الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
7 - باب صفة الصلاة
أي: هيئتها القولية والفعلية، وإنما عقد العلماء- رحمهم الله لصفة الصلاة بابًا، وصفة الحج بابًا، وللصيام بابًا، وللزكاة بابًا، لأن العبادة لا تصح إلا بشرطين:
أحدهما: الإخلاص لله.
…
والثاني: المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولا تمكن المتابعة إلا إذا علمنا كيف نعمل، أما أن نتخرص ونعمل فلا يصح، وحينئٍذ يتبين أنه لابد للإنسان أن يعرف صفة النبي صلى الله عليه وسلم ليصلي كما صلى، لاسيما وأنه قال:"صلوا كما رأيتموني أصلي". وحينئٍذ نأخذ صفة الصلاة من السنة، ونستعين على ذلك بما كتبه أهل العلم- رحمهم الله في كتب الفقه.
بدأ المؤلف بحديث ينبغي أن يكون أصلًا في الموضوع وهو حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا قمت إلى الصلاة
…
إلخ". والمؤلف رحمه الله يختصر الأحاديث فلا يأتي إلا بالشاهد، وليته لم يفعل؛ لأن مثل هذا الحديث قصة ينبغي أن تروي كما هي من أولها إلى آخرها؛ ولأن ما حذفه فيه فوائد كثيرة، لكن يجاب عن هذا بأن المؤلف أراد أن يكون هذا الكتاب مختصرًا.
أسئلة:
- لماذا احتاج العلماء- رحمهم الله إلى التبويب لصفة الصلاة؟
- هل ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم الأمر بأن نصلي على الصفة التي صلاها؟
256 -
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء، ثم استقبل القبلة، فكبر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعًا، ثم ارفع حتى تعتدل قائمًا، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدًا، ثم ارفع حتى تطمئن جالسًا، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدًا، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها". أخرجه السبعة، واللفظ للبخاري.
حذف المؤلف أول الحديث، لأنه ليس له علاقة واضحة بهذا الباب، ولكن ليته لم يحذفه؛ لأن فيه فوائد وهو سطر أو أقل، وأوله: أن رجلًا دخل المسجد وصلى لكن دون أن يطمئن في الصلاة، ثم جاء فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم فرد عليه السلام، قال: السلام عليك، قال:"عليك السلام" ثم قال: "ارجع فصل فإنك لم تصل". "ارجع فصل" ليس فيها إشكال، "فإنك لم تصل" نفى أن يكون صلى مع أنه صلى بالفعل، لكن هذه صلاة غير مجزئة بل غير صحيحة، فلهذا نفى أن يكون قد صلى، وهذا نفى الوجود الشرعي أو الحسي؟ الشرعي قال:"لم تصل"، فرجع
الرجل وصلى كما صلى أولًا، ثم جاء فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم فرد عليه السلام وقال:"ارجع فصل فإنك لم تصل" فرجع للمرة الثانية وصلى كالأول، ثم جاء فسلم فرد عليه السلام وقال:"ارجع فصل فإنك لم تصل" ثلاث مرات، قال: والذي بعثك بالحق لا أحسن غير هذا فعلمني، سبحان الله! صحابي لا يعرف كيف يصلي، ويقول هذا الأسلوب العجيب، قال: والذي بعثك بالحق ولم يقل: والله يا رسول الله، قال: والذي بعثك بالحق إشارة إلى أنه سيلتزم بما قال الرسول- عليه الصلاة والسلام؛ لأنه مبعوث بالحق، وإذا كان قد أقر بأنه مبعوث بالحق فإنه يلزم أن يعمل بما قال، "والذي بعثك بالحق لا أحسن غير هذا" ولم يسكت رضي الله عنه، بل طلب العلم:"فعلمني"؛ فعلمه النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: "إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء" أي: إذا أردت القيام، واعلم أنه يعبر بالفعل عن إرادته إذا كانت الإرادة جازمة قريبة من الفعل، فإذا كانت الإرادة جازمة قريبة من الفعل بهذين القيدين أطلق الفعل على الإرادة، ومنه كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء قال:"أعوذ بالله من الخبث والخبائث" إذا دخل يعني: أراد الدخول، هنا:"إذا قمت إلى الصلاة" يعني: إذا أردت القيام جازمًا قريبًا "فأسبغ الوضوء" أسبغ بمعنى: أكمل، كما في قول الله تعالى:{وأسبغ عليكم نعمه، ظاهرًة وباطنًة} [لقمان: 20]. أي: أكملها، "أسبغ الوضوء"، "الوضوء" يقال: بفتح الواو وبضم الواو، فإن قيل بضم الواو فالمراد به: الفعل، يعني: حركات المتوضئ، وإن قيل بالفتح فالمراد به: الماء الذي يتوضأ به، وكذلك نظائره كالطهور والطهور، والسحور والسحور، وحينئٍذ "ما من مسلم يتوضأ فيحسن الوضوء" بضم الواو، "تسحروا فإن في السحور بركة". هل بالفتح أو بالضم؟ هذا يحتمل أن المعنى: فإن في فعلكم بركة، ويحتمل أن المعنى: أن في الطعام الذي تأكلونه في آخر الليل بركة، وكلاهما صحيح، إذن فإن في السحور بركة، يجوز أن تقرأه: في السحور، أو في السحور.
"فأسبغ الوضوء" أي: للفعل، "ثم استقبل القبلة فكبر" لم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم شيئًا من الشروط سوى الوضوء واستقبال القبلة، فإما أن يكون الرجل، لم يخل بشئ؛ لأنه مشاهد فهو مستور عورته ورجل يميز يعني بقية الشروط معروفة.
فيبقى علينا إذا كنت تعلل بعدم ذكر الشروط بأنه يرى لو أخل بها فلماذا ذكر الوضوء؟
فالجواب: أن النبي صلى الله عليه وسلم علم من حال هذا الرجل الذي لا يحسن أن يصلي أن فيه احتمالًا كبيرًا أنه لا يحسن الوضوء، وهذا واضح، "ثم استقبل القبلة فكبر" أي: قل: الله أكبر، وهذه تكبيرة الإحرام، وسميت بذلك لأن الإنسان إذا كبر دخل في حريم الصلاة كما أنه إذا لبى دخل في حريم النسك، "ثم استقبل القبلة فكبر" أي قل: الله أكبر هذا التكبير، ولم يقل: كبر الله، لأن
الأمر معلوم، "ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن" "اقرأ" يعني: بعد التكبير، ولم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم الاستفتاح، إما رفقًا بحال هذا الرجل لئلا تكثر عليه الطلبات فيضيع بعضها بعضًا؛ وإما لأنه- أي: الاستفتاح- غير واجب، ولاشك أن الاستفتاح غير واجب لقول النبي صلى الله عليه وسلم:"لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب".
"ما تيسر معك من القرآن""معك" بمعنى: عندك، والتيسر ضد التعسر بأن يكون الإنسان حافظًا فهذا الذي يريد أن يقرأه سهلًا عليه أن يقرأه من القرآن؛ أي: كلام الله عز وجل، وسمي قرآنًا، لأنه يقرأ ويتلى، أو لأنه مجموع مجتمع بعضه إلى بعض، ومنه القرية لأنها مجتمعة بعضها إلى بعض، فقرأ يقرأ قرآنًا يكون من هذا الباب، ولا مانع أن تقول: إنه مشتق من هذا من القراءة التي هي التلاوة، ومن القراءة التي هي جمع الشيء، قوله:"من القرآن" مصدر كالرجحان، والغفران، والشكران، يعني: أنه مصدر على وزن "فعلان" فهل هو بمعنى فاعل، أو بمعنى مفعول، إن كان بمعنى فاعل فالمعنى: أن كلام الله جامع لأحكام شرعية عقدية اجتماعية كل شيء، وتؤيده قوله {ونزلنا عليك الكتاب تبيانًا لكل شيٍء} [النحل: 89]. أو هو بمعنى مفعول، أي: مقروء؛ لأن الناس يقرءونه؟ نقول: هو صالح لهذا وهذا، وليس بينهما منافاة، بل يكون بمعنى هذا وهذا، فهو قارئ أي: جامع للأحكام التي تحتاجها الأمة، وهو بمعنى مقروء فيكون بمعنى مقروء فيكون بمعنى اسم الفاعل، واسم المفعول.
"ثم اركع حتى تطمئن راكعًا" الركوع هو انحناء الظهر تعظيمًا لمن يركع له، وسيأتي- إن شاء الله- بيان الواجب منه، الركوع: حتى الظهر تعظيمًا لمن يركع له، "حتى تطمئن راكعًا" يعني: حتى تستقر، مأخوذ من الطمأنينة وهي الاستقرار.
"ثم ارفع حتى تعتدل قائمًا" اللفظ: "حتى تعتدل"، وفيه رواية:"حتى تطمئن"، فيحمل هذا اللفظ "حتى تعتدل" على اللفظ الآخر، "حتى تطمئن" وتكون أفعال الصلاة كلها على حد سواء.
فإذا قال قائل: لماذا لا نأخذ بلفظ: "تعتدل" لأنه أيسر؟
قلنا: إذا أخذنا بلفظ: "تعتدل" أهملنا لفظ: "تطمئن"، وإذا أخذنا بلفظ "تطمئن" فقد أخذنا بهذا وهذا.
"ثم اسجد حتى تطمئن ساجدًا" السجود هو: الخرور من القيام إلى الأرض بحيث يضع الإنسان جبهته على الأرض إجلالًا لله عز وجل وقوله: "تطمئن ساجدًا" كما قلنا في "تطمئن راكعًا" ولا يخفى عليكم أن كلمة "ساجدًا" و" راكعًا" منصوبان على الحالية.
"ثم ارفع حتى تطمئن جالسًا" أي" قاعدًا، ولم يبين في الحديث كيف الجلوس، "ثم اسجد حتى تطمئن ساجدًا" السجدة الثانية.
