المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌آداب زيارة القبور: - فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام ط المكتبة الإسلامية - جـ ٢

[ابن عثيمين]

فهرس الكتاب

- ‌7 - باب صفة الصلاة

- ‌صفة الاستفتاح ومعانيه:

- ‌الاستعاذة ومعناها:

- ‌أوضاع منهي عنها في الصلاة:

- ‌مواضع رفع اليدين وصفته:

- ‌صفة وضع اليدين في القيام:

- ‌حكم قراءة الفاتحة:

- ‌هذه الروايات فيها فوائد:

- ‌أحكام البسملة:

- ‌شروط كون قول الصحابي حجة:

- ‌التأمين وأحكامه:

- ‌متى تسقط الفاتحة:

- ‌كيفية القراءة في الصلاة:

- ‌مقدار القراءة في صلاتي الظهر والعصر:

- ‌قدر قراءة النبي صلى الله عليه وسلم في المغرب والعشاء والفجر:

- ‌صفة القراءة في فجر الجمعة:

- ‌هدي النبي صلى الله عليه وسلم في تدبر القراءة في الصلاة:

- ‌أذكار الركوع والسجود ومعانيها:

- ‌تكبيرات الانتقال وأحكامها:

- ‌أذكار القيام من الركوع ومعانيها:

- ‌هيئة السجود وأحكامه:

- ‌صفة الأصابع في السجود والركوع:

- ‌الجلوس في محل القيام وأحكامه:

- ‌الدعاء بين السجدتين:

- ‌حكم جلسة الاستراحة:

- ‌القنوت وأحكامه:

- ‌دعاء القنوت:

- ‌حكم تقديم اليدين قبل الركبتين للسجود:

- ‌صفة وضع اليدين في التشهد:

- ‌صيغ التشهد ومعانيها:

- ‌صفة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم:

- ‌الدعاء بعد التشهد وأحكامه:

- ‌صفة التسليم وأحكامه:

- ‌الأذكار دبر الصلوات ومعانيها:

- ‌وجوب تعلم صفة صلاة الرسول صلى الله عليه وسلم:

- ‌صلاة المريض:

- ‌8 - باب سجود السهو وغيره من سجود التلاوة والشكر

- ‌صفة سجود السهو:

- ‌السجود للسهو بعد السلام وحكمه:

- ‌حكم التشهد لسجدتي السهو:

- ‌حكم سجود السهو قبل الكلام:

- ‌السهو مبني على غلبة الظن:

- ‌سقوط سجود السهو:

- ‌حكم سهو الإمام والمأموم:

- ‌سجود التلاوة:

- ‌حكم سجود التلاوة:

- ‌أحكام سجود التلاوة:

- ‌بعض مواضع سجود التلاوة في القرآن:

- ‌حكم سجود القارئ والمستمع والسامع:

- ‌التكبير لسجود التلاوة:

- ‌9 - باب صلاة التطوع

- ‌السنن الرواتب:

- ‌فضل ركعتي الفجر:

- ‌النفل قبل العصر والمغرب:

- ‌التخفيف في ركعتي الفجر والاضطجاع بعدها:

- ‌قيام الليل:

- ‌صلاة الوتر:

- ‌صفات صلاة الوتر:

- ‌الحث على قيام الليل والوتر:

- ‌لا وتران في ليلة:

- ‌ما يقرأ في الوتر:

- ‌صلاة الضحى:

- ‌10 - باب صلاة الجماعة والإمامة

- ‌حكم صلاة الجماعة:

- ‌وجوب الحضور للجماعة في المسجد:

- ‌عدم سقوط الجماعة عن الأعمى:

- ‌صلاة المفترض خلف المتنقل:

- ‌حكم الصلاة قيامًا خلف إمام قاعد:

- ‌مراعاة حال المأمومين في الصلاة:

- ‌إمامة الصغير المميز:

- ‌يقدم في الإمامة الأكثر قرآنًا:

- ‌تسوية الصفوف والمقاربة بينها:

- ‌أفضلية الصف الأول للرجال:

- ‌صلاة المرأة والصغير خلف الإمام:

- ‌حكم صلاة المنفرد خلف الصف:

- ‌المشي إلى الصلاة بالسكينة والوقار:

- ‌استحباب الكثرة في الجماعة:

- ‌حكم إمامة المرأة لأهل دارها:

- ‌الدخول مع الإمام على أي حال أدركه:

- ‌11 - باب صلاة المسافر والمريض

- ‌حقيقة السفر ومعناه:

- ‌قصر الصلاة في السفر وحكمه:

- ‌مسائل مهمَّة:

- ‌الصلوات التي لا تقصر في السفر:

- ‌الفطر في السفر وحكمه:

- ‌عدد الأيام التي يجوز فيها القصر:

- ‌حكم الجمع بين الصلاتين في السفر:

- ‌حالات جمع التقديم والتأخير:

- ‌حالات الجمع بين الصلاتين في الحضر:

- ‌الصلوات التي لا يجمع بينها:

- ‌صلاة المريض وكيفيتها:

- ‌12 - باب صلاة الجمعة

- ‌التحذير من ترك الجمع:

- ‌وقت صلاة الجمعة:

- ‌العدد الذي تنعقد به الجمعة:

- ‌حكم إدراك ركعة من الجمعة:

- ‌حكم الخطبة قائمًا:

- ‌صفة خطبة النبي صلى الله عليه وسلم:

- ‌استحباب طول الصلاة وقصر الخطبة:

- ‌قراءة سورة (ق) في الخطبة:

- ‌حكم تحية المسجد والإمام يخطب:

- ‌ما يقرأ في الجمعة والعيدين:

- ‌صلاة النفل بعد الجمعة وأحكامها:

- ‌حكم فصل الفريضة عن النافلة:

- ‌فضل الاغتسال والتطيب يوم الجمعة:

- ‌ساعة الإجابة يوم الجمعة:

- ‌استغفار الخطيب للمؤمنين:

- ‌حكم قراءة آيات من القرآن في الخطبة:

- ‌الذين تسقط عنهم الجمعة:

- ‌13 - باب صلاة الخوف

- ‌شروط صلاة الخوف:

- ‌الصفة الأولى لصلاة الخوف:

- ‌الصفة الثانية لصلاة الخوف:

- ‌الصفة الثالثة لصلاة الخوف:

- ‌الصفة الرابعة لصلاة الخوف:

- ‌الصفة الخامسة لصلاة الخوف:

- ‌14 - باب صلاة العيدين

- ‌حكم صلاة العيد في اليوم الثاني إذا ترك لعذر:

- ‌من السنة أكل تمرات قبل الخروج لعيد الفطر:

- ‌حكم خروج النساء لصلاة العيد:

- ‌مشروعية الخطبة بعد صلاة العيد:

- ‌صلاة العيد ركعتان بلا نفل:

- ‌صلاة العيد بلا أذان ولا إقامة ولا نفل:

- ‌صلاة العيد في المصلى:

- ‌التكبير في صلاة العيد:

- ‌قراءة النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة العيد:

- ‌مخالفة الطريق والتكبير في الطريق:

- ‌15 - باب صلاة الكسوف

- ‌مشروعية صلاة الكسوف والدعاء فيها:

- ‌القراءة في صلاة الكسوف جهرًا:

- ‌صفة صلاة الكسوف:

- ‌الدعاء عند هبوب الريح:

- ‌حكم الصلاة للزلازل:

- ‌16 - باب الاستسقاء

- ‌صفة صلاة الاستسقاء والخطبة لها:

- ‌الدعاء في صلاة الاستسقاء:

- ‌تحويل الرداء في الاستسقاء والجهر بالقراءة:

- ‌مشروعية رفع اليدين في الاستسقاء:

- ‌أقسام التوسل وأحكامه:

- ‌ما يفعل عند هطول المطر:

- ‌الدعاء عند رؤية المطر:

- ‌مشروعية الاستسقاء في الأمم السابقة:

- ‌17 - باب اللباس

- ‌تحريم الزنا والخمر والغناء:

- ‌تحريم لبس الحرير والجلوس عليه:

- ‌مقار ما يباح من الحرير:

- ‌حكم لبس الحرير لعذر أو مرض:

- ‌إباحة الذهب والحرير للنساء والحكمة منها:

- ‌حبُّ الله عز وجل لرؤية أثر نعمته على عبده:

- ‌النهي عن لبس القسيِّ والمعصفر:

- ‌جواز كف الثياب بالحرير وضوابطه:

- ‌كتاب الجنائز

- ‌الترغيب في تذكر الموت:

- ‌كراهة تمني الموت:

- ‌تلقين المحتضر الشهادة:

- ‌حكم قراءة يس عند المحتضر:

- ‌تغميض الميت:

- ‌حكم تسجية الميت:

- ‌حكم تقبيل الميت:

- ‌الإسراع في قضاء دين الميت:

- ‌حكم تحنيط الميت المحرم:

- ‌حكم تجريد الميت عن تغسيله:

- ‌صفة الغسل:

- ‌تكفين الميت وأحكامه:

- ‌استحباب الكفن الأبيض:

- ‌استحباب إحسان الكفن:

- ‌هل يجمع بين الرجال في الدفن، ومن يقدَّم:

- ‌كراهة المغالاة في الكفن:

- ‌حكم الصلاة على المقتول في حد:

- ‌حكم الصلاة على قاتل نفسه:

- ‌حكم الصلاة على القبر:

- ‌الصلاة على الغائب:

- ‌موقف الإمام في الصلاة على المرأة:

- ‌حكم الصلاة على الميت في المساجد:

- ‌عدد التكبير في صلاة الجنازة:

- ‌قراءة الفاتحة في صلاة الجنازة:

- ‌الدعاء للميت في صلاة الجنازة:

- ‌الدعاء للمسلمين في صلاة الجنازة:

- ‌الإخلاص في الدعاء للميت:

- ‌استحباب الإسراع بالجنازة:

- ‌فضل اتباع الجنائز والصلاة عليها:

- ‌النهي عن اتباع النساء للجنازة:

- ‌كيفية إدخال الميت القبر:

- ‌الميت يتأذى بما يتأذى به الحي:

- ‌اللحد والشق في القبر:

- ‌النهي عن البناء على القبور وتجصيصها:

- ‌حكم تلقين الميت عند القبر:

- ‌زيارة النساء للقبور:

- ‌جواز البكاء على الميت:

- ‌النهي عن الدفن ليلًا:

- ‌استحباب إيناس أهل الميت:

- ‌آداب زيارة القبور:

- ‌النهي عن سب الأموات:

الفصل: ‌آداب زيارة القبور:

‌آداب زيارة القبور:

567 -

وعن سليمان بن بريدة عن أبيه رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلِّمهم إذا خرجوا إلى المقابر أن يقولوا: السَّلام عليكم أهل الدِّيار من المؤمنين والمسلمين، وإنَّا إن شاء الله تعالى بكم لاحقون، نسأل الله لنا ولكم العافية". رواه مسلمٌ

المعروف أن "كان" إذا كان خبرها مضارعًا فإنها تفيد الاستمرار غالبًا، وقوله:"يعلمهم إذا خرجوا"، كلمة "إذا خرجوا" ليست متعلقة بـ"يعلمهم"، ولكنها متعلقة بـ"يقولوا"، والتقدير: كان يعلمهم أن يقولوا إذا خرجوا، ويحتمل أنها متعلقة بـ"يعلمهم"، ويكون تعليم النبي صلى الله عليه وسلم إيَّاهم حين يخرجون معه إلى المقبرة، لكن الاحتمال الأول أقرب.

