الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الوجه بالطبقة الأولى من التراب، ويبقى على اليد غبارٌ يمسحها به. فإذا لم يبق غبار لزمه ضربة ثانية، كما إذا لم يبق ماء للاستنشاق ولا بلل للأذن
(1)
.
و
اليد المطلقة في الشرع: من مفصل الكُوع
، بدليل آية السرقة والمحاربة، وقوله صلى الله عليه وسلم:«إذا قام أحدكم من نوم الليل فلا يغمِسْ يده»
(2)
وقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا أفضى أحدكم بيده إلى ذَكره»
(3)
.
ولأنَّ اليد إمّا أن تكون مشتركةً بين المفاصل الثلاثة، أو حقيقةً في البعض مجازًا في البعض، أو حقيقةً في القدر المشترك. فإن كان الأول فوجوبُ المسح إلى الكوع متيقَّن، وما زاد مشكوكٌ فيه يحتاج إلى دليل. وإن كان الثاني فينبغي أن يكون حقيقةً في اليد إلى مفصل الكوع، لئلا يلزم المجاز في الآيات والأحاديث. ولا ينعكس ذلك، فإنّه
(4)
لم يُعْنَ
(5)
باليد ما هو إلى مفصل الإبط في خطاب الشرع، وإنما فعلته
(6)
الصحابة احتياطًا
(7)
. وإن كان الثالث فالقدر المشترك هو إلى الكُوع. ولأن اليد عند الإطلاق خلافها عند التقييد، فإمَّا أن يراد بها أقصى ما يسمَّى يدًا، أو أقلُّ ما يسمَّى يدًا؛ والأول باطل، فيتعيَّن الثاني.
(1)
في الأصل: «الأذن» .
(2)
تقدم تخريجه.
(3)
تقدم تخريجه.
(4)
في المطبوع: «بأنه» ، والصواب ما أثبت من الأصل.
(5)
في المطبوع: «نعن» ، تصحيف.
(6)
في الأصل: «فعليه» ، تصحيف ما أثبت. وفي المطبوع:«فعله» .
(7)
سيأتي تخريجه في الفصل الآتي.
فإن قيل: هي مطلقة في التيمُّم، مقيّدة في الوضوء؛ فيُحمل المطلق على المقيّد، لأنهما من جنس واحد وهو الطهارة، ولأنّ المطلق بدل المقيد، فيحكيه.
قلنا: إن [148/أ] سلمناه فإنما يُحمل المطلق على المقيد إذا كان نوعًا
(1)
واحدًا، كالعتق في الظهار والجماع واليمين على العتق في القتل. وكذلك الشهادة المطلقة في قوله تعالى:{فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} [النساء: 15] هي من نوع الشهادة المفسَّرة في قوله: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282]. والمسحُ بالتراب ليس هو من جنس الوضوء بالماء. ثم قد اختلفا في القدر، فهذا في عضوين وذلك في أربعة. وفي الصفة، فالوضوء يُشرع
(2)
فيه التثليث، وهو مكروه في التيمم. والوجه في الوضوء يُغسَل منه باطنُ الفم والأنف
(3)
وباطنُ الشعر الخفيف ويخلَّل، وذلك كلُّه مكروه
(4)
في التيمُّم.
وهذا البدل مبني على التخفيف، فكيف يُلحق بما هو مبنيٌّ على الإسباغ؟ ثم البدل الذي هو مسحُ الخفِّ والعمامة لم يحكِ مُبْدلَه في الاستيعاب مع أنه بالماء، فأن لا يحكيه المسحُ بالتراب أولى. ثم يدل على فساد ذلك أن الصحابة لما تيمَّموا إلى الآباط لم يفهموا حملَ المطلق على المقيَّد هنا، وهم أهل الفهم للّسان.
(1)
في الأصل: «نوع» .
(2)
في المطبوع: «شرع» . وما أثبت أقرب إلى رسم الأصل.
(3)
في المطبوع: «يغسل والأنف منه (و) باطن الفم» . وضع جزءًا من اللحق في غير مكانه، فاضطرب المتن.