"ثم افعل ذلك في صلاتك كلها""افعل ذلك" المشار إليه: القراءة، الركوع، الرفع منه، السجود، الرفع منه، السجود مرة ثانية، ثم الرفع، القيام، وقوله:"في صلاتك كلها" يحتمل أن المعنى: في كل الصلاة المعينة، ويحتمل: في كل الصلوات المقبلة، فأيهما أعم، فيكون المعنى: افعل هذا في جميع صلاتك كما فعلت في الركعة الأولى افعل في الركعة الثانية، وافعل في الصلاة المقبلة. ولابن ماجه بإسناد مسلم:"حتى تطمئن قائمًا" الإسناد صحيح، والمعنى لا ينافي قوله:"حتى تعتدل قائمًا" فنقول: نرجح ما اتفق عليه السبعة فلا منافاة.
في هذا الحديث الذي يترجم عنه بأنه حديث المسيء في صلاته هذه العبارة لم ترد عن الصحابة، فلا أحب أن يعبر بها؛ لأن الإساءة إنما تكون في الغالب عن قصد، وهذا الرجل لم يقصد، وعليه إذا لم تثبت عن الصحابة، فنقول: الأولى أن يعبر فيقال: حديث الجاهل في صلاته؛ لأنه جاهل هذا هو حقيقة الأمر.
في هذا الحديث فوائد: ملاحظة النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه؛ يعني: ليس يجلس بين أصحابه يحدثهم ويغفل عن الناس الذين يدخلون، بل يراقب- عليه الصلاة والسلام؛ لأنه صلى الله عليه وسلم رسول إلى الخلق، فيراقب أفعالهم ليهديهم الصراط المستقيم، ولاشك أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد راقب هذا الرجل.
ومن فوائد الحديث: مشروعية السلام وتكراره ولو لم يطل الفعل، وجهه: أن النبي صلى الله عليه وسلم أقر هذا الرجل على تكرار السلام.
ومنها: أنه إذا سلم الإنسان ولو كرر السلام إذا كان تكراره مشروعًا فإنه يرد عليه، أما إذا كان سلامه غير مشروع فهل يرد عليه أو لا؟ الجواب: لا، لا يجب الرد؛ ولهذا قال الفقهاء- رحمهم الله: من سلم على شخص في حال لا يسن فيها السلام فإنه لا يجب رد السلام عليه، كالمشتغل بالقراءة وما أشبه ذلك، ويدل لهذا أن الصحابة إذا أرادوا أن يسألوا الرسول- عليه الصلاة والسلام ليسوا يسلمون عليه ما داموا معه فلا حاجة أن يلقى السؤال فيسلم، السلام للقادم أو ما كان في حكم القادم.
ومن فوائد هذا الحديث: جواز إقرار الإنسان على عمل فاسد من أجل إصلاح العمل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقر الرجل على الصلاة في المرة الثالثة، وهو يعلم أنه لو كان عنده علم لاطمئن في صلاته لكن بشرط- يعني: إذا أقررناه على العمل الفاسد- أن نبين الصحيح، ويدل لهذا قصة عائشة رضي الله عنها في بريرة. وكانت أمة لقوم من الأنصار كاتبوها- يعني: باعوا نفسها عليها- على تسع أواٍق
من الفضة، خرجت الأمة تطلب من الناس المعونة، فأتت إلى عائشة، فقالت لها عائشة: إن أراد أهلك أن أعدها لهم وولاؤك لي فعلت؛ يعني: أنقدها نقدًا، وليست مؤجلة وتعرفون الكتابة لابد أن تكون مؤجلة، وهل عرفتم الكتابة؟ هي شراء العبد نفسه من سيده ذهبت إلى أهلها، وقالت لهم، فقالوا: لا، الولاء لنا، فرجعت إلى عائشة وقالت: إن أهلها أبوا إلا أن يكون الولاء لهم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يسمع، فقال:"خذيها واشترطي لهم الولاء"، فأخذتها واشترطت الولاء لهم، مع أن هذا الشرط باطل، أبطله النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما أقرها على هذا الباطل من أجل أن يبين إبطاله وإن شرط وهذه مصلحة ولذلك اشترط عليها الولاء لهم، ثم قام النبي صلى الله عليه وسلم خطيبًا وأبطل الشرط، فإقراره على شرطه مع أنه فاسد- والشروط الفاسدة كلها حرام سواء التزمها الإنسان أم لم يلتزمها- من أجل أن يبين أن الشرط الفاسد لا ينفذ ولو شرط، إقرار النبي صلى الله عليه وسلم هذا الرجل على صلاته الباطلة من أجل أن يبين أن من فعل الصلاة الباطلة فإنها لا تجزؤه حتى يقيمها كما أمره الله.
أسئلة:
- هذا الحديث له اسم عند أهل العلم يعرف به ما هو؟
- وما هو الاسم الذي قلنا إنه ينبغي أن يكون عليه؟
- ما الذي حذف من الحديث؟
- هل لما حذف له تعلق بصفة الصلاة؟
- ما معنى قوله: "أسبغ الوضوء"؟
…
- ما معنى الركوع؟
- ما معنى قوله: "اطمئن"؟
- قوله: "ثم افعل ذلك في صلاتك كلها"؟
ومن فوائد الحديث: أن من ترك شيئًا من الواجبات جاهلًا فلا إعادة عليه، إلا إذا كان في وقت يطالب به، وهذه قاعدة مفيدة، فهذا الرجل لم يؤمر بالإعادة إلا مما كان في وقته، وعلى هذا فلو قدر أن إنسانًا له سنة أو سنتان يصلي ولا يطمئن ثم جاء يسأل في وقت الضحى هل نأمره بإعادة صلاة الفجر وما قبلها؟ لا، وهذا الحكم تشهد له أصول الشريعة، فإن الله تعالى قال:{ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} [البقرة: 286]. وهذا يعم جميع المحظورات كما هو معروف، ويعم الواجبات التي جاءت السنة بعدم قضائها، ويدل لهذا أيضًا أن الجاهل بالشريعة كالذي لم يبعث إليه رسول، وقد قال الله- تبارك وتعالى {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولًا} [الإسراء: 15]. وقال- تبارك وتعالى: {رسلًا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل} [النساء: 165]. وقال تعالى: {وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولًا يتلوا عليهم ءايتنا وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون} [القصص: 59].
ويدل لهذا أيضًا: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر المستحاضة التي كانت تدع الصلاة وقت استحاضتها بانية على الأصل، وهو أن الأصل أن الدم حيض فلم يأمرها بالإعادة، ويدل لهذا أيضًا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر عمار بن ياسر رضي الله عنه حين تمرغ على الصعيد من أجل التطهر من الجنابة وصلى بهذا ولم يأمره بالإعادة؛ لأنه كان جاهلًا وبنى على قياس ليس بصحيح بعد أن تبين الحكم بالنص، المهم أن هذه قاعدة تنفعك، ولكن هل نطلق العذر بهذا النوع من الجهل، أو نقول: إذا لم يفرط؟ هذه مسألة في الحقيقة تحتاج إلى تحر.
قد تقول: إنه إذا كان في بادية ولا يطرأ على باله وجوب هذا الشيء وليس عنده علماء وكل من حوله جهال ليس في الصلاة فقط حتى في الصيام مثلًا، لو فرض أن امرأة بلغت بالحيض لا بالسن ولم يطرأ على بالها ولا على بال أهلها أنها تصوم حتى تبلغ خمس عشرة سنة، وهي قد بلغت في السنة الثانية عشرة فتركت قبل الخامسة عشرة ثلاث رمضانات فإننا لا نأمرها بالقضاء، ونقول: استجدي النشاط على الطاعة في المستقبل، لكن لو كان هذا الذي جهل الأمر في مدينة العلم فيها واسع وكثير والعلماء كثيرون لكنه تهاون ولم يسأل، أو قيل له: اسأل، فقال:{يا أيها الذين ءامنوا لا تسئلوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم} [المائدة: 101]. فهذا ليس بمعذور؛ لأنه أمكنه ونبه على هذا ولم يفعل.
فالحاصل: أن الجهل المطبق الذي لا يطرأ على بال الإنسان وجوب الشيء وهو في غفلة تامة لا في تغافل، فهذا لا يلزم بقضاء ما فات من الواجب.
فإن قال قائل: هذا واضح فيما إذا كان الحق بين العبد وبين ربه، ولكنه إذا كان الحق يتعلق به حق الغير، كما لو كان لا يزكي على ماله جهلًا منه بوجوب الزكاة، فهل يلزمه أن يزكي لما مضى، أو نقول: هو على القاعدة؟
الظاهر: الثاني، لأن حق الفقراء في الزكاة ليس حقًا محضًا، بل هو أوجبه الله لهم، يعني: ليس كالذين الذي نقول: يجب على الإنسان قضاء الدين ولو طالت المدة، بل هذا حق أوجبه لهم ففيه شائبة أكبر من حق الله عز وجل من شائبة المخلوق، هل نقول مثل ذلك لو أن شخصًا ترك واجبًا من واجبات الحج، ولم يعلم أن فيه الفدية، هل نقول: تسقط عنه؟ الجواب: لا، وجه ذلك: أن الفدية ليس لها وقت معين، فإذا لم يكن لها وقت معين فمتى ذكر أو علم وجب عليه أن يقوم بها.
ومن فوائد هذا الحديث: حسن فهم الصحابة- رضي الله عنهم، فهذا الرجل أعرابي لما أراد أن يقسم على أنه لا يعرف غير هذا؛ عدل عن الإقسام بالله إلى الإقسام بصفة تشعر بأنه ملتزم بما يقوله النبي صلى الله عليه وسلم لقوله:"والذي بعثك بالحق"، وهل نقول: إنه إذا حلف على شيء فإنه يختار من أسماء الله ما يناسبه؟ الجواب: في هذا تفصيل، أما إذا كان الشيء يحتاج إلى ذكر المناسب فليذكره، وأما إذا كان لا يحتاج فالقسم بالله أولى- يعني: بلفظ الله-.
ومن فوائد هذا الحديث: أن طلب التعليم لا يدخل في السؤال المذموم، لأن الرجل قال:"علمني"، وليس كالمال؛ يعني: سؤال العلم أهون بكثير من سؤال المال؛ لأن المال النفوس مجبولة على محبته، فسؤال الغير المال يكون ثقيلًا عليهم، لكن العلم ليس ثقيلًا على النفوس وبذله سهل، فسؤاله ليس فيه كراهة إطلاقًا، بل قد نقول: إنه واجب، ولكن هل نقول: إن الإنسان ينبغي أن يسأل في الوقت المناسب، أو يسأل ولو شق على المسئول؟ الأول: أحيانًا لا يناسب السؤال، لاسيما إذا لم يكن ضروريًا فهنا لا تسأل تحرج صاحبك، ربما يتحمل ويتحمل ويتحمل، لكن مع إحراج؛ مثل أن يكون محتاجًا إلى أن يقضي حاجته، أو محتاجًا إلى موعد قرره من قبل أو ما أشبه ذلك، ويعلم هذا بحال العالم الذي تريد أن تسأله فرق بين أن يكون متأهبًا لتلقي الأسئلة، وأن يكون على عجل، فلا تسأل إلا عن المسائل الضرورية فلا بد منها.