قوله: "السلام عليكم أهل الديار"، جملة خيرية، و"السلام" بمعنى: السلامة من كل الآفات، ويدخل فيها السلامة من عذاب القبر.

وقوله: "أهل الديار""أهل" منصوب على أنها منادى، وحرف النداء محذوف؛ أي: يا أهل الديار، و"الديار" هي: محل الإقامة، فديار الناس في الحياة الدنيا هي القصور، وديار أهل المقابر القبور؛ ولهذا قال:"أهل الديار".

وقوله: "من المؤمنين والمسلمين" هذه "من" بيانية أي: بيان لأهل لا للديار، وعطف المسلمين على المؤمنين يفيد التغاير؛ لأن هذا هو الأصل، والفرق بينهم أن المؤمن أكمل حالًا من المسلم؛ لأن المؤمن استسلم لله تعالى ظاهرًا وباطنًا، والمسلم استسلم ظاهرًا، وقد يكون عنده تقصير في الباطن؛ ولهذا قال الله تعالى:{قالت الأعراب آمنَّا قل لَّم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولمَّا يدخل الإيمان في قلوبكم} [الحجرات: 14]. ما دخل إلى الآن لكنه حري بالدخول؛ لأن "لمَّا" تفيد النفي مع قرب الوقوع.

وقوله: "إنا إن شاء الله""إن" للتوكيد، وخبرها "لاحقون"، وجملة "إن شاء الله" معترضة بين اسم إن وخبرها.

وقوله: "نسأل الله لنا ولكم العافية"، أول ما يتبادر إلى الأذهان عند أكثر الناس أنها عافية للبدن من الأسقام، ولكنها في الواقع: عافية البدن من الأسقام وعافية القلب كذلك من الأمراض؛ لأن مرض القلب يجب على الإنسان أن يسأل السلامة منه، فهو أشد من أمراض البدن، العافية لهم أي: للمؤمنين الأحياء بالنسبة لعافية القلوب للموتى غير واردة هنا، لماذا؟ لأنهم ماتوا فليس لهم عمل، لكن عافية الأبدان والأرواح واردة، من أي شيء يعافون؟ من العذاب.

ص: 625

نرجع للحديث فنقول: كون الرسول صلى الله عليه وسلم يعلِّم أصحابه إذا خرجوا إلى المقابر أن يقولوا هكذا يدل على اهتمام الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا الدعاء، وثانيًا: ينبغي للمسلم أن يدعو به إذا خرج إلى المقبرة، ولكن هل إذا خرج بمجرد خروجه من بيته أو حتى يصل؟ لا شك أن المراد: حتى يصل إلى المقبرة، ومنها قوله:"السلام عليكم أهل الديار"، وعندي أي: في نسختي في الشرح يقول: "السلام على أهل الديار"، فإذا صحّ اللفظ بالخطاب فإنه يحمل على أحد وجهين: إما أن الأموات يسمعون ليصح الخطاب، وإما أنه نزّل استحضاره إيّاهم كأنما يشاهدهم نزّله منزلة من يخاطب، وإن كانوا لا يسمعون بدليل أن الصحابة كانوا في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وبعد موته يقولون:"السلام عليك أيها النبي" فهل الرسول صلى الله عليه وسلم حاضر عندهم، وكذلك إلى الآن عندما نقول ذلك هل الرسول حاضر؟ لا؛ لأنهم يسلمون عليه في أقصى المدينة وفي بلاد أخرى، فهم لا يخاطبونه مخاطبة الحاضر، ولكن يقول شيخ الإسلام: إن هذا من باب قوة استحضار القلب لهذا المدعو له كأنه أمامك تخاطبه، فإذا كان الاحتمال هذا واردًا على الاحتمال الأول فإنه لا يمكن أن تجزم بأن أهل المقابر يسمعون سلام الناس إذا سلّموا عليهم ما دام الاحتمال واردًا؛ لأن المعروف أنه إذا حصل الاحتمال سقط الاستدلال؛ لأنه ما يتعين أن يكون دالًا على ذلك.