(4)
في المطبوع: «يكره» ، والمثبت من الأصل.
وقد حقَّق ذلك ما خرَّجاه في «الصحيحين»
(1)
عن عمّار بن ياسر قال: أجنبتُ، فلم أُصِب الماء، فتمعَّكتُ في الصعيد، وصلَّيت. فذكرتُ ذلك للنبيِّ صلى الله عليه وسلم فقال:«إنما يكفيك هكذا» وضرب النبيُّ صلى الله عليه وسلم بكفَّيه الأرضَ، ونفخ فيهما، ثم مسح بهما وجهه وكفَّيه.
وفي لفظ الدارقطني
(2)
: «إنما يكفيك أن تضربَ بكفَّيك في التراب، ثم تنفخَ فيهما، ثم تمسحَ بهما وجهَك وكفَّيك إلى الرُّصْغَين
(3)
».
وعن عمّار بن ياسر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في التيمم: «ضربةٌ للوجه والكفين» رواه أحمد وأبو داود [148/ب]، والترمذي وصححه
(4)
.
قال أصحابنا: والأفضل أن يضرب بيديه الصعيدَ مفرَّجةً أصابعُه، ويمسح ظاهر كفِّه اليمنى بباطن راحته اليسرى، بأن يُمِرَّ الراحة من رؤوس أصابع اليد اليمنى حتى تنتهي إلى الكوع، ثم يمسح ظاهر إبهام اليمنى بباطن إبهام اليسرى، ثم يمسح اليسرى باليمنى كذلك، ويخلِّل بين الأصابع. ولو مسّح الوجه بجميع اليدين، ثم مسَح إحداهما بالأخرى= جاز. وإن لم يبق عليهما
(1)
البخاري (338) ومسلم (368).
(2)
(1/ 183)، من طريق إبراهيم بن طهمان، عن حصين، عن أبي مالك، عن عمار بن ياسر به. قال الدارقطني:«لم يروه عن حصين مرفوعًا غير إبراهيم بن طهمان، ووقفه شعبة وزائدة وغيرهما، وأبو مالك في سماعه من عمار نظر» .
(3)
في المطبوع: «الرُّسغين» بالسين خلافًا للأصل. والرُّصْغ لغة في الرُّسغ، كما في «النهاية» (2/ 227).
(4)
أحمد (18319)، وأبو داود (327)، والترمذي (144).
قال الترمذي: «حسن صحيح» ، وصححه ابن خزيمة (266)، وابن حبان (1303).
غبار احتاج
(1)
إلى ضربة أخرى، لأنه لا بدَّ من مسح الوجه واليدين بالصعيد.
هكذا ذكر طائفة من أصحابنا، وهو ظاهر المنقول عن أحمد. قال أبو داود
(2)
: رأيتُ أحمد علَّم رجلًا التيمُّمَ، فضرب بيديه على الأرض ضربةً خفيفةً، ثم مسح إحداهما بالأخرى مسحًا خفيفًا كأنه ينفض منها
(3)
التراب. ثم مسح بهما وجهه مرةً، ثم مسح كفَّيه إحداهما بالأخرى.
وقال القاضي: لا يجوز أن يمسح وجهه بجميع كفَّيه، لأنه يصير التراب الذي على راحتيه مستعملًا، فإذا مسح به ظهر كفَّيه لم يجزئه. وهذا ضعيف، لأنَّ المستعمل ما وصل إلى الوجه، أمَّا ما بقي
(4)
في اليد فليس بمستعمل، كما تقدَّم مثل هذا في الوضوء.
الفصل الثاني: أنه إن تيمَّم بضربتين أو بأكثر جاز، لأنّ المفروض في القرآن أن يمسح وجهه ويديه من الصعيد، وقد حصل، كما قلنا في إيصال الطهور إلى أعضاء المتوضئ. وكذلك إن مسح بيديه إلى المرفقين إلى ما فوقهما. لكن يُكره أن يمسح زيادةً على المرفقين، أو يمسح بثلاث ضربات مع الاكتفاء بما دونهما. فأمَّا المسحُ بضربتين [149/أ] فهو
(5)
أفضل عند القاضي
(6)
وغيره من أصحابنا لوجهين:
(1)
في المطبوع: «واحتاج» لأن الناسخ كتب راء «غبار» مكررة.
