المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌صفة خطبة النبي صلى الله عليه وسلم: - فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام ط المكتبة الإسلامية - جـ ٢

[ابن عثيمين]

فهرس الكتاب

- ‌7 - باب صفة الصلاة

- ‌صفة الاستفتاح ومعانيه:

- ‌الاستعاذة ومعناها:

- ‌أوضاع منهي عنها في الصلاة:

- ‌مواضع رفع اليدين وصفته:

- ‌صفة وضع اليدين في القيام:

- ‌حكم قراءة الفاتحة:

- ‌هذه الروايات فيها فوائد:

- ‌أحكام البسملة:

- ‌شروط كون قول الصحابي حجة:

- ‌التأمين وأحكامه:

- ‌متى تسقط الفاتحة:

- ‌كيفية القراءة في الصلاة:

- ‌مقدار القراءة في صلاتي الظهر والعصر:

- ‌قدر قراءة النبي صلى الله عليه وسلم في المغرب والعشاء والفجر:

- ‌صفة القراءة في فجر الجمعة:

- ‌هدي النبي صلى الله عليه وسلم في تدبر القراءة في الصلاة:

- ‌أذكار الركوع والسجود ومعانيها:

- ‌تكبيرات الانتقال وأحكامها:

- ‌أذكار القيام من الركوع ومعانيها:

- ‌هيئة السجود وأحكامه:

- ‌صفة الأصابع في السجود والركوع:

- ‌الجلوس في محل القيام وأحكامه:

- ‌الدعاء بين السجدتين:

- ‌حكم جلسة الاستراحة:

- ‌القنوت وأحكامه:

- ‌دعاء القنوت:

- ‌حكم تقديم اليدين قبل الركبتين للسجود:

- ‌صفة وضع اليدين في التشهد:

- ‌صيغ التشهد ومعانيها:

- ‌صفة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم:

- ‌الدعاء بعد التشهد وأحكامه:

- ‌صفة التسليم وأحكامه:

- ‌الأذكار دبر الصلوات ومعانيها:

- ‌وجوب تعلم صفة صلاة الرسول صلى الله عليه وسلم:

- ‌صلاة المريض:

- ‌8 - باب سجود السهو وغيره من سجود التلاوة والشكر

- ‌صفة سجود السهو:

- ‌السجود للسهو بعد السلام وحكمه:

- ‌حكم التشهد لسجدتي السهو:

- ‌حكم سجود السهو قبل الكلام:

- ‌السهو مبني على غلبة الظن:

- ‌سقوط سجود السهو:

- ‌حكم سهو الإمام والمأموم:

- ‌سجود التلاوة:

- ‌حكم سجود التلاوة:

- ‌أحكام سجود التلاوة:

- ‌بعض مواضع سجود التلاوة في القرآن:

- ‌حكم سجود القارئ والمستمع والسامع:

- ‌التكبير لسجود التلاوة:

- ‌9 - باب صلاة التطوع

- ‌السنن الرواتب:

- ‌فضل ركعتي الفجر:

- ‌النفل قبل العصر والمغرب:

- ‌التخفيف في ركعتي الفجر والاضطجاع بعدها:

- ‌قيام الليل:

- ‌صلاة الوتر:

- ‌صفات صلاة الوتر:

- ‌الحث على قيام الليل والوتر:

- ‌لا وتران في ليلة:

- ‌ما يقرأ في الوتر:

- ‌صلاة الضحى:

- ‌10 - باب صلاة الجماعة والإمامة

- ‌حكم صلاة الجماعة:

- ‌وجوب الحضور للجماعة في المسجد:

- ‌عدم سقوط الجماعة عن الأعمى:

- ‌صلاة المفترض خلف المتنقل:

- ‌حكم الصلاة قيامًا خلف إمام قاعد:

- ‌مراعاة حال المأمومين في الصلاة:

- ‌إمامة الصغير المميز:

- ‌يقدم في الإمامة الأكثر قرآنًا:

- ‌تسوية الصفوف والمقاربة بينها:

- ‌أفضلية الصف الأول للرجال:

- ‌صلاة المرأة والصغير خلف الإمام:

- ‌حكم صلاة المنفرد خلف الصف:

- ‌المشي إلى الصلاة بالسكينة والوقار:

- ‌استحباب الكثرة في الجماعة:

- ‌حكم إمامة المرأة لأهل دارها:

- ‌الدخول مع الإمام على أي حال أدركه:

- ‌11 - باب صلاة المسافر والمريض

- ‌حقيقة السفر ومعناه:

- ‌قصر الصلاة في السفر وحكمه:

- ‌مسائل مهمَّة:

- ‌الصلوات التي لا تقصر في السفر:

- ‌الفطر في السفر وحكمه:

- ‌عدد الأيام التي يجوز فيها القصر:

- ‌حكم الجمع بين الصلاتين في السفر:

- ‌حالات جمع التقديم والتأخير:

- ‌حالات الجمع بين الصلاتين في الحضر:

- ‌الصلوات التي لا يجمع بينها:

- ‌صلاة المريض وكيفيتها:

- ‌12 - باب صلاة الجمعة

- ‌التحذير من ترك الجمع:

- ‌وقت صلاة الجمعة:

- ‌العدد الذي تنعقد به الجمعة:

- ‌حكم إدراك ركعة من الجمعة:

- ‌حكم الخطبة قائمًا:

- ‌صفة خطبة النبي صلى الله عليه وسلم:

- ‌استحباب طول الصلاة وقصر الخطبة:

- ‌قراءة سورة (ق) في الخطبة:

- ‌حكم تحية المسجد والإمام يخطب:

- ‌ما يقرأ في الجمعة والعيدين:

- ‌صلاة النفل بعد الجمعة وأحكامها:

- ‌حكم فصل الفريضة عن النافلة:

- ‌فضل الاغتسال والتطيب يوم الجمعة:

- ‌ساعة الإجابة يوم الجمعة:

- ‌استغفار الخطيب للمؤمنين:

- ‌حكم قراءة آيات من القرآن في الخطبة:

- ‌الذين تسقط عنهم الجمعة:

- ‌13 - باب صلاة الخوف

- ‌شروط صلاة الخوف:

- ‌الصفة الأولى لصلاة الخوف:

- ‌الصفة الثانية لصلاة الخوف:

- ‌الصفة الثالثة لصلاة الخوف:

- ‌الصفة الرابعة لصلاة الخوف:

- ‌الصفة الخامسة لصلاة الخوف:

- ‌14 - باب صلاة العيدين

- ‌حكم صلاة العيد في اليوم الثاني إذا ترك لعذر:

- ‌من السنة أكل تمرات قبل الخروج لعيد الفطر:

- ‌حكم خروج النساء لصلاة العيد:

- ‌مشروعية الخطبة بعد صلاة العيد:

- ‌صلاة العيد ركعتان بلا نفل:

- ‌صلاة العيد بلا أذان ولا إقامة ولا نفل:

- ‌صلاة العيد في المصلى:

- ‌التكبير في صلاة العيد:

- ‌قراءة النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة العيد:

- ‌مخالفة الطريق والتكبير في الطريق:

- ‌15 - باب صلاة الكسوف

- ‌مشروعية صلاة الكسوف والدعاء فيها:

- ‌القراءة في صلاة الكسوف جهرًا:

- ‌صفة صلاة الكسوف:

- ‌الدعاء عند هبوب الريح:

- ‌حكم الصلاة للزلازل:

- ‌16 - باب الاستسقاء

- ‌صفة صلاة الاستسقاء والخطبة لها:

- ‌الدعاء في صلاة الاستسقاء:

- ‌تحويل الرداء في الاستسقاء والجهر بالقراءة:

- ‌مشروعية رفع اليدين في الاستسقاء:

- ‌أقسام التوسل وأحكامه:

- ‌ما يفعل عند هطول المطر:

- ‌الدعاء عند رؤية المطر:

- ‌مشروعية الاستسقاء في الأمم السابقة:

- ‌17 - باب اللباس

- ‌تحريم الزنا والخمر والغناء:

- ‌تحريم لبس الحرير والجلوس عليه:

- ‌مقار ما يباح من الحرير:

- ‌حكم لبس الحرير لعذر أو مرض:

- ‌إباحة الذهب والحرير للنساء والحكمة منها:

- ‌حبُّ الله عز وجل لرؤية أثر نعمته على عبده:

- ‌النهي عن لبس القسيِّ والمعصفر:

- ‌جواز كف الثياب بالحرير وضوابطه:

- ‌كتاب الجنائز

- ‌الترغيب في تذكر الموت:

- ‌كراهة تمني الموت:

- ‌تلقين المحتضر الشهادة:

- ‌حكم قراءة يس عند المحتضر:

- ‌تغميض الميت:

- ‌حكم تسجية الميت:

- ‌حكم تقبيل الميت:

- ‌الإسراع في قضاء دين الميت:

- ‌حكم تحنيط الميت المحرم:

- ‌حكم تجريد الميت عن تغسيله:

- ‌صفة الغسل:

- ‌تكفين الميت وأحكامه:

- ‌استحباب الكفن الأبيض:

- ‌استحباب إحسان الكفن:

- ‌هل يجمع بين الرجال في الدفن، ومن يقدَّم:

- ‌كراهة المغالاة في الكفن:

- ‌حكم الصلاة على المقتول في حد:

- ‌حكم الصلاة على قاتل نفسه:

- ‌حكم الصلاة على القبر:

- ‌الصلاة على الغائب:

- ‌موقف الإمام في الصلاة على المرأة:

- ‌حكم الصلاة على الميت في المساجد:

- ‌عدد التكبير في صلاة الجنازة:

- ‌قراءة الفاتحة في صلاة الجنازة:

- ‌الدعاء للميت في صلاة الجنازة:

- ‌الدعاء للمسلمين في صلاة الجنازة:

- ‌الإخلاص في الدعاء للميت:

- ‌استحباب الإسراع بالجنازة:

- ‌فضل اتباع الجنائز والصلاة عليها:

- ‌النهي عن اتباع النساء للجنازة:

- ‌كيفية إدخال الميت القبر:

- ‌الميت يتأذى بما يتأذى به الحي:

- ‌اللحد والشق في القبر:

- ‌النهي عن البناء على القبور وتجصيصها:

- ‌حكم تلقين الميت عند القبر:

- ‌زيارة النساء للقبور:

- ‌جواز البكاء على الميت:

- ‌النهي عن الدفن ليلًا:

- ‌استحباب إيناس أهل الميت:

- ‌آداب زيارة القبور:

- ‌النهي عن سب الأموات:

الفصل: ‌صفة خطبة النبي صلى الله عليه وسلم:

من الأيام في خطبة الجمعة، وما واظب عليه فهو دليل على أنه واجب؛ لأنه كالتفسير لقوله تعالى:{يا أيها الذين أمنوا إذا نودى للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع} [الجمعة: 9]. ولكن جمهور أهل العلم على أن الخطبة قائمًا أفضل وليست بواجب، وأنه لو خطب جالسًا جاز وأجزأت الخطبة؛ لأن المقصود يحصل بذلك ولو كان قاعدًا وهذا مذهب جمهور أهل العلم.

وقوله: "كان يخطب" سبق لنا أن "كان" تفيد الاستمرار غالبًا، وقوله:"قائمًا" هذه حال من الفاعل "يخطب" وليست خبر كان، خبر كان جملة:"يخطب".

"يجلس ثم يقوم فيخطب قائمًا فمن أنبأك أنه كان يخطب جالسًا فقد كذب"، يجلس أي: الجلوس الأول عند الأذان والجلوس الثاني بين الخطبتين، "ثم يقوم فيخطب" وقوله:"فمن أنبأك" يعني: أخبرك، يقال: نبأ، وأنبأ وأخبر معناهما واحد، وقيل: إن الإنباء أعظم يكون في الأمور التي هي أهم يقال: نبأ، ولكن الصحيح أنه لا فرق بينهما، وقوله:"أنه كان يخطب جالسًا فقد كذب" يعني: أخبر بخلاف الواقع.

يستفاد من هذا الحديث: أن الرسول- عليه الصلاة والسلام كان يخطب قائمًا ويجلس قبل الخطبة وبين الخطبتين.

ويستفاد منه: أن الأفضل أن يخطب الإنسان قائمًا في الجمعة، وقيل: إنه واجب لا يجوز أن يخطب جالسًا، ولكن لدينا قاعدة أن الفعل المجرد لا يدل على الوجوب إلا بقرينة، وليس هناك قرينة تدل على الوجوب فيحمل على أنه الأفضل والأكمل.

ويستفاد من هذا الحديث: أن بعض الناس كان يدعي في عصر الصحابة أن الرسول- عليه الصلاة والسلام كان يخطب جالسًا، من أين يؤخذ؟ من قوله:"فمن أنباك"، فإن هذا يدل على أن هناك من يقول: إنه كان يخطب جالسًا.