ويستفاد من هذا الحديث: أن المقابر ديار لقوله: "أهل الديار"، ولكنها ديار قوم لا يتزاورون؛ لأنهم أموات وهي دار كل حي، فإن مآل كل إنسان حي إلى هذه الدار، ومع هذا فهذه الدار ليست دار قرار، حتى القبور ليست دار قرار، وإنما هي زيارة؛ ولهذا سمع أعرابي رجلًا يقرأ قول الله تعالى:{ألهاكم التكاثر (1) حتَّى زرتم المقابر} [التكاثر: 1، 2]. فقال: والله ما الزائر بمقيم، انظر سبحان الله! أعرابي [يفهم] أن الزائر ليس بمقيم، ومعناه: أن هناك شيئًا آخر وراء هذه المقابر وهو كذلك.

ويستفاد من الحديث: الفرق بين الإيمان والإسلام وهذا موضع اختلف الناس فيه، فمنهم من قال: إن الإسلام هو الإيمان، ومنهم من فرّق بينهما، وسبب هذا الاختلاف ظواهر بعض النصوص، فإن بعض النصوص يفهم منها أن الإسلام والإيمان شيء واحد، مثل قوله تعالى:{فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين (35) فما وجدنا فيها غير بيتٍ من المسلمين} [الذاريات: 35، 36]. فدل هذا على أن الإيمان والإسلام واحد، وقال بعض أهل العلم- وهو الحق-: إن الإيمان غير الإسلام، ودليل ذلك قوله تعالى:{قالت الأعراب آمنَّا .... } [الحجرات: 14] الآية.

وقوله في حديث جبريل: أخبرني عن الإسلام؟ فقال: أن تشهد .... الخ. ثم قال: أخبرني عن الإيمان؟ فدل ذلك على أن الإيمان غير الإسلام وهذا هو الحق، لكن إذا انفرد أحدهما دخل فيه الآخر، فقوله تعالى:{ورضيت لكم الإسلام} [المائدة: 3]. وقوله: {إنَّ الذين عند الله

ص: 626

الإسلام} [آل عمران: 19]. يدخل فيه الإيمان، وكذلك قوله تعالى:{واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات} [محمد: 19]. يدخل فيها المسلمون، أما إذا قرنا فإن الإيمان شيء والإسلام شيء آخر، والجواب عن الآية الكريمة في قصة لوط:{فأخرجنا من كان فيها .... } الآية. أن الله لم يقل: "فما وجدنا فيها غير المسلمين"، قال:"غير بيت من المسلمين"، وهذا صحيح، فإن بيت لوط بيت إسلام؛ لأن امرأة لوط لم تكن تعلن الكفر كما قال تعالى:{فخانتاهما} أي: تظهر أنها مسلمة، فالبيت بيت إسلام، لكن الذي نجا: المؤمن من هذا البيت.

ويستفاد من الآية فائدة عظيمة جدًّا: وهي أن ما غلب عليه حكم الإسلام فهي بلد إسلام وإن كان فيها كفار ولو كثروا.

وقوله: "وإنا إن شاء الله بكم لاحقون" يستفاد منه: أن الحي سيموت، ولكن لهذه الجملة غرض وهي تذكير الإنسان نفسه بمآله وأنه سيلحق بهؤلاء الأموات، ففيه تعليق بالمشيئة سيأتي إن شاء الله.

ذكرنا من قبل قوله: "السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين" ذكرنا أنه قال: "من المؤمنين والمسلمين"؛ لأن الأموات في الواقع منهم مؤمن ومنهم مسلم، فكامل الإيمان مؤمن المحافظ على ما أمره الله والمبتعد عما نهى الله، ومن كان دون ذلك فهو مسلم، ولا شك أن في المقابر من هو مؤمن ومن هو مسلم؛ ولهذا قال:"من المؤمنين والمسلمين"، قال:"وإنا إن شاء الله تعالى بكم لاحقون"، و"إنا" الضمير يعود على نفس القائل، أو عليه وعلى الأحياء الذين معه إن كان معه أحياء، أو من على الأرض الآن، المهم: أن هذا الضمير الذي هو ضمير المعظم نفسه أو ضمير ممن معه غيره صالح لهذا ولهذا.

