباح بحال. فإذا انقطع الدم زال ذلك التحريم المطلق، لأنها قد صارت حينئذ مباحةً إن اغتسلَتْ، حرامًا إن لم تغتسل. ويبيِّن هذا الشرط قولُه {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} . وبهذا
(1)
انظر: «تفسير الطبري» (4/ 386).
(2)
«شرح الزركشي» (1/ 435).
(3)
انظر: «النشر في القراءات العشر» (2/ 227). وفي الأصل: «حتى يتطهرن» ، وهو خطأ.
(4)
في الأصل: «القراتان» ، وفي المطبوع:«القراءتين» ، وكلاهما تحريف.
(5)
في المطبوع: «المطلق» ، ظنَّه صفة للقربان، ولم ينبه على ما في الأصل وهو الصواب.
تبيَّن أنَّ قراءة الأكثرين
(1)
أكثر فائدة. وهذا كقوله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6].
وأيضًا فقد روي عن بضعة عشر من الصحابة منهم الخلفاء الراشدون
(2)
: أن المطلِّق أحقُّ بزوجته حتى تغتسل من الحيضة الثالثة
(3)
. فإذا كان حدثُ الحيض يوجِبُ
(4)
بقاء العِدّة، فلَأن يقتضي بقاءَ تحريم الوطء أولى وأحرى. فإن لم تجد ماءً تيمَّمت، فإن وجدت الماء عاد التحريمُ، كما في التيمم للصلاة وغيرها.
فصل
وإذا وطئ الحائضَ وجبت عليه الكفّارة في ظاهر المذهب. وعنه: لا تجب، بل يستغفر الله تعالى حملًا للحديث الوارد فيه على الاستحباب، مع ما فيه من الاضطراب
(5)
؛ [176/أ] لأنه
(6)
وطء حرام، لا لأجل عبادة، فلم يوجب كفارةً، كالزنا والوطء في الدبر.
ووجه الأولى: ما روى عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن
(1)
في المطبوع: «الأكثر» ، وذكر في التعليق أن في الأصل:«الأكثر من» ؛ أخطأ في القراءة.
(2)
في الأصل: «الراشدين» .
(3)
ينظر: «مصنف عبد الرزاق» (6/ 315)، و «مصنف ابن أبي شيبة» (5/ 192 - 193).
(4)
في المطبوع: «موجب» ، والمثبت من الأصل.
(5)
في الأصل: «الإضراب» .
(6)
في المطبوع: «فإنه» ، والمثبت من الأصل.
الخطاب عن مِقسَم عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم في الذي يأتي امرأته وهي حائض، قال:«يتصدَّق بدينار أو نصف دينار»
(1)
. وقال [أبو داود]
(2)
: سمعتُ أحمد بن حنبل يقول: ما أحسنَ حديثَ عبد الحميد فيه. قيل له: فتذهب إليه؟ قال: نعم
(3)
. وقال إسحاق بن راهويه: هذه السنة الصحيحة التي سنَّها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في غشيان الحائض. وقد رواه الإمام أحمد
(4)
بإسناد جيِّد من حديث قتادة عن مقسم.
ولأنه وطئ فرجًا يملكه حُرِّم لعارض، فجاز أن يوجب الكفارة، كالوطء في الصيام والإحرام. وطردهُ الاعتكاف إن
(5)
قلنا به، وإلا قلنا: حرم لسبب علي
(6)
عارض من جهة الله. وهذا لأن الكفارة ماحيةٌ للذنب وزاجرةٌ عنه،
(1)
أخرجه أحمد (2032، 2595)، وأبو داود (264، 2168)، والترمذي (136)، والنسائي (289، 370)، وابن ماجه (640)،، من طرق عن مقسم، عن ابن عباس به.