ومن فوائد هذا الحديث: أنه يشرع الوضوء لكل صلاة؛ لقوله: "إذا قمت إلى الصلاة" وهذا يعم جميع الصلوات، ولكنه ليس على سبيل الوجوب إلا على من أحدث؛ ولهذا قال أهل العلم: يستحب تجديد الوضوء عند كل صلاة؛ لأنهم أخذوا هذا من عموم قوله تعالى: {يا أيها الذين ءامنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا} [المائدة: 6]. ولكن لا يجب إلا عن حدث؛ لأنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه يصلي أحيانًا الصلوات الخمس كلها بوضوء واحد.
ومن فوائد هذا الحديث: أن الوضوء شرط لصحة الصلاة؛ لأنه أمر به للصلاة وهو سابق عليها، وكل ما يجب للصلاة قبلها فهو من شروطها؛ لأن الأركان نفس ماهية العبادة والشروط سابقة تقضي قبل الدخول في العبادة، لكن بعضها قد يلزم أن يصحب العبادة إلى آخرها كاستقبال القبلة، والطهارة، وستر العورة، وما أشبه ذلك.
ومن فوائد هذا الحديث: عدم التفصيل في المجمل إذا كان معلومًا؛ لقوله: "أسبغ الوضوء"، ولم يبين كيف الوضوء؛ لأنه معلوم على أنه ربما يكون هذا الرجل لا يعرف الوضوء لكن لو كان لا يعرفه لقال: علمني؛ لأن المقام مقام تعليم.
ومن فوائد هذا الحديث: وجوب استقبال القبلة؛ لقوله: "ثم استقبل القبلة"، وسبق لنا أن استقبال القبلة شرط لصحة الصلاة إلا في مواطن، ما هي؟ يسقط في النافلة في السفر، وعند الخوف، وعند العجز، كمريض لا يمكن أن يوجه للقبلة، وأسير، وما أشبه ذلك، وإذا اجتهد وأخطأ.
ومن فوائد هذا الحديث: وجوب تكبيرة الإحرام لقوله بلفظ: "الله أكبر"، فلو أتى بلفظ يدل عليها مثل أن يقول: الله أعظم، لا يجزئ إلا "الله أكبر" بهذا اللفظ، لو قال: الله أجل، أو أعظم، أو أعلم ما يكفي، ولها شروط في الواقع: يشترط أن تكون بهذا اللفظ، ويشترط الترتيب بين الكلمتين "الله أكبر" فلو قلت: الأكبر الله، لم يجزئ؛ لأن الألفاظ الأذكار توفيقية، ويشترط ألا يمد
الهمزة لا في الجزء الأول منها ولا في الثاني، فلو قال: الله أكبر ما أجزأت، ولو قال: الله أكبر ما أجزأت؛ لأنه يحول الجملة إلى استفهامية، يشترط أيضًا ألا يمد الباء فتقول: الله أكبار، قال أهل العلم بأن "أكبار" جمع كبر كأسباب جمع سبب، والكبر: من أسماء الطبل فلا يجزئ، فلو قال: الله ومدها مدًا طويلًا يمد اللام في الله طويلًا جدًا هل يجزئ أو لا؟ الظاهر أنه يجزئ، لكنه أخطأ من حيث التجويد.
ومن فوائد هذا الحديث: وجوب قراءة القرآن حسب ما تيسر باللسان لقوله: "اقرأ ما تيسر معك من القرآن"، وهذا الحديث مجمل، لكن بينت السنة أنه يجب أن يقرأ الفاتحة لقول النبي صلى الله عليه وسلم:"لا صلاة لمن يقرأ بفاتحة الكتاب"، فإن عجز عنها قرأ ما يكون بقدر آياتها وكلماتها؛ يعني: يعد آيات تكون على قدر كلمات الفاتحة أو أزيد، فإن لم يعرف شيئًا فالتسبيح والتحميد والتهليل والتكبير.
ومن فوائد هذا الحديث: الإشارة إلى تيسير الشريعة الإسلامية لقوله: "ما تيسر معك من القرآن"، إذا قدر أنه حين دخل الوقت لم يكن يعرف الفاتحة لكن بإمكانه أن يتعلمها، فهل نقول: آخر الصلاة حتى تتعلمها وتقرأ، أو صل في أول الوقت بدون قراءة؟
الأول نقول: إذا كان يمكنه أن يتعلمها قبل خروج الوقت فليفعل؛ لأنه قادر على أن يأتي بالركن قبل خروج الوقت، أما إذا كان لا يستطيع فليصل في أول الوقت على الحال التي يستطيعها.
ومن فوائد هذا الحديث: وجوب الركوع لقوله: "اركع" وهو من الأركان، لأن الله تعالى عبر به عن الصلاة التعبير بالجزء عن الكل يدل على أنه ركن فيه، هكذا ذكر العلماء هذه القاعدة المفيدة، وقد عبر الله بالركوع عن الصلاة في قوله تعالى:{واركعوا مع الراكعين} [البقرة: 43]. وقوله: {يا أيها الذين ءامنوا اركعوا واسجدوا} [الحج: 77].
ومن فوائد هذا الحديث: وجوب الطمأنينة وهي الاستقرار، وهل المراد: الاستقرار بقدر الذكر الواجب، أو الاستقرار وإن كان أقل؟ هذان قولان للعلماء، منهم من يقول: يجب أن يستقر بقدر ما يقول: سبحان ربي العظيم. ومنهم من يقول: الاستقرار وإن لم يكن بقدر قول سبحان ربي العظيم، ولكن لو ركع بأسرع مما يقول: سبحان ربي العظيم، وقلنا: إن سبحان ربي العظيم واجبة في الصلاة ومن تركها عمدًا بطلت صلاته لترك الواجب، لكن إذا قلنا: إنها ليست بواجبة أو نسي فصلاته صحيحة، إذا قلنا: أن المراد الطمأنينة ولو أقل من الذكر الواجب، ذكرنا أن الراكع ينحني لكن إذا كان لا يستطيع أن ينحني فماذا يصنع؟ يومئ برأسه وينحني بقدر ما يستطيع، وهذا يأتينا- إن شاء الله- في صلاة أهل الأعذار، وإذا كان أحدب صفته قائمًا وراكعًا على حد سواء فماذا يصنع؟ النية له هي الركوع، ولهذا عبارة الفقهاء: "والأحدب
يجدد للركوع نية"؛ يعني ينوي الركوع الأحدب الذي لا يمكنه، قال ابن عقيل رحمه الله: "كفلك في العربية" ما معناها؟ معناها: أن فلك تصلح للمفرد والجمع فتقال في المفرد، وتقال في الجمع، قال الله- تبارك وتعالى:{والفلك التي تجرى في البحر} [البقرة: 164]. هذا مفرد أم جمع؟ مفرد تجري، وقوله:{حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم} [يونس: 22]. هذه جمع، لا شك أن التشبيه هذا قاله على سبيل التقريب وإلا ما يشبه الفقه بالنحو، ويذكر أن أبا يوسف صاحب أبي حنيفة والكسائي كانا عند هارون الرشيد فادعى الكسائي أن من كان جيدًا في علم النحو أمكنه أن يتلف الفقه، قال: لأنه مادام أجاد فنا من الفنون يمكنه أن يتلف فنًا آخر، فقال له أبو يوسف: أرأيت لو سها في سجود السهو؟ قال الكسائي: لا، قال من أين أخذت هذا؟ قال: من قواعد النحو، قال: عندي قاعدة أن المصغر لا يصغر، والسجود بالنسبة للصلاة مصغر، هذه ذكرت في حاشية الروض المربع، والله أعلم بصحتها.
إذا كان الإنسان لا يمكنه الركوع لكنه يمكنه القيام فماذا يصنع؟ يومئ فيه الركوع ويحني ظهره بقدر المستطاع، إذا كان ظهره منحنيًا كالراكع فكيف يركع؟ بالنية. "ثم اركع حتى يطمئن راكعًا، ثم ارفع حتى تعتدل قائمًا""وتطمئن قائمًا"؛ يعني: لابد من الاعتدال والطمأنينة، الطمأنينة كما قال الفقهاء: السكون وإن قل، وعلى القول الآخر: السكون بقدر الذكر الواجب، ومعلوم أن القيام بعد الركوع ليس فيه ذكر واجب إلا قول:"ربنا لك الحمد" للإمام والمنفرد، أما المأموم فإنه يقول:"ربنا ولك الحمد"، في حال نهوضه من الركوع، "ثم اسجد حتى تطمئن ساجدًا"، ولم يبين في هذا الحديث كيف السجود وعلى أي عضو يسجد، ولكن قد جاءت به السنة في مواضع أخرى يسجد على الأعضاء السبعة، وهي: الجبهة، ويتبعها الأنف واليدان؛ أي: الكفان، والركبتان، وأطراف القدمين، ويقال في "حتى تطمئن" ما قيل في "حتى تطمئن راكعًا".
ومن فوائد هذا الحديث أيضًا: وجوب الرفع من السجود والجلوس بين السجدتين لقوله: "ثم ارفع حتى تطمئن جالسًا"، هل نقول" يكتفي بالقول: إن الجلوس بين السجدتين من الأركان، أو لابد أن نقول: الرفع من السجود والجلوس، يعني: نعدهما شيئين؟ الجواب: الثاني؛ لأننا نقول: الرفع الجلوس.
فإن قال قائل: إذا جلس فقد رفع، فلا حاجة أن نقول: الرفع.