ومنها: تغليظ القول لمن قال بخلاف الحق، من أين تؤخذ؟ من قوله:"فقد كذب"، فهذه كلمة خشنة وعظيمة لكن يستحقها من كذب، ثم إن الكاذب قد يلام على كذبه وقد لا يلام، إن كان قال قولًا يظن أنه الصواب وليس هو الصواب فهو كاذب، لكنه غير آثم، وإن قاله متعمدًا فهو كاذب آثم، ويقال للأول: مخطئ، وللثاني خاطئ، أي: واقع في الخطأ عن عمد.

‌صفة خطبة النبي صلى الله عليه وسلم:

وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب احمرت عيناه، وعلا صوته، واشتد غضبه حتى كأنه منذر جيش يقول: صبحكم ومسَّاكم، ويقول: أما بعد، فإن خير

ص: 330

الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمّد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة ". رواه مسلم.

وفي رواية له: "كانت خطبة النبي صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة يحمد الله ويثني عليه، ثم يقول على إثر ذلك، وقد علا صوته". وفي رواية له: "من يهدي الله فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هادي له".

وللنسائيَّ: "وكلَّ ضلالة في النَّار".

"كان إذا خطب"، نقول في "كان" ما قلنا فيما سبق أنها تدل على الاستمرار غالبًا، وقوله:"وإذا خطب" الحديث مطلق يشمل خطبة الجمعة وغيرها، فهو غير مقيد فيبقى على إطلاقه، لكنه في خطبة الجمعة الراتبة الدائمة التي تكون كل أسبوع لا شك أنها داخلة في الحديث.

"احمرت عيناه" أي: احمرت من شدة الانفعال والغضب، "وعلا صوته" لأنه كلما اشتد الإنسان ارتفع صوته واشتد غضبه، والغضب هو جمرة يلقيها الشيطان في قلب ابن آدم حتى يفور دمه وتنفتح أوداجه وتحمر عيناه، ويقف شعره هذا هو الغضب، وغضب النبي- عليه الصلاة والسلام هنا ليس غضبًا للانتقام، ولكنه غضب للحث والإغراء على فهم ما يقول، وعلى الاتعاظ به، وإلا فليس هناك شيء أمامه يستدعي الغضب.

وقوله: "حتى كأنه منذر جيش" منذر أي: يخوف بجيش؛ لأن الإنذار هو الإعلام المقرون بالتخويف، كأنه منذر جيش" والجيش هم: القوم الغزاة يكون عددهم أربعمائة فأكثر.

"يقول: صبحكم ومساكم" يعني: هل يقول في الخطبة: صبحكم ومساكم، أو هذا وصف لمنذر الجيش؟ هذا وصف لمنذر الجيش الذي يأتي فزعًا ينذر الناس، يقول:"جاءكم جيش صبحكم ومساكم" ليكونوا على استعداد له.

ويقول: "أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله""أما بعد" هذه الكلمة يقولون في إعرابها: "أما" نائبة عن اسم شرط، وفعل شرط، واسم آخر يتلوها، "أما" نائبة عن: مهما يكن من شيء، يقول ابن مالك:

أمَّا كمها يك من شيء وفا

لتلو تلوها وجوبًا ألفا

إذن هي نائبة عن اسم شرط، وما هو اسم الشرط؟ "مهما"، وفعل الشرط "يكن" والاسم المبين المبهم في الشرط:"من شيء"، مهما يكن من شيء "بعد" هذه ظرف مبني على الضم، لماذا؟ لأنه حذف المضاف إليه ونوى معناه يعني مهما يكن من شيء بعدما ذكرت، "فإن خير

ص: 331

الحديث كتاب الله" وقوله: "فإن خير الحديث" هذه جواب الشرط، "خير" هنا اسم تفضيل حذفت منه الهمزة تخفيفًا لكثرة الاستعمال؛ يعني: أخير الحديث كتاب الله، وهو القرآن، فهو خير الأحاديث في الأخبار وفي الأحكام، لأنه مشتمل على غاية الصدق في الأخبار وعلى غاية العدل في الأحكام، كما أنه خير الحديث أيضًا فصاحة وبلاغة وأسلوبًا، فلا يوجد له نظير، كما أنه خير الحديث في إصلاح القلوب، يقول ابن عبد القوي رحمه الله [الطويل]:

وحافظ على درس القران فإنَّه

يليِّن قلبًا قاسيًا مثل جُلمد

فلا حديث أشد إصلاحًا للقلوب من كلام الله عز وجل، وهو أيضًا خير الحديث في إصلاح المعاش معاش الخلق، لذلك لما كانت الأمة قائمة به كانت أسعد الأمم، وهو خير الحديث أيضًا في إصلاح المعاد، يقول تعالى:{فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى} [طه 123]. لا يضل في الدنيا، ولا يشقى في الآخرة، {ومن أعرض عن ذكري فإنّ له معيشة ضنكًا ونحشره يوم القيامة أعمى} [طه: 124]. هو أيضًا خير الحديث في قوة تأثيره، ولهذا قال الله عز وجل:{وجهادهم به جهادًا كبيرًا} [الفرقان]. وماذا أثر في البلغاء والفصحاء من قريش؟ اعترفوا فيما بينهم سرًّا بأنه ليس من كلام البشر، حتى إن بعضهم ما ملك نفسه أن يسلم حين سمع القرآن، فهو خير الكلام من كل ناحية: في لفظه ومعناه وتأثيره وعاقبته، وإصلاحه للخلق في الأعمال والقلوب والأحوال، فخير الحديث تاب الله المكتوب، وسبّق لنا أنه- أي: القرآن- مكتوب في اللوح المحفوظ، مكتوب في الصحف التي بأيدي الملائكة، {فمن شاء ذكره، في صحف مكرمة، مرفوعة مطهرة، بأيدي سفرة} [عبس: 12 - 15]. مكتوب في المصاحف التي بأيدينا كما هو ظاهر.

"وخير الهدي هدي محمد" ما هو الهدي؟ الهدي: الطريق والسُّنة والعمل، فيشمل الأخلاق والعبادة والمعاملة، فخير الهدي هدي الرسول- عليه الصلاة والسلام حتى من هدي الأنبياء السابقين؟ نعم، حتى من هدي الأنبياء السابقين، فإن خير الهدي هدي الرسول- عليه الصلاة والسلام ولهذا قال الله تعالى:{قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه} [القصص: 49]. أي: تحدى ما يوجد أهدى من القرآن والتوراة التي قالوا: إنها صحف، وهنا:"خير الهدي هدي محمد" يشمل هدي من دون الأنباء. ما رأيكم في هدي الصوفية والتيجانية والقاديانية، وما أشبهها؟ أهدي من هدي الرسول- عليه الصلاة والسلام أم لا؟ لا، إذن خير الهدي هدي الرسول- عليه الصلاة والسلام ولهذا أعقبه بقوله:"وشر الأمور محدثاتها""شر الأمور" الأمور المتعلقة بالدين والعبادة شرها محدثاتها، أما ما يتعلق بالدينا فإن من المحدثات ما هو خير،

ص: 332

وخير مما قبله أيضًا لكن المقصود هنا: ما يتعلق بأمور الدين، الحديث يتكلم عن ماذا؟ عن خير الهدي، فشر الأمور مما يعتبر هديًّا ودينًا وعبادة، "محدثاتها" اسم مفعول يعني: التي أحدثت في دين الله هي شر الأمور.

لو قال لي قائل: أنا أريد الخير، أنا إذا فعلت هذا أجد في قلبي رقة ولينًا وخشوعًا، لماذا تمنعوني؟ ماذا نقول؟

نقول: هذا ليس بخير؛ لأن الرسول- عليه الصلاة والسلام يقول: "شر الأمور"، و"شر" اسم تفضيل يعني: أشر الأمور ما أحدث في دين الله حتى لو تراءى لفاعله أنه خير فهذا من تزيين الشيطان له، وإلا فليس بخير مهما كان، لو قالوا: والله نحن اجتمعنا وخشعنا وبكينا وذكرنا الله عز وجل، وذكرنا الرسول صلى الله عليه وسلم وما أشبه ذلك، نقول: هذا شر لا شك نحن نؤمن بهذا هذا القبس الذي تجدونه ينقدح عند هذا الذكر هو ينطفئ ويعقبه ظلمة وحرارة؛ لأنه يُفسد القلب، البدع مهما كانت فإنها تُفسد القلوب؛ لأنها- بإذن الله- يحدث بها رد فعل بالنسبة لسسن، ولهذا قال بعض السلف:"ما أحدث قوم بدعة إلا وتركوا من السنة ما هو خير منها"، وهذا صحيح، فالقلب إذا اشتغل بالباطل ما بقي للحق فيه محل، كما أنه إذا انشغل بالحق ما بقي فيه للباطل محل.