اختلف في إسناده تصحيحًا وتضعيفًا، للخلاف الواقع فيه، وللخلاف في رفعه ووقفه، وللاضطراب الشديد في متنه، وأكثر أئمة الحديث على رده، وكثير منهم يصحح وقفه، كسفيان وابن مهدي والشافعي، ومن بعدهم كابن السكن والبيهقي وابن حزم في آخرين. وصححه الحاكم (1/ 278)، وابن القطان في «بيان الوهم» (5/ 277)، وابن الملقن في «خلاصة البدر المنير» (1/ 79).
انظر: «الإمام» (3/ 249 - 273)، «تعليقة على العلل» (108 - 119)، «البدر المنير» (3/ 75 - 101).
(2)
ما بين الحاصرتين زيادة من المطبوع. والواو قبل «قال» ساقطة منه.
(3)
انظر: «مسائل أبي داود» (ص 39).
(4)
برقم (2121، 2843، 3145).
(5)
في الأصل والمطبوع: «وإن» .
(6)
كذا في الأصل، ولعله تحريف «عادي» . وقد حذف في المطبوع دون تنبيه.
فلا تُشرع في الكبائر ونحوها مما
(1)
تأبَّد تحريمُه كالزنا والوطء في الدبر، فإنه أعظم من أن يكفَّر، والداعي إليه أقوى من أن يكتفى فيه بالكفارة. فأما إذا كان التحريم عارضًا، فربما دعت النفس إلى العادة، فشُرِعت الكفارة ماحيةً للذنب فإنه أهون، وزاجرةً عن معاودته. ولهذا أغنى وجوبُها عن التعزير في أحد الوجهين. ويُشرَع التعزير فيما لا كفارة فيه. وبهذا أوجبنا الكفارةَ في وطء رمضان والإحرام. ولم تكن العلّة في الأصل إفسادَ [176/ب] العبادة فقط، لأنا نوجبها في الإحرام الفاسد والصوم الفاسد في رمضان، وإنما وجبت في الأصل زجرًا ومحوًا وجبرًا. ولا شيء في الفرع يُجبَر، فلهذا خفَّت.
فصل
وهو مخيَّر بين التكفير بدينار أو نصف دينار، في أشهر الروايتين، على ظاهر الحديث الصحيح في ذلك. وعنه: إن كان في إقبال الدم فدينار، وإن كان في إدباره فنصف دينار، حملًا للتقسيم في موضعين. وقد روى عبد الكريم بن أبي المخارق عن مِقسَم عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم في الذي يقع على امرأته وهي حائض قال:«إن كان الدم عبيطًا فَلْيتصَدَّقْ بدينار، وإن كان صفرةً فليتصدَّقْ بنصف دينار» رواه الترمذي
(2)
.
(1)
في الأصل: «فما» ، والمثبت من المطبوع.
(2)
برقم (137).
إسناده واه، فيه عبد الكريم بن أبي المخارق ضعيف جدًّا، كما في «تنقيح التحقيق» لابن عبد الهادي (1/ 233).
ولا شيء عليه إذا وطئ بعد انقطاع الدم، في المنصوص من الوجهين، إذ لا نصَّ فيه، وحرمتُه أخفُّ. والوجه الآخر: فيه الكفارة، لبقاء التحريم، ولما روى ابن جريج قال: أخبرني عبد الكريم وغيره عن مِقسَم عن ابن عباس أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم جعل في الحائض تصاب دينارًا. فإن أصابها وقد أدبر الدم عنها ولم تغتسل، فنصفُ دينار. كلُّ ذلك عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، رواه أحمد في «المسند»
(1)
، ورواه أبو داود
(2)
موقوفًا على ابن عباس. والمعتمد هي الرواية الأولى لصحتها.