وقوله: "إن شاء الله بكم لاحقون" هذا التعليق على جملة خبرية؛ لأن "إنا لاحقون" جملة خبرية ليس فيها إشكال، وهي جملة أيضًا معلومة متيقنة كلٌّ سيموت، فلماذا جاء التعليق "إن شاء الله"؟ اختلف العلماء في الجواب عن هذا، فقيل: إنه لمجرد الامتثال لقوله تعالى: {ولا تقولنَّ لشيءٍ إنِّي فاعلٌ ذلك غدًا (23) إلَّا أن يشاء الله} [الكهف: 23]. وهذا القول فيه نظر؛ لأن قوله: {ولا تقولنَّ لشيءٍ إنِّي فاعلٌ} إنما هو بالنسبة لما تفعله أنت، أما الموت فليس من فعلك وهو متحقق، لكن ما تفعله وهو مستقبل لا تقل: إني فاعله وتجزم أنك ستفعله؛ لأن الأمر بيد الله، فقل: إن شاء الله.

وقيل: إنها قيلت للتبرك، وهذا أيضًا فيه نظر؛ لأن مجرد التبرك بمثل هذا التعبير لا وجه له.

وقيل: إنها ذكرت تعليقًا بناء على الحال أو المكان، الحال يعني: أنتم متم على الإيمان والإسلام، فأقول: إن شاء الله باعتبار أنني أموت على ما متم عليه لا تعليقًا للموت؛ لأن الموت

ص: 627

سيكون، "وإنا بكم لاحقون" على الإيمان والإسلام لا على مفارقة الدنيا؛ لأنها لا تحتاج إلى تعليق المشيئة أو في المكان، لكن هذا لا يكون إلا لأهل بقيع الغرقد، أما غيرهم فإنه ليس له خصيصة، أما في البقيع فله خاصية، وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد".

وهذا الدعاء قد يكون شاملًا لكل من يدفن فيه، وقد يكون خاصًّا لمن كان في ذلك الوقت الذي دعا فيه الرسول صلى الله عليه وسلم، فيكون هنا "إن شاء الله" عائدًا إلى المكان، أما عوده إلى الحال فهو صالح لكل بلد، وقيل: إن التعليق هنا للتعليل، المعنى أننا بمشيئة الله لاحقون بكم، أي: أن موتنا يكون بمشيئة الله؛ ففيه تفويض الأمر إلى الله عز وجل، قالوا: والتعليق هنا يراد به: التحقيق مقرونًا بماذا؟ بمشيئة الله، فيكون ذكر التعليق من باب التعليل، كأنه قال: وإنا بمشيئة الله بكم لاحقون، قالوا: ومثل ذلك قوله تعالى: {لتدخلنَّ المسجد الحرام إن شاء الله آمنين} [الفتح: 27]. فإن هذا لا يتصور فيه إلا أن يكون من باب التعليل بالمشيئة وأن الأمور كلها بمشيئة الله عز وجل.