(2)
في «مسائله» (ص 24).
(3)
في المطبوع: «نفض منهما» . والمثبت من الأصل، وكذا في «مسائل أبي داود» .
(4)
في المطبوع: «يبقى» ، والمثبت من الأصل.
(5)
في المطبوع: «فهذا» خلافًا للأصل.
(6)
«المغني» (1/ 320).
أحدهما: أن ذلك متفق على جوازه، وما دونه مختلَف فيه خلافًا ظاهرًا؛ والأخذُ بالمتفق عليه أولى من المختلف فيه.
الثاني: أنَّ ذلك قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أبي الجُهيم
(1)
وعبد الله بن عمر
(2)
وجابر
(3)
والأسلع
(4)
قولًا وفعلًا: أنّ التيمُّم ضربةٌ
(1)
أخرجه الدارقطني (1/ 177)، من طريق أبي عصمة، وخارجة، عن عبد الله بن عطاء، عن موسى بن عقبة، عن الأعرج، عن أبي جهيم به.
قال ابن الملقن في «البدر المنير» (2/ 639): «أبو عصمة هو نوح بن أبي مريم ضعيف جدًّا، وكذا خارجة، والأعرج لم يسمع الحديث من أبي جهيم، بينهما عمير مولى ابن عباس» .
(2)
في الأصل: «عمرو» ، وهو خطأ من الناسخ. وحديثه جاء من وجهين:
أحدهما: أخرجه الدارقطني (1/ 180)، من طريق علي بن ظبيان، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر به. وقال:«كذا رواه علي بن ظبيان مرفوعًا، ووقفه يحيى بن القطان، وهشيم، وغيرهما، وهو الصواب» .
والآخر: أخرجه أبو داود (330)، من طريق محمد بن ثابت، عن نافع، عن ابن عمر به. وقال:«سمعت أحمد بن حنبل يقول: روى محمد بن ثابت حديثًا منكرًا في التيمم» . وقال أيضًا: «لم يتابَع محمد بن ثابت في هذه القصة على «ضربتين» عن النبي صلى الله عليه وسلم، ورووه فعل ابن عمر».
انظر: «تعليقة على العلل» لابن عبد الهادي (169)، «البدر المنير» (2/ 637).
(3)
أخرجه الدارقطني (1/ 181) وقال: «رجاله كلهم ثقات، والصواب موقوف» ، وصححه الحاكم (1/ 288).
انظر: «نصب الراية» (1/ 151)، «البدر المنير» (2/ 648).
(4)
أخرجه الدارقطني (1/ 179).
إسناده تالف، فيه الربيع بن بدر السعدي متروك، كما في «الميزان» (2/ 38)، و «تقريب التهذيب» (1883). وانظر:«نصب الراية» (1/ 153)، «تعليقة على العلل» (179).
للوجه وضربةٌ للذراعين إلى المرفقين. رواهن الدارقطني وغيره.
وروي عن أبي أمامة أيضًا
(1)
، وهي وإن ضعفت، فقد تعدَّدت طرقها. والعملُ بالضعاف في الفضائل جائزٌ، مع أن ابن عمر كان يتيمَّم بضربتين
(2)
.
والمنصوص عن أحمد: أنَّ السنَّة ضربةٌ واحدةٌ للوجه والكفَّين
(3)
. قال: ومن قال: ضربتين، فإنما هو شيء زاد من فِعله، ولا حرج عليه
(4)
. وقال أيضًا: إن فعَلَ لا يضُرُّه.
وهذا
(5)
اختيارُ كثير من أصحابنا، كما ذكره الشيخ رحمه الله، لأنه
(6)
هو الذي صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو المفسِّر لكتاب الله، والمعبِّر عنه. وسائر الأحاديث ضعيفة لا يجوز إثباتُ الأحكام والعدولُ عن السنة الثابتة بمثلها. قال الخلال: الأحاديث في ذلك ضعيفة جدًّا
(7)
. ثم هو قولٌ عليه الصحابة
(1)
أخرجه الطبراني في «الكبير» (8/ 245).