والجواب: أن يكون هناك حاجة لو أنه كان ساجدًا وسمع وجبة- يعني: شيء له صوت، ثم فزع وهو ساجد، وقام وقال: ما دام قمت (لا أرجع) يستقيم أولا يستقيم؟ لا يستقيم؛ لأنه لابد
أن يكون الرفع متعبدًا به لله عز وجل وهذا ما نوى، ويذكر أن بعض أهل العلم قال: الرفع من الركوع والجلوس بين السجدتين، وإن كان بعضهم قال: يغني عن قولنا: الرفع من السجود طول الجلوس بين السجدتين، "ثم ارفع حتى تطمئن جالسًا".
ومن فوائد هذا الحديث: أن الإنسان إذا جلس بعد السجدة الأولى أجزأه الجلوس على أي صفة كانت؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث لم يقيده بصفة، لكن دلت السنة أن الجلوس يختلف بين التشهدين وبين الجلسة بين السجدتين في التشهدين، إذا كان في الصلاة تشهدان يكون الجلوس في التشهد الأول افتراشًا والجلوس للتشهد الثاني توركًا، ووضع اليدين سواء في الجلوس بين السجدتين يكون افتراشًا ويكون إقعاء على قول بعض العلماء، والصحيح: أنه لا يسمى إقعاء، ووضع اليدين قال الفقهاء: إنهما تكونان مبسوطتين على الفخذين، ولكن السنة تدل على أن وضع اليدين بين السجدتين كوضعهما في التشهدين، "ثم اسجد حتى تطمئن ساجدًا" ويقال فيها كما قلنا في الأولى.
ومن فوائد الحديث: أن السجود مرتين ركن من أركان الصلاة، فلو نسي إحدى السجدتين في الركعة الأخيرة ثم سلم فهل تصح صلاته لو أتى بسجود السهو؟ لا تصح؛ لأن سجود السهو لا يغني عن الركن، لكن لو ترك التشهد الأول صح، ولهذا أخطأ بعض المأمومين الذي نسى السجدة الثانية في الركعة الأخيرة، ثم تشهد وسلم فقيل له: إنه نسى السجدة الأخيرة، فانصرف وسجد سجدتين للسهو، فخاطبه بعض المؤمنين قال: ما سجدنا إلا رمة واحدة، قال: هاتان السجدتان تجبران ما نقص؟ خطأ، وجهله نوعه مركب، فالسجدتان لا تجزآن عن الأركان؛ ولهذا لم يعتد النبي صلى الله عليه وسلم بهما حين سلم قبل أن يتم.
ومن فوائد هذا الحديث: جواز الإحالة على العموم لقوله: "ثم افعل ذلك في صلاتك كلها" وقد جاء تعليم النبي صلى الله عليه وسلم على هذا الوجه، فإن عمر رضي الله عنه لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الكلالة قال:"ألم تكفك آية الصيف". فأحاله على آخر سورة النساء، فإنها صريحة في تبين معنى الكلالة، فالإحالة لا بأس بها في مسائل العلم لكن بشرط أن تكون معلومة، أما إذا أحاله على شيء قد يخفى فيقول الحكم كذلك بشرط، هذا ما يعرف حتى تعرف المسألة المحال عليها، وأما مع الجهالة فلا يجوز:
أسئلة:
- هل هذا الحديث له سبب، ما هو؟
- كم رده النبي صلى الله عليه وسلم وما الحكمة في ترديده؟
- قوله: "إذا قمت إلى الصلاة" ما معناها، وهل يشمل كل صلاة؟
- الإسباغ ما معناه؟
- قوله: "ثم استقبل القبلة" ما معناه؟
- متى يسقط استقبال القبلة؟
- ما هو الدليل على سقوط استقبال القبلة حال الخوف؟
- رجل كبر في الصلاة وقال: الله اكبر هل تجزئه، ولماذا؟
- ما هو الدليل على أن ذلك يكون استفهامًا؟
- قوله: "اقرأ ما تيسر معك" إذا تيسر {قل هو الله أحد} هل تكفيه؟
- ما هو حد الركوع الواجب؟ أنه يمكن مس ركبتيه بيديه هذا حده أكثر العلم، وبعضهم قال: أن يكون الركوع التام أقرب منه إلى القيام التام.
- ما هي الطمأنينة؟
- قوله: "ثم افعل ذلك في صلاتك كلها" ما المراد به؟
* نرجع إلى شرح بقية الروايات الخاصة بالحديث:
- ولابن ماجه بإسناد مسلم: "حتى تطمئن قائمًا".
بدل "حتى تعتدل قائمَا"، والفرق بينهما ظاهر؛ لأنه مجرد الاعتدال بلا طمأنينة لا يكفي، فلا بد من الطمأنينة.
فإن قال قائل: هذا مشكل- وهو حقيقة إشكال- كيف تكون القضية واحدة، والقصة واحدة، والمكان الواحد، والزمان واحد، والقائل واحد، ثم يقول بعض الرواة:"حتى تطمئن"، وبعض الرواة:"حتى تعتدل" مع أن الثاني أتى بلفظ يخالف، قال:"حتى تعتدل" فما هو الجواب على هذا الإشكال؛ لأن القضية ليست متعددة حتى نقول: إن الرسول صلى الله عليه وسلم قال مرة: "حتى تعتدل"، ومرة:"حتى تطمئن"؟
الجواب: أن يكون هذا سهل، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"حتى تطمئن، أو حتى تعتدل" لكن البعيد لا يسمعها كما يسمعها القريب، فقد يكون أحد الراويين سمعة يقول:"حتى تعتدل" والثاني سمعه يقول: "حتى تطمئن".
فإن قال قائل: هذا مقبول إذا كان الصحابي اثنين، لكن إذا كان الصحابي واحدًا، نقول: الصحابي من روى عنه عدد كثير فسمعه أحد الرواة يقول: "حتى تعتدل"، وآخر يقول:"حتى تطمئن"، وإنما قلنا ذلك لأن من قال:"حتى تطمئن" فقد أتى بمعنى "حتى تعتدل"، وزيادة فنأخذ بهذا ونقول: حتى تعتدل تحمل على حتى تعتدل وتطمئن، وكما في الجلوس بين السجدتين فإنه قال:"حتى تطمئن ساجدًا". قال:
257 -
ومثله في حديث رفاعة بن رافع عند أحمد وابن حبان: "حتى تطمئن قائمًا".
هذا ليس فيه إشكال، السبب: تعدد الصحابي، وكما قلنا: أن القريب يسمع أكثر مما يسمع البعيد على أن فيه احتمالًا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "حتى تعتدل"، ثم أعاد وقال:"حتى تطمئن" فنقول: الحمد لله ليس هناك تناقض، والمراد: الطمأنينة. قال:
- ولأحمد: "فأقم صلبك حتى ترجع العظام".
أخذ بعض العلماء من هذا أنه إذا رفع من الركوع أرسل يديه، وقال:"حتى ترجع العظام" يعني: إلى طبيعتها، ومن جملة العظام اليدان، لكن هذا المأخذ مغالاة في التعميم؛ لأن الكلام على العظام التي تتأثر بالركوع وهي الصلب والورك وما أشبه ذلك، ثم لدينا حديث أحسن من هذا في الدلالة، وهو ما رواه البخاري عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال:"كان الناس يؤمرون أن يضع الرجل كفه اليمنى على ذراعه اليسرى في الصلاة" كلمة "في الصلاة" تشمل كل الصلاة، لكن من المعلوم أنه يخرج الركوع، لأن اليدين على الركبتين، ويخرج السجود؛ لأن اليدين على الأرض، ويخرج الجلوس؛ لأن اليدين على الفخذين، يبقى الوقوف الذي قبل الركوع، والذي بعده يدخل في العموم، الإمام أحمد رحمه الله قال: إن الإنسان إذا رفع من الركوع مخير. الآن استثنينا الركوع والسجود والجلوس من عموم "في الصلاة" والعادة أن المستثنى يكون أقل من المستثنى منه هذا هو الراجح، حتى إن بعضهم لم يصحح الاستثناء إذا كان المستثنى أكثر قالوا مثلًا: إن الرجل إذا قال للشخص: له عندي عشرة إلا سبعة يلزمه عشرة؛ لأن هذا الاستثناء غير صحيح، إذا كان المستثنى أكثر فاذكر المستثنى، واقصر عليه قل: عندي له سبعة دراهم، أما أن تقول عشرة إلا سبعة، فهذا قلب.
على كل حال: الذي يظهر لي والذي نعمل به ومشايخنا هو أن ما بعد الركوع كالذي قبل
الركوع، إلا شيخنا عبد الرحمن رحمه الله فإنه اتبع في ذلك نص الإمام أحمد، وقال: إن الإنسان مخير بين أن يضع اليد اليمنى على اليسرى وأن يرسل، ورأيته يرسل كثيرًا.
- وللنسائي وأبي داود من حديث رفاعة بن رافع: "إنها لا تتم صلاة أحدكم حتى يسبغ الوضوء كما أمره الله تعالى ثم يكبر الله تعالى، وبحمده، ويثنى عليه".
- وفيها: "فإن كان معك قرآن فاقرأ وإلا فاحمد الله، وكبره، وهلله".
قال: "لا تتم"، ولم يقل: لا تصح، أو لا تقبل، وفرق بين التعبيرين بين "لا تتم"، أو "لا تصح أو لا تقبل"، أو ما أشبه ذلك، "حتى يسبغ الوضوء"، كما أمره الله لقوله تعالى:{يا أيها الذين ءامنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق واسمحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين} [المائدة: 6]. "كما أمره الله تعالى" أي: ترفع سبحانه عن كل نقص، فتعالى في مكانه وتعالى في صفاته. "ثم يكبر الله تعالى" وهذه تكبيرة الإحرام. "ويحمده ويثنى عليه" هذا الاستفتاح، وفيها- أي: في هذه الرواية-: "فإن كان معك قرآن فاقرأ، وإلا فاحمد الله وكبره وهلله".
في هذه الرواية في حديث رفاعة فوائد:
منها: أن ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي تتم به الصلاة، وتمامها هنا يتناول الواجب والمستحب كما سيتبين.
ومن فوائدها: أن الوضوء شرط لصحة الصلاة ويكون سابقًا.
ومنها: وجوب الترتيب في الوضوء لقوله: "كما أمره الله".