ونصف الدينار الزائد إذا أخرج دينارًا
(3)
، فهو من الكفارة المقدَّرة المأمور بها
(4)
، وإن جاز تركه؛ بخلاف ما زاد على ذلك، فإنه صدقة محضة. [177/أ] وإن أخرج على جهة التكفير فهو مرغَّب فيه، ليس هو من الكفارة المقدَّرة المأمور بها، لقوله:«الصدقة تُطفئ الخطيئةَ»
(5)
، وقولِه: «أتبِعِ
(1)
برقم (3473)، والكلام فيه كسابقه.
(2)
برقم (265).
(3)
في الأصل: «دينار» .
(4)
«بها» ساقط من المطبوع. وراء «المأمور» ساقطة من الأصل.
(5)
أخرجه أحمد (22016)، والترمذي (2616)، وابن ماجه (3973)، من طرق عن معمر، عن عاصم بن أبي النجود، عن أبي وائل، عن معاذ به.
قال الترمذي: «حسن صحيح» ، وقد أعل بعلتين: أبو وائل لم يسمع من معاذ. وخالف حماد بن سلمة معمرًا فرواه عن عاصم، عن شهر، عن معاذ به، أخرجه أحمد (22133)، قال الدارقطني في «العلل» (6/ 79):«قول حماد بن سلمة أشبه بالصواب؛ لأن الحديث معروف من رواية شهر، على اختلاف عنه فيه» ، وشهر لم يسمعه من معاذ وهو متكلم فيه.
وله طرق أخرى عن معاذ كلها ضعيفة كما قال ابن رجب في «جامع العلوم والحكم» (2/ 135).
وله شاهد قوي من حديث جابر بن عبد الله عند أحمد (14441)، وابن حبان (4514).
السَّيئة الحسنةَ تَمْحُها»
(1)
.
وقولِ حذيفة: فتنةُ الرجل في أهله وماله، تكفِّرها الصلاة والصيام والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
(2)
.
وهذا كما يُخيَّر الحاجُّ بين أن يبيت الليلة الثالثة بمنى ويرمي الجمرة من الغد، وبين أن لا يفعل. وكما أنَّ من
(3)
وجب عليه الهديُ، فإن أخرجَ سُبْعَ بدنةٍ جاز، وإن أخرج بدنةً فهو هديٌ أيضًا، وهو أفضل. ومن وجبت عليه بنتُ مخاض فأخرج حِقَّةً جاز، وكان الجميع زكاة.
والزائد على ذلك لا يوصف بالوجوب عند بعض أصحابنا، لأن الواجب لا يجوز تركُه، وقد سمَّى الله تعالى ما زاد على الواجب تطوعًا في قوله تعالى:{وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا} يعني: بأكثر من مسكين {فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ} [البقرة: 184] وقال النبي صلى الله عليه وسلم للذي
(1)
أخرجه أحمد (21354، 21403)، والترمذي (1987)، من طرق عن حبيب بن أبي ثابت، عن ميمون بن أبي شبيب، عن أبي ذر به.
قال الترمذي: «حسن صحيح» ، وصححه الحاكم (1/ 121)، وقد أعل بالإرسال، فميمون لم يسمع من أبي ذر كما في «تهذيب الكمال» (29/ 207)، وكذلك أعله الدارقطني في «العلل» (6/ 72)، والبيهقي في «شعب الإيمان» (10/ 382). وانظر:«جامع العلوم والحكم» (1/ 396).
(2)
أخرجه البخاري (525)، ومسلم (144).
(3)
كذا في الأصل. وفي المطبوع: «وكمن» .
وجبت في ماله بنت مخاض: «ذلك الذي عليك. فإن تطوَّعتَ بخير منه قبِلناه منك، وآجرَك الله عليه»
(1)
.
ووصفه بعضهم بالوجوب، وإن جاز تركه، كما في الركعتين الزائدتين في صلاة السفر، كما قال بعضهم في الواجب الذي ليس بمقدَّر مثل القيام والركوع والسجود، إذا طوَّله زيادةً على أقلِّ ما يجزئ. وأكثرُ ما فيه أنه يجب باختيار المكلَّف، وهذا جائز، كما يجب إتمامُ الإحرام إذا شَرع فيه.