قال الهيثمي في «مجمع الزوائد» (1/ 262): «فيه جعفر بن الزبير، قال شعبة فيه: وضع أربعمائة حديث» .
(2)
أخرجه عبد الرزاق (817).
(3)
انظر: «مسائل عبد الله» (ص 39) وصالح (2/ 121) و (3/ 24) وابن هانئ (1/ 11).
(4)
انظر رواية الأثرم في «المغني» (1/ 311).
(5)
في المطبوع: «وهكذا» ، والمثبت من الأصل.
(6)
في المطبوع: «لأنّ» ، والمثبت من الأصل.
(7)
«المغني» (1/ 322).
مثل: علي
(1)
وعمار
(2)
وابن عباس
(3)
.
ثم هو أشبه بمعنى الكتاب والسنة كما ذكرنا، فإنّ التمسُّح بالتراب لا يستحبُّ الزيادةُ فيه على قدر الكفاية، بدليل أنه لا يسَنُّ إطالةُ الغُرَّة فيه، ولا تخليلُ اللحية، ولا الزيادةُ على المرَّة منه.
وأيضًا فإنَّ [149/ب] ما أمكن جمعُهما بماء واحد في الوضوء، فهو أفضل من مائين، كالفم والأنف، وكالرأس
(4)
والأذن؛ لأنه أقرب إلى القصد، وأبعد عن السرَّف= فما أمكن جمعُهما بتراب واحد أولى. وإذا كان من فقه الرجل قلّةُ ولوعه بالماء، فقلَّةُ ولوعه بالتراب أولى.
وأيضًا فإنَّ التمسُّحَ بالتراب في الأصل مكروه، لأنه ملوِّث مغبِّر، بخلاف الماء؛ وإنما استثني منه موردُ العبادة، فالزيادة على الكفاية لا مقتضى له.
نعم، أجزنا الضربتين في الجملة، كما أجزنا الغرفتين والمائين في الوضوء؛ لأنّ الضربتين في
(5)
مظنّة الاحتياج إليهما، إذ قد لا يكفي التراب الواحد أو لا يمكن
(6)
به. وأجزنا المسحَ إلى المرفق، لأنه في الجملة محلُّ الطهارة، مع ما جاء فيه عن ابن عمر وغيره. وهذا القدر يفيد الجوازَ، لا الفضيلة.
(1)
لم أقف عليه.
وأخرج عبد الرزاق (824)، وابن المنذر (2/ 50) عن علي: في التيمم ضربتان.
(2)
أخرجه ابن المنذر (2/ 52).
(3)
أخرجه عبد الرزاق (825).
(4)
في المطبوع: «والرأس» ، والمثبت من الأصل.
(5)
حذفت «في» في المطبوع.
(6)
كأن في الأصل: «أو لا يتمكن» . وفي المطبوع: «ولا يمكن» .
وأما الخروج من اختلاف العلماء، فإنما يُفعَل احتياطًا إذا لم تُعرف السنّة ولم يتبيَّن الحق، لأنَّ من اتقى الشبهات استبرأ لعرضه ودينه. فإذا زالت الشبهة وتبيَّنت السنّة، فلا معنى لطلب
(1)
الخروج من الخلاف.
ولهذا كان الإيتار بثلاث مفصولة أولى من الموصولة، مع الخلاف في جوازهما، من غير عكس. والعقيقةُ مستحبة أو واجبة، مع الخلاف في كراهتها. وإشعارُ الهديِّ سنة، مع الخلاف في كراهته، والإجماع على جواز تركه. وفسخ الحج إلى العمرة لمن يريد التمتع أولى من البقاء عليه
(2)
اتباعًا لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، [150/أ] مع الخلاف الشائع في جواز ذلك. وإعطاءُ صدقة الفطر لمسكين واحد أفضلُ، مع الخلاف في جوازه. وتركُ القراءة للمأموم في صلاة [الجهر]
(3)
أفضل، بل قراءتها
(4)
له مكروهة على المشهور، مع الخلاف في الإجزاء. وتفرقةُ
(5)
صدقته بنفسه أفضل مع الخلاف في جوازه في الأموال
(6)
الظاهرة. وأمثال ذلك كثيرة.