ومنها: أنه لو مسح المغسول وغسل الممسوح لم يجزئه، ما هو الممسوح، الرأس، والمغسول؟ الباقي؛ لأن قوله:"كما أمر الله" هو أمر بالغسل: الوجه واليدين والرجلين، وأمر بمسح الرأس، فلو مسح المغسول وغسل الممسوح لكان غير صحيح؛ لأمه لم يتوضأ كما أمر الله، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم:"من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد". أي: مردود على صاحبه، فأما إذا مسح المغسول فلا شك أن وضوءه لا يصح؛ لأن المسح دون الغسل، ولا يمكن أن يجزئ الأدنى عن الأعلى.
لو قائل: إذا غسل المسموح، فالغسل أكمل.
فيقال في الجواب عن هذا: الغسل أكمل لكن الشرح أكمل فيجب اعتناق الشرع، والله عز وجل، يقول:{ليبلوكم أيكم أحسن عملًا} [الملك: 2].
فإن قال قائل: إن إيجاب المسح في الرأس رخصة؛ لأنه لو أمر الناس أن يغسلوا رءوسهم في الوضوء لشق عليهم ذلك، في أيام الشتاء المشقة ظاهرة؛ لأن الشعر سيحتقن فيه الماء وهو
خطر على الإنسان، خاصة في أيام الشتاء تحصل أذية وهي تسرب الماء من الشعر إلى البدن والثياب فيتأذى بذلك الإنسان.
فإذا قال قائل: إن مسح الرأس بدلًا عن غسله من باب الرأس، والإنسان إذا فعل ما هو أعلى من الرخصة فإنه يصح كما لو صام الإنسان في السفر فله ذلك؟
فالجواب على هذا أن نقول: هذه الرخصة موافقة تمامًا لروح الشريعة الإسلامية وهي التيسير، فهذا الرجل خالف لا من جهة اللفظ {وامسحوا برءوسكم} ، ولا من جهة روح الدين الإسلامي التسهيل والتيسير، وأما الصيام فلولا أنه ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم في السفر. لقلنا: من صام في السفر لم يجزيء كما قال ذلك أبو محمد علي بن حزم يقول: لو صام في السفر فصيامه غير صحيح، لابد أن يقضي. ولكن هذا القول مردود على قائله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم في السفر ولا إشكال في هذا.
لو قال قائل: لو غسل ومسح؛ يعني: صب الماء على رأسه، ثم مسحه كالعادة هل يجزئ أو لا؟
هنا نقول: الخلاف الآن في الصفة يعتبر ماسحًا لكنه مسح فيه غلو، والمسألة فيها خلاف: من العلماء من قال: إذا غسل بعد المسح فإنه لا يصح، ومنهم من يقول: إن أمر يده على رأسه صح واعتبر المسح. ولو قال قائل: إنه لا يصح حتى لو مسح لكان له وجه من أجل المخالفة: {وامسحوا} .
ومن فوائد هذا الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم أرشد الأمة إلى فعل أوامر الله لقوله: "كما أمر الله". وهذه نقطة مهمة جدًا؛ أي: أن الإنسان يفعل العبادة امتثالًا لأمر الله، كثير منا يفعله على أنها عبادة واجبة فقط، ولا يستشعر من الفعل أنه مطيع لله عز وجل، وهذه تفوت الناس كثيرًا ونحرم خيرًا كثيرًا بهذا الفوات، عندما تتوضأ أنو أنك تمتثل أمر الله حين قال:{فاغسلوا وجوهكم} حتى يتم لك الإخلاص والانقياد والذل، أيضًا تلاحظ شيئًا آخر وهو أتباع الرسول صلى الله عليه وسلم والتأسي به حتى تتم لك المتابعة مع الإخلاص، شيء ثالث: وهو احتساب الأجر، لأن الإنسان إذا توضأ خرجت خطايا أعضائه مع آخر قطرة من الماء، كون الإنسان ينوي الاحتساب هذا مهم جدًا، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:"من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا"، "من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا". "من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا". انتبه لهذا أنك محتسب الأجر على الله عز وجل،
وهذا يؤدي أنك تحب الله عز وجل، حيث إنك ترجو هذا الثواب، وما أكثر الذي يفوتنا من هذه الأمور، فنسأل الله أن يوقظنا وإياكم.
ومن فوائد هذا الحديث: أنه لابد من التكبير، وسبق في رواية أبي هريرة.
ومن فوائد هذا الحديث: أنه ينبغي أن تقدم الثناء والحمد على الله قبل القراءة لقوله: "يحمد الله ويثنى عليه"، هل هناك حمد وثناء؟ نعم:"سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك". يحمد الله ويثنى عليه. قلنا: هذا دعاء الاستفتاح، فإنه فيه الحمد والثناء، فهل هذا يرجح أن تستفتح: بـ "سبحانك اللهم وبحمدك" أم ماذا؟ اختار ابن القيم رحمه الله أنه يرجح، وقال: إن الاستفتاح بـ "ٍسبحانك اللهم وبحمدك" أرجح من الاستفتاح بقولك: "اللهم باعد بيني وبين خطاياي". وذكر نحو عشرة أوجه تدل على رجحان هذه ذكره في زاد المعاد. لكنه غير مسلم له؛ لأن حديث: "اللهم باعد" أصح بكثير من هذا، فقد أخرجه الشيخان وغيرهما. والراجح في هذا: أن نعمل بهذا تارة، وهذا تارة، فتارة نقول:"اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقني من خطاياي كما ينقي الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد"، وفي بعض الأحيان نقول:"سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك".
فلو قال قائل: أفلا يمكن أن نجمع بينهما؟
فالجواب: لا، لا نجمع بينهما، لأن أبا هريرة لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم ماذا يقول بين التكبير والقراءة، قال: أقول: "اللهم باعد .. الخ". ولو كان يقول: "سبحانك اللهم وبحمدك" لذكره.
قوله: "فإن كان معك قرآنًا فاقرأ" وهذا مطلق فيحمل على المقيد، وهو أن الواجب أن تكون القراءة بفاتحة الكتاب، وقوله:"وإلا" يعني: وإلا لم يكن معك قرآن "فاحمد الله" يعني قل: "الحمد لله، والله أكبر، ولا إله إلا الله"، هذا البدل الآن هل يساوي المبدل منه أم لا؟
الجواب: لا، يساوي آية وبعض آية من الفاتحة؛ ولهذا نقول: البدل لا يشترط أن يساوي المبدل منه، انظر إلى الصيام في كفارة اليمين كم؟ ثلاثة أيام، والإطعام عشرة مساكين، فلا يشترط أن يكون البدل مساويًا المبدل منه، وسيأتي إن شاء الله.
- ولأبي داود: "ثم اقرأ بأم الكتاب وبما شاء الله".
الواو للجمع، يعني: اقرأ بالأمرين بفاتحة الكتاب وبما شاء الله، أم الكتاب هي الفاتحة،
وسميت أمًا؛ لأن الأم ما يئول إليه الشيء ويقصد؛ ولهذا سمى كتاب الأعمال إمامًا، كما قال عز وجل {وكل شيٍء أحصيناه في إمام مبين} [يس: 12]. لأنه يقتدى به. "أم الكتاب": الفاتحة، جميع معاني القرآن الإجمالية تشتمل عليها الفاتحة، ففيها حمد وثناء وربوبية وإلهية وعبادة وأخبار الأمم السابقة في الإجمال، وأحوال الخلق ينقسمون إلى ثلاثة أقسام: قسم أنعم الله عليهم، وهم الذين علموا الحق وعملوا به، وقسم غضب الله عليهم وهم الذين علموا الحق ولم يعملوا به كاليهود، وقسم أرادوا الحق فضلوا عنه كالنصارى، المهم أن فاتحة الكتاب جمعت المعاني التي جاء بها القرآن، ومن أراد المزيد من ذلك فليرجع إلى كتاب ابن القيم "مدارج السالكين" فإنه أتى فيه بالعجب العجاب حول الكلام على الفاتحة وما تضمنته.
- ولابن حبان: "ثم بما شئت".
بدل "بما شاء الله" والمعنى الواحد، لأن ما شاء الله لابد أن يشاءه العبد، وما شاءه العبد فقد حصل بعد مشيئة الله فهما متلازمان.
من فوائد الحديث: أولًا: الرد على الجبرية؛ لقوله: "إذا قمت" فأثبت للإنسان قيامًا بإرادته، ومن وجه آخر:"فأسبغ الوضوء" فيه رد على الجبرية، لأننا لو قلنا: إن الإنسان مجبر على عمله ما صح أننا نأمره بشيء؛ لأننا إذا وجهنا إليه أمرًا بشيء وهو مجبر صار هذا من تكليف ما لا يطاق.
ومن فوائد هذا الحديث: أن الوضوء شرط لصحة الصلاة لقوله: "أسبغ الوضوء" ثم وهو كذلك، وإسباغ الوضوء هو إكماله، وهو نوعان: إكمال واجب، وهو أن يقتصر فيه على مرة واحدة مرتبًا، وإسباغ كامل وهو أن يأتي به مرتين أو ثلاثة، فقد جاءت السنة بمرة مرة، ومرتين مرتين، وثلاثة ثلاثة، وعلى وجه مختلف السنة أن يغتسل وجهه ثلاثًا ويديه مرتين، ورجله مرة، فليفعل الإنسان هذا، وهذا لتحصل له السنة على جميع وجوهها.
فإن قال قائل: لم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم الغسل من الجنابة؟
فالجواب: أن الغسل من الجنابة بالنسبة للوضوء قليل نادر، والنبي صلى الله عليه وسلم يتكلم على الكثير الغالب، ونحن نعلم من طريق آخر أنه لابد لمن قام إلى الصلاة أن يغتسل من الجنابة كما في الآية الكريمة:{وإن كنتم جنبًا فاطهروا} [المائدة: 6].
ومن فوائد الحديث: وجوب استقبال القبلة لقوله: "ثم استقبل القبلة"، والقبلة إن كان الإنسان يمكنه أن يشاهد الكعبة- شرفها الله- وجب أن يستقبل عينها، وإن كان لا يمكنه ذلك استقبل الجهة حتى لو كان في المسجد الحرام، وكان الناس يعانون في المسجد الحرام من
تحرى الاتجاه إلى الكعبة لكن الرئاسة العامة للحرمين- بارك الله فيهم- جعلوا الآن خطوطًا في الأماكن التي ليس فيها بلاط متجه للكعبة من أجل أن يكون التحري منضبطًا.