ويجب على العامِّيّ الأخذُ بأحد القولين، إذا اختار تقليد صاحبه. وهذا لأنا [177/ب] نخيِّره بين أن يتركه أو يفعله على صفة الوجوب، كما يخيَّر بين ترك نوافل العبادات وبين أن يفعلها على الوجه المشروع. فتكون الصفةُ واجبةً بشرط فعل الأصل، وإن لم تكن واجبةً إذا ترك الأصل.
فصل
وتجب الكفّارة على العالم والجاهل، سواء كان جاهلًا بالحيض وبالتحريم أو بهما؛ وكذلك الناسي كالعامد، في المنصوص من الوجهين. وفي الآخر: لا يجب. قاله ابن أبي موسى وغيره
(2)
، لأنه معذور، ولأنها كفارة صغرى فلم تجب مع السهو ككفارة اليمين.
والأول أشهر، لأنّ الحديث عامٌّ. وقد روى حرب
(3)
عن عبد الحميد بن
(1)
أخرجه أحمد (21279)، وأبو داود (1583)، من حديث أبي بن كعب.
وصححه ابن خزيمة (2277)، وابن حبان (3269)، والحاكم (1/ 556).
(2)
انظر: «الإرشاد» (ص 46) و «الإنصاف» (2/ 380).
(3)
في «مسائله» (1/ 341)، وأخرجه الحارث كما في «بغية الباحث» (1/ 234)، من طريق الحكم بن موسى، عن عيسى بن يونس، عن زيد بن عبد الحميد، عن أبيه، عن عمر به.
إسناده ضعيف، زيد فيه ضعف كما في «الميزان» (2/ 104)، وأبوه لم يسمع من عمر، انظر:«جامع التحصيل» (220).
عبد الرحمن أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أتى جاريةً له، فقالت: إني حائض، فكذَّبها، فوقع عليها، فوجدها حائضًا. فأتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فذكر ذلك له، فقال له:«يغفر الله لك أبا حفص. تصدَّقْ بنصف دينار» . ولأنَّ المحرِم أو الصائم إذا وطئ ناسيًا وجبت الكفارة في المشهور من الروايتين، وكذلك هنا.
فإن وطئها طاهرًا، فحاضت في أثناء الوطء، فإن استدام لزمته الكفارة. وإن نزع في الحال انبنى على أن النزع هل هو جماع؟ وفيه قولان لأصحابنا، أحدهما: هو جماع. فإذا قال لامرأته: أنت طالق ثلاثًا إن جامعتُكِ، لم يجُز له أن يجامعها أبدًا، في إحدى الروايتين، خشيةَ أن يقع النزع في غير ملك. وإذا طلع عليه الفجر، وهو مُولج، فنزَع في الحال لزمته الكفَّارة، كما اختاره ابن حامد والقاضي
(1)
. فعلى هذا تلزمه الكفارة هنا [178/أ] على الوجه المنصوص. وهو اختيار ابن حامد، لأن أكثر ما فيه أنه معذور، والمعذور تلزمه الكفارة في النزع، كما تلزمه في الصيام والإحرام. وعلى الوجه الذي اختاره ابن أبي موسى لا كفارة عليه.
والقول الثاني: ليس النزع بجماع. فلا شيء عليه هنا، كما لا يفسد صومه بالنزع عند أبي حفص
(2)
، ولا يأثم به في اليمين على إحدى الروايتين.
(1)
انظر: «المغني» (4/ 379).
(2)
انظر: المرجع السابق.
وهل تجب الكفارة بوطء الصبيِّ والمجنون؟ على وجهين.