وأما الأحاديث المأثورة فهي ضعيفة، على ما هو مبيَّن في موضعه. والعملُ بالضِّعاف إنما يُشرع في عمل قد عُلِم أنه [مشروع]
(7)
في الجملة،
(1)
في الأصل: «للطلب» ، وفي المطبوع:«لمطلب» .
(2)
في الأصل: «عليها» ، والتصحيح من المطبوع.
(3)
ما بين الحاصرتين من المطبوع.
(4)
يعني قراءة سورة الفاتحة.
(5)
في المطبوع: «(وتفريق) قيمة» ، وقال في الحاشية:«في الأصل: تفرقيمة» . وهو كما قال، وهو تحريف ما أثبتنا.
(6)
في المطبوع: «الأحوال» ، ولعله خطأ مطبعي.
(7)
ما بين الحاصرتين من «الآداب الشرعية» (2/ 290). حيث نقل هذه العبارة.
فإذا رُغِّب فيه في بعض أنواعه لحديث ضعيف عُمِلَ به. أمَّا إثباتُ سنّة، فلا.
ثم إن صحَّت هذه الأحاديث فإنما تفيد الجواز فقط، إذ أقصى ما في الباب أنَّ كلتا الصورتين
(1)
قد صحَّت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وما كان أقرب إلى القصد فهو أفضل في هذا الباب، كما تقدَّم. ولعله صلى الله عليه وسلم إنما قصد بذلك نفيَ شرع الزيادة على المرفق، فإنَّ اليد لمَّا كانت مطلقة، وقد توهم أنَّ مسحها إلى الإبط مشروع، بيَّن أن أقصى ما يمسَح منها إلى المرفق، وأنَّ محلَّ التيمم لا يزيد على الوضوء.
ولعل ذلك كان في أول ما شُرع التيمُّم، ففي حديث عمار بن ياسر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل بأولات الجيش
(2)
، ومعه عائشة زوجه، فانقطع عقدٌ لها من جَزْعِ ظَفار، فحبس الناسَ ابتغاءُ عِقدها ذلك حتى أضاء الفجر، وليس مع الناس ماء، فأنزل الله تعالى على رسوله رخصةَ التطهير [150/ب] بالصعيد الطيِّب. فقام المسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فضربوا بأيديهم الأرضَ، ثم رفعوا أيديهم، ولم ينفُضوا من التراب شيئًا، فمسحوا وجوههم وأيديهم إلى المناكب، ومن بطون أيديهم إلى الآباط. رواه أحمد وأبو داود والنسائي
(3)
.
(1)
في الأصل والمطبوع: «كلا الصورتين» وانظر ما علَّقنا من قبل في أول باب المسح على الخفين.
(2)
وادٍ بين ذي الحليفة وتُربان. ويسمَّى «ذات الجيش» أيضًا. انظر: «المغانم المطابة» (ص 97).
(3)
أحمد (18322)، وأبو داود (320)، والنسائي (314)، من طرق عن صالح بن كيسان، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، عن عمار به.
في إسناده مقال، ذِكْر ابن عباس في هذه الرواية خطأ، خالف فيه صالح من هو أحفظ منه: مالك وابن عيينة، كما قال أبو حاتم وأبو زرعة في «العلل» (1/ 489)، وصححه الألباني في «صحيح أبي داود: الكتاب الأم» (2/ 128).
فإمَّا
(1)
أن يكونوا فعلوا ذلك بغير أمره، فنهاهم عما يقبل النهي، وهو الزيادة على الوضوء، [و]
(2)
الجائز لا يُنهى عنه. أو يكونوا فعلوه بأمره، ثم نُسِخَ
(3)
إلى الكوع.