ثم قال: "نسأل الله لنا ولكم العافية" السؤال هنا سؤال استجداء؛ لأن السؤال إذا كان سؤال استفهام واستخبار فإنه يعدّى بـ"عن"، فتقول: سألت زيدًا عن كذا، وإذا كان السؤال سؤال استجداء فإنه يتعدى بنفسه، فيقال: سألت زيدًا كذا، وهنا الذي في الحديث من هذا الباب، المفعول الأول "الله"، والمفعول الثاني "العافية"، العافية للإنسان في الدنيا تكون من أمراض القلوب وأمراض الأبدان، والعافية للأموات تكون من العذاب الذي سببه مرض القلب، أمراض الأبدان يعرفها الأطباء الذين تعلموا هذه المهنة الطب الجسمي البدني، وأمراض القلوب يعرفها أهل العلم، وهي تدور على شيئين: شبهة، وشهوة، ففي قوله تعالى:{فلا تخضعن بالقول فيطمع الَّذي في قلبه مرضٌ} [الأحزاب: 32]. هذا مرض شهوة، وفي قوله تعالى عن المنافقين:{في قلوبهم مَّرضٌ فزادهم الله مرضًا} [البقرة: 10]. هذا شبهة، فالأمراض القلبية كلها لو تأملتها لوجدتها تدور على هذين المرضين: شبهة دواؤها العلم، وشهوة دواؤها العمل على صراط الله المستقيم، بألا يتبع الإنسان نفسه هواها بل ينظر إلى ما يرضي ربنا- سبحانه وتعالى فيقوم به ولو عصى نفسه ولو أهان نفسه ولو أذلها؛ لأن إهانة الإنسان نفسه لله عزٌّ ورق الإنسان لربه حرية.

إذن نقول: العافية بالنسبة للأموات هي العافية من آثار الذنوب التي هي أمراض القلوب، وأما بالنسبة لنا فمن أمراض الأبدان وأمراض القلوب.

فإن قلت: ولنا أيضًا يمكن أن يكون لنا عذاب على أعمالنا؟

قلنا: العذاب على أعمالنا في الدنيا لا يتجاوز هذين الأمرين؛ لأن الإنسان قد يعاقب على

ص: 628

الذنب بفساد قلبه- والعياذ بالله- سواء بشهوة أو شبهة، وقد يعاقب على الذنب بالآفات المادية كالنقص في الأموال والأنفس والثمرات.

نستفيد من هذا الحديث عدة فوائد: أولًا: نصح النبي صلى الله عليه وسلم لأمته، وذلك يؤخذ من قوله:"يعلمهم"، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم بلّغ البلاغ المبين.

ويستفاد منه أيضًا: مشروعية الدعاء لأهل القبور بما أرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم لأن الدعاء أحسنه وأجمعه وأنفعه ما جاء في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولكن مع هذا إذا دعوت أنت بغيره مما أباح الله فلا حرج.

ومن فوائد الحديث: جواز مخاطبة أهل المقابر، لقوله:"السلام عليكم".

فإن قلت: هذا مشكل، إذ كيف تخاطب أقوامًا قد ماتوا ورمُّوا؟

فالجواب: أننا علينا أن نفعل وليس علينا أن نقول: لم أمرنا الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك، ومن الجائز يسمعهم أن الله هذا السلام، كما أن من الجائز أن يكون الخطاب ليس للإسماع، وإنما لقوة استحضار الإنسان لهؤلاء الأموات كأنهم بين يديه يسلّم عليهم، ونظير ذلك قولنا:"السلام عليك أيها النبي"، وخطاب من لا يعقل الخطاب ممكن، فقد جرى عليه الناس، فهذا عمر يقول للحجر:"إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع- يعني: الحجر الأسود-، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبِّلك ما قبلتك". على أني لا أريد أن أقيس مسألة القبور بالحجر؛ لأن الحجر عندنا واضح أنه جماد وأنه لن يرد إلا على سبيل أن يكون آية أو كرامة، لكن أهل القبور أمرهم غيبي فقد يكونون يسمعون هذا الدعاء.

ومن فوائد الحديث: أن الإيمان والإسلام متباينان؛ لقوله: "من المؤمنين والمسلمين"، ووجه ذلك: أن الأصل في العطف التغاير، قد يكون تغايرًا بالذوات أو تغايرًا بالصفات، إلا ما قام الدليل على أنه ليس متغايرًا فيعمل به، وقد مرّ علينا مرات كثيرة أن الإيمان والإسلام إذا انفرد أحدهما شمل الآخر، وضربنا لذلك أمثلة.