وتجب من الذهب الخالص. قال جماعة من أصحابنا: وسواء كان تبرًا أو مضروبًا. ويتوجَّه أن لا يجزئه إلا المضروب، لأنّ الدينار اسمٌ للمضروب خاصَّةً، ولهذا يلزمه ذلك في الدية. ولو كان ماله دنانير فأخرج عنها مكسَّرًا لزمه أن يُخرج الفضل بينهما في الزكاة، ويجوز أن يعطيها لواحد وجماعة؛ لأنه لم ينصَّ على عدد، فأشبهت النذر. وإخراج القيمة هنا كإخراجها في الزكاة والكفارة، وكذلك الدراهم عن الدنانير. وقيل: يجوز هنا، وإن لم يجزئه هناك كالخراج والجزية.
وأمَّا المصرف، فهو مصرف الكفَّارات في أحد الوجهين، وهم الفقراء والمساكين وكلُّ من يعطى من الزكاة لحاجته
(1)
كابن السبيل، والغارم لمصلحة نفسه، والمكاتَب. وفي الوجه الآخر: هم المساكين خاصَّة. وكذلك كلُّ صدقة مطلقة.
هل تسقط
(2)
بالعجز؟ على روايتين، ذكرهما القاضي. إحداهما
(3)
: تسقط، واختارها ابن حامد وغيره
(4)
، ككفارة الوطء في رمضان، ولأنه حقٌّ ماليّ ليس ببدل ولا له بدل، [178/ب] فأشبه صدقة الفطر والمال، لقوله
(1)
في المطبوع: «بخاصة» ، والصواب ما أثبت من الأصل.
(2)
يعني: الكفارة. وقد وردت العبارة في الأصل والمطبوع متصلة بما سبق هكذا: «كل صدقة مطلقة هل تسقط بالعجز» . وقد يكون الصواب: «وهل تسقط
…
»، فسقطت الواو.
(3)
في الأصل: «أحدهما» .
(4)
انظر: «الفروع مع تصحيحه» (1/ 361) و «الإنصاف» (2/ 383).
- صلى الله عليه وسلم: «لا صدقة إلا عن ظهر غنى»
(1)
.
والثانية: أنها لا تسقط، واختارها بعضهم، ككفَّارة اليمين والظهار والإحرام.
فصل
وأمّا المرأة، فلا يجب عليها إن كانت مكرهةً، وهي التي أُضجِعَتْ قهرًا، أو وُطئت وهي نائمة، إذ لا فعل لها. فأما المطاوِعة ففيها وجهان تخريجًا على الصوم والحجّ، لكن المنصوص هنا هو الوجوب، وهو الصحيح في الجميع. لكن تمكينها من وطء الرجل بمنزلة الوطء في الحدِّ، ففي الكفارة أولى. وأما النائمة والتي ضُربت حتى مكَّنت، فهل تلحق بالمطاوعة أو المغلوبة على نفسها؟ على وجهين. ويتخرَّج أن تجب على المكرَهة أيضًا ويتحمَّلها الزوج أو لا يتحمَّلها
(2)
، كما في الحجِّ والصيام، فعلى هذا يلزمها كفارة أخرى. وقيل: الكفارة الواحدة يشتركان فيها.
ويجب في وطء النفَساء ما يجب في وطء الحائض، نصَّ عليه، لأنها مثلها.
فأمّا الوطءُ في الدم المشكوك فيه، فلا يجوز. وأما الكفارة فينبغي إن تبيَّن أنه حيض كالمبتدأة والمعتادة المنتقلة عادتها أو العائدِ دمُها بعد
(1)
أخرجه أحمد (7155)، والنسائي في «الكبرى» (3/ 51)، والبخاري تعليقًا مجزومًا به (4/ 5)، من حديث أبي هريرة بهذا اللفظ.
وأصله في «صحيح البخاري» (1427) موصولًا بلفظ: «خير الصدقة عن ظهر غنى» . وعند مسلم (1034) مثله من حديث حكيم بن حزام.
(2)
في الأصل: «ولا يتحملها» .