سقوط استقبال القبلة في ثلاثة أحوال العجز، ودليل ذلك قول الله تعالى:{فاتقوا الله ما استطعتم} [التغابن: 16]. كإنسان مريض على سريره لا يستطيع أن يتجه فيسقط عنه الاستقبال.
الثاني: الخوف، لقول الله تعالى:{فإن خفتم فرجالًا أو ركبانًا} [البقرة: 239]. والخائف إذا كان هاربًا لا يتسنى له أن يقف ليستقبل القبلة، لأنه خائف لو وقف أدركه العدو، لو وقف إذا كان هاربًا من نار أدركته النار، لو وقف إذا كان هاربًا من الماء أدركه الماء المهم الخائف.
الثالث: النافلة في السفر فإنه يسقط استقبال القبلة ويتجه الإنسان حيث كان وجهه، دليل هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي على راحلته حيثما توجهت به، والأفضل أن يستقبل القبلة عند تكبيرة الإحرام فإن لم يفعل فلا حرج، هذه ثلاث أحوال يسقط بها استقبال القبلة.
ومن فوائد هذا الحديث: وجوب التكبيرة الأولى لقوله: "فكبر" يعني: يقول: "الله أكبر"، هذه التكبيرة لا يمكن أن يدخل الإنسان في الصلاة إلا بها، لو وقف واستشعر عظمة الله عز وجل، وقال: الله أجل، الله أعظم، فإن ذلك لا يجزئه، لابد أن يأتي بالتكبيرة، والتكبيرة لها شروط وقد سبقت. أن يقول: الله أكبر بهذا اللفظ، ولا يجزيء غيرها إلا لإنسان لا يستطيع.
والتكبيرات [التي هي] غير تكبيرة الإحرام قيل: إنها سنة، وقيل: إنها واجب، والقائلون بأنها واجب يستثنون تكبيرة واحدة وهي ما إذا أدرك الإمام راكعًا فهنا يكبر للإحرام قائمًا، وإذا أهوى إلى الركوع فالتكبير في حقه سنة، وعللوا ذلك بأنه اجتمعت عبادتان في وقت واحد فاكتفى بإحداهما، وهي تكبيرة الإحرام؛ ولأن الإنسان يأتي في الغالب مستعجلًا فلا يتمكن من التكبيرة فصارت في حقه غير واجبة.
ومن فوائد هذا الحديث: وجوب قراءة ما تيسر من القرآن بعد التكبيرة لقوله: "فكبر ثم اقرأ" وعلى هذا لو قرأ قبل أن يكبر فقراءته غير معتد بها لابد أن تكون القراءة بعد دخوله في الصلاة لقوله: "ثم اقرأ ما تيسر".
ومن فوائد هذا الحديث: أنه لابد من قراءة، والقراءة لابد فيها من عمل وهو تحريك الفم والشفتين، وعلى هذا فلو قرأ بقلبه لم يصح، يعني: لو أمر القرآن على قلبه فإنه لا يصح؛ لأنه لم يقرأ؛ ولهذا نقول: إن من قرأ آية الكرسي في ليلة لم يزل عليه من الله حافظًا فلابد أن يقرأها بالنطق فلو أمرها على قلبه لم تنفعه.
وهل يشترط أن يسمع نفسه أو يكفي أن يبين الحروف؟ في هذا قولان لأهل العلم، منهم من قال: لابد أن يسمع نفسه، ومنهم من قال: النص عام، فإذا نطق بالقرآن مبينًا للحروف فإنه
يكفيه؛ وهذا القول أقرب للصواب؛ لأنه يصدق عليه أنه قرأ، ولأننا لو قلنا: إنه يشترط أن يسمع نفسه لانفتح على الإنسان باب الوسواس فيقول: هل أنا أسمعت نفسي أو لا، ثم إن رفع صوته زيادة شوش على الناس، فالراجح أنه لا يشترط أن يسمع نفسه، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وهل نقول هذا في كل قول اعتبر فيه النطق أنه لابد أن يسمع نفسه أو لا؟ مثلًا لو طلق الإنسان زوجته، وقال: زوجتي طالق، بكلام لم يسمعه لكنه نطق به، فهل تطلق أو لا؟ نقول: أما على القول بأنه لا يشترط في القول إسماع النفس فإنها تطلق، وأما على القول بأنه يشترط إسماع النفس فقالوا: إنها تطلق أيضًا احتياطيًا للطلاق، وأوجبنا إسماع نفسه في القراءة احتياطًا للركن أن يأتي به، والقول الراجح في الأمرين: أنه لا يشترط إسماع نفسه لا في الطلاق ولا في القراءة، لكن لو أطلق وسواس، يعني: بعض الناس- نسأل الله العافية- يصاب بالوسواس في الطلاق، هو طلق لكن بغير إرادة هل يقع الطلاق أم لا؟ لا يقع الطلاق، لأنه مغلوب عليه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:"لا طلاق في إغلاق".
ومن فوائد هذا الحديث: " تيسير هذه الشريعة الإسلامية التي اسأل الله أن يتوفاني وإياكم عليها كلها يسر؛ ولهذا قال: "ما تيسر معك من القرآن"، وهكذا كل أوامر الشريعة على هذا الأساس، اسمع قول الله عز وجل: {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العشر} [البقرة: 185]. واسمع قوله: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} [الحج: 78]. واسمع توصية النبي صلى الله عليه وسلم لرسله الذين يبعثهم إلى دعوة الناس يقول: "يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا فإنما بعثتم ميسرين، ولم تبعثوا معسرين". ومن تأمل الشريعة وجدها مبنية على ذلك إن وجئت الأوامر من أصلها وجدتها ميسرة إن جئت الأوامر حين الصعوبة تجد أنها تيسر والحمد لله.
فإن قال قائل: هل يقرأ القرآن بلغته أو باللغة العربية؟
فالجواب: باللغة العربية؛ لأنه لا يصدق عليه أنه قرأ القرآن إلا إذا قرأه باللغة العربية، "اقرأ ما تيسر من القرآن" اللغة غير العربية لا تسمى قرآنًا.
فإن قال قائل: إذا كان لا يستطيع إلا لغته نقول: الحمد لله يأتي بدل القرآن بالذكر الذي يتلى في أثناء هذا الحديث: "احمد الله وكبره وهلله"؛ لأن الذكر لا يشترط أن يكون باللغة العربية.
فنقول: الآن أنت عاجز عن الفاتحة، "هلل واحمد وكبر" بلغتك.
ومن فوائد هذا الحديث: أن الذي يلي القراءة الركوع: "ثم اركع"، فلوسها واستفتح، ثم ركع، ثم قام، وقرأ الفاتحة، فإن ذلك لا يصح، بل عليه أن يعيد الركوع مرة ثانية؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم رتب هذه الأركان بـ "ثم".
ومن فوائد هذا الحديث: وجوب الركوع والطمأنينة فيه لقوله: "اركع"، وسبق لنا تعريفه ومقدار الواجب منه، وكذلك مقدار الواجب من الطمأنينة.
ومن فوائد هذا الحديث: وجوب الرفع من الركوع لقوله: "ثم ارفع"، وهل يشترط قصد الرفع من الركوع أو لا؟ الجواب: نعم يشترط، وعلى هذا فلو أن إنسانًا كان راكعًا، ثم سمع سقوط شيء، ثم قام هل يعتد بهذا القيام أم لا؟ فالجواب: أنه لا يكفي؛ لماذا؟ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نص [عليه بقوله]: "ثم ارفع"، فلا بد من إرادة الرفع ونية الرفع.
ومن فوائد هذا الحديث: أنه لابد من القيام، القيام بعد الركوع لقوله:"حتى تعتدل قائمًا" والرواية الأخرى: "حتى تطمئن"، فلو رفع قليلًا من الركوع وهو منحن لم يجزيء، اللهم إلا أن يصيبه شيء ما يستطيع أن يستقيم، فهنا نقول: اتق الله ما استطعت؛ لأن أحيانًا يصاب الإنسان بما يسمى بشد العصب، لا يستطيع أن ينهض فنقول: اتق الله ما استطعت.
ومن فوائد هذا الحديث: وجوب السجود بعد الرفع من الركوع لقوله: "اسجد" وهذا مطلق، لكن جاء في حديث ابن عباس رضي الله عنها أنه لابد من السجود على سبعة أعضاء: الجبهة، ويتبعها الأنف، والكفين، والركبتين، وأطراف القدمين، وبأيهما يبدأ بالركبتين، أم باليدين الحديث هنا ليس فيه شيء، فإذا رجعنا إلى الأصل- بقطع النظر عن ورود السنة- وجدنا الترتيب الجسدي أن يبدأ بالركبتين ثم بالكفين، ثم الجبهة من الأنف، وهذا هو المطابق للحال الطبيعة، وهو أيضًا المطابق للسنة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير". والبعير إذا برك يبدأ باليدين، هذا المعروف كل إنسان يشاهد البعير إذا برك يبدأ باليدين فينحط مقدم جسمه قبل مؤخره، وقد جاء في نفس الحديث المذكور:"ولبضع يديه قبل ركبتيه"، فاختلف العلماء – رحمهم الله – في هذا؛ منهم من أخذ بآخر الحديث، ومنهم من لم يأخذ به، وقال: الأصل في الحديث الجملة الأولى وهي المطابقة أيضًا للأحاديث الأخرى مثل: "إذا سجد أحدكم فلا يفرض يديه افتراض السبع". وقالوا: العمل على الجملة الأولى فماذا نصنع في الجملة الثانية، قال ابن القيم رحمه الله في "زاد المعاد": إنها منقلبة على الراوي، وقال: إن انقلاب الشيء على الراوي ليس بغريب، وذكر لهذا أمثلة، وصدق رحمه الله أنها منقلبة عند التأمل؛ لأنه إذا قال:"لا يبرك كما يبرك البعير" كان الذي يتوقع السامع أن يقول: "ولبضع ركبتيه قبل يديه"، لكن قال:"وليضع يديه"، حاور بعض الإخوان الذين يقولون: إنه يضع اليدين قبل
فقال: إن ركبتي البعير في اليدين، فنقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل: فلا يبرك على ما يبرك عليه البعير، بل قال: "فلا يبرك كما يبرك
…
"، فالنهي عن الكيفية لا عن العضو الذي يسجد عليه، وهذا واضح لمن تأمله، فتقديم الركبتين إذن موافق للترتيب الطبيعي للبدن، وهو أيضًا موافق للسنة.