يؤيد ذلك ما روى ابن ماجه
(4)
عن عبيد الله بن عبد الله بن عُتبة
(5)
عن عمار بن ياسر حين تيمَّموا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فأمَر المسلمين، فضربوا بأكفِّهم الترابَ، ولم يقبضوا من التراب شيئًا، فمسحوا بوجوههم مَسْحةً واحدةً، ثم عادوا، فضربوا بأكفِّهم الصعيدَ مرةً أخرى، فضربوا
(6)
بأيديهم.
ثم بعد ذلك جاء حديث عمار الذي ذكرناه، لأنه اعتقد أن التراب يوصل إلى محلِّ الماء، وأنَّ الذي عملوه أولًا هو تيمُّم المحدث، وأنّ تيمُّمَ الجنب
(1)
تكرَّر في الأصل بعدها: «لا ينهى عنه
…
ثم نسخ ذلك»، وهي العبارة الآتية بعد كلمة «الجائز» ، فكتب الناسخ قبلها:«لا» وبعدها: «إلى» ، يعني: تحذف لتكرارها. وخفي ذلك على محقق المطبوع، فأثبت النص على وجه آخر.
(2)
لعل الواو ساقطة من الأصل.
(3)
يظهر من العبارة المحذوفة أن الأصل: «نسخ ذلك إلى الكوع» ، ولكن لم يكتب الناسخ هنا «ذلك» فلا أدري أأسقطها هنا أم كان زادها هناك.
(4)
برقم (571)، من طريق عبيد الله بن عبد الله، عن عمار به.
إسناده منقطع، عبيد الله لم يسمع من عمار، انظر:«جامع التحصيل» (232).
(5)
أثبت في المطبوع: «عن عبيد الله بن عتبة» ، وذكر في الحاشية أن في الأصل:«عبد الله بن عتبة» . قلت: في الأصل كما أثبتنا.
(6)
كذا في الأصل والمطبوع، وفي «السنن»:«فمسحوا» . وأخشى أن يكون ما في الأصل من سبق قلم الناسخ.
يعُمُّ البدنَ كما يعمُّه الماء، فتمعَّك بالتراب، فبيَّن له النبيُّ صلى الله عليه وسلم صفة التيمم. وكان ذلك آخرَ الأمرين، وبه كان يقول عمار بعد وفاة رسول الله
(1)
صلى الله عليه وسلم.
وإذا تيمم بالضربتين فالأفضل له
(2)
أن يمسح بالضربة الأولى جميعَ وجهه الذي يجب غسلُه في الوضوء، ومما لا يشقُّ؛ وبالثانية يديه إلى المرفقين، فيضع بطون أصابع يده اليسرى على ظهر أصابع يده اليمنى، ويُمِرُّها إلى [151/أ] ظهر الكف. فإذا بلَغ إلى الكوع قبَض بأطراف أصابعه على حرف الذراع، ويُمِرُّها إلى مرفقه، ثم يُدير بطنَ ذراعه ويُمِرُّه عليه، ويرفع الإبهام، فإذ بلغ الكوع أمرَّ الإبهامَ على ظهر إبهام يده اليمنى، ثم يمسح اليسرى باليمنى كذلك، ويمسح إحدى الراحتين بالأخرى، ويخلِّل الأصابع.
والأقطعُ من الكوع يمسح بالتراب موضعَ القطع، في المنصوص من الوجهين كالوضوء. وإن كانت مقطوعة من الذراع مسحَ موضع القطع أيضا، نصَّ عليه. قال القاضي: يستحبّ ذلك
(3)
، لأنه موضع الإسباغ في الوضوء.
الفصل الثالث: أنه يجب استيعابُ محلِّ الفرض لقوله تعالى: {بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ} [المائدة: 6] ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: «فتمسح بهما
(4)
وجهَك وكفَّيك»
(5)
.
(1)
في المطبوع: «وفاة النبي» خلافًا للأصل.
(2)
«له» ساقط من المطبوع.
(3)
انظر: «شرح الزركشي» (1/ 351) و «المبدع» (1/ 192).
(4)
في الأصل والمطبوع: «بها» ، وقد تقدَّم على الصواب.
(5)
سبق تخريجه.