ومن فوائد الحديث: أن القبور ديار أهل القبور لقوله: "أهل الديار"؛ وهو كذلك لأنها ديارهم، لكنهم أقوام متجاورون ولا يتزاورون.

ومن فوائد الحديث أيضًا: أنه ينبغي للإنسان أن يعلّق كل شيء بمشيئة الله، فإن كان أمرًا محتمل الوقوع فهو من باب التفويض، وإن كان أمرًا حتمي الوقوع فهو من باب التعليل يؤخذ من قوله:"وإنا إن شاء الله بكم لاحقون".

ص: 629

ومن فوائده: أنه ينبغي للإنسان أن يذكر نفسه بما يحثه على اغتنام الفرص؛ لقوله: "وإنا بكم لاحقون"، فإن الإنسان إذا قال هذا مطمئنًّا به فإنه يحدوه إلى العمل، ثم إن قوله:"إن شاء الله" تزيد من ذلك؛ لأن الأمر ليس إليه بل هو إلى الله، والله عز وجل لن يؤخر نفسًا إذا جاء أجلها، فهذا مما يزيدك حرصًا على اغتنام الوقت وعدم إضاعته.

ومن فوائد الحديث: أن المشروع أن يبدأ الإنسان بالدعاء بنفسه، يؤخذ هذا من قوله:"نسأل الله لنا ولكم العافية" لنا فبدأ بنفسه، وهذا يوافق عموم قول الرسول صلى الله عليه وسلم:"ابدأ بنفسك ثم بمن تعول"؛ لأن أقرب شيء إليك هو نفسك.

ومن فوائد الحديث: جواز الاقتصار في الدعاء، فهذا اقتصار وليس اختصارًا، فالاختصار هو: قلة الألفاظ مع شمول المعنى، فإذا قلت:"اللهم اغفر لي ذنبي كله دقه وجله سره وعلانيته وأوله وآخره"، فهذا بسط.

وإذا قلت: "اللهم اغفر لي ذنبي" هذا اختصار؛ لأنه شمل ما بسطت مع قلة اللفظ، أما الاقتصار فإنك تقتصر على بعض المعنى وتحذف الثاني، فهذا الفرق بين الاقتصار والاختصار، إذا قلت:"اللهم اغفر لي ولأخي" هذا اقتصار، وإذا قلت:"اللهم اغفر للمسلمين" هذا اختصار، وعلى هذا فقس.

ومن فوائد الحديث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كغيره من البشر محتاج إلى الله عز وجل، وإلى عافيته؛ لقوله:"نسأل الله لنا ولكم العافية"، هل يصلح هذا؟ لا؛ لأنه يعلم أما هو فسيأتي في الحديث القادم.

وهل يستفاد من الحديث مشروعية زيارة القبور؟ ظاهر اللفظ لا يدل على هذا، على كل حال إن أخذ من هذا الحديث فذلك المطلوب، وإن لم يؤخذ فمما سبق.

568 -

وعن ابن عبَّاس رضي الله عنه قال: "مرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بقبور المدينة، فأقبل عليهم بوجهه فقال: السَّلام عليكم يا أهل القبور، يغفر الله لنا ولكم، أنتم سلفنا ونحن بالأثر". رواه التِّرمذيُّ، وقال: حسنٌ.

هذا يستفاد منه عدة فوائد: أولًا: أنه يشرع هذا الذكر لمن مرّ بالمقبرة وإن لم يقصر الزيارة، حتى لو مررت عابرًا فإنك تقوله.

ويستفاد منه أيضًا: أنه إذا أراد أن يقوله عليه أن يستقبلهم بوجهه، ولكن هل يكون من اليمين أو من الشمال أو من الأمام أو من الخلف؟ حسب السير- أي: حسب الجهة التي تأتي منها-.

ويستفاد منه أيضًا: مشروعية هذا الذكر "السلام عليكم يا أهل القبور"، والذي علّمه الصحابة أن يقولوا:"أهل الديار من المؤمنين والمسلمين".

ص: 630