أسئلة:
- ما معنى الطمأنينة؟
- هل يشترط أن تكون بقدر الذكر الواجب أو لا؟
- كيف قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنك لم تصل" مع أن الرجل صلى؟
- النفي يكون على ثلاثة وجوه بمراحل، ما هي؟
- كيف أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلي ثلاث مرات في الحديث، ولماذا صبر عليه؟
- لماذا قال: "والذي بعثك بالحق"، ولم يقل: والله؟
- قوله: "ثم يكبر ويحمد الله ويثني عليه" ما المراد به؟
- أم الكتاب هي الفاتحة لماذا سميت بهذا؟
258 -
وعن أبي حميد الساعدي رضي الله عنه قال: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كبر جعل يديه حذو منكبه، وإذا ركع أمكن يديه من ركبتيه، ثم هصر ظهره، فإذا رفع رأسه استوى حتى يعود كل فقاٍر مكانه، فإذا سجد وضع يديه غير مفترش ولا قابضهما، واستقبل بأطراف أصابع رجليه وإذا جلس في الركعتين جلس على رجله اليسرى ونصب اليمنى، وإذا جلس في الركعة الأخيرة قدم رجله اليسرى، ونصب الأخرى، وقعد على مقعدته" أخرجه البخاري.
قال المؤلف- رحمه الله تعالى- فيما نقله في سياق الحديث في صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم وعلمنا بصفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم أمر ضروري؛ لأن كل عمل لا يقبل إلا بأمرين: إخلاص، ومتابعة. والمتابعة لا تمكن إلا إذا عرفنا كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعبد الله حتى نتابعه.
قوله: "اجعل" تفسرها الرواية الأخرى "رفع"، و "حذو" بمعنى: حذاء، أي: مساويًا لها، وأصل هذه المادة: المساواة، ومنه الحذاء؛ لأن كل واحد من الحذاءين يساوي الثاني.
"حذو منكبيه" المنكب: هو الكتف، وهل يجعل الكف، أو أطراف الأصابع، أو أسفل الكف؟ كل هذا وردت به السنة، وعلى هذا يكون من العبادات المتنوعة، لكن سياق الحديث الذي معنا "جعل يديه حذو منكبيه" نقول: إذا أشكل علينا هل المراد أعلى اليدين أو أسفل اليدين، فيحمل على الوسط، ولم يبين كيفية الأصابع هل هو يفرق بين الأصابع هكذا أو يضم؟ وهل هو يقول هكذا كأنه طائر، أو يقول هكذا؟ يفهم هذا من أحاديث أخرى غير هذا.
"وإذا ركع أمكن يديه من ركبتيه" يعني: ضم يديه على ركبتيه حتى تتمكن اليدان من الركبتين، وقد عبر الفقهاء عن ذلك بكونه يقبض ركبتيه.
"ثم هصر ظهره" هصر: يعني نزل، وضده أن يقوس الظهر وهنا تقويس الظهر، وهصر الظهر ومساواته مع الرأس، المشروع: الثاني، أن يهصر ظهره ويساويه مع رأسه، أما أن يحتودب فلا، وقد جاء في الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم يهصر ظهره ويجعل رأسه حياله حتى لو صب عليه الماء لاستقر من شدة المساواة. بعض الناس تجده يقوس ظهره، وبعض الناس يعدل ظهره لكن يرفع رأسه وظهره، وبغض الناس يهصر ظهره ورأسه حتى ينزل كثيرًا، ولكن الأمر في ذلك واسع، يعني: كله جائز وكله مجزيء، لكن خير الهدى هدي محمد صلى الله عليه وسلم، اعرف كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يركع واركع مثله.
"فإذا رفع رأسه استوى حتى يعود كل فقار مكانه" إذا رفع يعني: من الركوع. "استوى" يعني: اعتدل، والاستواء في الأصل بمعنى الكمال، ويطلق على معان كثيرة حسب ما يتقيد به، فإن جاء مطلقًا فهو بمعنى الكمال، ومنه قول الله- تبارك وتعالى:{ولما بلغ أشده واستوى} [القصص: 14]. أي: كمل في العقل وذلك ببلوغه أربعين سنة.
الثاني: ويأتي مقيدًا بـ "على" ومنه قوله –تبارك وتعالى: {وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون لتستوأ على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه} [الزخرف: 12 - 13]. فيكون بمعنى: "على"، ومنه قوله تعالى:{الرحمان على العرش استوى} [طه: 5]. أي: علا على العرش.
الثالث: وتأتي مقيدة بـ "إلى" نقول: "استوى إلى كذا" ومعناه: قصد إلى كذا على وجه تام في الإرادة والقدرة، "استوى إلى كذا" أي: انتهى إليه على وجه تام من الإرادة والقدرة، ومنه قول الله- تبارك وتعالى:{ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سموات} [البقرة: 29]. على أحد التفسيرين.
الرابع: أن يقيد بالواو فتكون بمعنى التساوي، نقول: استوى فلان والباب، يعني: تساوى مع الباب، "استوى فلان والسقف" هذا في الغالب، ومنه قولهم:"استوى الماء والخشبة" يعني: تساوى مع الخشبة، ويسمون هذه (الواو) واو المعية وتنصب ما بعدها يسمى مفعولًا معه، وبالمناسبة نذكر لكم بيتًا في المفاعيل يقول:
إن المفاعيل خمس مطلق وبه
…
وفيه معه له فانظر إلى المثل
ضربت ضربا أبا عمر غداة أتى
…
وسرت والنيل خوفًا من عقابك لي
"ضربت ضربًا" يعني: مفعولًا مطلقًا، وإن شئت فقل: مصدرًا، "أبا عمرو" مفعولًا به، "غداة أتى" مفعولًا فيه، و "سرت والنيل" مفعولًا معه، "خوفًا من عقابك لي" مفعولًا لأجله.
يقول: "استوى حتى يعود كل فقاٍر مكانه" فقار يعني: فقرات الظهر، إذا اعتدل الإنسان بعد الركوع عادت كل فقرة إلى مكانها.
"فإذا سجد وضع يديه غير مفترش ولا قابضهما" إذا سجد وضع يديه على الأرض "غير مفترش" لا يفرش الذراعين بل ينصب الذراعين، "ولا قابضهما" أي" قابض يديه؛ يعني: يضمهما إلى صدره بل يفرج؛ لأن هذا أقوم وأنشط، واستقبل بأطراف أصابع رجليه القبلة، إذن يكون سجوده بالنسبة للرجلين على صدور القدمين؛ لأنه لا يتم استقبال أطراف أصابع القبلة إلا إذا كان على الصدور، ولهذا قال النووي رجمه الله: ينبغي إذا سجد أن ينصب قدميه، يعني: يظهر حتى تتجه الأصابع إلى القبلة.
"وإذا جلس في الركعتين جلس على رجله اليسرى ونصب اليمنى" إذا جلس في الركعتين، يعني: في التشهد الأول أو الأخير في الصلاة الثنائية، لأن الأخير في الصلاة الثنائية جلوس في الركعتين.
"جلس على رجله اليسرى ونصب اليمنى" كيف يجلس على اليسرى؟ يجعل ظهرها إلى الأرض وبطنها إلى آليته، فيجلس عليها وينصب اليمنى يستقبل بأطراف أصابعها القبلة ويجعلها منصوبة.
"وإذا جلس في الركعة الأخيرة قدم رجله اليسرى ونصب الأخرى وقعد على مقعدته" قدمها يعني: أخرجها من يمينه، وليس المعنى: قدمها إلى الأمام، المعنى: أنه يقدمها إلى الجنب، "وينصب الأخرى" أي: اليمنى وجلس على مقعدته.
هذا الحديث ذكر فيه عدة صفات لصلاة النبي صلى الله عليه وسلم منه: مشروعية التكبير لقوله: "إذا كبر"، وهذه تكبيرة الإحرام، وحكمها أنها ركن لا تنعقد الصلاة إلا بها، فلم أن الإنسان نسى ثم استفتح وقرأ الفاتحة بدون تكبير فصلاته لا تصح، لا فرضًا ولا نفلًا.
ولو أتى بثناء غير التكبير؛ فإن قال: الله أعظم، الله أجل، الله أعلم. هل يصح؟ الجواب: لا يصح؛ لأن العبادات توفيقية، فلو قال: الله أعلم، الله أجل فقد عمل عملًا ليس عليه أمر الله ورسوله فيكون مردودًا.
إذن لابد أن يقول المصلي: "الله أكبر"، لو قال:"الله أكبر" لم يصح لأمرين:
أولًا: لأنه مخالف للنص فهو عمل ليس عليه أمر الله ورسوله.
ثانيًا: لأنه دون قوله: الله أكبر، لأن معنى الله أكبر يعني: أكبر من كل شيء، لكن "الله أكبر" هو بمنزلة قول القائل: هذا ولدي الأكبر، فلا يدل على أنه أكبر من كل شيء.
ومن فوائد هذا الحديث: أنه ينبغي رفع اليدين إلى المنكبين، وليس مفرقًا بين أصابعه، بل الأصابع مضمومة متجهة إلى القبلة. فما هي الحكمة من هذا الرفع؟
قال بعض أهل العلم: الحكمة الإشارة إلى رفع الحجاب بينك وبين الله لأن الإنسان في الدنيا غافل، فإذا أقبل على الصلاة أقبل على الله، فكأنه يرفع الحجاب بينه وبين ربه هذه واحدة.
ثانيًا: أنه زينة للصلاة، وهذا أمر مشاهد؛ ولو أنك تكبر بدون رفع تشعر بأن الصلاة ناقصة فهو زينة للصلاة وكمال، ولهذا كان مشروعًا في كل تكبيرات الجنازة؛ لأنه يحصل به الفرق بين أركان صلاة الجنازة يعني: الفرق الظاهر الحسي، وقد جاءت السنة- والحمد لله- بذلك أنك ترفع في صلاة الجنازة في كل التكبيرات.
ومن فوائد هذا الحديث: أنه يسن للمصلي إذا ركع أن يمكن يديه من ركبته، يعني: يثبت يديه على ركبته كالقابض عليهما، فلو جعل يديه تتدلى وهو راكع لم تحصل له السنة، ولكن الركوع مجزيء، وكذلك لو أنه مس الركعتين مسا دون أن يمكن اليدين فإن الركوع مجزيء لكن لم يحصل له السنة.