وهذا يزيح ما لعله يُتوهَّم في الباء من تبعيض. فأما ما يشقُّ إيصال التراب إليه كباطن الشعور الخفيفة والكثيفة، فلا؛ لما فيه من المشقة، ولأن الواجب ضربة أو بعض ضربة للوجه، وبذلك لا يصل التراب إلى أثناء الشعر.
ويجب عليه أن ينقل الصعيد إلى الوجه واليد. فإن نسفَتْه الريح بغير قصد العبادة على وجهه ويديه، ثم نوى، ومسح وجهه بما عليه، ويديه بما عليهما= لم يجزئه، بخلاف مسح الرأس، على إحدى الروايتين؛ لأن الله تعالى أمره أن يقصد الصعيد وأن يمسَح به، ولم يأمره في الوضوء إلا بالمسح. فإن نقل ما على الوجه إلى اليد أو بالعكس [151/ب] جاز، لأنه تيمَّم الصعيدَ، ومسَح به. وسواء نقله بيده أو بخرقة، في أقوى الوجهين، كما لو نقله غيرُه بإذنه.
فإن صمَد للريح حتّى نسفَتْه كان نقلًا في أقوى الوجهين، لأنه بقصده انتقل. ثم هل يجب عليه أن يمسحه بيده أو غيرها؟ فيه وجهان
(1)
:
أحدهما: يجب. اختاره الشريف أبو جعفر وغيره، لأنه أوصل الطهور إلى محلِّه، كما لو تمرَّغ في التراب كما فعل عمَّار.
والثاني: لا يجوز. وهو أشبه بما رجَّحوه في الوضوء، لأنه لا يسمَّى مسحاً.
وكذلك لو وضع يده المغبَّرة على وجهه من غير إمرار، أو ذرى التراب على وجهه. وأما التمرُّغ فإنما يجزئه
(2)
في المشهور، لأنه مسحٌ، إذ لا فرق
(1)
وانظر: «الفروع» مع تصحيحه وحاشية قندس (1/ 300).
(2)
في المطبوع: «يجزئ به» ، تحريف.
بين إمرار محلِّ التراب على الوجه أو
(1)
إمرار الوجه على محلِّ التراب.
ولو وضع يده على التراب، فعلِقَ بها من غير ضربٍ، جاز.
والترتيب والموالاة واجبان في التيمم كالوضوء عند جماهير أصحابنا. قال أحمد
(2)
: يبدأ بالوجه ثم الكفَّين في التيمُّم. ومنهم من قال: لا يجب هنا، وإن أوجبناه في الوضوء، لأن التيمم بضربة واحدة جائز. وإذا مسح وجهَه بباطن أصابعه لم يجب عليه أن يمسحه بعد وجهه. بل لو مسح وجهه بجميع باطن يديه، وبقي به غبارٌ يكفي لظاهرهما، لم يُعِدْ مسحَ الباطن بعد الوجه. صرَّح به جماعة من أصحابنا. فقد سقط الترتيب في باطن
(3)
اليد، فكذلك في ظاهرها.
ووجه المشهور
(4)
: أن الترتيب سقط في باطن اليد ضرورةً، فإنّا إن أوجبنا مسحه مرَّتين كان [152/أ] خلاف قاعدة التيمم، فيجب من الترتيب ما يمكن، لقوله:«إذا أمرتُكم بأمر فَأْتُوا منه ما استطعتم»
(5)
ولأنَّ مسح باطن اليد لما حصل تبعًا لمسح الوجه سقط الترتيب، كما سقط عن أعضاء الوضوء إذا دخلت
(6)
في الغسل تبعًا. على أنَّ قول بعض أصحابنا يقتضي
(1)
كذا في الأصل والمطبوع بدلًا من الواو.
(2)
في الأصل فوق السطر بحرف صغير: «رضي الله عنه» .
(3)
كلمة «باطن» ساقطة من المطبوع، وهي مستدركة في حاشية الأصل مع علامة «صح» .
(4)
في المطبوع: «ووجهه المشهور» ، ولعله خطأ مطبعي.
(5)
تقدَّم تخريجه.
(6)
في المطبوع: «أدخلت» ، والمثبت من الأصل.