"شر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة" بدعة في ماذا؟ في الدين، والبدعة ما تعبد به الله عز وجل عقيدة أو قولًا أو عملًا أو فعلًا، ولم يكن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه إذا كان على عهده فليس ببدعة، وقوله:"ضلالة" الضلالة ضد الهدي فهي ميل وخروج عن الصراط المستقيم وضلال.

قوله: "وفي رواية له كانت خطبة النبي صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة"، إذن فيكون العموم الذي ذكرناه في أول الكلام يكون مقيدًا بيوم الجمعة.

"يحمد الله ويثني عليه ثم يقول على إثر ذلك وقد علا صوته" يقول يعني: "أما بعد

" إلخ.

إذن نستفيد من هذا: زيادة قول: "يحمد الله ويثني عليه". الحمد هو وصف المحمود بالكمال والثناء وتكرار ذلك الوصف، فيعبر كثير من المصنفين في الحمد بأن الحمد هو الثناء بالجميل؛ يعني: أثني عليه بسبب جميله وإحسانه، وهذا ليس بصحيح؛ لأن الحمد ليس بثناء، الثناء شيء والحمد شيء آخر، الدليل حديث أبي هريرة في الصحيح:"قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، فإذا قال: {الحمد لله رب العالمين}، قال الله: حمدني عبدي، فإذا قال: {الرحمن الرحيم}، قال: أثنى عليَّ عبدي"، فدل ذلك على أن الحمد ليس هو الثناء، وأن الثناء تكرار الحمد والأوصاف الجميلة، "يحمد الله ويثني عليه ثم يقول على إثر ذلك وقد علا صوته"، يقول:"أما بعد، فإن خير الحديث كتاب الله" كما سبق.

ص: 333

وفي رواية له: "من يهد الله فلا مضل له"(من) شرطية جُزم الفعل بها بالكسر نيابة عن السكون؛ لأنه معتل الآخر، هل هذا صحيح؟ لا، فماذا نقول؟ فنقول:"من" اسم شرط جازم، "يهد" فعل مضارع مجزوم بحذف حرف العلة، وهو الياء، لماذا لا نقول: إنها مجزومة بالتقاء الساكنين؟ نقول: لأن الشرط عارض فقُدّم، والتقاء الساكنين ليس بعارض، "من يهد الله فلا مضل له""لا" نافية للجنس، و"مضل" اسمها، و"له" جار ومجرور متعلق بخبرها؛ يعني: فلا أحد يضله، وقوله:"من يهد الله" يشمل من يهده الله بعلمه وقدره، ومن يهده الله فعلًا، فمن قدر الله له الهداية فلا يستطيع أحد أن يضله، ومن هداه الله بالفعل ما يستطيع أحد أن يخرجه من الهداية، يعني: أن من هداه الله لا يستطيع أحد أن يصرفه عن الهداية، ولا أن ينزعه من الهداية، فتجد مثلًا بعض الناس ليس على هدى فتأتيه رجلان أحدهما يدعوه إلى البقاء على ما كان عليه من الضلال، والثاني يدعوه إلى الهدى فيهتدي مع قوة دعاية الأول، لكن نقول: لن يمنعه الأول من الهدى، لماذا؟ لأن الله تعالى قد قدَّر له الهداية، كذلك الرجل الذي اهتدى بالفعل ويوجد أناس يحالون أن يضلوه، ولكن الله تعالى قد أبقاه على الهدى فلا يستطيعون أن يضلوه، فمن يهدِ الله تعالى قدرًا- يعني: أنه قدر له الهداية- لا أحد يمنعه منها، ومن هداه بالفعل لا أحد ينزعه منها.

"ومن يضلل فلا هادي له" عكس الأولى، من قدِّر ضلالة لا يمكن أن يهتدي، أبو طالب ماذا فعل الرسول- عليه الصلاة والسلام بالنسبة إليه؟ حاول بكل ما يستطيع صلى الله عليه وسلم أن يهتدي هذا الرجل، ولكنه لم يهتد؛ لأن الله تعالى قد قدَّر له الضلال، وكذلك الإنسان الذي كان على هداية ثم بدأ ينحرف فكان أصحابه وأصدقاؤه وأهله ينصحونه يقولون: لا تنحرف، ولكنه- والعياذ بالله- أبى إلا أن ينحرف، هذا أيضًا نقول:"من يضلل فلا هادي له".

وللنسائي: "وكل ضلالة في النار" بعد قوله: "كل بدعة ضلالة": "كل ضلالة في النار"؛ ما قال: كل صاحب بدعة، كل بدعة في النار؛ لأنه خلاف الحق، وما كان خلاف الحق فإنه في النار، ولكن هل يلزم من كون البدعة في النار أن يكون صاحبها كذلك؟ لا إلا إذا كانت البدعة مكفرة، فإن صاحبها يكون في النار، أما إذا لم تكن مكفرة فإن صاحبها قد يستحق العقوبة في النار لكنه لا يستحق الخلود، هذا الحديث عظيم، ولهذا الرسول- عليه الصلاة والسلام كان يخطب به يوم الجمعة.

* نرجع إلى فوائده:

من فوائده: أولًا: أن الرسول- عليه الصلاة والسلام كان يتأثر عند الخطبة بقوله وحاله؛ بقوله: يعلو صوته، وبحاله: يشتد غضبه وتحمر عيناه.

ص: 334

إذن يُستفاد من ذلك: أنه ينبغي للخطيب أن يفعل هذا اقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم، ولأنه أقوى تأثيرًا مما إذا جاءت الخطبة باردة، ولكن هل نقول: إن هذا مشروع في كل خطبة، أو نقول: إن هذا في الخطب التي للوعظ والزجر، وأمّا الخطب التي تكون لبيان الأحكام فإنها لا تحتاج إلى هذا؟ هذا الأخير هو الأظهر؛ لأن الرسول- عليه الصلاة والسلام فيما إذا لم يكن خطبته موضوعة على الزجر والتخويف كان يقولها بدون ذلك كما في حديث بريرة قام وخطب الناس، وكما في حديث المرأة التي سرقت ما كان يحدث له هذا لأنه لبيان الأحكام مع أن فيها شيء من الزجر، لكنها ليست كخطبة الجمعة.

ويُستفاد من هذا الحديث: أنه ينبغي أن يقول في الخطبة: "أما بعد"، ولكن هل تُقال في كل جملة أو في كل سطر أو ماذا؟ في مستهل الخطبة يعني: عند الدخول في الموضوع، وأمّا قول بعضهم: بأنه يحتاجها للانتقال من أسلوب إلى آخر ففيه نظر، لو قلنا بهذا لكان يؤتي بها إذا انتقلنا من خبر إلى إنشاء أو إذا انتقلنا من كلام على شيء إلى كلام آخر وهو ليس كذلك، لكنه يؤتي بها عند الدخول في الموضوع، وقد قال بعض العلماء: إنّها فصل الخطاب الذي أوتيه داود: {وأتيناه الحكمة وفصل الخطاب} [ص: 20]. قال: يعني يفصل آخره من أوله، ولكن هذا فيه نظر، والصواب: أن فصل الخطاب هو الحكم بين الناس.

ويُستفاد من الحديث: أن خير الحديث كتاب الله من كل ناحية: في اللفظ، والمعنى، والتأثير، والحال، في كل شيء خير الحديث كتاب الله.

ويستفاد منه: الحث على قراءة القرآن والتمسك به، من أين يؤخذ؟ من قوله:"خير الحديث" وما كان خير الحديث فينبغي ملازمته.

ويستفاد من هذا: أن القرآن كلام الله، يؤخذ من قوله:"خير الحديث"؛ حيث وصفه بالحديث، فالحديث هو القول، فإذن القرآن يسمى حديثًا ويسمى قولًا، ويسمى خبرًا، ويسمى قصصًا أيضًا:{نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن} [يوسف: 3].

ويُستفاد من الحديث: أن خير الهدي هدي الرسول- عليه الصلاة والسلام من قوله: "خير الهدي هدي محمد".

ويُستفاد منه: أن كل خير يوجد في طرق أخرى غير طريق الرسول- عليه الصلاة والسلام فإن طريق الرسول خير منه لقوله: "خير الهدي"، فأي خير يوجد في هدي غير الرسول- عليه الصلاة والسلام فإن في هدي الرسول ما هو خير منه؛ لأن قوله: خير الهدي هدي محمد" يشمل الجزئيات والكليات، ما من خير في أي هدي يكون إلا وفي هدي الرسول- عليه الصلاة والسلام ما هو خير منه، إذن النظم والقوانين والدساتير الوضعية ما

ص: 335