ومن فوائد هذا الحديث: أنه ينبغي للراكع أن يهصر ظهره لا يرفع فيحتودب بل يصهره، وفي حديث عائشة "أنه صلى الله عليه وسلم لم يشخص رأسه ولم يصوبه" يعني: لم يرفعه ولم ينزله، وعلى هذا فيكون مساويًا لظهره تمامًا، وهذا هو الأفضل، فإن احتودب أو نزل أكثر أو أرتفع فالركوع مجزيء لكن فاتت السنة.
ومن فوائد هذا الحديث: أنه لابد في الرفع من الركوع أن يطمئن حتى تعود الفقرات إلى محلها وقد سبق في حديث أبي هريرة أنه لابد من الطمأنينة، فلو لم يفعل، ورفع ثم نزل ساجدًا فصلاته غير صحيحة.
ومن فوائد هذا الحديث: أن السنة عند السجود ألا تفترش الذراعين، لقوله:"غير مفترض"، بل قد جاء النهي في ذلك، فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يفترض الرجل ذراعيه في السجود افتراض السبع، ويعني السبع: الكلب، والكلب إذا ربض وشاهدته وجدته قدم ذراعيه وبسطهما على الأرض.
ومن فوائد هذا الحديث: أنه ينهي الإنسان عن التشبيه بالحيوان لاسيما في العبادة، ولم
يأت التشبه بالحيوان إلا في مقام الذم، فلننظر من الذين شبهوا بالحمار؟ اليهود الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها، فشبههم الله بالحمار الذي يحمل أسفارًا، أي: كتبًا، وهل يمكن أن ينتفع الحمار بالكتب إذا كانت على ظهره؟ لا يمكن، وجاء التشبيه بالحمار، لأنه أبلد الحيوانات، وكذلك أيضًا شبه بالحمار الرجل يتكلم يوم الجمعة والإمام يخطب كما في المسند أن الذي يتكلم يوم الجمعة والإمام يخطب كالحمار.
من الذي شبه بالكلب؟ الذي آتاه الله العلم ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه، ولم يتبع ما آتاه الله من العلم فهذا كمثل الكلب عليه يلهث أو تتركه يلهث، وكذلك في الذي يرجع في هبته كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه، ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن نقٍر كنقر الغراب، يعني: في الصلاة.
فالمهم أن بني آدم كرمهم الله عز وجل وفضلهم على كثير ممن خلق، فلا ينبغي أن يضعوا أنفسهم موضعًا غير لائق بهم.
ومن فوائد هذا الحديث: أنه ينبغي للساجد أن يقبض يديه إلى أضلاعه لقوله: "غير منقوش ولا قابض".
فإن قال قائل: أرأيتم لو كان المكان ضيقًا كما يوجد في مواسم الحج والعمرة هل نقول: فرج أو لا؟
لا، لماذا؟ لأنه يؤذي جاره، وترك السنة من أجل دفع الأذية أولى من الأذية.
أسئلة:
- ما معنى قوله: "إذا كبر جعل يديه حذو منكبيه"؟
- هل هذا الرفع سنة أو واجب؟
- ما معنى قوله: " غير مفترش ولا قابضهما".
- هل يستثنى من الإبعاد شيء أي الذراعين؟
- ما معنى قوله: "جلس على رجله اليسرى ونصب اليمنى"؟
- "وإذا جلس في الركعة الأخيرة" ما المراد بقوله: "في الركعة الأخيرة"؟
؟ ؟ للفوائد:
من فوائد حديث أبي حميد: أنه ينبغي للساجد أن يستقبل بأطراف أصابع رجليه القبلة، أطراف الأصابع هي الأصابع، وعلى هذا فيهصر رجله حتى تستقبل الأصابع القبلة.
وهل يجزئ أن يضع أطراف الأصابع على الأرض بدون استقبال القبلة؟
الجواب: نعم يجزئ لعموم قوله في حديث ابن عباس: "أمرت أن أسجد على سبعة أعظم" إلى أن قال: "أطراف القدمين"، لكن السنة أن تستقبل الأصابع القبلة.
وماذا تكون الرجلان في هذه الحال أمفرقتين أم مضمومتين؟
قال بعض أهل العلم: تكون مفرقتين، حتى حدد بعضهم أن ذلك بمقدار شبر، ومعلوم أن التحديد يحتاج إلى توقيف، ولو قال هذا القائل: إنه يفرج بين رجليه حسب الطبيعة والناس يختلفون: بعض الناس عريض وبعضهم دقيق، يعني: لو قيل: إنه يجعل الرجلين على طبيعتهما لا يضم بعضهما إلى بعض ولا يفرج، لكن كونه يحدد بالشبر لا، ومع هذا نقول: إن ظاهر السنة أن يضم بعضهما، أي: بعض القدمين إلى بعض؛ لأنه هكذا جاء في صحيح ابن خزيمة رحمه الله، وأيضًا جاء في صحيح مسلم عن عائشة لما فقدت النبي صلى الله عليه وسلم وطلبته وجدته ساجدًا ناصبًا قدميه، فوقعت يدها عليهما منصوبتين، وهذا يدل على أنهما مضمومتان وإلا لما أحاطت يدا المرأة بهما، وأبدى بعض العلماء الحكمة في ذلك وهو أن هذا أستر للعورة فيما لو كان الثوب قصيرًا، فإن صحت هذه العلة فهي، وإن لم تصح فالسنة هي المتبعة لقوله:"استقبل بأصابع رجليه القبلة".
ومن فوائد هذا الحديث: أنه إذا جلس في التشهد الأول جلس مفترشًا، والافتراش: أنه يجلس على اليسرى وينصب اليمنى، وهي يطيل هذا الجلوس أو لا؟
قال بعضهم: إنه يطيل هذا الجلوس فيقرأ التشهد الأول والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم والتبريك، والأرجح أنه لا يفعل هذا، وأن يقتصر على قوله:"أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله"؛ لأن محل الدعاء الطويل، إنما هو التشهد الأخير، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن مسعود لما ذكر التشهد إلى قوله:"وأن محمدًا عبده ورسوله" قال: "ثم ليتخير من الدعاء ما شاء".
وذكر ابن القيم رحمه الله في "زاد المعاد" أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخفف هذا التشهد، حتى كأنما جلس على الرضف يعني: الحجارة الحامية، لكن الحديث هذا فيه نظر؛ لأن بعض أهل العلم ضعفه، فالأرجح أنه لا يصلى على النبي صلى الله عليه وسلم في هذا التشهد كما هو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله.
لو جلس على غير هذه الصفة؛ يعني: لو جلس متربعًا يجوز أو لا؟ نعم يجوز، لكن لا ينبغي إلا لعذر، ولو جلس مقعيًا فسيأتي الكلام عليه أنه مكروه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنه.
ومن فوائد هذا الحديث: أنه في الركعة الأخيرة يتورك، وصفته كما جاء في حديث أبي حميد أنه يقدم رجله اليسرى، أي: يخرجها من يمينه، وليس المعنى يمدها أمامه، ولكن يقدمها، أي: لا يقعد عليها، بل يقدمها حتى تخرج من يمينه، وينصب اليمنى ويجلس على مقعدته، هذا هو التورك، والحكمة من مونه يجلس هذا الجلوس لها وجهان:
الوجه الأول: الفرق بين التشهدين الأول والثاني، حتى إذا دخل أحد ووجده متوركًا عرف أنه في التشهد الأخير هذه واحدة.
الوجه الثاني: أن مدته أطول من التشهد الأول، فكان الأيسر أن يتورك ليتورك على الأرض فيكون طمأنينته على الأرض أكثر.
هذا التورك معروف أنه في الثلاثية والرباعية، لكن هل يتورك في الصلاة الثنائية في التشهد الأخير؟ في هذا خلاف بين أهل العلم بعضهم قال: يتورك؛ لأن طول الجلوس موجود حتى في الثانية فيتورك، وبعضهم قال: لا يتورك، وهذا هو الأرجح، لأنه وإن وجدت العلة الأولى وهي طول الجلوس، فقدت العلة الثانية وهي الفرق بين التشهدين، فالصحيح: أن التورك إنما يكون في التشهد الأخير، في كل صلاة فيها تشهدان وهي الثلاثية والرباعية والوتر إذا أوتر بتسع، فإنه سيجلس في الثامنة ويتشهد ولا يسلم، ثم يقوم إلى التاسعة ويتشهد، فهنا نقول: تورك؛ لأن في هذه الصلاة تشهدين.
وهل هناك صفة للتورك غير هذه؟ نعم، هناك صفة أخرى، وهي: أن يفرش رجليه اليمنى واليسرى ويخرجهما من يمينه، وهذه أحيانًا تكون أريح للإنسان؛ لأن بعض الناس يصعب عليه أن ينصب اليمنى مع التورك ويكون إسدالهما على اليمنى أسهل فيتورك.
هذا التورك فيه صفة ثالثة أنه يسدلهما من اليمين ويجعل اليسرى بين الفخذ اليمنى وساقها كالمعلق. هذه أيضًا أحيانًا تكون مريحة للإنسان، لو كان الإنسان في تعب فهذه أريح من غيرها، لأنها تشد العضلة عضلة الساق، وعضلة الرجل اليسرى، فعلى كل حال هذه مسألة ثانوية، أعني: مسألة الراحة وعدم الراحة، المهم: السنة ثلاث صفات للتورك فأيهما تختار؟ سبق لنا أن القول الراجح في هذه المسألة: أن تعمل بهذه تارة وبهذه تارة، وبينا أن لذلك ثلاث فوائد:
الفائدة الأولى: تمام التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم.
الثانية: أن ذلك أحضر لقلب العبد؛ لأنه إذا عدل عما كان يألفه من قبل فسيعدل بنية حضور القلب.
الثالثة: أن في ذلك حفظًا للسنة؛ لأنه إذا اقتصر على صفة وترك الأخرى فيها لأجزأه ذلك؛ لأن الكل وارد، وقد سبق أن قلنا: إن الأمر فيه واسع، ولكن الأفضل أن نعمل هذه السنة وهذه مرة أخرى، هذه ثلاث فوائد وأهمها التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم.